في وقتٍ يساهم فيه اليمين الأمريكي المحافظ
بالاشتراك مع اللوبي الموالي لإسرائيل في تدهور العلاقات العربية
الأمريكية، نظّم "مركز الحوار العربي" في منطقة واشنطن ندوة حول
مستقبل تلك العلاقات تحدّث فيها كلّ من السفير القطري في واشنطن عمر
بدر الدفع، والدكتور إدموند غريب أستاذ تاريخ الشرق الأوسط بالجامعة
الأمريكية في واشنطن، والدكتور محمد السيد سعيد نائب رئيس مركز
الدراسات الاستراتيجية بالقاهرة ومدير مكتب الأهرام في واشنطن،
وحضرها عدد من أبناء الجالية العربية الأمريكية وأعضاء السلك
الدبلوماسي العربي في واشنطن.
وتحدّث في البداية السفير القطري في واشنطن
عمر بدر الدفع فوصف العلاقات العربية الأمريكية حالياً بأنّها في
أسوأ حالاتها وتسير باتجاه المزيد من التدهور، ودلَّل على ذلك بقوله
إنَّ العالم العربي يواجه هجمةً إعلامية أمريكية قد تتحوَّل إلى هجمةٍ
عسكرية على العراق، وستعقبها هجمة اقتصادية تطيح بأسعار النفط وهو
أهم منتج لعدَّة دولٍ عربية. وعلى الصعيد الثقافي تتقلّص أعداد العرب
الراغبة في السياحة إلى الولايات المتحدة، وفي المقابل تقلّص عدد
السائحين الأمريكيين في الدول العربية بينما تتزايد أعداد الموقوفين
والملاحقين والمسجونين من العرب في أمريكا.
ويرى السفير القطري عمر الدفع أنَّ السبب
الرئيسي في تدهور العلاقات العربية الأمريكية هو الإرهاب الذي تعرّضت
له الولايات المتحدة على أيدي حفنةٍ من الشباب العربي، لذلك يعتقد أنَّ
الخطوة الأولى لإيقاف هذا التدهور ينبغي أن تكون مكافحة الإرهاب الذي
يرتكبه بأسماء عربية وإسلامية أشخاص لا يعبّرون عن آراء وتوجّهات
غالبية أبناء الشعوب العربية. ونبَّه السفير القطري إلى ضرورة ألا
يتمّ ذلك من خلال مجرّد الإدانة أو التبرّؤ من هذه الأعمال وإنَّما
باتخاذ إجراءاتٍ ملموسة مثل تجريم أعمال الإرهاب دينياً وفكرياً
وملاحقة الإرهابيين أمنياً وقضائياً واستخبارياً، وتجفيف منابع تمويل
النشاطات الإرهابية خاصةً من ذوي النوايا الحسنة في أوساط المدنيين.
وحدَّد السفير القطري ملامح الطريق الذي يراه
كفيلاً بتحسين العلاقات العربية الأمريكية، فقال:
أوّلاً: بذل جهودٍ عربية لملاحقة كلّ من كان
له ضلع في هجمات سبتمبر الإرهابية والحيلولة دون تكرارها والعمل على
إشاعة ثقافة السلام والتسامح في المجتمعات العربية.
ثانياً:العمل مع الولايات المتحدة على تأمين
سلامة العرب في أمريكا وأمن المواطنين الأمريكيين في الدول العربية.
ثالثاً: بذل جهود مكثّفة في مجال العلاقات
العامة لإبراز مساهمات الجالية العربية ومكانتها في المجتمع الأمريكي
كصورة نموذجية للعربي المثقف المعتدل بحيث يراها الأمريكي ويعايشها
في حياته اليومية.
رابعاً:الإبقاء على الاستثمارات والودائع
العربية في أمريكا مع العمل على تشجيع الاستثمارات الأمريكية في
الدول العربية وتوسيع التبادل التجاري وخلق المزيد من فرص العمالة
العربية بدلاً من المناداة بالمقاطعة التي لن تكون في صالح العرب.
وأشار السفير القطري إلى أنَّ تحسين العلاقات
العربية الأمريكية سيحتاج إلى وقتٍ طويل ولكنَّ ذلك يجب ألا يكون
عاملاً مثبطاً يحول دون الشروع فوراً في بدء العمل بدلاً من الاقتصار
على الشكوى المعتادة من الانحياز الأمريكي إلى جانب إسرائيل. وقال
السفير عمر بدر الدفع إنَّ العرب الأمريكيين هم أكثر العرب درايةً
بالأساليب والطرق الكفيلة بالتعامل مع الانحياز الأمريكي إلى جانب
إسرائيل من خلال وسائل مؤسساتية وقانونية يمكن من خلالها التأثير بل
والتغيير لهذا الواقع. وأشار في هذا الصدد إلى ضرورة دعم المنظمات
العربية الأمريكية وإقامة مراكز للأبحاث السياسية مثل تلك التي ينطلق
منها أنصار إسرائيل للترويج لسياسات أمريكية مساندة لإسرائيل، وكذلك
حشد متحدثين عرب أمريكيين وأمريكيين من أصدقاء العالم العربي لمواجهة
الهجمة الشرسة ضدَّ الدول العربية والإسلام.
وتحدّث كذلك في ندوة مركز الحوار الدكتور
إدموند غريب أستاذ تاريخ الشرق الأوسط بالجامعة الأمريكية في واشنطن،
فاستعرض تاريخ العلاقات العربية الأمريكية منذ مسارعة دول عربية
كالمغرب والجزائر وتونس وعمان إلى الاعتراف المبكر بالولايات المتحدة،
مروراً بتطلّع الشعوب العربية إلى الولايات المتحدة كزعيمة للحرية
الديمقراطية في العالم مع مجيء الرئيس وودرو ويلسون ونقاطه الأربع
عشرة التي كان أبرزها تأكيده على حق الشعوب في تقرير مصيرها. وقال
الدكتور غريب إنَّ هذه الصورة الإيجابية للولايات المتحدة في العالم
العربي ترسّخت من خلال بعض المواقف الأخلاقية المتميّزة لبعض الرؤساء
الأمريكيين مثل الرئيس دوايت أيزنهاور في كبح جماح العدوان الثلاثي
على مصر في عام 1956 وموقف الرئيس جون كنيدي من الثورة الجزائرية في
الستينات، وأكَّد الدكتور إدموند غريب إنَّ البداية الحقيقية للتدهور
في العلاقات الأمريكية مع العالم العربي جاءت مع التحوّل الأمريكي
نحو مناصرة إسرائيل ودعمها ثم وراثة الولايات المتحدة للتراث
الاستعماري الذي خلّفه الأوروبيون وراءهم في العالم العربي، وزاد
الخلل في تلك العلاقات مع ما وصفه الدكتور غريب بفشل الولايات
المتحدة في التوفيق بين أهدافها الاستراتيجية المتناقضة بحيث آثرت
الحفاظ على تفوّق إسرائيل النوعي على كلّ الدول العربية مجتمعة،
وتبنّت سياسات ومبادرات سياسية وعسكرية غالباً ما كانت تطبخ بالمطبخ
الإسرائيلي وبمساندة اللوبي المناصر لها في أمريكا ممّا ساهم في
زيادة الانقسامات والتوتر واللجوء إلى العنف في العالم العربي.
وعلى الجانب الآخر أوضح الدكتور غريب كيف عجز
العالم العربي عن التعامل مع هذه الحقائق فقال إنَّ هناك مشكلة
أساسية يعاني منها العالم العربي وهي عدم فهم تركيبة ودينامكية العمل
السياسي في الولايات المتحدة. وأشار في هذا الصدد إلى عدم وجود مراكز
أبحاث عربية متخصّصة في تدريس المجتمع الأمريكي ومؤسساته وطريقة
عملها ممّا أدّى إلى وجود قدر من الجهل العربي بكيفية التأثير في
المواقف السياسية، ودلّل على ذلك بمسارعة الدول العربية لتقديم
تنازلات لأمريكا دون تحفّظ ودون أدنى محاولة لجني ثمار ما تقدّمه
لأمريكا ممّا يعكس عدم فهم للخلفيات السياسية لعملية صنع القرار في
أمريكا، ولأصول وقواعد اللعبة السياسية فيها، ودور الإعلام الأمريكي
كسلطة رابعة، بالإضافة إلى دور مؤسسات الأبحاث في التأثير على
السياسات العامة وكذلك دور المستشارين للبيت الأبيض ووزارات الدفاع
والخارجية. وخلص الدكتور غريب إلى أنَّ هناك الكثير الذي يجب عمله
لرأب الصدع في العلاقات العربية الأمريكية، والتي تأثّرت سلباً
بهجمات سبتمبر التي عمّقت الهوة وكثّفت مشاعر الشك والعداء لدى
قطاعات كبيرة من الجانبين إذ أصبح كثير من الأمريكيين ينظر إلى حقيقة
كون الذين شنّوا الهجمات من العرب والمسلمين ويعتقدون بأنَّ العرب
يكرهون المجتمع الأمريكي ويحسدونه على ما فيه من حرية وتقدم ورخاء.
وقال إنّه على الجانب الآخر أصبح كثير من العرب والمسلمين يرى في
الولايات المتحدة قوة تهدّد كياناتهم وتدعم إسرائيل ضدّهم وتحيق بهم
الظلم، بل وتحمي بعض الأنظمة العربية التي يرون إنّها لا تحمي
مصالحهم الحقيقية ولا تعمل لتحقيق آمالهم. ولذلك فأمام الجانبين شوط
كبير يتعيّن قطعه قبل أن يمكن الحديث عن تحسين العلاقات العربية
الأمريكية.
وكان المتحدث الثالث في ندوة "مركز الحوار
العربي" في منطقة واشنطن الدكتور محمد السيد سعيد مدير مكتب الأهرام
في الولايات المتحدة والذي قال بأنَّه لم تضرب أمريكا قوة سياسية في
العالم العربي بالقدر الذي استهدفت به الاتجاه الليبرالي العربي،
بسبب الميل التاريخي لكل القوى العظمى السائدة في المنطقة إلى
التشديد وعدم التكيّف مع معطيات الواقع السياسي العربي، وبسبب
التأخّر في فهم مطالب الجماهير العربية ممّا أدّى إلى انصراف تلك
الجماهير عن الاتجاه الليبرالي بوجه عام. وأعرب الدكتور محمد السيد
سعيد عن اعتقاده بأنَّ السبب الأساسي في ضرب الاتجاه الليبرالي
العربي هو الغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً، واستعرض للتدليل
على ذلك ثلاث مراحل:
أوّلاً: قيام الإمبراطورية البريطانية بضرب
الاتجاه النهضوي الإصلاحي الذي ركّز على محاولة إصلاح الإمبراطورية
العثمانية، ثمّ شروعها في إذلال المجتمعات العربية بفظاظة مثل حالة
صندوق الدين في مصر وإجهاض الاحتلال البريطاني لسابع أقدم دستور في
مصر والذي وضعته الثورة.
ثانياً:ضرب الإنجليز لثورة 1919 والتركيبة
الديمقراطية النسبية التي كفلها الدستور المصري 1923 وكان من أوائل
الدساتير الديمقراطية الأكثر صرامة في كفالة الحريات العامة
للمواطنين. وقال الدكتور سعيد إنّه عندما فشل الاتجاه الليبرالي
الوطني في تحقيق الاستقلال، مع زيادة التمترس البريطاني في مصر
وإجهاض قرن كامل من مشروع النهضة، جاء العسكريون وتسلموا السلطة
وطبقوا تراثهم الريفي الذي لا يتفهم الحريات العامة ولا الممارسة
الديمقراطية.
ثالثاً:الانحياز الأمريكي لإسرائيل وما أدّى
إليه من ضربٍ للحركة الليبرالية العربية من خلال فرض شروط لا يمكن
لأي عربي القبول بها.
وأعرب الدكتور سعيد عن إيمانه بأن القضية
الفلسطينية كانت ولا تزال وستظل أهم قضية فاصلة في العلاقات العربية
الأمريكية باعتبارها قضية كلِّ العرب وليست من قضايا العلاقات
الثنائية. وقال إنَّ المطلوب لتصحيح مسار العلاقات العربية الأمريكية
هو تصحيح المواقف الأمريكية الجائرة من قضية الشعب الفلسطيني،
وكذلك الاسترشاد بالمنهج العلمي في محاولة التأثير في صنع القرار
الأمريكي، وبإقامة المؤسسات المتخصّصة في التعامل مع جهود الضغط
السياسي في أمريكا، والتفاوض مع الولايات المتحدة حول شروط معقولة
للاندماج في النظام العالمي، وحل عادل للقضية الفلسطينية.
|