نشرت مجموعة من الصحف اللبنانية منها
صحيفة السفير كلمات تأبينية في رحيله منها:
جهده موسوعي..
بصيرته نافذة.. جرأته نادرة
في آخر لقاء لي مع السيد حسن الأمين وجدته بين
أوراقه وكتبه، يعمل كعادته بهمة الشباب.. حدثني عما أنجز من
مشروعاته، وعما يودّ ان ينجز..، ثم صمت وابتسم، وقال:
يبدو أني أسابق الزمن، يبدو أن بهذا الرفيق
القديم تقترب من نهايتها.
قلت: كيف تنتهي علاقتك به، وأنت لا تزال تكشف
حقيقته منذ اول عهدك بمعرفته!؟
قال، وقد عرضت ابتسامته: حقيقته! كأنك لا تدري
ان الحقيقة مرة، وبخاصة في فم أبناء هذا الزمن، من يقبل ان يذوق
الحقيقة، ويعلمها!؟
غامت عيناه لحظات، وبدت لي بقايا ابتسامته فوق
شفتيه كأنها فراشة ترفرف في ضوء، وخلته يستعيد ردات الفعل التي كانت
تلي ما يقدمه من حقائق تاريخية، وما يتخذه من مواقف مبدئية صلبة...
صمت لحظات، ومدّ يده الى جانبه، وتناول كتابا
قدمه لي، وقال: هوذا آخر العنقود. إنه كتاب عن تاريخ جبل عامل القديم
والحديث، وقبله، كما تعلم، صدر لي غير كتاب في التاريخ القديم
والحديث.
بادرت الى القول: الدالية، إن شاء الله، ملأى
بعناقيدها وكلٌ أشهى من أخيه. ضحك، وقال: قلت لك أشعر بأني أسابق
الزمن... وأخشى ان يسبقني، فتبقى هذه الأوراق أوراقا!
كان شعور المؤرخ والأديب الكبير صادقا، وجاء
الموت يطوي الزمن، وما درى أن زمنا أشبع بالعطاء لا يطوى.
السيد الأمين من نحو أول علامة موسوعي
المعرفة: أديب، شاعر وناثر، كاتب قصة ومقالة أدبية وأدب رحلات..
محقق، مؤرخ، استاذ أجيال يوجه ويتعهد طلاب العلم بالعناية والرعاية،
وقد بقي بيته محط رحال الباحثين، وكانوا يجدون فيه ليس العلم فحسب،
وإنما العلاقة الانسانية الحميمية ايضا... والسيد الأمين، من نحو
ثان، رجل عاش أحداث عصره، منذ بدايات هذا القرن، وكان حاضرا فاعلا
فيها على غير مستوى، ومثل في سيرته ومواقفه المثال والأنموذج لما
ينبغي ان يكون عليه الرجل العظيم المسهم في إعلاء شأن أمته ووطنه.
نعود الى البدايات فنرى الفتى الطالب يقف في
مواجهة صاحب السلطان، وكان آنذاك منتدبا فرنسيا، فينطق بألسنة الناس،
ويجهر بجرأة ليس بحاجاته هو، وإنما بحاجات منطقة محرومة من طرقات
ومدارس ومستشفيات الخ...
تمرُّ الأيام ويغدو الفتى محاميا، ونرى
المحامي الشاب القادم من دمشق الى بيروت، وليس في جيبه سوى أجرة
الطريق، يرفض ان يتولى قضية تدرُّ الوفير من المال، وتتيح له موقعا
في النظام القائم آنذاك، لأن هذه القضية مشبوهة.
ثم يغدو المحامي قاضيا، ونرى القاضي النزيه،
المثقف ثقافة حقوقية وشرعية، في آن، يصر على الرغم من الضغوط
والتدخلات على أن يحكم في قضية كما تقضي الاستقامة التي أمر بها،
ووفاقا للمسؤولية التي أنيطت به، وكان من نتائج هذا الحكم أن حدث ما
دفعه الى الاستقالة، فغادر الموقع عندما رأى انه لا يستطيع ان يؤدي
الدور الذي يراه واجبا عليه كما ينبغي.
هاتان القضيتان اللتان واجههما المحامي
والقاضي الشاب تتعلقان بالقضية القومية المركزية في تاريخ العرب
والمسلمين الحديث، وهي القضية الفلسطينية، فكان السيد الأمين، منذ
بدايات هذه القضية، مدركا حقيقتها وواعيا ما يخطط لها، فكان، ومنذ
ذلك الحين، المقاوم الصلب، في ميدانه، ما يعني في ما يعني، أن
المقاومة هي في صلب هذا النهج الذي مضى فيه بوصفه مسارا طبيعيا.
وتفضي التجربة بالسيد الأمين الى الاعتقاد بأن
لا مكان لأمثاله في ذلك النظام، فيستقيل من الوظيفة في القضاء،
وينصرف الى حيث يكون فاعلا في حيز يختاره، وتكون له فيه حرية القول
والفعل وتحقيق الانجازات.
تفرغ للتحقيق والبحث والتأليف، فحقق تراث
والده السيد محسن الأمين، ونشره، وجعل موسوعة أعيان الشيعة في متناول
طلابها، وما أكثرهم، ثم أتبعها بمستدركات تكملها... وفي هذه الأثناء،
كان يعكف على إعداد دائرة المعارف الاسلامية وإصدارها...
وفي مجال آخر، راح يعيد النظر في كتابة
التاريخ الاسلامي، بعدما رأى ان كثيرا من المؤرخين يمدح بلا تحفظ حين
يرضى، ويذم بلا توقف حين يغضب، او يركب التاريخ وفاقا لهواه، كأنه،
وعلى حد تعبير السيد الأمين، يركِّب التاريخ بالإبرة والصنّارة.
ومن الطرائف الدالة، في هذا المجال، أن أحد
المؤرخين الموصوفين بالكبار ركّب مقولة مفادها ان الأمير فخر الدين
المعني أرسل الشيخ لطف الله الميسي العاملي الى الدولة الصفوية في
إيران لتؤيده في سعيه الى الاستقلال... والحقيقة التاريخية تفيد، كما
يقول السيد الأمين، ان الشيخ لطف الله لم ير فخر الدين وفخر الدين لم
يره لأنه ولد وعاش ومات في إيران.
ولا يخفى غرض ذلك المؤرخ السياسي من اختراع
هذه الحادثة.
وكان السيد الأمين، ولا يزال، يرحل بحثا عن
مصادره، وكان ولا يزال يرحل في هذه المصادر.. إنها رحلات بحث عن
المصادر وفيها، وتثمر الرحلات أدبا يغني نوعا أدبيا عرفه الأدب
العربي هو أدب الرحلات، وتثمر شعرا يمثل تجربة البعد والفراق
والحنين... وتثمر حقائق تاريخية يتبينها الباحث ببصيرة نفاذة ويقولها
بجرأة نادرة، فيفاجئ المستكينين الى السائد، ويخض فيهم الركود.
يناقش السيد الأمين واحدا من هؤلاء ردد مقولة
سائدة مفادها أن الدولة الفاطمية كانت بلاء على الاسلام والمسلمين،
فيقدم له وللقراء وقائع تدحض هذه المقولة، ثم يقول ساخرا: ولعل من
هذا البلاء أن الدولة الفاطمية اورثتنا القاهرة والأزهر!.
ويبين، في مثال آخر، بالأدلة الدامغة ان نصير
الدين الطوسي الذي هاجمه مركبو التاريخ بالإبرة والصنارة، استطاع ان
يهزم بالعقل والعلم والتدبير الدولة الطاغية الباغية، دولة المغول،
ونجحت خططه في تحويل المغول من وثنيين الى مسلمين، وروض شارب الدماء
هولاكو، فمثل بذلك أنموذج المثقف الكبير الذي وظف علاقته بالسلطان
الطاغية في خدمة مشروعة التاريخي، المتمثل بتحويل القوة الوحشية
العاتية الى قوى تسهم في بناء حضارة وثقافة، هذه هي، كما رأى السيد
الأمين، وظيفة المثقف التي أدركها الطوسي ولم يتخل عنها ويهرب، على
الرغم من أنه كان معرضا للوقوع في أنياب الوحش في كل يوم.
وبقي السيد حسن الأمين يعرب عن الحقيقة التي
يتبينها، ويقرع الجهل بالحجا/ بالعقل بعزم لا تفلّه السنون. وإني
لأكاد أسمه يقول:
أُأَمِّل ما لا يبلغُ العمرُ بعضَه
إنه لشباب يتجدد، شباب العلامة الباحث أبدا
متبعا نهج المسؤولية والاستقامة والصبر...
إن هذا الشباب، وإن غيّب الموت جسد صاحبه، باق
في الكتب/الدّوالي التي تبقى طوال الزمن مثقلة بعناقيدها تُضيء
وتُمتع وتغذي. عبد
المجيد زراقط - السفير
كانت
حفلة الاربعين التي أقيمت في النبطية للعالم المخترع حسن كامل
الصباح جامعة ضمت نخبة ممتازة من علماء البلاد وسراتها وشبابها،
ففي الساعة الثانية من بعد ظهر يوم الجمعة الواقع فيه 10 أيار 1935
احتشد الناس في النادي الحسيني في النبطية، وكان الخطيب الاول
السيد حسن الأمين الذي ألقى كلمة الشباب المناضل بلهجة حماسية،
مختتما إياها بالقول: يا شباب جبل عامل الأمجاد، ويا فتيانه
الأشاوس سيروا في صفوف النضال الاولى ذودا عن التراث العربي الغالي
ليُظِلّ لواء العرب العالم مرة ثانية. فاستثار بخطابه النفوس
واستفز الشعور.
منذ يفاعته كان دأب السيد حسن الامين خوض
النضال في وجه الاحتلال الفرنسي لبلاد الشام، حين طرقت الجيوش
الفرنسية أبواب دمشق بعد معركة ميسلون في 24 تموز 1920 كان السيد
حسن الامين أحد الشبان المناضلين لأجل تحرير البلاد ووحدتها.
وامتد نضال السيد حسن الأمين من دمشق الى
جبل عامل الى فلسطين، فكان المقاوم للانتداب الفرنسي، العامل مع
ثلة من المناضلين للوقوف في وجه الطاغية بتشكوف.
وكان السيد حسن الامين من العاملين لإيقاد
جذوة انتفاضة عام 1936. ونذكر لهذا السيد المحقق البحاثة المجاهد،
عمله الدؤوب يوم تولى سدة القضاء في النبطية لأجل محاربة الهجرة
اليهودية الى فلسطين.
ونذكر له المشاركة الفاعلة في كافة النضالات
الوطنية، في مؤتمرات الساحل ومؤتمرات نصرة القضية الفلسطينية
ومقاومة الحكم الشمعوني المنحرف.
كان المحقق البحاثة السيد حسن الأمين مركز
أبحاث وفريق عمل في رجل واحد، فكان ذلك الناسك الزاهد العامل بعيدا
عن الرغبات الدنيوية، والمكرس حياته للبحث والنضال. أسلم الروح وفي
يده اليراع يخط سطور المعرفة، جزاه الله عن دينه وأمته خيرا.
سعيد الصبّاح
-
السفير
السيد حسن الأمين يستسلم اليوم للتراب،
ولا يرحل عن الأذهان...
حكايته مع التراب طويلة.. تراب الجنوب
والوطن، وأرض العرب والاسلام.
كان يحدب على التراب.. يسير فوقه برفق،
ويتحسسه بقدسيّة ويحاوره ويُشاطره هموم المقهور والمغمور
والمهمل...
في الثبات على المواقف والتمسّك بحقّ
التراب، كان ينظر للآفاق، يهجس بمغامرات الفاتحين، يستعرض ما
جرى، يستشرف ما سوف يجري، ويودع صفحات دفاتره رؤى السّبر والصبر
والتوقع والتحرير...
رأى الجنوب اللبناني يتحرر قبل التحرير
بكثير.
رأى العرب مقسّمين قبل ان يُقسّموا.
رأى الثروات تبدّد قبل ان يُبدّدها العرب.
رأى أطماع الغرب تغزونا قبل العساكر
والجنود.
صراع الايمان المطلق والظلم المتربّص، لم
ينل من حكم بصيرته، ولا منطق العقل عنده.. فسجّل الكثير من
الحقائق وطواها في دفاتره ومضى...
المؤرخ الكبير حسن الأمين صحّح الكثير من
المغالطات التاريخية.. وحذّر من الاستسلام للشائع المغرض على
حساب الحقائق والأفعال والوقائع.. نهى عن عبودية الرموز
والاشخاص.. ودعا للنظر الى وجه الحقيقة الآخر.. فوجه الحقيقة
مشرق مهما أخفي او تخفّى...
سيدي السيّد.. كما كنت أقبل جبهتك عند
اللقاءات والنقاشات وتبادل الآراء، أقبّل روحك اليوم وقد فارقت
الجبين الوضّاء، وودّعته في منطلق الرحلة الترابية.
تركت لنا الوصايا ورسمت لنا الصراط، فبقيت
حيا في كتبك وتواريخك ومقالاتك ومؤلفاتك ومواقفك..
سلام عليك وقد سكنتَ فصَحونا...
أنت حيّ في العقول.. وأحياءُ العقول لا
يُبارحون...
محمد ماضي
- السفير
انه تناثر للجمل ويُتم للعبارة وسقوط
للمعنى
أتكوّر كالهمزة أمام أناشيدك
فأسمع طبول التاريخ تُدق، وأبواقا تنفث،
وحرق خيام واشتعال نار
من تنفس العصافير وسنابل المواسم
من جداول القرى وطرقات العين
لا بد ستأتي حاملا زنابق الروح يرافقك
يمام السطوح في البلاد العربية
ويخرج من كتب التاريخ حراس الهيكل
وأمناء الخزائن
محمد الأمين
- السفير
|