مقالة الأستاذ معتوق المعتوق

 

كما أرسل الأستاذ الكاتب القدير معتوق المعتوق بمقالةٍ أدبية رائعة، تحت عنوان (قطرات من غيث مُزنك.. يا علي). وفيما يأتي نصها كاملةً:

أنأى وتأخذني الدروبُ وأُبْعِدُ             وأظل أنهل من يديك وأورد

وتظل ملء الروح تغمر صحوتي            فتفيق من سكر الزمان وترشُدُ

ما طال بي دربٌ لمستُ بخطوِهِ            روعاً يطول على خُطاي ويُبعد

إلا وأنت بحيرتي لي منبع طامٍ            وفي ليل المتاهة فرقد(*)

 

منذ الأزل، من عالم النور، من الأصلاب إلى الأرحام الطواهر، من مكة إلى المدينة إلى الكوفة إلى النجف... إلى الشرايين ...إلى نبض القلوب... إلى الصدور... إلى الضمائر. بين عالم الذر وعالم الأرواح سرى عرش من النور تحوطه هالة من بريق النجوم، ترعاه عين الجليل ويصطنعه محمد الرسول (ص) تضطرب من حوله أجنحة الملائك، وتسجد على آثار مسراه الفضائل، وتتحلق من حوله الأفهام حائرة عن كنه معرفته، وتدور حوله القلوب الولهى ليلامس شغافها فتقشعر وترتجف ويهتف خفقانها مدوياً... علي...علي...علي...علي. ظل يسري والعيون والقلوب والأرواح ترقب مسراه طيفاً حالماً أزلي الوجود سرمدي البقاء يمر وتبقى من سنى مسراه مشاهد خالدة عبر الزمان. 

المشاهد

المشهد الأول(في محراب الولادة):

الكعبة الشريفة.. الطائفون في السماء يرمون بأبصارهم.. يحدقون فيها.. صدى وقع خطواتها يتردد في عالم الملكوت، كفاها تعانقان السماء، شفتاها تناجيان الجليل، صدر الكعبة ينشق.. تستقر على الرخامة الحمراء، تلامس موائد الجنة، نور..عطر..تهليل..تسبيح.. شخص محمد(ص)... ثم... وضعته ساجداً في جوف الكعبة. أولُ مالامست مساجدُه بيتَ الله، ومالم يلامسه منها تشرف بجسد محمد (ص) وهو يلامس صدره بصدره وظهره بكفه ووجنته بشفتيه الشريفتين ليطبع على خده قبلة نيابة عن كل المتحلقين.. عن الملائكة..عن أمه... ثم عنا لترتسم على كل شفة كلما ذُكرت هذه الصورة الأخاذة الإبتسامة وتتعالى من كل حنجرة محبورة أصداء الحمد والتهليل والصلوات.

المشهد الثاني (الربيب):

محمد (ص) يكثر التردد على بيت عمه أبي طالب و (أمه) فاطمة بنت أسد، ينتقل بين جنبات الدار الى حيث مهد الوليد، يحتمله على صدره.. يقبله.. يشمه ويناغيه.. ثم يهدهده لينام ومهده يهتز برفق وحنان. ويشب الصغير وينتقل الى دار الرسالة-دار المصطفى وخديجة- ويلازم الرسول ملازمة الفصيل لأمه، وفي غار حراء يظل يعبد الله وقومه عاكفون على أصنامهم حول الكعبة... وفي فنائها صورة تتغنى بها الملائكة.. صلاةُ جماعة إمامها محمد ومأموميها علي وخديجة.

المشهد الثالث (القضيم):

قريش توغل في الحقد، تحاول إطفاء النور، تحاول إسكات صوت محمد (ص)، تغري به السفهاء والصغار، الأطفال يرمون الشوك والحجارة على الرسول، ثم... الأطفال يتراكضون ويصطرخون والدماء تسيل من آذانهم... لقد جاء القضيم..لقد جاء القضيم.

المشهد الرابع (المبيت):

صمت رهيب حول الدار، ظلام دامس يلف المكان، عين السماء ترعى الدار، عيون الكفر تتطاير شرراً وهي تحملق في الباب، الباب تُفتح، تمتد منها كفٌ بشئ من التراب، نداءٌ: أن شاهت الوجوه، العيون عُمْيٌ لاترى كما القلوب، أقدام الرسول تنساب من بينهم، هجموا على الدار وهم يزبدون ويرعدون، الأسد الرابض يكشف عن دثاره... خارت القوى، تزلزلت القلوب، رجعوا خائبين، تجلى جبينه من سقف الدار الى عنان السماء ليباهي به الجليل ملائكة السماء المقربين.

المشهد الخامس (بدر):

قافلة قريش تتحلق حول القليب، السماء تزدحم بالملائكة وحرابها، المسلمون يتلمظون بالمنايا، جريد النخل يقف منتصباً أمام السيوف البواتر، الحفاة المشاة يواجهون الفرسان المدججين، صوت علي يجلجل في الميدان، تكبيراته الخمس والثلاثون تهز السماء قبل الأرض، سيفه يقطر من دماء القتلى، رمحه يزاحم حراب الملائكة والمسلمين في الباقي، المشهد ينجلي: قريش وصناديدها على التراب ومحمد وفارسه الأعظم على عرش السماء.

المشهد السادس (الخندق):

علي واقف وحده وقد أصلت سيفه عند ثغرة الخندق يُحكِمُها بيديه العاريتين، المشركون ينظرون إليه ولا يجرؤون على التقدم، المسلمون يهللون ويكبرون، عمرو بن ود في بقعة من الميدان ورجله ورأسه في بقعتين أخريين، صوت محمد يدوي في الأرض "ضربة علي لعمر تعدل عمل الثقلين إلى يوم القيامة" ثم صوت جبريل يجلجل في السماء "لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتىً إلا علي".

المشهد السابع (خيبر):

علي يُقاد من يده إلى المسجد، يجلس بين يدي الرسول الكريم، يسقي عينيه من رضابه الشريف، يفارقه الرمد إلى الأبد، الرجل الذي يحبُ اللهَ ورسولَه ويحبه اللهُ ورسولُه يمتطي صهوة جواده وراية الله ترفرف فوق رأسه، اليهود المتحصنون في قلاعهم ينظرون بابهم العظيم ترساً بكف علي وجسراً على ساعده، سيف علي يعلو ويهبط على رأس مرحب... يشق الخوذتين والدرعين والصدر والفرس ويعانق الأرض لتنفجر أساريرها بماء الغبطة والحبور.

المشهد الثامن (الغدير):

الشمس تلتهب في كبد السماء، فصول خطبة الوداع تتردد في أسماع المسلمين، جبريل يصعد ويهبط: "يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك"، الناس يفترشون ثيابهم ويتقنعون بأرديتهم، محمد يوقف المتأخر ويرجع المتقدم، عيون الغابطين والحاسدين تحدق نحو منبرِ أحداج الإبل، محمد وعلي على المنبر، كف محمد ترفع كف علي، الأبصار شاخصة.. الأسماع مرهفة..الأنفاس محبوسة... كل ما في الكون يردد مع محمد (ص) "من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم والي من والاه وعادي من عاداه".

المشهد التاسع (اليتامى):

علي في بيت المال، يُجلب له شئ من العسل المصفى، ينظر إليه الموجودون يرقبون ما يصنع، يلتفت إلى غلامه: "أدع لي اليتامى"... يجئ الصغار ودموع اليتم تترقرق في مآقيهم. يداعبهم، يلاعبهم، يمسح على نواصيهم، يجلسهم من حوله يقدم لهم العسل وصورتهم تتحول إلى دمعة تلمع في عيني أبي اليتامى، وصدره يجيش بنداءه الخالد:..

 " مإن تأوهت من شئ رزئت به        كما تأوهت للأيتام في الصغر"

المشهد العاشر (ويطعمون الطعام):

علي والبتول يمرضان الحسنين، ينذران لله الصيام ثلاثاً، يحل المغيب، الزهراء تعجن وتخبز، الأربعة الأشباح وخادمتهم يتحلقون حول مائدة الخبز والماء القراح، الباب تُطرق.. يد فضة تخرج الأقراص الخمسة إلى المسكين واليتيم والأسير، يبيتون ثلاثاً على الماء القراح، الرسول ينظر إليهم وقد أوشكوا على الهلاك، يبكي رحمة لهم، السماء تمتلئ بصوت الوحي ينادي نيابة عنهم: " إنما نطعمكم لوجه الله لا نُريد منكم جزاءً ولا شكورا".

المشهد الحادي عشر (في محراب الشهادة):

النجوم تحدِّق وَجِلَةً في عينَي علي (ع)... أَوَّزُ الدارِ تتوسلُ إليه ألا يخرُج، البابُ تستعصي على قالع الباب علَّه يبقى في الدار، الأرض ترتجف وهي تحتضن خُطواتِهِ المُتَثَاقِلة، عليٌ يدخلُ المسجدَ للمرةِ الأخيرةِ، منارةُ المسجِدِ تحملُ منارةَ الإسلامِ العُظمى، أذانُهُ الأخيرُ يجلجل في القلوبِ والأسماعِ. عليٌ في مصلاّه...الأحقادُ الدفينةُ والسيوفُ الغادِرةُ تُحْدِقُ به، السيفُ المسمومُ يعانِقُ جبينَه...دمُهُ يتفجَّرُ يبكي حُرقَةً عليه...الملائكة تبكي في صوامِعِها...لحظة صمتِ المأساة تخيِّمُ على الدنيا...الموقف ينجلي: علي يهوي صريعاً حيث يعشق... في محرابِه، في ساحة عشقهِ الكبرى، بين خضاب دمه تهاوى الصنديد الذي طالما خضَّبَ الفرسانَ بدمائهم... فوق أديم الترابِ تهاوى أبو تراب. ومن بين تقاسيمِ وجهِهِ الشاحِب ودمِهِ الشاخِب وقواهُ الخائِرةُ تعالى إلى عنان السماء همسُه الخالد "فُزْتُ وربِ الكعبة".

المشهد الثاني عشر (طريح الفراش):

الملائكةُ التي تعوّدت التفاخر بالنظر إلى وجه عليٍ (ع)، أولادُهُ ويتاماهُ الذين لا يطيقون صبراً عن النظر إلى قسمات وجهه العطوف، مُحِبُّوهُ الذين يتعبدون الله بالنظر إلى وجهه النورَانِي...كُلُهُم يُغالِبون شوق النظرِ إليه، فهُم لا يحتمِلون ما يرون...وجهه شاحِب، شفتاهُ ذاويتان، جبينُهُ يُغالِبُ العِصابةَ صُفرَةً، حدقتاه غائرتان، جفناه ذابلان، أجفانُ جُرحِهِ جفّت وهي تبكيهِ من فيضِ دمِه السكيب...عِرْقُ الشاةِ تخرُجُ مكَللةً ببياضٍ مُفْجِع... الحاضرون يكتُمون دُمُوعَهُم رِفقاً به... ينشُجون نشيجاً خافتاً. علي (ع) يفتحُ عينيه... شفتاهُ تتحركان.. صوتُهُ الخافتُ يصارع الموت معه... ثم يخرج هامِساً ليهُزَّ الدُنيا ويُبكيَ من حولَه وهو يتمتم "عَلَيّ َ باليتامى... عَلَيّ َ باليتامى". ما أنت أيها السرُ العظيم؟

المشهد الثالث عشر (الشهيد)

 زينَبٌ خلف السِترِ تُرْهِفُ السمعَ لأنفاسِ أبيها الأخيرة، الذكرى تحلِّق بها إلى أيامِ طفولتها وهي ترى أباها يُسحبُ من دارِه... تتذكرُه عائداً من بدرٍ وخيبرَ والأحزاب وقد وتر قريشاً وقتل مرحَباً وعمرا والملائكة تهتف باسمه وباسم بتاره، ثم تنقلها أصواتُ أنينِه الشجيِّ سريعاً إلى فناء بيتِ الكوفةِ وهي ترى بنيه يعضِّدون له كي لا تراه صريعاً. وتدخُلُ بها الذكرى إلى ما وراءِ السترِ وأبوها يجمعُ يده الشاحبةَ بيدها ويد أخيها أبي الفضل ويُديرُ عينيهِ فيهِما. ثم ينقطع عنها حبلُ الذكرياتِ ويشْحَبُ وجهُها وهي تسمع أنفاسَ عليٍ الأخيرةَ تتهافتُ في صدرِه ليبوح بها بآخِرِ وصاياه. كادَ قلبُها يتوقفُ وهي تنظُرُ الى ظلِ أخوَيْها من وراء الستار وهما يلتصقانِ بأبيهما، ثم قامت وهي تُحِسُّ بأخيها الحسن (ع) يقومُ من بين يدي أبيه، رمى عِمامَتَهُ مفجوعاً والدمعُ يتفايَضُ من عينيه، ثم صرخت زينبٌ من صميم فؤادِها وهي تسمع المسمومَ ينادي في الحاضرين "عظّمَ اللهُ أُجورَكُم...لقد مات علي...مات علي... مات علي"  

المشهد الأخير (القبور والقلوب):

النجف تحتضن الجسد الشريف، أعدائه يلاحقونه في القبور وعلى المنابر، نبشوا سبعين قبراً، شتموه ثمانين عاماً، فتكوا بأحبته الذائبين في عشقه علهم يمحون ذكره، علهم يخمدون صوته، علهم يطفئون جذوته. لكنه قهرهم بحياته السرمدية في الصدور والضمائر.وحتى لما حرثوا الصدور ليمحوه من القلوب وجدوا كل فؤاد طعنوه يرتجف حول سيف طاعنه وهو يدعوا ياعلي.. ياعلي.. ياعلي...

إني لمست على نخل الفرات ندىً         من فيض كفيك لاحت في آثار

رؤاك أصدقُ وعد وهي صامتة          وقد يضيق ببطن الغمد بتار

وأنت ان لم تكن روحاً بأضلعنا           فلا تملتك أرواح وأعمار(*)

الهوامش:

(*) أبيات المقدمة والختام مقتبسة من أبيات للشاعر الكبير السيد مدين الموسوي