في كلمته أمام مؤتمر العودة إلى القرآن السابع:

الشيخ مرتضى معاش رئيس تحرير مجلة النبأ: الحرية لا تتحقق بالتغيير الشكلي وإنما بحركة داخلية تنبع من ذات الإنسان ووعيه

الورقة المقدمة من سماحة الشيخ مرتضى معاش رئيس تحرير مجلة النبأ في مؤتمر العودة إلى القرآن السابع والذي انتهت فعالياته يوم الاثنين كانت تحت عنوان (الحرية والاستبداد.. جدال النهضة والتخلف).

جاء في الكلمة:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين..

إن أهم مشكلة تعيشها الأمة في وقتنا الراهن وهي تريد أن تنفض عن نفسها ركام التخلف، هي أنها لا تملك الطاقة الحركية التي تدفعها لبناء واقعها وهذه الطاقة هي الحرية والقدرة على الاختيار والتفكير والتغيير والإبداع؛ لأنها أسيرة الاستبداد الذي صنع حواجز نفسية وفكرية وتاريخية عميقة تمنعها عن الحركة الإيجابية. فالاستبداد بمختلف ألوانه وأشكاله هو ضد حركة الإنسان والحضارة لأنه نقيض الحرية ويسلب القدرة على اختيار البدائل المتعددة ويمنع من التفكير واستخدام العقل وبالتالي يحرم الإنسان من الحياة.

القرآن الكريم يعطينا زخماً إرشادياً واسعاً لعملية النهضة والتخلف، ويمكن أن نستنتج من الآيات القرآنية في هذا المورد ثلاث ملاحظات:

1- إن العبودية المطلقة هي لله وحده.

2- إن الحرية هي أساس وجود الإنسان وحركة المجتمع.

3- إن مواجهة الاستبداد هي من أولويات التكليف الإنساني من أجل تحقيق العبودية لله فقط.

من هنا فإن جوهر حركة الأنبياء وبعثتهم يتمثل في هداية البشر نحو الحرية ورفع أغلال الاستبداد عنهم، يقول تعالى: (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي عليهم).

فالقرآن الكريم في معظم خطابه هو حوار مستمر بين الأنبياء والطغاة من جهة وبين الأنبياء والمجتمعات من جهة أخرى، لأن الوقوع في براثن الاستبداد عملية مشتركة بين فاعلية الحاكم المستبد وبين تقبل المجتمع للاستبداد، (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) (الزخرف52)، ونلاحظ أن الأنبياء كانوا في مواجهة مستمرة مع مستبدين وطغاة ينشرون الفساد والخراب في مجتمعاتهم. يقول تعالى في خطابه إلى موسى (ع): (اذْهَبْ إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى)، (اذْهَبَا إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (طه43).

فالاستبداد - كما نستنتج ذلك من القرآن - هو مبعث الشرور في المجتمعات؛ لأنه يؤدي إلى الاستئثار والطغيان والاستكبار والظلم، وبدرجة أولى يقمع الحرية ويمنع العقل من التفكير ويشل الاختيار، يقول تعالى: (وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ  مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِّنَ الْمُسْرِفينَ) (الدخان31)، (فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) (يونس83)، (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (القصص4)، ونلاحظ أن القرآن يربط بين الاستبداد مع الفساد والإسراف، فيقول تعالى: (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ  فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ) (الفجر12)، (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ) (البقرة205).

* جذور الاستبداد وأسباب نشوءه

تتعدد أسباب نشوء الاستبداد باختلاف الظروف والعوامل، ولكن القاسم المشترك هو عوامل معنوية تنبع من ذات الإنسان الذي يشكل عبر مجموعة الأفراد والمجتمع الأرضية القابلة لتحقق الاستبداد فيه، ذلك أن الاستبداد كالنبتة الخبيثة التي تنبت في التربة السيئة ولاتنبت في التربة الصالحة. ويرى روبرت ماكيفر في كتابه (تكوين الدولة) أن: الدكتاتوريات تزدهر في أوقات الأزمات التي يتهافت فيها النظام القائم وتتهالك التقاليد وتستفحل المنازعات فيمتلك اليأس النفوس ويرضى الناس بالرجل القوي مضحين بالكثير لأنه يعدهم بعودة الثقة والأمن ويتنازلون عن معايير الشرعية التي لا يتنازلون عنها في أوقات أخرى ويتغاضون عن التناقض بين الدكتاتورية والشرعية.

فالنفس البشرية على الأعم الأغلب عندما يتملكها عدم الثقة بالنفس وفقدان الشعور بالاستقلالية الذاتية وسيطرة التبعية، تبحث عن شخص تجد فيه عوامل القوة التي تفتقدها لتصنّمه وتمجده وتحوله إلى معبود بشري، إن لم يتحول إلى معبود يدعي الربوبية كفرعون وغيره. يقول الكواكبي في كتابه (طبائع الاستبداد): يجد العوام معبودهم وجبارهم مشتركين في الكثير من الحالات والأسماء والصفات وهم ليس من شأنهم أن يفرقوا مثلا بين الفعال المطلق والحاكم بأمره وبين من لا يسأل عما يفعل وغير المسؤول وبين المنعم وولي النعم.

ألم يقل ذلك الشاعر في مدح الحاكم الطاغية:

ما شئت لا ما شاءت الأقدار          فاحكــم فأنت الواحد القهار

ويرى موريس ديفرجيه أن الدكتاتورية وليدة لأزمات يتعرض لها البنيان الاجتماعي وأنها نموذج يعكس الوضع الاجتماعي لأن الجذور والأصول العميقة هي التي أنجبتها.

إن التربية العائلية والاجتماعية تساهم بشكل كبير في نشوء الاستبداد لان الاستبداد سلوك يتعلمه الإنسان من خلال ما يكتسبه من قيم وتقاليد خلال فترات حياته، فعندما يكون الجو العائلي مشحونا بالتسلط والقهر والأحادية فإن هذا ينعكس على الأبناء بشكل سلوك عام تظهر كوامنه وآثاره على اتجاهين؛ اتجاه الفاعلية حيث يكون الاستبداد السلوك الأولي الذي ينتهجه الفرد في تعامله مع الآخرين، واتجاه القابلية حيث يكون الفرد جاهزا لقبول الاستبداد بكل أنواعه والتعاون معه. يقول أرسطو: إن الرجل الحر لا يستطيع أن يتحمل حكم الطاغية ولهذا فان الرجل اليوناني لا يطيق الطغيان بل ينفر منه، أما الرجل الشرقي فإنه يجده أمرا طبيعيا فهو نفسه طاغية في بيته يعامل زوجته معاملة العبيد ولهذا لا يدهشه أن يعامله الحاكم هو نفسه معاملة العبيد.

يقول الله تعالى: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون. ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون) (البقرة170).

* الاستبداد السياسي والقدرية المسيسة

إن أهم دواعي الاستبداد السياسي هو القضاء على الحرية بل إنهما نقيضان لا يلتقيان ولا يجتمعان، والحرية هي الانعكاس العملي للقدرة الفكرية والعقلية على الاختيار والإرادة، لذلك حاول المستبدون أن يوجدوا منطقا هزيلا يغرر بالجهلاء وأنصاف المتعلمين عبر تسييس العقيدة ونفي حرية الإرادة والاختيار، وإن الإنسان مجبور وغير مخير، وإن الخالق هو الذي يجبر الناس على الفعل خيرا كان أم شرا؛ وذلك لتبرير شيئين: إن الناس مجبورون على الخضوع للمستبد والظالم مهما طغت وطفحت شروره، فليس من حقهم المعارضة والنقد لأن الخالق هو الذي نصبه عليهم، والشيء الثاني أن الحاكم غير مسؤول عن أعماله الجائرة واستبداده المطلق وإسرافه في الدماء والأعراض لأنه مجبور على أعماله وغير مسؤول عنها. وقد حاولت الحكومات المستبدة على طول التاريخ نشر هذا المفهوم عبر وعاظها لفرض سيطرتها المطلقة وسلب الحريات. وكان الأمويون من الذين سبقوا الآخرين لإيجاد مذاهب تدعو إلى هذا الأمر، فأسسوا الجبرية والمرجئة و... يقول معاوية: لو لم يرني ربي أهلا لهذا الأمر ما تركني وإياه ولوكره الله ما نحن فيه لغيره وأنا خازن من خزان الله تعالى أعطي ما أعطى الله وأمنع ما منعه ولو كره الله أمراً لغيره.

إن الأمر الأخطر من التبرير العقائدي والشرعي للاستبداد هو سيطرة القدرية والجبرية على حياة الناس كنظام ثقافي واجتماعي يتحكم بسلوكهم ويقود نحو الرضى المطلق بالعبودية والتبعية والظلم، وهذا هو الذي يوجد الأرضية القوية لسيطرة الاستبداد، وليست قوة المستبدين نفسها. يقول تعالى في كتابه الكريم: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي).

إن المستبد يجعل من نفسه وصياً على الناس يحجر على حرياتهم وأفكارهم وطاقاتهم بدعوى أنهم غير قادرين على الاستفادة الجيدة من حريتهم لذا يتصرف عنهم بشكل مطلق، فهو يعتبر نفسه أبا للمواطنين ويعاملهم معاملة أطفاله على أنهم قصّر غير بالغين وغير قادرين على أن يحكموا أنفسهم. ومن هنا كان من حقه عقابهم إذا انحرفوا لأنهم لا يعرفون مصلحتهم الحقيقية.

* من هو المستبد..؟

لاشك أن معرفة المستبد وصفاته النفسية والأخلاقية تكشف لنا عن ماهية النظام الاستبدادي الحاكم وبالتالي تأثيراته على المجتمع وما يفرضه مــن تموجات تخترق البنية الاجتماعية وتحطم أسسه وخصائصــه الاستقرارية، لأن المستبد يحتكر كل القنوات الفكرية والإعلامية والتوجيهية فيحاول أن يمسخ الآخرين ويجعلهم على شاكلته، ولذلك قيل (الناس على دين ملوكهم). يحلل الباحث موريس ديفرجيه نمط الشخصية الاستبدادية وصفاتها وأسباب نشوء الاستبداد فيها بقوله: إن المستبدين يتصفون بكونهم أفراد غير واثقين من أنفسهم ولم يستطيعوا يوما أن يكوّنوا شخصيتهم الخاصة بهم وأن يحققوا لها الاستقرار، أفراد يشكّون في ذواتهم وهويتهم فإذا هم يتشبثون بالأطر الخارجية لأنهم لا يملكون ما يدافعون به عن أنفسهم، فهم عندما يدافعون عن النظام الاجتماعي إنما يدافعون عن أنفسهم وعن توازنهم النفسي، وعن هذا ينشأ العدوان فيهم وتصدر كراهيتهم للمعارضين وحقدهم على الآخرين المختلفين ، حتى إذا أصبح النظام الاجتماعي ذلك النظام الذي رسموه حسب أهوائهم زاد عدوانهم وهكذا يظهر أوهن الناس نفساً بأقوى مظهر خارجي، لذلك فإن الأحزاب القائمة على القوة هي أحزاب تتألف من أناس ضعاف.

إن الميل إلى الاستبداد هو في بعض الأحيان تعويض عن إخفاق أصاب الفرد، والمرء ينتقم من الآخرين لأنهم لا يحبونه أو لأنهم يستخفون به أو لأنهم يعدونه دونهم قدراً، والضعاف والحمقى والخائبون يحاولون أن يؤكدوا ذواتهم بإذلال من هم أعلى منهم بالسعي إلى إنزالهم إلى ما دون مستواهم.

لذلك فإن الاستبداد يستخدم القمع والإرهاب عندما يفشل في تحقيق سياسته وخططه، بل هو مستعد لأن يشن الحروب ويضحي بالملايين من اجل ان يحس بالاطمئنان ومع ذلك يبقى قلقا وخائفا ومرعوبا، لان النفس المستبدة فقيرة وهزيلة يستبد بها الرعب وتعاني وتنظر إلى باطنها فتجدها خاوية فتمتد إلى خارجها لتقتني ما يسد لها هذا الخواء، تتصيد أناسا آخرين لتخضعهم لسلطانها لأن مصدر طغيان المستبد هو فقر نفسه، فالمكتفي بنفسه لا يطغى ومن يشعر بثقة واطمئنان ليس في حاجة إلى دعم من سواه.

إن الخطر ليس في المستبد بحد ذاته بل في تصديره لصفاته كنظام اجتماعي وثقافي وأخلاقي يتحكم بالناس خصوصاً عندما يستخدم الرعب والقمع والانغلاق لحجر العقول والأفكار والإبداع في جوٍ من اليأس والخوف والقلق. وبهذا فان النظام الاستبدادي يستنسخ نفسه عبر انعكاس صفاته وخصائصه على الناس. فالأفراد الذي لم يسمعوا ولم يروا ولم يقرأوا إلا عن المستبد وشخصيته العظيمة يتخرجون من مدرسته وهم يحملون صفاته وشعارهم الأول القضاء على المبدعين والمفكرين والأحرار لأنهم يكشفون عن مدى خوائهم وضعفهم فالأشياء بأضدادها تعرف، ولهذا قتل الحكام المستبدون في الدولة الأموية والعباسية أهل البيت عليهم السلام وسجنوهم وشردوهم .

* آثار الاستبداد

أولا: مسخ هوية الإنسان ووجوده:

فالاستبداد يستهدف مسخ هوية الإنسان والقضاء على وجوده المعنوي لأنه نقيض للحرية، والحرية هي هوية الإنسان وحقيقة خلقه وفلسفة امتحانه وابتلائه. فالمستبد يهدف إلى تحويل رعيته إلى قطيع من الأغنام لا دور لهم أذلاء، بحيث يهدم إنسانية الإنسان ويقضي على احترامه وتقديره الذاتي. ترى حنة ارندت: ان الحركات الاستبدادية تضم إليها أفرادا معزولين ومبعثرين وتتميز بأنها تشترط الولاء المطلق واللامحدود وغير المتبدل للفرد إزاء حركته، إن ولاء كهذا لا يمكن توقعه إلا من كائن بشري معزول بالكامل كائن مجرد من روابطه الاجتماعية التي تصله بعائلته وأصدقائه فرد لا يستشعر نفعه إلا من خلال انتمائه إلى الحركة الاستبدادية، أي تفريغ الإنسان من كل محتوى إنساني حي بحيث يفقد استقلاله ووجوده لصالح الانتماء إلى النظام الاستبدادي. فالاستبداد يعزل الإنسان عن وجوده الخاص ووجودات الآخرين ويضعه في صحراء مقفرة شاعراً بالتقفر الذي يعني هنا الوحشة التي يستشعرها الإنسان الذي اقتلعه النظام الاستبدادي وحرمه من مجال وجوده وحركته وفعله. فالاستبداد يمارس على الناس سلطة العبيد وينحى إلى تدمير مجال الحياة العامة عازلا إياهم عن أي نشاط بل ويقضي على الحياة الخاصة على أساس التقفر والعزلة التامة وعدم الانتماء الأقصى والمطلق إلى العالم، ولاشك فإن هذا أشد اختبارات الإنسان؛ إذ يعني من جملة ما يعني اقتلاعه جذرياً. وأن يكون المرء مقتلعا يعني ألا يكون لديه مكان في العالم مكان يقر له الجميع به ويضمنونه، وهذا يقود نحو إحساسه بعدم جدواه وانه لم يعد يمت لهذا العالم بأي صلة انتماء، وهذا هو الاقتلاع الوجودي للإنسان في ظل الاستبداد.. فالوجود في النظام الاستبدادي هو وجود المستبد فقط والآخرون هم وجودات هامشية لاتملك حق التفكير والمناقشة.

 ثانيا: تدمير الأخلاق والفضيلة:

وإذا مسخ الإنسان وجرد من هويته فانه يتجرد من كل شيء ويفقد تلك الأخلاقيات التي تميزه كإنسان فاضل كريم، وهذا ما يهدف إليه الاستبداد؛ أي تجريد الناس من الأخلاق لاستغلال ضعف النفوس لصالح تقوية أركانه ونظامه. ولهذا يجتذب النظام الاستبدادي الأفراد الذين تنعدم فيهم الأخلاقيات الاجتماعية، فالاستبداد يقود حملات تطهير ضد كل روابط الفرد الاجتماعية والعائلية بأن يخلق من الناس مجموعة وشاة ومنافقين حيث يحاول كل فرد أن يجمع الأدلة ضد الآخرين لتقريب نفسه إلى السلطة وأنه جدير بالثقة بحيث يصبح تقدير الفرد بعدد الوشايات عن رفاق أقربين له. وما أن يقتل الشخص الأخلاقي حتى يتحول الناس إلى جثث حية فلا يبقى من البشر شيء سوى دمى مريعة ذات أوجه بشرية.

إن الاستبداد يساعد كثيراً على نمو الرذائل وقتل الفضائل لأنه يرفض الرأي الآخر والنصيحة والنقد ويقرب المتملقين والمنافقين مما يساعد على نمو هذه الرذائل باعتبارها وسيلة إلى الأمن والقرب من السلطات، ألم يقل عبد الملك بن مروان: والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه.

ثالثا: قتل العلم وخنق الإبداع:

إن فكرة التطور تعتمد على نمو العلم وخلاقية الإبداع في ظل ظروف تسودها الأجواء الحرة والمنفتحة لأنه لا يمكن للإبداع أن يتحرر إلا في حال وجود ضمانات أمنية للإنسان تجعله قادرا على استخدام طاقاته بثقة واطمئنان. فالمفكرون والعلماء لا يستطيعون ان يعيشوا في ظل الاستبداد لانهم لا يشعرون بالأمان، وأكثرهم لا يملك القدرة والجرأة على المخاطرة ليكون ضحية في محرقة محاكم التفتيش، فالاستبداد والإرهاب يجعلان كل بحث علمي عقيما ويطفئان شرارة الفكر المبدع، ويحطمان استقلالية العلم والفكر، ويقضيان على موضوعيته لصالح فكر وأيديولوجية السلطة، مما يعني تحطيم العفوية الإنسانية التي هي القدرة التي أوتيت للإنسان أن يباشر أمراً جديداً انطلاقاً من قدراته الخاصة. ان ما لا يتحمله النظام الدكتاتوري هو التفكير العلمي الذي يعتمد على تعدد الاحتمالات والذي يقوم على الشك في طبيعته بحيث يضع الأشياء موضع التساؤل والبحث ويناقش المبادئ وهذا هو الذي يدفع بالدراسات والبحوث للأمام، وهذا هو الذي يجعل من العالم يعارض الحكم الدكتاتوري معارضة جوهرية ما دامت كل دكتاتورية عقائدية.

إن أهم مشكلة تواجه الأمة الإسلامية هي هروب العقول المهاجرة إلى الغرب بحثا عن الحرية والأمان والقدرة على التعبير والإبداع، فاستفاد الغرب منها بشكل كبير وخسرتها بلادنا. يقول أحد هؤلاء وقد فاز بجائزة نوبل:ان العلماء والباحثين بحاجة إلى بيئة ملائمة حيث تمثل حرية التعبير والاستقلال الفكري والاستقرار في العمل متطلبات دنيا، إن معظم الدول الإسلامية أنظمة قمعية لا تساعد على البحث.

* أصالة الحرية في الإنسان

أباح الخالق تعالى للبشر كل شيء في الحياة إلا استثناءات خاصة تخرج عن القاعدة بدليل شرعي خاص، وهذا يعني أن القاعدة الأولية هي حرية الإنسان في الحياة والتفكير والعمل و...، يقول تعالى في كتابه الكريم: (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه واليه النشور) (الملك15)، فالله تعالى هو المنعم والواهب والرازق وهو صاحب الحساب. وفي الحديث: كل شيء لك حلال حتى تعرف انه حرام بعينه. وفي حديث آخر: كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي. هذه الأدلة تدل على أن الأصل الأولي في الإسلام هو الحرية في تصرفات الإنسان وأفعاله وسلطانه، يقول الإمام الشيرازي في الفقه السياسة: الأصل في الإنسان الحرية في قبال الإنسان الآخر بجميع أقسام الحرية إذ لا وجه لتسلط إنسان على آخر وهو مثله ويدل على أصالة الحرية في الإنسان قول الإمام علي أمير المؤمنين(ع): (لا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حرا). ويضيف سماحته قائلا: (كل إنسان حر في خصوصيات العمل من كميته وكيفيته وغير ذلك لأن الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم).

* الحرية أصالة تكوينية

فالإنسان تكوينا مختار وحر والله تعالى خلقه كذلك وهي نعمة منه عزوجل على البشر فميزهم عن باقي المخلوقات بنعمة الحرية والعقل والقدرة على التفكير والاختيار، يقول تعالى في كتابه الحكيم: (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) (الاسراء70). فالإنسان فضل بالحرية؛ وغاية خلقه وكماله تتحقق في الحرية ومن هذا الاتجاه تتفرع الأسس التي قامت عليها حياة الإنسان، أما القوانين الكونية فهي إطار ثابت تتحفز فيه مواهب الإنسان وطاقاته الفكرية لاختيار ما هو أفضل له وبذلك يتحقق له التكامل التصاعدي.

إن فهم الحقيقة التكوينية يقودنا إلى معرفة حتمية الحرية، وإن كمال الإنسان وسعادته تدور في فلك هذه الحتمية، لأننا عبر هذا الفهم نعرف كيف نصنع الإنسان ونتعامل معه في الاطار الصحيح فلا تنفى حريته ولا يسلب اختياره ولا يعطى الحرية المطلقة الخارجة عن إطار التكوين والتشريع. ومن هنا فإننا نعرف معنى الحديث المعروف: لا جبر ولا تفويض وإنما أمر بين بين. وهذا يفسر حركة الإنسان في الأطر التكوينية التي وضعها الله تعالى ومن هذه الأطر الحرية والقدرة على الاختيار. يقول تعالى: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها) (الشمس7).

إن الإنسان في أعماق ذاته يشعر بوجود الله تعالى ويشعر بحب الخير والفضائل، ويشعر كذلك بمعنى الحرية في فطرته وداخل نفسه ووحي ضميره وأنه مسؤول ومدرك لأفعاله؛ لذا فقد يكون معنى الهداية هو الحرية والقدرة على الاختيار. وقد تكون الهداية تشريعية تهدف إلى إرشاد الإنسان إلى الحرية التكوينية التي فطر عليها عبر الاستفادة من عقله في إدراك وتمييز الحقائق، فهدف الهداية التشريعية يسير في إطار الهداية التكوينية بما تمثله من إرشاد وتوجيه. يقول الله تعالى في كتابه الكريم: (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا) (الإنسان3)، فالهداية كما في تفسير الميزان تعني هنا: إرائة الطريق دون الإيصال إلى المطلوب، والسبيل هو المؤدي إلى الغاية المطلوبة، والسبيل المهدى إليه الإنسان اختياري، وإن الشكر والكفر واقعان في اختيار الإنسان أن يتلبس بأيهما شاء من غير إكراه واجبار.

ويتوضح هذا المعنى في هذه الآية القرآنية: (ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين) (البلد8 ). فالهداية التكوينية تعني الحرية والقدرة على الإدراك المتعدد، والهداية التشريعية هي إرشاد لحرية الإنسان في اختيار طريق الخير دون قسر وإكراه.

إن إثبات الحرية التكوينية يقودنا إلى ضرورة الحرية كقاعدة أساسية للتشريع والقانون، إذ إن: لازم هذه الحرية (التكوينية) حرية أخرى تشريعية في حياته الاجتماعية، وهو أن يختار لنفسه ما شاء من طرق الحياة وليس لأحد أن يستعبده أو يتملك إرادته؛ فإن أفراد هذا النوع أمثال لكل منهم ما لغيره من الطبيعة الحرة.(كما في تفسير الميزان)

إن ما يهدف إليه التشريع والقانون بالدرجة الأولى هو تنظيم الحياة الاجتماعية للناس وإيجاد التكامل السليم بين فئات المجتمع للوصول إلى السعادة والكمال. ويعتمد نجاح هذا الأمر على مدى تلبية الشريعة لحاجات الناس وفهمها لمتطلبات الواقع لأن من شروط نجاح الشريعة والقانون هو تفاعل الإنسان مع القانون تفاعلاً إيجابياً واعياً يرتكز على القبول المتبادل والإقناع الهادئ عبر اعتماد أساسي وهو حرية الفرد واحترام رأيه وكرامته ، لذلك تفشل الشرائع والقوانين التي تفرض نفسها بالقوة والقسر على الناس. فالتشريع الذي لا يقف على قاعدة الحرية كمصدر أساسي وفطري للتشريع لا يستطيع ان يحقق غاياته المنشودة في تحقيق العدالة والسعادة.

وقد قام التشريع الإسلامي على أصل الحرية واعتمد أسلوب الإقناع من أجل غاية أولى وهي تحرير البشر من عبودية الظلم والاستبداد والشهوات، حيث يقول تعالى في كتابه الكريم: (الذين يتبعون النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) (الأعراف157)، فالآية توضح أهداف الشريعة الإسلامية، وأن الغاية والفلسفة من التشريع تنصب في رفع القيود السياسية والاجتماعية التي تغل حركة الإنسان وتقيده عن ممارسة دوره الطبيعي في الحياة، ورفع الآصار النفسية التي تستعبد الإنسان في ظل شهواته ورغباته وخوفه ورعبه. لان التشريع الذي لا يسير في إطار تحرير الإنسان لا يستطيع أن يؤهل الإنسان اجتماعياً وسياسياً وإنسانياً تأهيلا سليما.

وقد وضع الدين الإسلامي بالاضافة إلى سائر التشريعات والقوانين قواعد أساسية تنظم الحرية في إطار عملي، وتفسح المجال للفرد لكي يشارك ويساهم بفعالية في صنع القرار مثل قاعدة الشورى التي وردت في آيات قرآنية منها: (وشاورهم في الأمر)، حيث تدل هذه الآية القرآنية على أن التنظيم الاجتماعي والسياسي يتم عبر المداولة الحرة بين الأفراد في التعبير عن آرائهم والالتزام برأي الأكثرية لإيجاد التماسك والوحدة والتجمع حول القائد عبر الإرادة الجماعية. وبعبارة أخرى فان الشورى تمثل البعد القانوني والدستوري لتطبيق مفهوم الحرية بصورة سليمة في إطار التعاقد الذي يتم بين الأمة والدولة.

ويمثل مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أسلوبا آخر في ممارسة الفرد لحرياته ومشاركته في أداء مسؤولياته في الرقابة المشتركة على المجتمع ومحاسبة الدولة على أدائها، وهذا يمثل أرقى أدوات الحرية والتعبير عن الرأي في مجتمع يتحول فيه الفرد إلى مسؤول ناضج يمارس دوره بوعي والتزام. فعن الإمام علي بن الحسين (في رسالة الحقوق): وحق السلطان أن تعلم أنك جُعلت له فتنة وأنه مبتلى فيك بما جعله عز وجل له من السلطان وأن تخلص له في النصيحة وأن لا تماحكه وقد بسطت يده عليك فتكون سبب هلاك نفسك وهلاكه.

وعن الإمام علي بن أبي طالب… في إحدى خطبه: ولا تظنوا بي استثقالا في حق قيل لي ولا التماس إعظام لنفسي..فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل فإني لست بفوق أن أخطئ ولا آمن ذلك من فعلي إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به مني، فإنما أنا وأنتم عبيد مملوكون لرب لا رب غيره.

* لا حرية في ظل الشهوات

إن الاستعباد الحقيقي لا يأتي من الخارج فقط بل إن الأخطر منه هو الاستعباد الداخلي حين تسيطر على الإنسان أهواؤه وشهواته وغرائزه ويكون عبدا ذليلا لها تأخذه أينما شاءت، وهذا الاستعباد الداخلي هو مصدر للشرور الخارجية ووقوع الإنسان في دائرة الاستعباد الخارجي، فالإنسان يفقد حريته عندما يفقد قدرة تسلطه على نفسه. وقد قال أمير المؤمنين… معبراً عن أن الحرية تكون من الذات: (لا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حرا).

و يرى توكفيل: إن النزعة الفردية في المجتمعات الديمقراطية سوف تؤدي في النهاية إلى ابتعاد الناس عن الحياة العامة وانشغالهم بمصالحهم المادية الضيقة مما يمهد الطريق أمام الحكم الاستبدادي. ويتساءل مونتسكيو: إن الناس يحبون الحرية ويكرهون القهر والعنف وتتنفر من الطغاة فلماذا يعيش معظم الناس في العالم تحت الاستبداد؟ ويجيب قائلا: إن الشرط الوحيد لقيام الاستبداد هو الشهوات الإنسانية وهذه موجودة في كل مكان.

وقد وردت روايات كثيرة عن أهل البيت عليهم السلام تؤيد هذا المطلب، منها ما ورد عن الإمام أمير المؤمنين (ع) مثل قوله: الحريص أسير مهانة لا يفك أسره، عبد المطامع مسترق وكل طامع أسير، لا يسترقنك الطمع وقد جعلك الله حراً، لا تكونوا عبيد الأهواء والمطامع، عبد الشهوة أسير لا ينفك أسره، مغلوب الهوى دائم الشقاء مؤبد الرق.

ويمكن فهم كلمة الإمام الحسين (ع) في يوم عاشوراء من هذا المنطلق حيث قال مخاطبا معسكر يزيد: ان لم يكن لكم دين وكنتم لا تؤمنون بالمعاد فكونوا أحرارا في دنياكم. فعندما يكون الإنسان أسيراً وعبداً لمصالحه الضيقة يفقد الرؤية الصائبة، ولكنه عندما يتجرد عن مصالحه وأهوائه وشهواته يتحرك ضميره وتنبعث منه الروح الحرة.

إن نقطة الضعف الخطرة عند الناس هي التفكير الدائم بالحياة المادية اليومية الضيقة مما يجعلهم في رعب وقلق على مصالحهم وبالتالي يتخلون عن حريتهم بسهولة في سبيل الحفاظ على مصالحهم وامتيازاتهم،ولكن ما لا يرونه في المستقبل البعيد هو أن الاقتصاد بدون الحرية لا يحصل على استقراره وأمنه وبالتالي يخسرون الكل لخوفهم على البعض، فالتضحية بالحرية سوف تقودهم إلى حكم استبدادي كثير القيود يؤدي بالنتيجة إلى توقف الإنتاج وتفشي البطالة والفساد. وبذلك فانهم يتغاضون عن هذه الحقيقة وهي أن التملك وحده لا يجعل المرء حراً.

إن احترام الحريات وحرية الآخر يؤدي إلى وحدة المجتمع وتماسكه على مجموعة قواسم مشتركة يدافع عنها ولا يفرط فيها، وعلى العكس من ذلك فان الاستبداد سوف يقود المجتمع إلى الانشقاق والتفكك لأنه يحرم الآخر من ممارسة حقوقه في التعبير والمشاركة؛ فالحرية تبعد المجتمع عن الفوضى وتؤسس نظاما اجتماعيا راسخا يعتمد على التزام الفرد واندماجه فيه، بل إن عدم الحرية يقود نحو الفوضى حيث يسعى كل فرد لتحقيق مصلحته الضيقة بعيداً عن التوحد في المجتمع.

وكذلك فإن وجود الحرية يؤدي إلى قوة الدولة وضمان إطاعة القانون حيث ان القسر والإكراه يجعل من الدولة قوة كابتة ومن القانون حالة تعسفية، ومع وجود الحرية فان الناس يشاركون الدولة في تطبيق القانون باقتناع، فالحرية تعني مشاركة الفرد في إدارة الأمور والمساهمة في صنع القرار وهذا يجعله مدافعاً عن الدولة والقانون، فكلما زادت درجة مساهمة الإنسان كلما زاد احتمال طاعته، فعملية استشارته تعطيه إحساسا بأهميته ولسوف يشعر أنه أكثر من مجرد شخص يتلقى الأوامر.

إن الأجواء المشحونة بالتوتر والعنف والصراع ما هي إلا نتيجة للاستبداد وتقييد مساحات الحرية، فإذا حدث عنف شعبي فهو دائما لشعور عميق أن تحريم هذه الحرية لا يؤدي إلا لزيادة خطر التهييج، ولاشك أن أهم الأخطاء التي تقع فيها الحكومات هو قمع الحرية لأنها بذلك تمهد لانهيارها عبر انفجار العنف المكبوت في أعماقها، فطبيعة الناس في الغالب هي طبيعة مسالمة تنأى عن الدخول في أعمال عنف لكن اليأس والإحباط نتيجة لأجواء الكبت والتقييد يؤدي إلى هذه النتيجة التي تحول المجتمع إلى حالة من عدم الاستقرار والتوتر والقلق. وعلى العكس من ذلك فان الحرية تؤدي دورا كبيراً  في تحقيق السلام الاجتماعي العام لأنها بالدرجة الأولى تحقق الاطمئنان الداخلي للفرد وتولد لديه الشعور الدائم بالأمن النفسي والراحة الفكرية.

* خطوات أساسية نحو الحرية والتخلص من الاستبداد

إن الطريق نحو الحرية طريق طويل لا يتحقق بالأمنيات والكلام أو التغيير الشكلي بل يحتاج الأمر إلى حركة داخلية تنبع من داخل الإنسان الذي يؤمن بذاته ومسؤوليته في الحياة أمام نفسه والمجتمع وأمام الله تعالى، ويتسلح بالبصيرة والوعي والتعقل وأدوات تستند على الحوار الهادئ والعمل السلمي والقول اللين. فمن هذه الخطوات:

أولاً: تحريك العقل وتعويده على التفكير بحرية واستقلال والخروج من دائرة الانغلاق اللاشعوري الذي يكبله بقيود الرعب والخوف والقلق، لأن النشاط والحركة الواقعية للإنسان تبدأ من الإنسان نفسه، وإن ممارسة الفرد للحرية في عقله باستمرار والتحرر من قيود الفكر المعلب والأفكار الجاهزة وإعطاء الفكر مرونة في الحوار الداخلي والنقد الذاتي وتقبل النقاش بروح التمحيص والفهم سوف يقوده نحو نمو مطرد لمعنوياته واحساس داخلي بالاستقلال. فلا يمكن أن يكون للحرية أي معنى إلا إذا كان العقل مدربا على استخدام حريته فبدون ذلك يستحيل أن نتعلم من الحياة وان نستفيد من تجاربنا.

ثانياً: تغيير منهجية التربية في الأسرة والمجتمع، إذ إن الفرد ينمو وهو يرى القمع والكبت يسيطر عليه منذ صغره في أسرته وفي مجتمعه ومدرسته وفي أي مكان يذهب إليه حتى تتعود روحه ونفسه على الاستعباد والاستبداد وتصبح الحرية عنده لا معنى لها لأنه لم يمارسها ولم يفهمها. لابد أن نعلّم أبناءنا الحرية منذ صغرهم ونفسح لهم المجال للحوار واستخدام عقولهم دون قيود للتعبير عن آرائهم بحيث يتعلمون معنى كرامة الإنسان وعزته وشهامته ويعرفون قيمة تحقيق الذات والشعور الواعي بالذات.

ثالثاً: يبقى الجهل أحد المعضلات الصعبة التي يفقد الإنسان بها حريته، لأنه حينئذ يفقد المعرفة التي ترشده نحو بصيرة متفهمة لحياته ونفسه للتعامل مع الواقع بوعي واستخدام طاقاته ومواهبه بأسلوب سليم، ولذلك قيل: احرم رجلا من المعرفة تجعله بلا شك عبداً لأولئك الذين كانوا أسعد منه حظاً.

خامساً: الإيمان بحرية الآخر قبل حريتي لأن الحرية مفهوم شامل لا يتحقق كماله الاجتماعي العام إلا بتحققه العام، فليس من الحرية أن أتنعم بالحرية واستعبد الآخرين وأحارب حريتهم وأقمع مساحتهم الحرة للتعبير عن رأيهم، أو استبد برأيي واستخدم الإرهاب إذا انتقدني الآخرون. فجوهر الحرية المبدعة هو إبداع الآخر. إن حرية كل إنسان لا تتوافر ولا تتمتع بفرص التحقق إلا بتعايش حريات في مجتمع حريات (يمثل) مجتمعات سياسية مؤلفة من أناس أحرار متحلين بالشعور والحرية.

يقول الله تعالى في كتابه الكريم: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة 256).