التنمية العربية والمستحيلات الثلاثة.. الحرية، الخبز، والابداع

ينظر للتنمية بأنها الإطار الذي تتطور من خلاله البنى التحتية للمجتمع فهي سياسة تلجأ إليها الدول النامية لكي تتخلص من التبعية الاقتصادية للأجنبي وتنتقل من طور الإنتاج البدائي إلى طور الإنتاج التصنيعي ومن مؤشراتها ارتفاع قدرة الاقتصاد القومي على توليد زيادات متواصلة في الناتج القومي الإجمالي على ضوء معدلات تتراوح ما بين 5% و7% سنوياً.

تلازم ازدهار عامل التنمية عدة متطلبات يأتي على رأسها تكامل الهياكل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للدولة وفي العلاقات التي تربطها بالنظام الاقتصادي الدولي، وترتبط هذا المسألة بمدى متانة ونضوج العامل السياسي في تحقيقه لتوسيع الخيارات المتاحة للمجتمع، لهذا كان جوهر الرؤية الجديدة للتنمية والتي تشخص واقعاً متخلفاً ليس مرده قلة الأموال المطلوبة للاستثمار، فلقد توفرت الأموال للعديد من البلدان النامية ولم يحصل فيها تنمية أو نمو وإنما يرجع (التخلف) إلى تأخر وارتكاس الجانب السياسي والذي يمثل جوهر المشكلة والذي عجز الواقع لعربي عن إيجاد العلاج له، حيث ما زال هذا الواقع لا يستطيع أن يميز بين التنمية كعملية بنيوية متكاملة وبين النمو الاقتصادي الذي يهتم فقط بالزيادة الكمية في متوسط دخل الفرد الغير مرتبط بالضرورة حدوث تغيرات هيكلية اقتصادية أو اجتماعية، لهذا يأتي تقرير التنمية الإنسانية العربية لسنة 2002م والذي أعده برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، التقرير قوّم الحالة الراهنة للتنمية في الوطن العربي بعرضه معوقات التنمية البشرية من اقتصادية واجتماعية وثقافية واعتبر أن هناك أساسيات ضرورية تعاني الدول العربية من نقص واضح منها وهي (نقص الحرية، ونقص تمكين المرأة ونقص المعرفة) والتقرير أظهر أن مستوى التنمية في المنطقة العربية ضعيف مقارنة مع غنى دولها، لهذا يشخص ظاهرة غريبة وملفتة هي أن العالم العربي مكون من دول غنية وشعوب فقيرة.

أشار التقرير إلى تدني مستوى الحرية والتمثيل السياسي ضمن نواحي مظاهر الحياة السياسية والحقوق السياسية وعدم استقلالية وسائل الإعلام لذا احتلت المنطقة العربية المرتبة الأخيرة في استمتاع سكانها بالحرية على الصعيد العالمي في التسعينات طبقاً لمؤشر الحرية.

المشاركة السياسية ظلت لحد الآن دون المستوى المتحقق في جميع مناطق العالم، برغم من حصول عدة إنجازات في بعض الدول العربية، فنسبة استخدام طاقة المرأة العربية على ضوء المشاركة السياسية والاقتصادية هي الأكثر تدنياً في العالم العربي فهي لا تمثل سوى 3.5% من احتلالها المقاعد البرلمانية مقارنة مع 11% في أفريقيا و12.9% في أمريكا اللاتينية، فاليوم يوجد في البلدان العربية حوالي 75 مليون بالغ غالبيتهم من النساء لا يزالون أميين.

على صعيد المعرفة واستخدام المعلوماتية فالدول العربية هي أقل من أي منطقة أخرى حيث لا يتجاوز نسبة مستخدمي الانترنيت 0.6% و1.2% من المواطنين العرب يملك حاسوباً خاصاً به، أما فيما يتعلق بالبحث العلمي ذكر التقرير أن العالم العربي ينفق أقل من واحد في المائة من إجمالي الدخل على تطوير العلوم مقارنة بـ 1.26% في كوبا و2.9% في اليابان.

يشير التقرير إلى أن البيروقراطية المتمثلة بسيطرة السلطات العامة، أصبحت تعيق نمو منظمات المجتمع المدني وتحد من إنشائها وعملها بفعالية.

إن استيعاب الوضع العربي يتطلب التدقيق في الأرقام الواردة في التقرير والذي شمل 22 دولة عربية، بتعداد سكاني بلغ عام 2000م حوالي 280 مليون نسمة وسيرتفع إلى 410 أو إلى 459 مليون نسمة، أن هناك حوالي 38% من العرب أصغر من سن 14 لذلك العمر المتوقع للإنسان العربي حوالي 67 سنة، دخله انخفض إلى أدنى المستويات في العالم في فترة العشرين سنة الماضية، لذا فسوف يحتاج المواطن العربي لعمر 140 سنة لمضاعفة مدخوله مقارنة مع 10 سنوات في البلدان الأخرى في العالم.

الناتج الإجمالي المحلي لمجموع الدول العربية بلغ عام 1999 مبلغ 531.2 بليون دولار أي اقل من مجموع الناتج المحلي لأسبانيا وحدها والذي بلغ 595.5 بليون دولار.

أحد القائمين على التقرير صرح (إذا لم تأخذ هذه الدول في الاعتبار بعض التوصيات الواردة في التقرير فستنتهي بها الحال للتحول إلى أمم فقيرة وشعوب فقيرة فالتقرير عبارة عن تحذير لكنه يقدم البدائل).

إن النواقص، أو الفجوات الرئيسية المتشابكة التي تشكل ما يصفه التقرير بلعنة التنمية في العالم العربي هي: افتقار الحرية وعدم المساواة بين الجنسين، والفجوة المعرفية، فموجة الديمقراطية لم تصل البلدان العربية بعد، و(الديمقراطية التمثيلية حيث وجدت ليست دائماً حقيقة وغالباً ما تلجُم حريات التعبير والتنظيم وتغيب المعايير الحديثة للشرعية).

كذلك يفضح التقرير النقص الرهيب في الإنتاج الفكري والإبداع في العالم العربي فمجموع ما ترجم في الوطن العربي بلغ 330 كتاباً سنوياً، وهو خمس ما ترجمته اليونان، أما في الألف سنة الماضية ترجم العرب من الكتب بقدر ما ترجمته أسبانيا في سنة واحدة، فالنقص في المعرفة والفشل في تعزيز إطار ممارسة الحريات إضافة إلى حماية حقوق الإنسان، لا تكفل ازدهار الطاقة الإبداعية للعقول.

إن إدراك درجات التنمية الإنسانية في الأقطار العربية غير ممكن ما لم تتوفر أسبابها وتؤسس شروطها في أطر من أنساق الحكم السليم وهذا يتطلب إصلاح جوهر الحكم من خلال بناء مؤسسات الدولة وسلامة حركة المجتمع المدني.

أرشيف الأخبار  |  الصفحة الرئيسية  |  اتصلوا بنا