علم النفس الاستشهادي |
علم النفس الجديد، الذي يجمع بين علوم التطــــــور والأحياء (البيولوجيا) يفسر الســــلوك الاســــــتشهادي، ويؤكد طبيعتـــــه الاســــتشهادية وليس الانتحارية. يعتمد العلم الجديد الذي يطلق عليه اسم علم النفس التطوري (Evolutionary Psychology) على أحدث الاكتشافات في التركيب الجيني للكائنات الحية، ويرجح وجود جين خاص بالتضحية بالنفس ضمن التكوين الجيني لكثير من الكائنات الحية وليس البشر فقط . ويفسر علم النفس التطوري نزعات الإنسان الاجتماعية، كنزعة مساعدة الأقرباء، والإيثار، والحس بالعدالة، والاعتزاز بالذات، والرغبة في عقاب المخادعين وإنزال الأذى بالغشاشين الذين يعيشون على حساب الغير . ويوضح أيضاً لماذا يندفع الشباب الذكور بالذات إلى إظهار شجاعتهم، ولِمَ يستنفرهم الظلم الواقع على أهلهم ويدفعهم إلى حد الإقدام على الموت المحتم . ويدنو العلم الجديد أقرب ما يمكن من تفسير هذه المشاعر المتضادة، حيث يكمن الالتباس الملغز للطبيعة البشرية، التي استعصت على الفلاسفة والمفكرين . عرض هذه التطورات ملف خاص صدر هذا الشهر في مجلة نيوساينتست (New Scientist) التي تعتبر أوسع المجلات الأسبوعية العلمية انتشاراً . تضمن الملف شهادات ميدانية من داخل فلسطين المحتلة وحواراً بين ممثلي الأديان المختلفة حول دور الدين في النزاعات الدموية . وأشارت دراسة منشورة ضمن الملف بعنوان قتلة بالفطرة (Natural Killers) إلى وجود دوافع بيولوجية للتضحية بالنفس لدى جميع البشر. ويذكر مؤلف الدراسة الكاتب العلمي كولن تيوج أن الكشف عن هذه الدوافع يقتضي النظر داخل أنفسنا ليس كأرواح، كما يدعونا الدين، أو كـ حيوانات سياسية ، حسب اعتقاد الفيلسوف الأغريقي أرسطو، بل ككائنات بيولوجية، وبالتالي يمكن تفسير أفعالنا وفق قوانين علم النفس التطوري . ويرفض كولن تيوج مفاهيم التعصب الديني و غسيل الأدمغة المستخدمة في الغرب لتفسير السلوك الاستشهادي، ويقول عندما يكون هؤلاء في صفوفنا ندعوهم أبطال وشهداء وعندما لا يكونون كذلك نطلق عليهم صفة إرهابيين. ويذكر الباحث أن أحداث 11 سبتمبر، كشفت عن جهل زعماء العالم الذين لجأوا إلى إطلاق صفات أشرار و معتوهين على منفذي العملية، واستخدموا مصطلحات إدانة تدل على موقف يائس وتشير إلى التسليم الفكري والأخلاقي بأن أفعالاً كهذه خارج نطاق الفهم إلى الأبد . ويبرر هذا الموقف العجز عن القيام بشيء سوى تطهير العالم من هؤلاء مهما اقتضى ذلك من قنابل دون إيجاد استراتيجية فعالة لمواجهة الأمر . ويذكر الباحث البريطاني أن الزعماء العالميين أبدوا ردود فعل متقدمة تكنولوجيا لكنها تعود استراتيجياً إلى العصور الحجرية. وتورد الدراسة أمثلة لكائنات حية لا تملك أدمغة لغسلها أو عقائد دينية تؤمن بها، لكنها تضحي مع ذلك بنفسها تحت ظروف شتى . يشير هذا إلى أن القوى الدافعة للتضحية بالنفس جينية ويمكن تفسير توارثها حسب قوانين ماندل المعروفة للوراثة . وقد شاع مصطلح انتحاريي القنابل في الأوساط العلمية المتخصصة قبل 11 سبتمبر، واستخدمه باحثون أميركيون لتفسير لجوء مختلف الكائنات الحية، بما في ذلك الفطريات البدائية والحشرات إلى أعمال انتحارية دفاعاً عن بقاء النوع . يعود ذلك، حسب تقديرهم إلى وجود جين خاص بالتضحية بالنفس ضمن التكوين الجيني للمخلوقات الحية . والبشر ليسوا اسثناءً . والجينات كما هو معروف جزيئات كيمياوية داخل نواة الخلايا التي يتكون منها كل كائن حي وتحدد مختلف صفاته الجسدية وربما النفسية أيضاً . وقد تطورت عبر مليارات السنين المكونات الجينية لنزعة الحفاظ على البقاء، بقاء النوع أولاً وبقاء الكائن الفرد الذي ينتمي إليه . وهذا يفسر لماذا تغلب نزعة الحفاظ على النوع نزعة الحفاظ على الذات . ذكور البشرعلى سبيل المثال أكثر تضحية بالذات لأن استمرار النوع يتوقف اكثر على الأناث . بإمكان ذكر واحد أن يلقح عدداً لا يحصى من الأناث لكن قدرة الأنثى على الإنجاب محدودة بالبويضات التي تحملها طوال حياتها الإنجابية، ولا يزيد عددها على 400 بويضة . ويشير جيفري ميلر ، أحد ممثلي العلم الجديد إلى أن جميع الانجازات العظيمة للبشر، بما في ذلك الإبداعات الفنية والموسيقية والعلمية والتأملات الدينية انطلقت من السعي إلى البرهنة على روح الشجاعة والإقدام . ويذكر الباحث في كتابه الدماغ المُعاشر (The Mating Mind) أن مشاعر الهوى المشبوب التي تتملك الشباب بشكل خاص تنطلق من الرغبة في التأكيد على الذات وإظهار تفردها وسط المجموع . ولا يقتصر أثر التكوين الجيني للكائنات الحية على أفعال العنف والنزاع فقط بل يشمل العلاقات والعواطف الاجتماعية أيضاً . وقد كشف الباحثون المختصون في علم النفس التطوري دور التكوين الجيني في الاندفاع إلى مساعدة الأقرباء المقربين، والتصرف في ذلك أحياناً على حساب المصالح الذاتية للشخص الذي يقدم المساعدة . وفي حالات معينة يدفع التكوين الجيني الأشخاص إلى مساعدة آخرين لا تربطهم علاقة قرابة مباشرة . وكشفت تجارب مختبرية في جامعة زيوريخ عن نزعة متأصلة في دماغ البشر تحث على عقاب الغشاشين، حتى إذا لم يكن ذلك في صالح الشخص الذي يتولى مهمة إنزال العقاب . وأظهـــــرت التجارب أن التطور أدى إلى ظهور حس مرهف للغاية بالعدالة ومناهضة الظلم . ويشير الباحث الأميركي روبرت فرانك في كتابه مجتمع المنتصر يأخذ كل شيء (The Winner Take all Society) إلى الحس العالي بالظلم من جانب والرغبة الشديدة من الجانب الآخر في البرهنة على النزاهة الشخصية والسمعة الجيدة، وكيف يذهب بعض الناس في سبيل ذلك إلى حدود غير معقولة . (محمد عارف- صحيفة الاتحاد) |