البكاء.. الدواء الوحيد الذي يذيب العقد |
من الحقائق المسلم بها أن يحبذ الإسلام البكاء لأنه يحل العقد النفسية التي يعجز العلم عن معالجتها، ولأن الأزمات التي تصدم الإنسان تترسب في قلبه على شكل عقد لا يحلها سوى الانتقام، وحيث أن الإسلام ديناً متسامحاً لا انتقاميا فإنه يوصي بالبكاء لحل العقد النفسية قبل أن تتسرب في النفوس فالبكاء سمة طبيعية فطر الله سبحانه وتعالى الناس عليها، فهي مباحة، بل ربما تستكشف محبوبيتها في بعض الآيات لأنه ينم عن رقة القلب كقوله سبحانه وتعالى: (فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً جزاءً بما كانوا يكسبون) التوبة:82. وهنا نرى الإمام الشهيد السيد حسن الشيرازي (رحمه الله) يقول أن البكاء وحده هو الدواء الوحيد الذي يذيب العقد قبل أن تستحوذ على العقل الباطن وتتسلل اتجاهاتها إلى التصرفات الخارجة. وقد يحرم المجتمع الشرقي البكاء على الرجال حيث يتعاملون معه على أنه خطأ وصورة من صور الضعف ولكن علماء الطب النفسي قالوا أن البكاء يكون نافعاً في مواقف معينة مثل التخفيف من الضغط العصبي، ولكنه لا يفيد بالمرة إذا كانت له أهداف ومصالح، وعندما قام العلماء بتحليل الدموع وجدوا أنها تحتوي على 25% من البروتين وجزء من المعادن كالمغنيسيوم وهي مواد سامة يتخلص منها الإنسان عند البكاء. كما تبين إحدى الدراسات التي قام بها الدكتور وليم فراي بإنكلترا عن الدموع أن المرأة تبكي 65 مرة في العام بينما الرجل يبكي 15 مرة، وهنا يؤكد الإمام الشهيد حسن الشيرازي (رحمه الله) في كتابه الشعائر الحسينية أن النساء أقل عقداً من الرجل لأنهن لا يعانين أزمة نفسية إلا ويفرجن عن أنفسهن بالبكاء، فينفضن عنها العقد قبل أن تتركز، وأما الرجال فأنهم حيث يستنكفون عن التوسل بالدموع لمعالجة قضاياهم ويستعصي الدمع في اماقهم، وفي جانب آخر يرى الإمام الشهيد (قدس سره) أن الدمع هو المعين الذي يغسل النفس عن العقد التي تترسب عليها غبار الأحداث ومن الخطأ أنفة الرجل عن ذرف الدموع إذا هاجت به النفس، لأن الرجل والمرأة يبكيان في وقت واحد عند الخروج من رحم الأم ويربت عليهما الطبيب ليدفعهما إلى البكاء سواء أرادا أو لا، وهنا سؤال مهم يتبادر إلى الأذهان ما هو سر البكاء والدموع؟. يقول الدكتور محمد عبد اللطيف بلطيه أخصائي بطب وجراحة العيون بالمركز القومي للرمد: قبل الحديث عن الدموع يجب أن نصف العين وهي من نعم الله سبحانه وتعالى على البشر لكي نبصر ونرى عجائب الخلق وقد حفظت في تجويف عظمي داخل جمجمة الرأس لتحيط بها وسادة دهنية تحميها وتحافظ عليها من الصدمات الخارجية ويحافظ على العين جفنان مزودان بالرموش وتتحرك العين في كل الزوايا بواسطة ستة عضلات، والظاهر لنا من العين القزحية وهو ما يميز لون العين وتوجد وسطها الحدقة التي تساعد على ضبط كمية الضوء الداخل إلى العين، ومصدر الشبكية والخلايا العصبية التي ترسل الصور إلى المخ فنراها صور وأشكال مختلفة ويوجد في العين مجموعة من الغدد الثانوية لإفراز الدموع والسائل الدمعي، وفائدة الدموع كما يقول الدكتور محمد بلطيه تساعد على مرونة وحركة الجفون وتطهيرها بصورة مستمرة وحمايتها من الإصابة بالجفاف، وأن الجهاز الدمعي يتشكل من غدة أساسية ومجموعة أخرى من الغدد الثانوية لإفراز الدموع المبللة لسطح العين وكيس دمعي لتصريف الدموع الزائدة وتتكامل وظيفة الجهاز الدمعي بفرز طبقة دمعية من الملتحمة أعلى التجويف العظمي للعين، ويتم التخلص من الدموع الزائدة عن طريق فتحة تصريف القنوات الدمعية الموجود على جانبي الجفن العلوي والسفلي. وإذا كان البكاء هو أحد الوسائل للتعبير عن الانفعالات والضغوط النفسية والعصبية فهل يعد بديلاً عن العقاقير المهدئة للتخفيف والترويح عن الإنسان؟. الإجابة للدكتورة منى يحيى الرخاوي المدرس بكلية الطب النفسي جامعة القاهرة قالت لا يمكننا التسليم المطلق بأن البكاء يعتبر نوعاً من أنواع العقاقير الطبية أو بديلاً عنها، وقد يكون للبكاء فوائد كثيرة على سبيل المثال قد يحمي من الإصابة بالأمراض النفسية فالشخصية التي تفرغ شحنات الانفعال أول بأول قد لا تصاب بمرض مثل الشخصية التي تكبت انفعالاتها ولا تعبر عنها بالبكاء. أما بكاء الفرح الذي يعبر عن انفعالات السرور والبهجة وهو ظاهرة صحية تساعد على الراحة النفسية، وكذلك فالبكاء عند بعض حالات الأمراض النفسية أو في مراحل معينة من علاج تلك الأمراض قد تكون له دلالة علاجية جيدة لدى هؤلاء المرضى ومنها الحالات النفسية المصاحبة بأعراض تحويلية مثل الإصابة بعدم القدرة على الكلام أو المشي بعد التعرض لضغوط نفسية شديدة أو إنسان يبكي دون أسباب ظاهرة وهي في حالة الاكتئاب النفسي أو حالات الحزن الشديد وبدون أن يكون لفقدان هذه القدرة تفسير عضوي وغالباً عن علاج تلك الحالات – والكلام ما زال للدكتورة منى الرخاوي – ويبدأ المريض على استرداد قدرته على المشي أو الكلام عادة ما تظهر آلامه الداخلية في صورة أكثر صراحة ويبكي وتعتبر هذه الدموع التي يذرفها المريض دموعاً مرضية، وتضيف في جانب آخر قد يكون البكاء غير مرغوب به علاجياً عند بعض الحالات حيث يمكن أن يكون وسيلة يتخذها المريض ليقضي بها على أي محاولة لتخطي المرحلة المرضية أو الوصول إلى الاستشفاء أو قد يكون المريض رافضاً لا شعورياً لها. وتفسر الدكتورة مفهوم دموع التماسيح فتقول لا يوجد تحديد لأصل هذا التعبير الذي يرمي إلى الدموع التي تكون غير مصحوبة بمشاعر الحزن وأيضاً هي تلك الدموع التي يكون وراءها أهداف ومصالح كامنة بما في ذلك استدرار عطف الآخرين، وهذا الاستدرار لعطف الآخرين يمكن أن يكون شعوراً أو رغبة داخلية مصاحبة للبكاء الصادق، ويمكن أن يعد هذا الشعور احتياجا طبيعياً لدى الشخص الحزين لوجود آخر بجانبه وهي بالتالي ليست دموع تماسيح أما الإفراط كما تقول الدكتورة منى الرخاوي في البكاء واستدرار عطف الآخرين فقد يخفي وراءه ضعفاً أو عدم نضج كاف لصاحب هذه الشخصية. ثم تطرح الدكتورة منى الرخاوي مسألة كون المرأة أكثر تأثراً بالمشاعر والإحساس الوجداني من الرجل وهذا الاختلاف بسبب الضغوط العصبية ونوعها على كل منهما والنساء أكثر إصابة من الرجال بالامراض ذات الطبيعة الوجدانية، أما الرجال فيتعرضون لأمراض نفسية أخرى أكثر من النساء أما عن كثرة بكاء المرأة فإنها ترجع إلى قيود وممنوعات قد تواجهها منذ الطفولة والازدواجية في المعاملة واهدار حقوقها وإنها مرتبطة بالرجل ولا تستطيع التعبير عن رأيها فمثل هذه القيود تجعل المرأة لا تستطيع أن تعبر عن عواطفها باللغة وتعبر عن مشاعرها بالبكاء. أما عن الرجال فتقول د. منى أن هناك رجال لا يعرفون البكاء في حياتهم فتقول هذا السؤال يدعونا إلى رؤية ظاهرة اجتماعية قد تكون في بعض الأحيان سلبية إلى حد ما، وهناك بعض المجتمعات وبالأخص الشرقية منها تحرم البكاء على الرجال مع الادعاء أو الاقتناع بأن هذا البكاء يقلل من شأن الرجل. وللسيد الشهيد الإمام حسن الشيرازي له رأي آخر في هذا الموضوع حيث يقول قدس سره كان الأنبياء والأئمة الأطهار عليهم السلام – الذين هم المثل الأعلى للإنسان الفاضل – لا يكفكفون دموعهم إذا انبجست أبداً، فالنبي آدم (ع) بكى لطرده من الجنة حتى صنع الدم مسيلين في خديه، والنبي يعقوب (ع) بكى على فراق أبنه يوسف حتى أبيضت عيناه فعمى، والنبي يوسف (ع) بكى على أبيه يعقوب في السجن حتى ضاق به السجناء معه فقالوا له: أما أن تبكي الليل وتسكت النهار، وأما تبكي النهار وتسكت الليل، وأن النبي الأعظم محمد بن عبد الله (ص) بكى على ولده إبراهيم – وقد توفي عن ثمانية عشر شهراً – حتى كانت تنتفض منكباه فسأله الناس عن سبب بكائه وهو يأمرهم بالصبر على النوازل فأجابهم (ص) (العين تدمع والقلب يخشع ولا نقول ما يسخط الرب) وكذلك بكاء الرسول (ص) عل وفاة أحد الصحابة، سأله الصحابة أتبكي يا رسول الله؟، فقال عليه الصلاة والسلام (أنها رحمة وضعها الله في قلوب العباد) والإمام السجاد (ع) بكى على أبيه الحسين (ع) بقية حياته، فقيل خمس وعشرين سنة وقيل أربعين سنة حتى ألتحق بالرفيق الأعلى. فالبكاء محبوب عند الله وفي جميع الأديان سواء أكان من خشية الله أو على نكبة، وأما البكاء على مآسي أهل البيت عليهم السلام ومأساة الطف بالذات فأنه مستحب وعليه ثواب عظيم. وهناك أخبار كثيرة تدل على أن الله لم يبعث على وجه الأرض نبياً ووصياً إلا ذكره بمصاب الحسين(ع) فبكى عليه قبل استشهاده، وأن النبي (ص) والزهراء(ع) وجميع الأئمة بكوا على الحسين (ع) بكاءً شديداً حتى كان من ألقابه (ع) صريع الدمعة الساكبة). واستكمالاً لما طرحته الدكتورة منى الرخاوي فتضيف هناك أيضاً أنواع أخرى من الشخصيات التي تتكبر على إظهار البكاء وضعفها مثل الشخصية (البارانوية) التي تتميز بالشعور بالعظمة تأبى أن تظهر عواطفها (أي ضعفها) وتستطرد في حديثها وهنالك الشخصية (الشيزوفرينية) التي تتميز بالجمود الداخلي مما يؤدي إلى تيبس المشاعر وتكون هذه الشخصية من أصحاب الدموع النادرة وهنا يجب أن أذكر أن عدم البكاء لدى بعض الأشخاص قد يكون له فائدة خاصة فهناك بعض المفكرين والمبدعين كالفنانين والشعراء يعبرون عن مشاعرهم عن طريق إبداعاتهم التي تمتص كل طاقاتهم التعبيرية، وقد يلاحظ البعض منهم أن تلك الإبداعات تقل نسبياً عند تعبيرهم عن مشاعرهم بالطرق الأكثر شيوعاً كالانفعال أو البكاء فهم قد يلجأون خاصة الفنانين إلى وسائل مثل الكلسرين لادرار الدمع. أما التباكي كما يوضحه الإمام الشهيد حسن الشيرازي قدس سره بأنه تمثيل البكاء ويكون بالصوت أو بتنغيص عضلات الوجه أو بالحركة بدون ذرف دمع والتباكي يكون دائماً بالنسبة إلى من آمن بلزوم البكاء على فاجعة ولكن استعصى عليه الدمع لأسباب صحية ترجع إلى نفاذ الدمع في عروق المقلة أو لعدم انطباع المشهد في خاطره حتى يجرح شعوره فيتأثر ويبكي. ولهذا حسب قول الإمام الشهيد يستحق المتباكي ثواب الباكي لاشتراكهما في أداء واجبهما تجاه مسألة يحاولان استخلاص عبرها. وقد أشار المعصومون (ع) إلى تساوي ثواب البكاء والتباكي في عدة مناسبات، ورغّبوا في التباكي بنفس الإلحاح الذي رغّبوا به في البكاء. أما كبت الدموع فتقول الدكتورة منى كبت الفرد لدموعه لا يشترط أن يكون ضاراً في كل المواقف، أما عن قوة وضعف المشاعر ففي رأي أنها لا تقاس فقط بالتعبير الظاهر عنها وهو البكاء والدموع ولكن بمدى عمق هذه المشاعر وتأكيدها ومتابعتها بسلوك عملي مادي يؤكد صدقها وبذلك تتحول المشاعر إلى مظاهر أسمى أو أدنى حسب تحركها. وهناك سؤال يثار بين الحين والآخر لماذا دائماً الفتيات في سن المراهقة يتخذون البكاء وسيلة لتحقيق أهدافهم؟. ظاهرة بكاء الإنسان في مختلف مراحل نموه هي ظاهرة طبيعية 100%، وكل ما هو طبيعي أو فطري غالباً ما يكون صحياً، لذلك فبكاء الطفل يجب أن يقدس ويحترم كاحترام ضحكه، وكاحترام الاستجابة لأوامر الأسرة فبكاء الطفل هو تعبير عن انفعالاته وغضبه واحتياجاته أو ألمه، وقد تبين أن عدم التنفيس عن الانفعالات عند الآباء والأطفال يصيبهم بأمراض القلب وهذه نتيجة أبحاث تمت في الولايات المتحدة الأمريكية وهناك الطفل الذي يعلم مدى قوة تأثير بكائه على أسرته والمحيطين ويستخدم هذه الوسيلة للنيل من رغباته منهم، وقد يكون هذا البكاء شديداً وصاخباً بصراخ أو بوسائل ابتزاز أخرى هنا يجب على الأهل وضع حد لهذه الظاهرة وعليهم الفصل الفوري بين هذا البكاء وتلبية رغبات الطفل وقد تستخدم الأسرة العقاب الحذر كوسيلة أخرى حتى تعطي الطفل فرصة أكبر لنمو سليم وأفضل. وبالنسبة لبكاء الفتيات والمراهقات فيتم التعامل معهن بالحوار البناء والإقناع ويتوقف على درجة الثقافة والتعليم الذي تكتسبه الأسرة والمستوى الفكري للأبوين والبيئة المحيطة بهم فالفتاة في هذه السن تكون أكثر إحساساً وتتفاوت درجات الضعف والقوة بحيث هناك أشياء تحزن فتاة بينما الأخرى لا تؤثر فيها هذا الحزن، أو العكس ومن ثم لا بد من توضيح الرؤيا للأولاد والفتيات المراهقات بأن البكاء ليس هو الوسيلة الفاعلة لتحقيق الأهداف لأنه أسلوب غير مقبول ويضر بشخصية الإنسان. أما الشيوخ وكبار السن فهم أولى بالرعاية والاهتمام خاصة في مرحلة الشيخوخة فهم ينفعلون ويبكون ويحزنون لأقل الأمور لأنهم يشعورن في هذا السن بأنهم ليس لهم دور في حياة أحفادهم وكثيراً ما يشعرون بالوحدة بعد انتقال أبنائهم والانفراد بحياتهم وهم في حاجة لمشاعر الرحمة والود والحب من هؤلاء الأبناء وقد يخفي البعض منهم دموعه خوفاً من أن يقال بأنه ضعيف ولكن من المؤكد أن مشاعرهم رقيقة وتتأثر بدرجة سريعة ولا بد من اندماجهم مع المجتمع حتى لا يتعرضوا لحالات نفسية واكتئابية عديدة. |