العولمة من ابرز أسباب ظاهرة الهجرة في العالم

عوامل ثلاثة تتحكم بظاهرة الهجرة العالمية: 1- التفاوت الاقتصادي الهائل بين البلدان المتقدمة الغنية والبلدان المتخلفة الفقيرة, وهو التفاوت الذي انحفرت هوته في القرن العشرين بحيث بات الفارق في مستوى الدخل بين أغنى البلدان وأفقرها يتعدى في بعض الحالات مئتي ضعف. 2- تفاقم المنازعات السياسية والاثنية والدينية الداخلية بحيث باتت شعوب وأقوام وطوائف بكاملها تضطر الى سلوك طريق الهجرة الجماعية. 3- ظاهرة العولمة التي وان لم تلغ الحدود السياسية والاقتصادية بين دول العالم, إلا انها ألغت حدوده الايديولوجية و(الوجدانية) بحيث أمست فكرة (مواطن العالم) - التي رأت النور للمرة الأولى في زمن فتوحات الاسكندر - تفرض نفسها على الوعي والسلوك معاً.

ومن دون أن تكون هذه العوامل حصرية, لكنها تفسر تضاعف عدد المهاجرين في العالم خلال ثلث القرن الماضي, الذي ارتفع من نحو 75 مليون شخص عام 1965, تبعاً لتقديرات مكتب العمل الدولي, الى أكثر من 155 مليون شخص في العام 2000. وإذا استثنينا من هذا الرقم المهاجرين الذين اضطروا الى النزوح عن أوطانهم تحت وطأة المنازعات السياسية والاثنية, الذين يبلغ تعدادهم حسب مصادر منظمة الأمم المتحدة نحو 30 مليون شخص, فإن الهجرة العالمية تبقى ظاهرة طوعية تطال نحواً من 125 مليون شخص يعيشون خارج البلدان التي يحملون جنسيتها, من دون أن يكون وراء تغربهم عامل آخر سوى العامل الاقتصادي, أي الرغبة الشخصية في تحسين شروط الحياة والعمل.

ولولا عمق الهوة الاقتصادية التي انحفرت بين بلدان الشمال والجنوب في النصف الثاني من القرن العشرين لما أخذت ظاهرة الهجرة ذلك البعد العالمي, ولما صارت القارات الخمس مسرحاً لها. فالعامل المكسيكي الذي يعبر خط الحدود مع الولايات المتحدة الأميركية بصورة شرعية أحياناً, وغير شرعية في معظم الأحيان, يفعل ذلك لأنه يعلم أنه سيكسب هناك, حتى من دون أوراق رسمية, تسعة أضعاف الأجر الذي يكسبه في بلده الأصلي. والشيء نفسه يمكن أن يقال عن عامل البناء الاندونيسي الذي يهاجر الى ماليزيا حيث يحصل على أجر يفوق بسبعة أضعاف الأجر الذي يحصل عليه في بلده الأصلي, هذا اذا توافرت له فيه أصلاً فرصة العمل.

وتبعاً لتقديرات مكتب العمل الدولي فإن أجر العمل للساعة الواحدة في مجال الصناعة كان لا يزيد على 0.25 دولار في الهند والصين, اللتين تؤويان وحدهما 38 في المئة من جملة بشر العالم, مقابل 13.7 دولار في بريطانيا, و17.2 دولار في الولايات المتحدة الأميركية, و19.4 دولار في فرنسا, و23.7 دولار في اليابان, و31.9 دولار في المانيا.

وعلى رغم ان ظاهرة الهجرة الاقتصادية هي في جوهرها ظاهرة فردية, إلا أن مردودها الاقتصادي لا ينعكس على مستوى حياة الأفراد المهاجرين وحدهم, بل يأخذ ايضاً شكلاً جماعياً من خلال الدور المتعاظم الذي باتت تلعبه التحويلات المالية للمهاجرين نحو بلدانهم الأصلية. فقد قدرت مصادر صندوق النقد الدولي حجم الأموال المحولة من بلدان المهجر الى البلدان الأصلية بنحو 77 بليون دولار عام 1997 مقابل 5 بلايين دولار في عام 1970. وقد باتت هذه الأموال تلعب دوراً بالغ الأهمية في اقتصادات البلدان (المتخصصة) في توريد اليد العاملة الى الخارج حتى صارت لها - وهي التي لم تمنّ عليها الطبيعة بنعمة النفط - بمثابة (ذهب أسود) بديل. يصدق ذلك بوجه خاص على الفيليبين وتركيا والمغرب وباكستان. فالفيليبينيون العاملون في الخارج, الذين يقدر تعدادهم بأربعة ملايين - وغالبية كبرى منهم من العاملات في خدمة المنازل - يحولون الى بلدهم الأصلي أكثر من 5 بلايين دولار سنوياً. كذلك فإن المهاجرين المغاربة الى فرنسا يردون الى بلادهم الأصلية - ولا سيما الى المغرب - ما لا يقل عن 15 بليون فرنك فرنسي في السنة. وتحويلات المهاجرين الدومينيكانيين تمثل نحو نصف صادرات جمهورية الدومينيكان الى الخارج. وفي مالي تسد تحويلات المهاجرين الماليين 81 في المئة من عجز الميزان التجاري لبلدهم. بل حتى في أوروبا نفسها, فإن (الاقلاعة) الاقتصادية المتأخرة لبلدان الجنوب الأوروبي, ولا سيما اسبانيا والبرتغال, تجد جزءاً من تفسيرها في تحويلات العمال الاسبان والبرتغاليين في الخارج. وفي فرنسا وحدها يقدر الحجم السنوي لهذه التحويلات بنحو 30 بليون فرنك فرنسي, وهذا مبلغ هائل إذا ما أخذنا بالاعتبار قدم الهجرة الاسبانية والبرتغالية الى فرنسا, وتراكمه على مدى ربع القرن الأخير يمثل وحده نحو 750 بليون فرنك فرنسي, أي ما يعادل خمسة أضعاف الحجم السنوي للصادرات البرتغالية الى الخارج.

وكما ان هناك بلداناً متخصصة في التوريد, كذلك هناك بلدان متخصصة في استقبال اليد العاملة المهاجرة. وفي قائمة هذه البلدان تحتل استراليا وكندا والولايات المتحدة مكانة مركزية بوصفها دولاً قائمة في بنيتها الديموغرافية على الهجرة. فالمواطنون (الأصليون) في هذه الدول الثلاث ما هم في حقيقتهم إلا مهاجرون وأبناء مهاجرين قدماء. وفي المقابل فإن المهاجرين الجدد, أي الذين ولدوا في الخارج, سواء كانوا من المتجنسين أم غير المتجنسين, فيمثلون 23.4 في المئة و17.4 في المئة و9.8 في المئة من اجمالي سكان استراليا وكندا والولايات المتحدة على التوالي. وفي أوروبا الغربية تضرب سويسرا الرقم القياسي في نسبة المهاجرين والأجانب المقيمين فيها: 19 في المئة من اجمالي السكان مقابل 8.9 في المئة في المانيا و6.3 في المئة في فرنسا و3.8 في المئة في بريطانيا.

أما من حيث الأعداد المطلقة للمهاجرين, فإن قصب السبق يعود الى المانيا التي يقارب تعدادهم فيها سبعة ملايين, مقابل أقل من أربعة ملايين في فرنسا, وأقل من ثلاثة ملايين في بريطانيا. على أن هذه الأرقام لا تخلو من بعض الخداع. فهي لا تعكس واقع الهجرة في بلدان أوروبا الغربية بقدر ما تعكس حقيقة سياسة التشدد أو التساهل في شروط تجنيس المهاجرين. فارتفاع رقم (الأجانب) في سويسرا ليس له من تعليل آخر سوى رفض السلطات السويسرية منح المقيمين (المزمنين) الجنسية السويسرية. وذلك هو ايضاً الوضع في المانيا التي تتشدد أكثر بكثير من فرنسا ومن بريطانيا في تحويل المهاجرين الى مواطنين, مما يجعل أعدادهم فيها تبدو وكأنها ضعفا ما هي عليه فيهما.

وبالمقارنة مع بلدان أوروبا الغربية فإن دول أوروبا الجنوبية تقدم مثالاً على الانعكاس في اتجاه حركة الهجرة. فحتى الأمس القريب كانت ايطاليا واسبانيا والبرتغال تمثل نماذج (كلاسيكية) لدول متخصصة في توريد اليد العاملة الرخيصة الكلفة الى دول الجوار الأوروبي المرتفع مستوى معيشتها. ولكن مع النمو الاقتصادي المرموق الذي عرفته هذه البلدان الثلاثة في الثلاثين سنة الأخيرة, تحولت بدورها الى بلدان مستقبلة لليد العاملة المهاجرة. وهكذا ارتفعت نسبة المهاجرين الى ايطاليا من 0.8 في المئة عام 1989 الى 2.1 في المئة من اجمالي السكان في عام 1998. والشيء نفسه يمكن أن يقال عن اسبانيا والبرتغال اللتين تقتربان اليوم من عتبة 2 في المئة في نسبة المهاجرين المقيمين الى اجمالي السكان.

على أن هذا الانعكاس في اتجاه حركة الهجرة ليس قاصراً على بلدان أوروبا الجنوبية. ففي جنوب شرقي آسيا تلاحظ ظاهرة مماثلة. فبعدما كانت اليابان تمثل نقطة الجذب الوحيدة لليد العاملة الآسيوية المهاجرة, غدت البلدان الصناعية الجديدة, التي تعرف أيضاً باسم (البلدان البازغة), نقطة جذب جديدة لليد العاملة المهاجرة في جنوب شرقي آسيا. فحيثما انحفرت هوة في مستويات المعيشة استدعت البلدان الأغنى اليد العاملة من البلدان الأفقر في حتمية تشبه تلك التي يستدعي بها الفراغ الغاز.

وقد جاء تفكك الاتحاد السوفياتي والمعسكر الشرقي ليحدث موجة جديدة في حركة الهجرة العالمية. فمن روسيا واوكرانيا ورومانيا وبلغاريا ويوغوسلافيا تتدفق اليوم أفواج متلاحقة من المهاجرين إما نحو مراكز الاستقبال التقليدية في أوروبا الغربية أو نحو مراكز الاستقبال الجديدة في الجمهوريات المتقدمة نسبياً من أوروبا الشرقية مثل بولندا والمجر وتشيخيا. وفي بولندا وحدها يقدر عدد طالبي العمل من المهاجرين الجدد بنحو ربع مليون في السنة. ومن دون توافر احصاءات دقيقة, بسبب الطابع اللاشرعي لقسم كبير من حركة الهجرة الجديدة هذه, فإن الأرقام تتحدث عن نحو خمسة ملايين مهاجر جديد هم اليوم قيد التحرك عبر كل أرجاء أوروبا, من اليونان جنوباً الى فنلندا شمالاً, بعد انفتاح بوابات العبور من الكتلة السوفياتية (والى هؤلاء ينبغي اضافة مليون مهاجر روسي من أصل يهودي اختاروا التوجه نحو اسرائيل).

هذه الكثافة في حركة الهجرة العالمية على نحو غير مسبوق في تاريخ البشرية حدا بالبلدان المستقبلة للمهاجرين, ولا سيما في أميركا الشمالية وأوروبا الغربية, الى اتباع سياسات أكثر تشدداً في اغلاق الحدود وتشديد الاجراءات القانونية الرادعة للهجرة. وهذا بالتحديد ما أحدث تضخماً غير مسبوق أيضاً في ظاهرة الهجرة اللاشرعية. فاغلاق الحدود مع بقاء أسواق العمل المفتوحة أدى الى ولادة صناعة مزدهرة جديدة سميت (صناعة الهجرة السرية). فكلفة عبور العامل المكسيكي الى الالدورادو الكاليفورني تقدر بألف دولار. كذلك فإن المهاجر الافريقي أو المغربي يدفع 500 دولار لعبور جبل طارق بصورة غير مشروعة. أما المهاجر الصيني أو الآسيوي عموماً فقد يدفع مبلغاً يتراوح بين 20 ألفاً و40 ألف دولار للوصول بسلام الى بر الأمان الأميركي والحصول على أوراق عمل مزورة. وقدر عدد الأشخاص الذين دخلوا سراً الى أراضي الاتحاد الأوروبي بنحو نصف مليون في عام 2000 وحده. اما مكتب العمل الدولي فقدر أرباح المافيات الممسكة بمقاليد صناعة الهجرة اللامشروعة بما يتراوح بين 5 و7 بلايين دولار في السنة.

والى ذلك كله ينبغي ان يضاف العدد المتعاظم باستمرار من ضحايا هذه الهجرة. فبين عامي 1993 و2000 أحصي على حدود الاتحاد الأوروبي ألفا ضحية من المهاجرين السريين الذين لقوا حتفهم غرقاً في البحر أو اختناقاً في الشاحنات وقيعان السفن أو تجمداً في عنابر الطائرات. (الحياة)

أرشيف الأخبار  |  الصفحة الرئيسية  |  اتصلوا بنا