|
||||
|
||||
سياسة | ||||
من زاوية أخرى ... (المصالحة) والمكون البنيوي للمجتمع العراقي |
||||
جمعة عبد الله مطلك |
||||
تحيل فكرة المصالحة بعامة إلى واقع سياسي أو اجتماعي أو ديني يفتقد الانسجام بين مكوناته. وفقدان الانسجام يتراوح بين الاختلافات الجزئية حول أشكال العمل والمآلات النهائية إلى التصدعات البنيوية الخطيرة التي يمليها الخلاف حول فلسفة الأشياء ومضمونها وطبيعة النظرة إليها. وفي العادة وباستقراء تاريخي فإن المجتمعات المنسجمة غالباً ما تستطيع التوصل إلى حلول تجاوز بها الخلافات والاختلافات. ومصطلح المجتمعات المنسجمة حديث النشأة لكنه ينطبق أيضاً على المجتمعات القديمة بدرجات مختلفة. ويعتبر المجتمع العراقي من بين أكثر المجتمعات تنوعاً ويمكن أن ينطبق عليه الوصف بأنه مجتمع يفتقد إلى الانسجام. لكن من الواجب الوقوف عند المصطلحات التي ترد في سياق الكلام حول المجتمع والدولة والمؤسسات حتى يصبح المعنى في الذهن واضحاً وبالتالي فأن ما يترتب عليه من نتائج يمكن أن يصلح قاعدة في البحث عن حلول. ويمثل المنهج الثقافي في دراسة الظواهر الاجتماعية والحضارية عند ماكس فيبر ومدرسته وكما تبدت أيضاً في الثقافة العربية أكثر صلاحية من المدرسة الماركسية في دراسة الظواهر الاجتماعية المستندة إلى البنى المادية للمجتمعات وعلاقات وقوانين الانتاج. وبهذا المعنى فإن كثيراً من الأوصاف والتسميات تبدو مفتقدة إلى المضمون الادائي الذي يؤهل لإصدار الأحكام والخروج بالنتائج. فحيثما يرد لفظ مجتمع في وصف علاقات المدينة الشرقية فأنه يمكن أن يحيل وحتى العصر الحديث إلى مفهوم التجمع أكثر من مفهوم المجتمع. فمجتمع المدينة الحديث يستند إلى مجموعة علاقات ونظم وقيم تؤهله أن يصبح مجتمعاً متضامناً علائقياً وحيوياً بدرجات مختلفة وهو على العكس من التجمع الذي يفتقد هذه القوانين ويعود في الأزمات إلى نقطة الصفر البشري في التعامل ورد الفعل أي: الوجود الطبيعي. وكمثال على ذلك فأن أرسطو يقول: إن من يستطيع الاستغناء عن المدينة والعيش خارجها مكتفياً أن يكون إلهاً أو حيواناً. والمدينة الفاضلة أو جمهورية أفلاطون هي بحث عن قوانين الانسجام داخل نظام المدينة بغير أنظمة القرابة التي يعبر عنها بالمجتمعات العربية بـ(القبيلة). إن المجال الحيوي الذي يتيحه وصف القبيلة بالاجتماع العربي لا يقتصر على الأثر السيء الذي تركته في المجال السياسي التاريخي للعرب والمسلمين. واعتقد أن الامتدادات المؤسسية وسايكولوجيا الفرد واقتصاديات الريع هي المؤثرات التي تتحكم في المجال السياسي العربي وتمنع شعوب ودول المنطقة الدخول إلى صناعة التاريخ بدل البقاء على قائمة المنتظرين الأزليين. لقد نشأت الدولة العربية الإسلامية في بيئة قبلية (كما يقول هاملتون جب) وقد ترتب على ذلك انتقال قيم البناء السياسي القبلي إلى نظام الدولة وليس العكس. وكان يمكن لذلك البناء أن يحدث انفجاراً مبكراً منعته قاعدة التراضي التي قامت حول شخص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وجهود الخلافة مع استثناءات قبلية. لكن دخولاً عربياً إلى صناعة امبراطوريات جديدة قد أحدث نوعاً من التأسيس العميق المتبني لقيم القبيلة وما ينشأ عنها وبهذا الصدد يقدم الدكتور محمد عابد الجابري اطروحته في استناد النظام السياسي والاجتماعي العربي إلى ثلاثية القبيلة والغنيمة والعقيدة. فالقبيلة تعني اعتماد الانساق القرابية في هرمنة النظام السياسي ويتبع ذلك بالضرورة نمطاً ريعياً وخراجياً للاقتصاد، وكلا الوضعين بحاجة إلى نوع من الشرعية تقتضيه الظروف المتغيرة. وليس المقصود بالعقيدة في هذا التصنيف الثلاثي الاطروحة القرآنية والتي تناقض علناً كل الأطروحات العشائرية وهي واضحة جداً في التأكيد على قيم الكفاءة والحرية دون ريب. لكن القراءة الامبراطورية المتعسفة والباحثة عن سند (عقيدي) أنتج نوعاً من فقهاء وعلماء (للسلطة). وهذه السلطة ليست محددة بعهود الحكم الأموية والعباسية أو ما تلاها من حكم السلالات والقوى المتغلبة لكنه أصبح منطقاً داخلياً للمجال السياسي العربي تتجاور فيه القوى وتتساكن معتمدة علاقات القوة. وحتى العصر الحديث عندما انشأت الدولة العربية الحديثة بقي مضمون هذه الدولة هو نفسه المضمون القبلي وقد أضاف إليه العثمانيون مجتوى انكشارياً، ففضلاً عن آليات الاستيلاء الاستعمارية لهذه الدولة فأن روح القبيلة العربية وعلاقتها الريعية وبحثها عن نصوص دينية مؤولة تدعم هذه التوليفة أودت بالسياسة والثقافة والتعليم إلى المآلات التي يعرفها الجميع. وتأخذ المفارقة شكلاً تراجيدياً عندما تتسارع وتائر المدنية في الدولة الغربية الحديثة مقابل المزيد من الحصار (القبائلي، البدوي، الريفي) للمدينة العربية التي ولدت حداثياً بعملية قيصرية صعبة. مدينة ودولة كهذه مخزناً لأشكال التوترات الاجتماعية والسياسية، فهي لم تستظل بسقف التطور الطبيعي للإدارة والانتاج وقيم المواطنة الحديثة، وبالتالي يصبح البحث عن الغنيمة مشرعاً بين القبائل ومبرراً للعنف المجاني وحتى هذا العنف ليس وارداً في الثقافة السياسية لأهالي المدينة غير الفاضلة ليكون حكراً بيد الدولة أو المجتمع أو الشرعية. والسلطة بهذا المنظور أحدى أهم الغنائم التي تتقاتل عليها القبائل في نظامها ومنطقها الداخليين. ومهما اتخذت هذه المدينة وتلك الدولة من مظاهر وأشكال الحداثة السطحية فأنها تخفي في أعماقها مجموعة حقائق الانسداد التاريخي الكبير وعنوانه، اندحار العقلانية لصالح السلطوية الغاشمة، وقد جاء الريع النفطي ليزيد من حدة الطغيان القبائلي ويعطيه مظهراً حداثياً كاذباً، وتبرز عندئذ ودائماً الحاجة إلى ابن خلدون الذي درس التجربة السياسية العربية والإسلامية داخل وقائعياتها في التاريخ والتطبيق وبالمحصلة فإن مستبداً عادلاً يصبح وكأنه ضرورة تسد فراغات الوجود السياسي وتحافظ على مركزية يصبح ممكناً بها ومن خلالها مقايضة الأمن بالحرية والخبز بالكرامة وهي تجربة عبّر عنها فقهاء دستوريون وأمثال شعبية كثيرة ويلخصها المثل القائل (ظالم غشوم خير من فتنة تدوم)، فالظالم الغشوم هو المستبد الذي يرجو الشعب عدله، إما الفتنة فهي استقراء للتحلل والتعفن الذي يصيب سلطة المركز فيسقطها وتحدث الفوضى جراء ذلك مما يشكل قانوناً في الحياة السياسية والثقافية والإخلاقية العربية والإسلامية. وتأتي تداعيات اللحظة العراقية الراهنة لتعيد اسئلة الثقافة والمكونات البنيوية لها وما تصبه في المجال السياسي والتربوي لثقافة الناس عنواناً لازما يتطلب البحث عن (مصالحة) واعتقد أن أدراك هذه المصالحة (فلسفياً) هو في تفكيك الخطاب المنبث في نصوص مراوغة وكاذبة، ومن الاجترار أو الإنشاء السياسي القول إن شرط النجاح السياسي لهذه المصالحة يتمثل في توفر شرطي الإرادة والقدرة لدى النخب السياسية الحاكمة. فإذا كانت هذه النخب مغتربة عن العمل السياسي وتعمل بالمنطق الطوائفي أو القبائلي (منطق القبيلة والغنيمة) فإن مزيداً من تدخل الأطراف الإقليمية والقوى الكبرى وتمزق النسيج العراقي يبدو محصلة طبيعية لهذا الإداء، أن معانقة إخلاقية الروح السياسي (دينياً أو وضعياً) قد تشكل بلسماً يسد ثغرة نقص الأداء وضعف الخبرة السياسية للنخبة الحاكمة وهو أيضاً عودة محمودة إلى عصر البطولة الثورية. |
||||
|