|
||||
|
||||
سياسة |
||||
المصالحة الوطنية... الإمكان المطلوب والمعرقلات البنيوية |
||||
معن حمدان علي |
||||
إن المراقب للشارع العراقي، لابد أن يلتفت إلى أن هناك ثلاث قوى فاعلة وناشطة فيه. الأولى منها الحكومة العراقية، التي يشعر الشعب بالإحباط من مستوى أدائها، فضلاً عن مجلس نواب لا يحظى منتسبوه بالثقافة السياسية المناسبة لمرحلة التحول البنيوي العميق في شكل وجوهر الدولة العراقية المرتقبة. وينقص الكثير منهم المؤهلات التي تجعل منهم بناة أو مشرعين لدولة حديثة على أنقاض البدائيات العشوائية الساقطة. أن خضوع الخدمة العامة إلى الولاء السياسي والانتماء الحزبي، فضلاً عن المحاصصة السياسية القائمة على أساس طائفي وعرقي وحزبي أدى بنهاية المطاف إلى تجميد ثلاثة من مبادئ الدولة الحديثة، وهي المواطنة والكفاءة وتساوي الفرص أمام الجميع. كما أعطى الحكومة والمجلس غطاءً هشاً تبريراً للاحتراب الخفي ما بين مكوناتها الحزبية والطائفية والعرقية، وضموراً في المواطنة العراقية، ذلك المبدأ المفقود، بحيث بات الاتهام بالطائفية لعبة يتراشقون بها على مرأى ومسمع كل وسائل الإعلام من صحف وفضائيات. وهذا ما يفسر ندرة الكفاءات في أجهزة الدولة، ويفسر أيضاً استشراء الفساد، الذي ضرب العراق فيه سهماً وافراً، بحيث نال المرتبة الأولى بين دول العالم كما أعلنت بعض أجهزة القياس الدولية المعتمدة. والقوة الثانية هي القوات المتعددة الجنسيات، بلغة دبلوماسية، والقوات الأمريكية وتابعتها القوات البريطانية، بلغة صريحة، وللأمريكان أجندة سياسية تنفذ من قبلهم بشكل غامض، أدى بالنتيجة إلى اختلاف في تقييم خطواتها المبهمة، وليس لقصور العقل الشرقي في فهم بنية العقل الغربي وآلياته العامل الأساسي في تحليل هذه الأجندة التحليل الثقافي، بل أثبتت الأحداث جهلا فضيعا لدى هذه القوات لطبيعة المجتمع العراقي ومكوناته ومصلحة كل فئة فيه، وعليها أن تتحمل مختلف الخروق التي نتجت من ذلك، كما تتحمل (المعارضة العراقية) السابقة التي رافقت هذه القوات حصة كبيرة لأنها فشلت في ترجمة طموحات الشعب العراقي بسبب ضعف الحس الدولتي لدى قادتها. أما القوة الأخيرة فهي الأخلاط والأمشاج، الذين توحد هدفهم بسقوط النظام. فالتنظيمات السلفية التكفيرية وجدت من العراق ساحة بعد الفراغ الأمني لنشاطاتها المنحسرة في أفغانستان وغيرها من البلدان. فالمعلن الأول من بياناتهم الثأر من (الجيش المحتل الكافر) الذي أفشل تجربتهم الأولى والرائدة في (أمارة أفغانستان الإسلامية) ذات الصيت السيء، ولكنهم فوجئوا بغالبية الشعب العراقي من (الروافض) فتبدلت خططهم الاستراتيجية إلى مغازلة ضمنية مع الأمريكان أثبتها فشل الزرقاوي الذي كان نتيجة إيصال معلومات عن تحركاته إلى الجيش الأمريكي من أحدى التيارات السلفية التكفيرية التي خشيت من انفراده بالساحة العراقية بعد تعاظم نفوذه واستقلاله، وهذا ما يفسر استشهاد ألف وخمسمائة عراقي في الشهر الواحد مقابل مقتل جندي أمريكي وجرح آخر. أما أتباع النظام البائد وأيتامه، الذين خسروا كل الامتيازات والرفاهية التي كانوا يتمتعون بها، على حساب الشعب، وفقدوها بسقوط النظام، فقد تلبسوا مختلف اللبوس. فالمفاوض باسم (التوحيد والجهاد) كما أعلنت وسائل الأعلام العراقية أكد على شطب وإمحاء قانون (اجتثاث البعث) من أجندة الحكومة العراقية. وهنا يتبادر إلى الذهن هذا السؤال: ما هي صلة منظمة إسلامية متطرفة (التوحيد والجهاد) بحزب قومي علماني؟ ولماذا يؤكد المفاوض على لقبه (التكريتي) في مقابلته للصحافة العراقية؟ وما هي نسبة التشابه ما بين هذه المنظمة وبين (جيش محمد) وقد ألقي القبض على زعيمها، وقد تبين أنه أحد ضباط الحرس الجمهوري السابق؟ وهناك تيار آخر هو تيار (الأعراب) الذين يعتقدون أن العراق ملكية لهم ورثوه من قرون خالية، وقد كان (القائد الضرورة) رمزاً لتلك الهيمنة والسطوة التي انتهت إلى غير رجعة بسقوطه. هذه هي صورة الشارع السياسي العراقي والقوى الفاعلة فيه بإيجاز، والمصالحة الوطنية هي ما يتم بين الحكومة العراقية والمنظمات الإرهابية، لأن السيد (خليل زادة) سائر بخطى حثيثة للمحافظة على المصالح والجيش الأمريكي من خلال مغازلة متبادلة مع المنظمات الإرهابية تتم على استحياء. أما مصالحة الحكومة العراقية مع التيار الأول (السلفي التكفيري) القادم من وراء الحدود، والذي وجد من يأويه، ويقدم له مختلف الخدمات حتى الزواج من بعض (المجاهدات) العراقيات، فدونه خرط قتاد، وهو أقرب إلى أضغاث أحلام، فهو غير مرتبط بهذه الأرض بالإضافة إلى أن تمويله يأتي من (الأخوة الأعداء)، فضلاً عن تحجر أفكاره وتخلفها والتي لا تستوعب (اللعنة السياسية) بشكل عام. أما أتباع النظام البائد وأيتامه، وثقافة (الأعراب) التي شكلت حاضنة لسلوكهم السياسي البدائي، وفي أدنى مستويات المصالحة ستكون المحاصصة السياسية القائمة على طائفي وعرقي وحزبي، والتي تغلف بمطالب سياسية مثل أعادة الانتخابات، وكتابة الدستور من جديد وجولة انسحاب القوات الأجنبية. وهذه العملية ستزيد من أوضاع العراق سوءاً وستعرضه إلى تفتيت طائفي وقومي وعرقي، ولكي لا يتعرض العراق إلى هكذا مخاطر وهو في وضع لا يحسد عليه، فلابد من تفعيل بناء (الدولة) المفقودة منذ تكوين العراق الحديث من خلال المؤسساتية، ثم تفعيل الديمقراطية والتعددية باعتبار أن المواطن أثمن رأسمال موجود، وبالتالي أن هذا يعني ولادة المواطنة العراقية، ذلك المبدأ الذي عمل النظام السابق على وأده، وكان من نتائجه ترييف المدينة بدلاً من تمدين الريف. فيصبح من الضروري عندئذ البحث عن البعد الرابع المغيب في المعادلة السياسية الناقصة، وهو هنا الشعب العراقي وثقافته السياسية المشلولة. وكان قاسياً جداً ومريعاً أن يختزل هذا الشعب إلى هذه النخبة السياسية وأداؤها القاصر. وقد أفسح هذا الأداء المجال واسعاً لبروز الإرث التاريخي للثقافة السياسية، والانقسامات الإثنية والدينية التي أخذت تبتلع الآمال التي طالما انتظرها العراقيون كثيراً بسقوط النظام. وبالنظر لبدائية هذه القوى وتملقها الشارع السياسي فقد امتنع أي شكل من أشكال التكافؤ مع قوات التحالف التي انفردت بكل أخطائها وخطاياها بالقرار الاستراتيجي بالمجتمع والدولة العراقيين. أن صحوة العراقيين على كم الجثث وأنهار الدماء يجب أن يفرز أخلاقيا وأدائيا طبقة سياسية توارت خلف الطائفيات وأصواتها العالية، ويمكن لهذه الطبقة الجديدة الإمساك بالخيوط الجامعة للوطنية العراقية المضاعة. وبرز هنا نهائياً مفهوم الكتلة التاريخية الذي يشكل بالفعل خلاصاً للدولة والمجتمع ولتاريخ العراق من السقوط أكثر في أوحال الطائفية السياسية. ويستند مفهوم الكتلة التاريخية على أحساس سياسي أخلاقي لدى القوى السياسية الرئيسية وتشبعها بفكرة العمل الجماعي الإيجابي الذي يستوحي المشتركات العامة مؤجلاً الخلافات والتقاطعات إلى ما بعد البناء الدستوري والقانوني والإداري للدولة. وأرى أن مفهوم الكتلة التاريخية بدأ يتخلق الآن لدى الشعب العراقي فطرياً مخترقاً شرنقة ثقافته السياسية التقليدية قبل أن يجد حضوره في الطبقة السياسية ذاتها. وعلى هذه الأرضية يمكن للقوى المدنية، وحتى الدينية المخلصة الإمساك بهذه اللحظة في الالتحام مع إرادة جماعية تستطيع أن تشكل قوة ضاغطة باتجاه الدولة القانونية أولاً قبل أشكال الفدراليات أو حدودها، أو تقاطعاتها النظرية، ولا أعتقد إلا بحدود (العدم الأخلاقي) أن الشعب العراقي وقواه السياسية أقل بذلك جدارة من قبائل الزولو. |
||||
|