الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا

    فكر سياسي

جدلية الترابط بين أمركة العراق وعرقنة أمريكا

كامل الدلفي

إذا ارتأينا دخولاً جدلياً إلى سياق الظاهرة العراقية، نجد أن من أهم أوليات التي يجب أن نشخصها هي منظومة العلاقات الاجتماعية وعمليات ونظم سيرها بالتقدم والتراجع بالثبوت والتحول، بالممانعة والأنقياد بالرفض والقبول وإلى آخر الثنائيات الضدية التي تتشابك في مكونات البنية، ولاشك أن هذا المدخل آراني بحاجة إليه للفرز غير الاعتيادي الذي طال القوى السياسية المحركة للمرئية العراقية منذ التغيير الذي حصل في نتائج انتخابات 15/ك1/2005 وما بعدها وقد يستمر زمناً أطول من ذلك وكما يبدو للعيان، أن محكمات النتاج العقلاني الاجتماعي ألقت بظلها الثقيل على البرامجية السياسية نهجاً وخطاباً وسلوكاً، وبذلك يدفعني الأمر إلى تشخيص هذا الخط البنيوي في المكون السياسي، إذ تحول من فاعل إلى مفعول به، الأمر الذي أحال الوضع السياسي إلى مشهد يمتاز بالتعقيد الشديد والتشابك الصعب، والطروحات الماضوية، يقول فرانسيس فوكوياما في التصدع العظيم ص14: (أن فكرة تلاشي المفاهيم والقيم العامة وغير الرسمية، وحلول قوانين ونظم رسمية وعقلانية محلها مع الوقت هي الدعامة الأساسية للنظريات الاجتماعية الحديثة، أن الرابطة التي كانت تربط الناس في مجتمعات ما قبل الحداثة هي رابطة (الوضع الشرعي) فالأب مثلاً مسؤول عن عائلته، والمالك مسؤول عن خدمه...الخ، في علاقة شخصية تتألف من مجموعة متشعبة وغامضة في كثير من الأحيان من الالتزامات المتبادلة ولا يستطيع أي شخص أن يدير ظهره لتلك العلاقة بذريعة أنها لم ترق له).

لذلك نستطيع أن نشخص مكونات المشهد السياسي العراقي أنها تعيش نمطاً علائقياً كلاسيكياً مستنبطاً أو بدرجة ما مستنسخاً عن السلوك الاجتماعي بجميع امتداداته الماقبل حداثوية، أي أن الروابط الهرمية والبطريركية على الأخص منها تأخذ بعدها الشرعي بسيادة مطلقة، فالعرش أو دائرة مصدر القرار نجد ترشيحات اشتغاله دائماً من الأنماط ذاتها المنوه عنها الأب –القائد- المركز- السكرتير- الأمين العام وجميع أطياف الكاريزما التي تباشر هيمنتها ومسؤوليتها عن الآخر (الآخر بتمثلاته القاعدية – الجماهير- الناس- الأشياع- المريدين وكل ما يقع في خانة التبعية أي موقع المادون في التسلسل الهرمي).

في تراتب متكلس، أدى وظيفة تاريخية تجلت في أثقال كاهل المادون بروابط الالتزام المطلق وعدم منحه الفرصة في محاولة إدارة الظهر إلى الأوامر والتوجيه أو الحيلولة دون تنفيذ مقتضيات تلك العلاقة، أن ذلك الرابط الشديد لا يسمح بأية حال من الأحوال للعضو المادون بحرية التصرف أو السلوك الانفرادي أو امكانية ظهور التغاير في التفكير والخطاب والممارسة، إن أي استحداث في هذا المستوى يدخل في خانة الخيانة وقد أفرزت تجارب الأحزاب القومية واليسارية في العراق كثيراً من التقييمات المشابهة بشأن بعض الكوادر التي تغايرت معها في التطلع.

إن السلوكيات الجمعية المتراكمة تتقدم كثيراً على غيرها في رسم محددات الخطاب السياسي لمنظومة العراق السياسية، إلى الحد الذي جعل لدينا كماً غير مألوف من أحزاب وكيانات سياسية يتجاوز عدده أي رقم منافس في المنطقة، ولو أن الحديث يكثر في العديد من المرافق والمفاصل ومن بينها الوسط الإعلامي بأن هناك خطة اختزالية لكمية الأحزاب والتيارات والكيانات السياسية، ويلوح المتحدثون بهذا عن دور بارز للولايات المتحدة الأمريكية في رسم خطة عمل وبرنامج يعالجان التضخم الحزبي تماشياً مع تجارب الدول الليبرالية الحديثة وربما تخرج المعالجة بحصيلة من 4-10 أحزاب على المدى الزمني المتوسط. إن المنطق العام في ضرورة المعالجة يكاد يكون صحياً ومطابقاً لمتطلبات التطور الاجتماعي والسياسي، أي صحة التوجه نحو الاختزال الكمي، أما أن يكون الأمريكان هم من يسهم جدياً (جزئياً أو كلياً) في تنفيذ المهمة فأن هذا يدعوني إلى الاستهجان بالمرة من خطل هذه الفكرة غير السديدة، لا لأني أنطلق من حسن المواطنة وأمانع من التدخل المباشر للأمريكان في الشأن الوطني أن هذا شيء له منزلته في تفكيري ولكن المعطى المنطقي أهم كثيراً في دفاعي وتخطيئي للفكرة، فليس الأمريكان سحرة خرافيين يقولون للشيء كن فيكون، وليس كل ما يشتهونه يتيسر لهم، وقد أفصحت الكثير من التجارب الأمريكية في العراق عن أخطاء جسيمة وعدم دقة في التقدير وفي مستويات متعددة ومختلفة، بل أن نتائج التطبيق السياسي جاءت في مواقع متعددة متباينة للمزاج الأمريكي وتوجهه البرنامجي وفي أحايين عدة متضادة معه مئة بالمئة.

لذلك أنا أعول على مجريات التغيير الاجتماعي في العراق، وتحقيق عملية التحديث واحلال عمليات الانتاج الجديدة محل القديمة في أن تكون الكفيلة بانتاج الأنساق الملائمة لبناء التجربة الجديدة التي نروم من ورائها مجتمعاً حداثوياً، لابد إذن من تمزق النسيج الاجتماعي السائد بفعل التقدم التكنولوجي، الذي سيصل العراق مع متطلبات التغيير، ان النهضة التكنيكية إذا قدر لها أن تأخذ مداها لدينا ستفرز أنواع العلائق بين المكونات، وفي عودة ثانية إلى فوكوياما في ذات الكتاب حيث يشير إلى أن التصدع الاجتماعي وإن حدث فليس مؤشراً خطراً ويعني هذا في ضمن ما يعنيه هو تفكيك ودمار البنية بل إن (النظام الاجتماعي الذي يتعرض إلى التصدع يعود إلى التشكل مرة أخرى، وهناك سبب بسيط يجعلنا نتوقع حدوث ذلك، هو أن الإنسان بطبيعته مخلوق اجتماعي تقوده غريزته ودوافعه الأساسية إلى خلق وإيجاد قواعد اخلاقية تجمع الناس مع بعضهم بعضاً في مجموعات اجتماعية) (ص10، التصدع العظيم- فوكوياما).

أن التصدع لا محال عند حدوث الحداثة التكنيكية سيؤدي إلى تشاكل اجتماعي حداثوي تختفي فيه الأنماط السلوكية القديمة، التي أفرزت إلى السطح مطبات التكتل والتشاكل العرقي والطائفي السائدين في 24 ساعة من اليوم وكذلك أعود إلى تعزيز فكرتي عن عدم مقدرة الأمريكان في أحداث التطور للأمام لبناء عراق حداثوي متمدن ديمقراطي، وقد تطول معي قائمة الأسباب التي اعتمد عليها في تقديري هذا، لكنني أشدد على ظاهرة صعود التاريخ باجماله إلى مستوى السطح، فقد أندفع مرة واحدة وبكل قوته. لقد شقق كل القشور المانعة (الكبت التاريخي) ليتمكن من الهيمنة على مساحة الحاضر، دافعاً بإشكالويته في متناول أيدينا، إن التاريخ المنوم يستيقظ في لازميته، أرى هاشمياً وأمياً، وعلياً ومعاوياً، وأضداداً كثيرين حتى سعد بن عبادة يشهد بحقيقة وجلية مقتله ليبرأ الجن الذين اتهموا باطلاً بمصرعه المجهول، لأن التاريخ اعتمد تصريح جني سفيه أعلن مسؤوليته شعراً عن مقتل زعيم الأنصار.

من أين لجورج بوش أو رامسفيلد أو كونداليزا رايس وحتى فوكوياما إمكانية الأحاطة الجذرية بهذه المتناقضات المتكلسة، ومن ثم الخروج بقراءة متوافقة تنتج حلاً عقلانياً.

التاريخ يتصاعد فينا وبيننا ومن حولنا، والحدث الأم والأصعب في تاريخنا المفتوح على الاختلاف يتسيد المشهد المرئي واللامرئي، السقيفة التي يجهل حقيقة تأثيرها مجمل العقل الأوربي، التي يرى فيها مجرد كونفراس طارئ وبذا فقد العقل الأوربي إمكانية تلمس إدراك المعنى، السقيفة لغوياً تقترب أو تحايث معنى السقف وعلى علاقة وثقى به والذي يعطي فيما يعطيه من معنى: الغطاء، الستر، الأمان وأحياناً الملاذ، إنني أرى فيما يجهله العقل الأوربي أن السقيفة تمثل الآن هدوء الهويات وملاذها الآمن، وحجر التشاكل التاريخي لهذه الهويات، وهي مرجعية الانتاج الأولي لها، لا أحد يملك القدرة على تقويم السقيفة دون أن يمس أحد، تلك شمولية النسق السقيفي التي لو قدر الآن أن تخرج السقيفة من تاريخنا فأن ذلك سيترك فراغاً هائلاً يصعب ملؤه بإرادة فردية أو فئوية محض، أو حسب تخطيط جهوي مسبق.

أنا على يقين بأن دوائر القرار الأوروأمريكي ملزمة بالإنكباب على إعادة قراءة تاريخنا، وأن عبأ جديداً أضيف على كاهلها في مقتضيات الإعادة في التفسير والإدراك والفهم، وقد أكون غير مبالغ إذا قلت أو أعلنت عن تأكدي من أن الساحة المعرفية هناك (لديهم) منشغلة تماماً بالتراجم الجديدة للطبري وابن الأثير والمسعودي وجميع منتجاتنا التاريخية، آملاً في إيجاد فهم ينتج إمكانية مواجهة، أن الغزو العسكرتاري الكبير لدى الولايات المتحدة وأوربا لا يسمح بإعلان مثل هذه الحقيقة أو التقرب منها، وقد تطوى ذلك بسرية عالية لا تسمح بالتسريب حتى أنجاز المهمة، إلا أن الحقائق تشير إلى أن النتائج والخلاصات ستنعكس على النسق الفكري الأوروأمريكي، وقد يظهر قريباً جديد لامألوف في ساحة الغرب الفكرية يتضمن انقسامات وتباعدات في الطرح، قد يسمح لي تقديري للموقف بظهور طائفة مفكرين أمريكيين شيعة وآخرين سنة وقد يكون ذلك في مديات ليست بعيدة عن الآن، هذه لعنة العراق الجديدة التي ستمكن من ادخال فايروس التناقض في البنية الفكرية الغربية وليس مستبعداً أن تكون بداية للتفكك الغربي المشار إليه في أحاسيس الشرق.

إن الحضور التاريخي لأنساقنا نجح كثيراً في اختراق المنظومة الأمريكية للصعوبات الهائلة التي طرحها في طريقها، إضافة إلى إسهاماته في منعنا بشدة من التآمر، بل دفع الأمريكان إلى التعرقن.

على الرغم من أنني لست متأكداً من الأسباب الحقيقية التي جعلت روجيه غارودي مفكراً أسلامياً مع كل ما ذكر عنه وحتى على لسانه شخصياً، إلا أني استطيع أن أفسر لماذا تمتلك اللحظة الراهنة أسبابها الراهنة في انقسام العقل الأمريكي وإمكانية تحول بعضه إلى أنساقنا الفكرية مستقبلاً.

أن مغامرة احتلالنا برغم امتلاك الولايات المتحدة المقومات المادية والإدارية إلا أنها لا تمتلك المقومات الذهنية والروحية واقصد عدم حيازتها ممانعة أو مقاومة سحر الشرق الأزلي.

تلكم هي القراءة المحجوبة عن ذهنية الغرب وأن أهرق ما أهرق في الوصول إلينا منذ قرون في حملات مختلفة مسلحة وثقافية حتى أعيته الوسيلة.

أن نزهة الوعي في تجربة الاحتلال أو نقل التجربة الليبرالية وشرقنتها مثلاً حياً، الكاتبة كارولين آرمسترونغ هذا العام تدافع عن الإسلام والرسول (محمد) بكتابين في أوربا، وفي طريقة استحضاره باسئلة للأجابة عن الوضع الراهن، وقد تتعاقب المزيد من التجارب في هذا المضمار.

إن حدسي ينصب باتجاه تشخيص اختلافات غير مرئية تدور في الحيز الأمريكي عن الولاية، والنص والتنصيب فيها وجواز أقامة المفضول بوجود الأفضل ومرئية الغدير بإجمال وتفصيل وقد تصل إلى اختلافات في الوضوء والجمع في الصلوات.

إن جدلية التأثر والتأثير تمتلك غير يسير من الفاعلية والبقاء والديمومة فليس من باب العجب اشارتنا إلى ما سوف يحدث في عالم المنهج والفكر الأوروأمريكي ذلك دون شك مرده إلى امتلاكنا للأطروحة الفكرية المتكاملة المخبأة في روح الشرق وثناياه، وعمق الحضارة التي تدفع باتجاه التاريخ وليس نهايته كما يزعم العقل الليبرالي الأوربي.

 

الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا