الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا

  كلمات

كتاب غير مكتمل

أحمد السعداوي

 تاريخ الأدب لا يحفظ لنا سوى الأعمال حسنة الحظ، التي شاءت لها المصادفات، ليس إلا، أن تكون مكتملة، وناجية من الظروف السيئة، وصادفت قراءة فاعلة في وقت ما قبل أن يطويها النسيان.

وفي الوصف الأخير يندرج كتاب فصل في الجحيم لرامبو الذي عثر على نسخته شبه التالفة أحد المهتمين في مخزن للكتب بعد حفنة من السنوات من وفاة رامبو. الأمر نفسه ينطبق على أناشيد مالدورور للوتريامون، والأمثلة كثيرة في هذا المجال. يغدو فيها صاحب الاكتشاف أو مثير الاهتمام بكتاب مغمور وكأنه أعاد خلقه أو أوجده بشكل ناجح بعد محاولة وجود فاشلة سابقة.

وبالإضافة إلى الكتب المكتملة التي تذهب من يد مؤلفها إلى المطبعة ثم إلى رفوف المكتبات، هناك العشرات أو المئات من أنصاف الكتب التي تركها مؤلفوها وراءهم، دون أن يحسموا بأمرها. ويحدث أن يساهم الموت ونقصان الكتاب في زيادة جاذبيته، وإعطاء دلالات قرائية مضاعفة على أصل الكتاب غير المكتمل، فيدخل عدم الاكتمال هنا كجزء مكون من الدلالة العامة لاكتمال الكتاب نفسه.

مثال على ذلك، حين توفي الروائي الإيطالي ايتالو كاليفينو، نشرت زوجته أحد كتبه غير المكتملة، وهو نص محاضراته الست التي حوت مجمل تأملاته الشخصية حول الفن الروائي. تقول زوجة كاليفينو في مقدمة الكتاب إنها ترددت كثيراً في نشر هذا الكتاب، ولكنها نشرته أخيرا ليقينها أن الخيار لو ترك لكاليفينو لقرر نشره رغم احتواء الكتاب على خمس محاضرات ليس إلا، أما المحاضرة السادسة فخط كاليفينو عنوانها فقط وترك الصفحة بيضاء، قبل أن يداهمه الموت ويقطع عليه إكمال هذا المشروع.

(ست وصايا لنهاية القرن) هذا عنوان كتاب كاليفينو الشهير، ترك الوصية السادسة فيه لكي يؤلفها القراء الفاعلون، أو أن النقصان في الفصل السادس يشير إلى شخصية ونسبوية الأفكار التي يطرحها كاليفينو، وان أي رؤية، مهما جهد صاحبها في إنضاجها، تظل تحتوي في تضاعيفها على نقص جوهري، هو من ملاك قدرة الإنسان ومحدوديته.

هكذا انفتح التأويل لاسترداد النقص وإدخاله من جديد كعنصر اكتمال في بنية الكتاب غير المنتهي للمؤلف الميت.

وتبدو القراءة في كتاب أوقف تدفقه الموت مفعمة رغم كل شيء بالأسئلة، ولا أستطيع مثلاً أن أنسى تلك اللحظة التي كنت منغمساً فيها بقراءة رواية غسان كنفاني الجميلة(برقوق نيسان) في مجلد أعماله الكاملة مطلع تسعينيات القرن الماضي، فحين قلبت الصفحة لأتابع القراءة في الأحداث المثيرة والمتلاحقة للرواية وجدت الصفحة التالية فارغة وبيضاء، لا تحوي سوى هامش صغير في أسفلها، يشير إلى أن غسان كنفاني وصل ها هنا في كتابة هذه الرواية قبل أن تنفجر به تلك السيارة الشهيرة في بيروت التي فخخها الإسرائيليون فاستشهد من فورها. وترك روايته مفغورة الفم على كل النهايات دفعة واحدة.

الإحساس الأول الذي بادرني هو أن التتمة موجودة في مكان ما، إنها غير موجودة هنا بالطبع، في هذا المجلد الذي جُمعَت فيه رواياته كلها، ولكنها موجودة بالتأكيد. فمن غير المنطقي أن الرواية تنتهي فجأة دون إرادة مؤلفها.

فيما بعد تطور الفضول الملح لمعرفة التتمة إلى ما يشبه الحاجة، فقررت حينها أن أكمل هذه الرواية، ولكني لا أتذكر إلى أين آلت هذه المحاولة.

وفي تجربتنا العراقية، تبدو عملية الكتابة، تحت وطأة التهديدات الفعلية بالموت كل نهار، نوعاً من الكتابة في عمل غير كامل مسبقاً. فما الذي كان يفكر فيه مثلاً القاص مؤيد سامي، قبل ساعات من اغتياله على أيدي إرهابيين في بعقوبة؟ من المؤكد أن لديه قصة أو رواية أو كتاباً مازال يفغر فاه على المجهول، ينتظر مؤلفه أن يعود ليتمه.

أي حياة افتراضية يتخيلها الروائي العراقي، كنوع من المنطقة الوسطية بين الحياة الفعلية وحياة المخيلة، وهو يرى حياته(الفعلية والواقعية) تتفلت من بين يديه؟ يراها تشابه الحياة الافتراضية في هشاشتها وعدم ثباتها؟

ورغم أن محنة كهذه لا تؤدي بالضرورة إلى الإقرار بامتناع الكتابة المتلازم مع امتناع الحياة، لكن دخول الموت الفجائي والواقعي في أية لحظة لقطع الكتاب عن كاتبه يظل رغم كل شيء ثيمة أساسية في الكتابة نفسها، الكتابة العراقية التي تستحضر نهايتها في كل جملة وكلمة، وكأنها تراوغ بذلك القطع الفجائي الذي يمكن أن يحدثه الموت المجاني في الحياة العراقية مع أية لحظة.

 

الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا