|
||||
|
||||
معلوماتية |
||||
المجتمع المعلوماتي |
||||
يحيى اليحياوي* |
||||
تعرضنا في أكثر من مرة لظاهرة عصر المعلومات وقلنا بأن معظم الاقتصادات والمجتمعات المتقدمة أضحت مرتكزة على أنشطة (جديدة) في إنتاج وتخزين وصيانة وتوزيع واستهلاك المعلومات والبيانات والمعطيات، وقلنا بأن انفجار الشبكات الألكترونية وبرامج التشغيل والاستغلال والتخزين الملازمة لها إنما غدت القلب النابض الذي يجر وتيرة التنمية ومستويات الشغل بعدما لم تعد نماذج (ما قبل عصر المعلومات) قادرة على تحقيق ذات الوظيفة أو ضمان سيرورتها. وتحدثنا في أكثر من مرة عن الاقتصاد المعلوماتي وقلنا بأن المعلومات أضحت المحرك/الأساس لبنى الإنتاج والمصدر الأول في الرفع من قيمتها المضافة. وقلنا بأنه لأول مرة في التاريخ يشتغل رأس المال ليل نهار وفي زمن آني عبر الأسواق المالية العالمية، وبأن أسواق العمل لم تعد رهينة اليد العاملة البسيطة والمرتكزة على العضلات بل على اليد العاملة المكتنزة للكفاءة العالية، للتخصص الدقيق وللتكوين العالي والمستمر. وكتبنا أكثر من مرة عن مجتمع الإعلام والمعلومات واعتبرناه الإفراز الطبيعي لعصر المعلومات وللاقتصاد المعلوماتي والدال على دور المعلومات في المجتمع بنى تحتية وشبكات ومضامين أيضاً. وركزنا، بمحصلة (المجالات) الثلاثة على أن الذي يميزها مجتمعة إنما ثلاث صيرورات متلازمة لدرجة الاندغام: - الأولى وتكمن في الطفرة التكنولوجية الكبرى التي طالت كل مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية مفجرة من الداخل البراديغمات السائدة والمفاهيم القارة وممحورة في العمق لثنائية الزمن والمكان التي كانت تفصلهما أو تفصمهما أو تؤكد على تباين وتيرة كل منهما في الشكل وفي الجوهر. لم تعد المعلومات من هنا مجرد معطيات خام تتنقل بعسر داخل البنى الاجتماعية والاقتصادية الثابتة، بل أضحت بتات ورموز صيغت لإنتاجها وتخزينها وتداولها البرامج واللوجيسيالات وأنجع الشبكات. أما الصيرورة الثانية فتتمثل في نجاح هذه الطفرة (ونجاعتها أيضا) في (تثوير) المنظومة الرأسمالية وتحويلها التدريجي من رأسمالية مادية تهدف إلى تحقيق الإنتاج المادي المتسلسل إلى (رأسمالية معلوماتية شاملة) تعمل على خلفية من التخصص والمرونة والاندماج الأفقي وتوزيع الأدوار على فضاءات مختلفة ومتباعدة لكن متشابكة (من الشبكة). بالتالي، فالهياكل الإنتاجية (كما المستويات المؤسساتية الثاوية خلفها) لم تعد محكومة بالانتاج الضخم أو بالتنظيم الهرمي الجامد، بل أضحت تعمل (وفق الحاجة) وعبر أنظمة في الانتاج مبرمجة تهدف إلى تحقيق اقتصاديات النوع عوض مبدأ اقتصاديات السلم التي كانت طاغية طوال مرحلة الفوردية. - الصيرورة الثالثة وتتراءى لنا كامنة في تقدم واقع المنافسة الشاملة بتقدم الاقتصاد الشامل الذي يتخذ من كل أرجاء الكون فضاء له، بل يعتبره السوق الشامل. والمنافسة الشاملة المقصودة هنا لا تعني فقط تعميم التنافسية بكل الفضاء الكوني، بل أيضا تلك التي تفترض (إعادة التحديد المستمرة للمنتجات، لطرائق الإنتاج، للأسواق وللمدخلات الاقتصادية بما فيها رأس المال والمعلومات). هذه الصيرورات الثلاث هي التي نراها كامنة خلف قيام عصر المعلومات والاقتصاد المعلوماتي ومجتمع الإعلام والمعلومات. لكنها تبدو غير كافية، على الرغم من ذلك، لتحديد طبيعة وتوجهات المجتمع المعلوماتي. يختلف المجتمع المعلوماتي عن ثلاثية (عصر المعلومات والاقتصاد المعلوماتي ومجتمع الإعلام والمعلومات)، يختلف عنها مجتمعة في المعنى المقصود كما في التداعيات المترتبة عن ذلك. فإذا كان مجتمع الإعلام والمعلومات (وهو الإفراز الطبيعي للعنصرين الأولين من الثلاثية) يؤشر على دور الإعلام والمعلومات داخل المجتمع، فإن ذات الدور كان قائما منذ الأزل وبكل المجتمعات على الأقل باعتبار الإعلام والمعلومات إرسالا للمعلومات، إبلاغاً لها. بالتالي فلا ميزة، على الأقل من هذه الزاوية، للمجتمع الحالي عما كان سائدا بالمجتمعات السابقة ولن يكون حتما من ميزة له على اللاحقة وهكذا. بيد أن الفارق الأكبر بين هذا المجتمع والمجتمع المعلوماتي إنما كون الثاني (يميز شكلا معينا من التنظيم الاجتماعي حيث ابتكار المعلومات واستغلالها وإرسالها أضحى المصدر الأول للانتاجية وللسلطة بحكم الظروف التكنولوجية الجديدة القائمة في هذا الظرف التاريخي). بالتالي، وبقياس ذلك على المجتمع الصناعي (وهي عبارة معهودة بعلم الاجتماع) فإن هذا الأخير)ليس فقط مجتمعا يضم الصناعة، ولكن أيضا مجتمعا حيث الأشكال الاجتماعية والتقنية للتنظيم الصناعي تطاول كل الأنشطة إبتداء من الأنشطة المهيمنة والمتموقعة بالنظام الاقتصادي والتكنولوجيا العسكرية حتى الأدوات وعادات الحياة اليومية) الرائجة. وعلى هذا الأساس، فإن ما يود (مصطلح) المجتمع المعلوماتي التأشير عليه (والتأسيس له أيضا) إنما التصور بأنه بصرف النظر عن ملاحظة مدى أهمية الإعلام والمعلومات بالمجتمع، فإن الأهم منه إنما ملاحظة التحولات الحالية الطارئة على نظم الإنتاج وعلى هياكل السلطة مفسحة بذلك في المجال لما يسميه مانويل كاسطيل (المجتمع الشبكي). يقول كاسطيل بهذا الخصوص: (إن الشبكات تمثل المرفولوجيا الاجتماعية الجديدة لمجتمعاتنا وإن نشر المنطق الشبكي يحدد إلى حد بعيد مسلسلات الإنتاج والتجربة والسلطة والثقافة). ويستطرد: (صحيح أن التنظيم الاجتماعي الشبكي كان موجودا في عهود وأماكن سابقة، لكن الجديد اليوم أن البراديغم الجديد لتكنولوجيا المعلومات وفر القاعدة المادية لتوسعه ليطاول البنية الاجتماعية برمتها). بالتالي، فنحن هنا بإزاء (مجتمع جديد) بشروط تكنولوجية وتنظيمية واقتصادية جديدة متمحورة حول نمط رأسمالي في الإنتاج (جديد) يحدد، ولأول مرة في التاريخ ربما، العلاقات الاجتماعية على مستوى الكون برمته. هو نمط في الإنتاج جديد ليس فقط لأنه ثاو خلف علاقات اجتماعية جديدة وليس فقط لأنه يشمل الكون قاطبة، ولكن أيضا وبالأساس لأنه مهيكل حول مجموعة من الشبكات متداخلة تنتقل المعلومات والبيانات والمعطيات بداخلها بسرعة الضوء. ومعنى هذا أن (الوظائف المهيمنة إنما أضحت منظمة على شاكلة شبكية محيلة على فضاء للتيارات يربط بعضها البعض على المستوى الكوني مع العمل على تجزيء الوظائف والفاعلين التابعين في فضاء مجزأ إلى أماكن معزولة، منفصمة بعضها عن البعض الآخر). لا يتعلق الأمر هنا بالمجتمع كوحدة ماكروتحليلية كبرى، بل وأيضا بمكانة السلطة ودور الثقافة في إعادة ترتيب العلاقات الاجتماعية بين الأفراد كما بين الجماعات. وعلى الرغم من التجسد المتزايد (والملاحظ إلى حد بعيد) لـ(ظاهرة) المجتمع المعلوماتي (قياسا إلى باقي الثلاثية) فإن الثابت أن ذات الظاهرة إنما تعكس محدودية في شكل الطرح كما في جوهره سواء بسواء: - أما المحدودية الأولى فتتعلق بمكانة التكنولوجيا داخل المجتمع وطبيعة الجدلية القائمة فيما بينهما والتي غالبا ما تثار على خلفية من أطروحة (التحديد التكنولوجي) لذات المجتمع. قد لا يكون ذات الأمر مثار إشكال من الناحية النظرية الخالصة، لكنه ذو تداعيات عميقة على مستوى واقع الحال الجاري. وإذا أضحى من المسلم به (من الوجهة النظرية أساسا) أن التقنية (أو التكنولوجيا) لا تحدد طبيعة المجتمع ولا المجتمع بقادر دائما على تحديد وجهة التحول التكنولوجي، فإنه من المسلم به أيضا أن المجتمع إنما يحتضن التكنولوجيا...يحميها. بالتالي، فالمجتمع لا يحدد قطعا الإبداع التكنولوجي بقدر ما يستعمله، يستخدمه لدرجة التوظيف في العديد من الحالات (من لدن السلطة كما من لدن الإيديولوجيات الأخرى). العبرة هنا ليست بملاحظة من يحدد الآخر بقدر ما هي بالاستخدام والاستعمال والتوظيف. يقول كاسطيل: (إن معضلة التحديد التكنولوجي هي لربما مشكل خاطئ مادامت التقنية هي المجتمع ومادام فهم المجتمع أو تمثله لا يمكن أن يتما دون أدواته التقنية). - أما عنصر المحدودية الثاني فيكمن في حقيقة أن المجتمع المعلوماتي لا يستنبت أو يتكرس من تلقاء نفسه كحركية للمجتمع جديدة، بل هو نتاج تحولات كبرى تتجاوز البعد التكنولوجي الخالص لتطال أبعاداً أخرى في مقدمتها البعد المؤسساتي. فإذا كان المجتمع لا يحدد التقنية (فإن بمقدوره، من خلال الدولة، خنق نموها أو عكس ذلك (ودائما بمبادرة من الدولة) الانخراط في مسلسل سريع للعصرنة من شأنها تحويل وضعها الاقتصادي والعسكري والاجتماعي في بضعة أعوام)...ولعل حالة الانترنيت في هذا الباب عنوان دال على قدرة (أو عدم قدرة) المجتمعات على التحكم في التقنيات سيما تلك التي لها تداعيات استراتيجية كبرى. - أما العنصر الثالث في محدودية طرح المجتمع المعلوماتي فيكمن في البعد الثقافي الذي غالبا ما لا يبرز إلا كعنصر مساعد لا قدرة لديه على تحديد طبيعة ذات المجتمع ولا توجهاته ولا وتيرة السير التي يمشي بها. قد يبدو الأمر كذلك لأول وهلة على اعتبار انفجار تيارات المعلومات واستبداد الاتصال، لكن الثابت أن المجتمع المعلوماتي قد أفرز (ثقافة جديدة) خاصة به لا يجد (كاسطيل) غضاضة في تسميتها بـ)الثقافة الإفتراضية) المقتنية للشبكات والمتجاوزة لثنائية الزمان والمكان التي لطالما حكمت المجال الثقافي. * كاتب وأكاديمي من المغرب |
||||
|