الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا

  فكر ومعاصرة

نقد سلطة المعرفة

(الحداثة والتراث في مقاربة جديدة)

 وليد المسعودي

تتحدد سلطة المعرفة في المجتمعات العربية الإسلامية من خلال وظيفة الفاعل الاجتماعي ذي الوجوه المتعددة والذي يشمل السياسي والثقافي والاقتصادي، بحيث يغدو المجتمع ذاته غير قابل إلى تمثل المعرفة إلا ضمن سياقات النموذج السائد ضمن ذلك المجتمع.

فإذا كان طابع المعرفة مؤسسا دينيا من خلال المهيمن الاجتماعي لرجل الدين داخل المجتمع من خلال ارتباط الأخير بالسلطة السياسية والثقافية والاقتصادية، فإن نموذج المعرفة يغدو مكونا ضمن سياقات تبثها الحقيقة المؤدلجة دينيا وضمن مصالح ومنافع التيار السياسي الديني، كذلك الحال ضمن السياق الشمولي للمعرفة المؤسس من خلال نموذج الدولة ذات الطابع النهائي للمعرفة والحقيقة والتي تم استنساخها لدى اكثر الدول العربية والتي تشي بطابع هيمنة الاستبداد متمثلا بدور الفرد الواحد والحزب الشمولي الوحيد داخل نظام الفعل الاجتماعي والسياسي لدى هذه الدول، وهكذا في كل الأحوال تغدو للمعرفة سلطة نهائية مبثوثة ضمن تيار الوعي السياسي الديني أو العلماني المؤدلج ضمن خيارات طرد الدين من المجتمع بشكل أيديولوجي صرف بعيدا عن أهمية التقديس في حياة المجتمعات البشرية برغم سوء الاستعمال الرمزي لذلك التقديس على مر العصور من خلال المهيمن السياسي الديني.

إن المجتمعات العربية الإسلامية تخلو من سيطرة الأبعاد الثقافية التي تشي بطابع الاختيار الحر والممنهج ضمن سياقات التطور التاريخي الزمني لدى هذه المجتمعات وذلك لكون الفعل الثقافي وعملية إحداث لغة جديدة من الفهم والتقبل والتجديد غير مؤسسة في ذهنية هذه المجتمعات بفعل انعزالها عن كل ما هو جديد، بحيث أصبحت الذات تعاني الاغتراب بين تاريخها الثقافي ومنجزاتها الحضارية في الأزمنة الغابرة وبين المنجزات الحديثة التي أنتجتها الحضارة الغربية، حيث لم تأت الحداثة إلى مجتمعاتنا إلا وهي مصاحبة لوجود الاحتلال المباشر من قبل القوى الإمبراطورية السلطوية المؤسسة لنماذج ثقافية ترتبط بالضرورة بمصالحها وما تملك من جاهز ثقافي معين من شأنه أن يدعم المصالح الاقتصادية لديها ويفتح الأبواب أمام أسواقها وتجارتها ومن ثم تكوين فائض قيمة مستمر ومزدهر بشكل دائم، هذا ما بدأته اكثر الإمبراطوريات الاستعمارية الحديثة، فالحداثة العربية في نهضتها الأولى بدأت مع الاحتلال الفرنسي لمصر الأمر الذي جعل المجتمعات العربية الإسلامية تنتبه إلى تعثر الزمن لديها وتكلسه ضمن قابليات واحدة في التفكير والرؤية والتعامل الوجودي والاجتماعي، حيث ظهرت الرحلات الاستكشافية للغرب الحديث حينئذ من خلال رفاعة رافع الطهطاوي الذي دهش كثيرا بما توصل إليه الغرب من تطورات ومنجزات حديثة استطاع الغرب المعاصر أن يحصل عليها، وهكذا الحال مع الحداثة التي يراد لها أن تؤسس ضمن أزمتنا المعاصرة التي جاءت من خلال الاحتلال أيضا والذي يحمل بدوره بوادر التغيير لدى المجتمعات العربية الإسلامية التي ابتليت بدول متخلفة وعاجزة حتى عن تكوين رأسمال وطني مزدهر، ومن ثمة إحداث عملية الاستقلال النسبي عن سيطرة الأنساق التي يحملها السلطوي العالمي المرتبط بهيمنة الشروط الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية التي يمتلكها.

إن الطبقات التي تحكم نماذج المعرفة في مجتمعاتنا منها نستطيع أن نحددها من خلال ثلاث طبقات، الطبقة الأولى للثقافة ما هو مترسب لدى الذاكرة المجتمعية بفعل الديمومة الطويلة للثبات القيمي والفكري الذي لا يدعو إلى التغيير بقدر ما يؤسس الجمود والمحافظة الداخلية، وهذه الأخيرة لا تحتوي القدرة على الفهم بشكل تاريخاني مدرك بقدر الارتباط بقدرة الأفراد على الإحاطة والشمول والتأثير في مقدرات الأفراد عموما بدءا بالأسرة وما يفعله الأب من تأثير سلطوي شمولي ضمن خلية العائلة العربية وانتهاء بالزعيم الأوحد الذي يغرق الحشود ضمن ثقافته وإطاره ونموذجه.. الخ، هذه الطبقة تعمل على إحداث وعي زائف شعاري مؤدلج على اكثر الأفراد داخل المجتمع، أما الطبقة الثانية للمعرفة فتكمن بقدرة الهامش الفكري والثقافي للحديث غير المؤصل فيه رغبة الذات في المساءلة والمحاكمة بقدر الاندماج والتماهي مع الصور المنجزة خارج نسق الذات والمرتبط بالذات الغربية الحديثة، هذه الطبقة تكاد تغلف الأكثرية المجتمعية ضمن بيئة بشرية معينة، هذه الطبقة المعرفية تشكل حضورها من خلال سيطرة الهامش المعرفي الذي تبثه اكثر المؤسسات الثقافية التي تغيب الواقع الاجتماعي وما يحمل من استلاب وعجز بشري من حيث التغيير والإصلاح، هذه المؤسسات تؤكد خيارات معينة في المعرفة والسلوك والاختيار من خلال واجهات أو لافتات ترتبط بالفن والرياضة والأزياء.. الخ.

 

الوعي والمجتمع

هناك الطبقة الأخيرة غير مشكلة بشكل حقيقي وناجز تحاول أن تدشن وعيها داخل المجتمع من خلال الإنجاز الذاتي للأفكار والأيديولوجيا والتصورات والأطر المعرفية، هذه الأخيرة تحاول أن تحدث تراتبا معرفيا متوسطا بين الثقافة التي يملكها المجتمع مع الغربلة وممارسة النقد والتجاوز لكل ما هو معطل لتشكيل الخيار المجتمعي الإنساني من معرفة وحقيقة وبين الشكل الحديث المؤسس من خلال التلاقح والتطابق المعرفي المنجز بشكل نقدي عقلاني مدرك من قبل الذات المجتمعية، وهذه الأخيرة لا يمكن أن تؤكد دورها من حيث التأثير والقبول المجتمعي إلا من خلال زحزحة الشروط التي أنتجت الطبقتين الأوليتين برغم صعوبة ما نقول بسبب سيطرة التاريخ السلطوي لكلا الشكلين الأمر الذي أدى إلى تجذير الفراغ المعرفي والثقافي داخل المجتمع من خلال وجود القطائع المعرفية مع مبتكرات الذات بشكل معرفي ثقافي وكذلك مبتكرات الذات الغربية من منجزات ثقافية ومعرفية.

إن عملية الزحزحة هذه لا تتم إلا من خلال تشييد المنجز المعرفي الجديد لدى الذات العربية الإسلامية من خلال الانتصار لجاهزية القرار السياسي لدى إرادة هذه الشعوب، ومن ثم انبثاق الصور التي لا تؤسس التبعية والانصهار ضمن بوتقة الآخر بشكل عبثي غير مدرك من خلال تكوين الأطر المعرفية التي تتبنى الفعل الثقافي الذي يؤكد نسبية الأفكار والقيم داخل المجتمع ومن ثم يحدث منظومة جديدة من التسامح وتقبل الآخر الإنسان بعيدا عن إطار الهيمنة والشمول المعرفي والقيمي، هذا المنجز المعرفي مصاحب لمنجز سياسي اقتصادي داخلي يؤسس لتراتبيات تعمل على إلغاء الطبقات المعرفية التي تشي بطابع الشمول أو تلك التي تؤكد الهامش أو السطح بشكل غير عقلاني ومدرك من قبل الذات المجتمعية.

 

إنتاج التسامح يؤدي إلى زوال

سلطة الاستبداد

التسامح كبنية اجتماعية قائمة على الاعتراف بالإنسان وجدت مع المجتمعات الحديثة من حيث المضمون والمحتوى، وذلك بعد عقود طويلة من الصراع بين القوى القديمة التي تدعم شكلا ثابتا من المعرفة والسلطة يسوغ المكتسبات المادية التي تحصل عليها، وبين القوى الجديدة التي تجد في التسامح كبنية تعامل وجودي من الممكن أن يقود إلى أشكال مختلفة وأكثر استيعابا لحاجات ورغبات الإنسان، كل ذلك تم في أوروبا إبان نهضتها الحديثة بين القوى التي كانت تدعمها طبقات الإقطاع والنبلاء ومن يقف إلى جانبهم من الكهنوت، طبقة رجال الكنيسة الذين يفضلون دائما عناصر المحافظة والركود على عناصر الحركة والتغيير وبين الطبقة البرجوازية الصاعدة التي أنتجت الحريات وكانت مثالا كبيرا لمفاهيم حرية الرأي والفكر والعقيدة، وجد من يتمثلها ضمن قواعد اجتماعية وثقافية مدعمة من قبل مجموعة من الكتاب أو الأجيال الفكرية متمثلة بفولتير ومونتسكيو وروسو في فرنسا ولوك وبيركلي وهيوم في بريطانيا وغيرهم من المجاميع الكتابية التي دعمت كثيرا الطبقة الناهضة وعملت على توفير الأجواء الحديثة لثقافة التسامح بمعناها الحديث. هذه الثقافة وجدت ضمن آلية حديثة اتبعتها اكثر الدول الأوربية من اجل تمرير الوازع الكبير بالنسبة لهذه الثقافة ألا وهو حرية التجارة، وهذه الأخيرة عبرت القيم وعملت على إنتاج الاستبداد خارج المجتمعات التي لم تؤهلها مجمل الظروف المحيطة بها من سياسية واقتصادية وثقافية أن تغدو منافسة لثقافة التسامح المسوغة من قبل الطبقة البرجوازية الصاعدة، بحيث عملت هذه الطبقة كنموذج حداثي في أوربا على تصدير الهيمنة إلى البلدان والمناطق غير المستكشفة بعد من حيث منابع الثروة والخيرات التي تفضلها كثيرا هذه الدول الصاعدة ويمكننا أن نعطي مثالا على ذلك في بداية تأسيس الحريات الأولى ألا وهو المتعلق في كيفية تعامل الإمبراطورية الأسبانية مع الأقوام التي تم السيطرة على بلدانها فها هي تعمل على رفع الحواجز من اجل تجارتها بقوة السلاح واصفة ذلك بالحق الطبيعي الذي وهبه الله إلى المجتمع المتمدن أي المجتمع الحديث متمثلا بالإمبراطورية الأسبانية ومجتمعاتها، وما كان نصيب هذه المجتمعات، أي في الإمبراطورية، هو التسويغ بأن هذه الأقوام بدائية وتشكل مصدرا مقلقا لمصالحنا ومن ثم ما يجب فعله هو شن الحرب والغزو والسيطرة، ذلك منطق الإمبراطوريات المتتالية من فرنسية وبريطانية وأمريكية في زمننا المعاصر حيث نجد المجتمع الأمريكي ضمن طبقاته يعي أن أمريكا تريد نهب الخيرات والثروات، ولكن هنالك ما يسميه جومسكي بصناعة الموافقة والتسليم لدى الوعي الأمريكي الحديث، حتى يظن بشكل صادق إنه يحمل مهمة " أبو ناجي " القديمة المرتبطة بخلاص العالم وبناء الأسس الجديدة القائمة على الحرية والتسامح وبناء منظومة من القيم تسهل تمرير المصالح والغايات لدى الطبقات الناهضة.

ذلك منطق التسامح، ولا ريب انه يحمل لدى المجتمعات الحديثة الكثير من الإيجاب والمكتسبات المتعلقة بالتمدن والعصرنة وبناء الإنسان ضمن منظومة السلطة القائمة على توزع المعتقدات بشكل يضمن التعايش والقبول وتأسيس جوانب الانسنة في ما بين المختلفين عقائديا وفكريا واجتماعيا، ولكن للنظر إلى المسألة بشكل أعمق من خلال قدرة الإمكانات المادية المتاحة هل تستطيع هذه الإمكانات المادية في مجتمعات يسودها الفقر والجوع والعوز أن تنتج ثقافة للتسامح؟ أليس هذه الأخيرة قائمة بالدرجة الأساس على مجتمع استهلاكي وذي" فم مفتوح" كما يعبر أريك فروم في ذلك أي مجتمعا مرحبا لكل ما هو مستطرف ودنيوي يؤدي إلى زوال سلطة الاستبداد المادي المباشر من قبل الدولة لينتج في ما بعد سلطة جديدة من التعامل متمثلة بسلطة التسامح التي تبثها المؤسسات، وهنا مؤسسات يتحكم بها الأفراد المالكين للثروة والإمكانات المتاحة، هذه المؤسسة تجعل الأفراد والمجتمعات في عزلة ليست مادية وإنما عزلة معنوية عن التفكير الجيد والأصيل وعن الأشكال غير المرتبطة بالزيف، ومثالنا على ذلك مؤسسات الثقافة والإعلام والفضائيات المعاصرة التي تتحكم بسلوك الأفراد ومن ثم تنتج العزلة المعنوية، وذلك بشكل نسبي وليـس ضمن دائرة المطلق.

إن التسامح إذا تمثل ضمن مؤسسات ومجتمعات غير منتجة للقوالب الثقافية سـوف يقود إلى ولادة كل ما هو جديد مرتبط بقـدرة الإنسان على المزيد من الحركة والتحـرر، ومن ثم لا يعد ذلك الأخير، أي التحــرر، تابعا للإمكانات المادية المتاحة، بحيث يتوفر لدينا الرفاه والعقل والتغيير ضمن سلسلة دائمة من الإمكانات الوجودية البشرية غير المرتبطة بنفي الإنسان من خلال الاغتراب الذي يسببه تأثير وقدرة رأس المال وسيطرته على المجتمعات التي تعيش إلى جانب الهوامش والأطراف ضمن سلم المجتمع.

إن مفهوم التسامح الذي نطرحه يعمل على ذوبان سلطة الاستبداد ويعمل على ذوبان سلطة المؤسسة التي تباشر الانحسار على وعي الإنسان معرفة وسلوكا وخيارا ثقافيا ومن ثم هنالك القواعد الدائمة للبناء والتغيير، وذلك التسامح في مجتمعاتنا بحاجة إلى الانبثاق الأولي لثقافة الحريات كسلوك دائم ومن ثم يتم السعي إلى ولادة المجتمع العقلاني، المتطور خدمة لأكثر الطبقات داخل المجتمع وليس خدمة لأقلية معينة تنتصب ضمن سلم السيطرة والتحكم بجميع مجريات الوجود الاجتماعي والثقافي لدى الإنسان، بالرغم مما نعانيه من فقدان حقيقي لمنابع التسامح بشكلها الحديث المرتبط بالاعتراف بالهوية الفردية والثقافية لدى الفرد، في مجتمعات أثقلت تاريخيا بنماذج الحضر وتأسيس تابوات من الفوضى العقائدية شملت الكثير من الحشود والجماهير. إن ثقافة التسامح بحاجة إلى تكوين مجالات متعددة كي تسود وتواصل حضورها داخل مجتمعاتنا المختلفة والمؤدلجة سياسيا وثقافيا نتيجة التبعية لمختلف النماذج التي يقودها الأفراد ويشكلون وعيهم من خلال جاهزية المكتسبات والخيرات المادية فحسب، هذه الثقافة تعمل على ضمان وصول الأفراد إلى مستويات من الثقة الاجتماعية بالأفكار والقيم ومن ثم كل ما هو مصدر للعنف والإقصاء ينتمي إلى خائة النبذ والرفض بعد أن يتم هضم المختلف عقائديا وسياسيا من خلال قدرة الإمكانات المتاحة وشمولها بالمســتوى النسبي لدى الأفراد عموما.

 

الحداثة والتراث في مقاربة جديدة

يعد الكلام عن الأفكار داخل المجتمعات التي عطل فيها دور العقل والسؤال أمرا يدعو إلى الرفض والإدانة، وذلك لان الكلام عن الأفكار يعني تقسيم العالم إلى صور ومدركات وعناصر تسجل الحضور لدى مخيلة الإنسان ومن ثم هنالك القدرة على الزحزحة الداخلية التي تجري داخل الذهن، هذه الزحزحة تتعلق بما هو سائد ومباشر اجتماعيا بشكل سلبي وغير قائم على العقل، وهنا لنتساءل عن القدرة على الكلام والتأثير المجتمعي للفكر كل ذلك يتم من خلال تحديث الأفكار الاجتماعية أم ترسيخها أي تأبيد عوامل ومحركات انبثاقها الأولى وما جرى من قراءة مستمرة ومتغيرة لهذه الأفكار التي تحيط وتشمل المجتمع أي من خلال قراءتها بشكل لا يخدم التجديد، وإنما إضفاء الهيمنة الوجودية لدى جاهزيات مطلقة يسوغها السياسي الاجتماعي السائد ضمن زمان ومكان معينين؟

إن الحداثة من الممكن أن تجر المجتمع إلى الركون إلى مطلقات لا تؤسس الخيار الاجتماعي، وخصوصا إذا كانت هذه الأخيرة غير مرتبطة بالذات ومدى تردداتها نحو التجديد أي أنها حداثة فوقية لا تمت بصلة للجاهز الاجتماعي بحيث يكون الشكل السياسي الاجتماعي الجديد مشوها أو حاملا للفوضى كما هو ماثل لدينا في العراق من خلال جاهزية الديمقراطية التي عبرت إلينا بشكل قاري(القارات) أي من خلال قدرة الهيمنة التي يبثها السلطوي الجديد وما يحمل من تراتبيات قيم معينة يراد لها التأسيس والحضور على حساب ذواتنا المحلية المصابة بعقد التاريخ السلطوي الاستبدادي، من هنا نقول إن ذلك لا يمثل حداثة ناجزة بشكل حقيقي ومشروع بل هو استمرار عبثي لترددات الغير ومن ثم يشكل غياب المشروع المحلي إشكالية كبيرة تدعو إلى الاستعجال في تحقيقها مجتمعيا وليس من خلال قدرة الفرض الفكري المصاحب لقدرة السياسي السلطوي، هذه الحداثة لا تشكل سوى تحديث عاجز عن إدراك التاريخ ومن ثم الخروج من السياج المغلق الذي يشمل جميع المحركات التي تسيطر على قابليات إنتاج الجديد بما يخدم المجتمع ولا يؤسس الارتداد أو الرفض والإدانة، وذلك لأن الأفكار إذا أريد لها الانبثاق والصيرورة، ومن ثم التواصل بشكل مستمر ينبغي لها أن تكون غير مؤسسة في مجتمعات تعاني القطيعة النهائية مع تراثها والقطيعة النهائية مع الحداثة التي ينجزها الآخرون، كل ذلك يؤدي إلى ضياعنا ومن ثم الانزواء ضمن بوتقة الآخر وتمثل السطح لديه وليس تمثل الذات بشكل واع ومدرك ومميز وقادر على تشكيل الإطار الاجتماعي السياسي الجديد.

إن الحداثة لا تتم إلا من خلال تتريث العالم بشكل يدعو إلى السؤال والتغيير أي الدخول إلى التراث والحداثة معا من خلال قدرة الذات الصراعية المتحاورة والمتكاملة والتي لا تشوبها عوامل الرفض والانغلاق ومن ثم القدرة على صياغة وبلورة الجديد المؤسس اجتماعيا، كل ذلك قائم على ما هو سياسي ثقافي واجتماعي ناجع وغير مرتبط بمجمل التشوهات التي ترسخها التبعية والانغلاق على العالم الداخلي لدى المجتمع، فمجتمعاتنا العربية الإسلامية بعد(دولة الاستقلال) لم تنتج سوى التبعية المباشرة سواء لقدرة الزعيم المهيمن والحزب الشمولي أو التبعية للآخر بشكل يلغي إمكانات الذات والقدرة على التنمية الحقيقة غير المصابة بلغة التبجيل والزيف التي كانت تبث من قبل الدول بعد الاستقلال، بحيث روجت الكثير من الأساطير حول الآخرين وحول الحداثة ذاتها، بأنها استعمارية برجوازية ينبغي استئصالها ومحوها من المجتمع وهكذا بدلا من أن تظهر قيم المجتمع المدني المتسامح الذي تسوده الحريات بمختلف أشكالها المتعلقة بالمعتقد والضمير والرأي والسلوك والاختيار ظهرت لدينا قيم الحزب الطليعي الذي يقود الجماهير بشكل حديدي صارم، وهكذا الأمر الذي أدى إلى تعطيل الحداثة والتطور المجتمعيين من خلال جاهزية الشمول القيمي المطلقة التي عملت على ترسيخها(الدولة القومية) التي عملت على تمجيد الذات بشكل دعائي زائف من خلال هيمنة الخطابات الحزبية التي يروجها المتنفذون في مجال الإعلام والثقافة ضمن الدائرة السلطوية لطبقة النظام أو السلطة، بحيث كانت هذه الأخيرة منقسمة من حيث ظهورها الإعلامي بين الشعارات والمفاهيم التي تبثها بشكل ازدواجي عن الحرية والتقدم والوحدة.. الخ وبين تعاملها المباشر مع مجتمعاتها من خلال لغة الاستلاب بمختلف أشكاله السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

فالتراث اليوم يشكل غيابا محضا عن ذاكرة المجتمعات وما موجود لا يمثل ذلك التراث بقدر ما يمثل ذلك الفراغ الذي عملت على تأبيده السلطة الشمولية داخل المجتمع، وهنا لا نقصد أن سلوك المجتمع لا يتحدد من خلال محركات الهامش أو السطح من التراث بقدر ما نقصد، انه لا توجد هنالك آليات للفهم والاستيعاب لطبيعة ذلك التراث ومدى تغلغله في الذاكرة المجتمعية بالشكل الذي لا يكون لدينا صورة ضبابية غير مدركة عن ذلك التراث ومن ثم يصبح مع مرور الزمن وكأنه غير منجز بشكل تاريخاني أي لا يشوبه تأثير الأزمنة والأمكنة والمتغيرات الاجتماعية والسياسية، وهكذا مع الحداثة ذاتها أي أنها تدخل بشكل ضبابي سطحي غير مدرك وهامشي وتغرز كجزء في سلوك الأفراد والمجتمع فالاهتمام على سبيل المثال بالأزياء الحديثة كاختيار وسلوك مجتمعي لا يتم من خلال الإدراك للحديث منها أي تمثلها من حيث المنشأ والأصل بل من خلال الانزواء بشكل نسقي سلطوي على وعي الأفراد عموما وهكذا مع الظاهرة الاجتماعية التي تدعو الناس إلى الاجتماع الديني حول قضية معينة فأنه لا يتم من خلال تمثل الدين ضمن السلوك الجمعي بقدر ما يصاحب هيمنة الخطاب السياسي الاقتصادي الذي يغطي ويسيطر على المجتمع من قبل الديني، وهكذا نقول إن الدخول إلى الحداثة لابد أن يرافقها الدخول إلى التراث وقراءته اجتماعيا بشكل يدعو إلى الحوار والصراع المنبثق من إرادة المجتمع بلا تخل لطرف على حساب الطرف الآخر، فعملية نبذ كل ما هو قديم يؤدي إلى الوقوع في أيديولوجيا المنتصر الذي يريد أن يؤسس خياراته فحسب وعملية نبذ كل ما هو جديد يعني الوقوع ضمن شرك الذات المحلية المؤسطرة والخائفة من الآخر الذي يترقبها بشكل مستمر، وهكذا تغدو العملية ذاتها مع القبول المطلق لكلا الحالتين.

أن الدخول إلى الحداثة يعني الدخول إلى الزمن المعاش ومن ثم تأسيس خيارات الإنسان المعاصر المسيطر على مجمل التطورات التي تحيطه بحيث يغدو الزمن ذاته ملكا حقيقيا لدى الإنسان، كذلك الحال مع التراث فالدخول إليه ينبغي أن يتم وفقا لذات السياق بلا قدرة لنفي نقيضه أي الدخول إليه وفقا لآليات الحداثة ذاتها من اجل إدراك العالم وتجاوز الكثير من الركود الذي أصاب ذواتنا من خلال لغة الحوار وصراع الأضداد بشكل سلمي تضمنه الدولة التي يسودها عقل التســامح وإدراك العالم ضمن نسقية التــغيير والبناء المجتمعيين.

 

الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا