الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا

   قضايا العصر

التحكم بالحدث

 من تدمير برجي نيويورك الى تدمير قبتي سامراء

سعد سلوم

 هناك وجهتي نظر للتاريخ: الاولى فوضوية ترى ان السياسيين تقهرهم الاحداث وسلسلة تراكماتها وتدافع المعلومات في حيز زمن الاحداث اليومية و تداعيات المعاش ووزخم الآني بحيث يصبحون محمولين على ظهر الاحداث المتسارعة ونظامها الايقاعي السريع، عالم هذا التاريخ هو ما يطلق عليه المؤرخ والفيلسوف الفرنسي (بروديل) التاريخ الحدثي ذي الايقاع السريع

والثانية قصدية ترى ان زخم الاحداث وتدافعها ما كان ليتخذ وجهة معينة لولا تدخل الارادة البشرية التي وأن لم تصنع الاحداث فأنها تجعلها تتخذ وجهة معينة. وينفتح هنا مجال التحكم بالحدث حسب مستوى وعي الساسة بحجم ونوع الحدث وموقعه على رقعة الشطرنج العالمية وطبقا لمدى فاعلية صانعي القرار وادراكهم لمستوى البنيات العميقة المتحكمة بالاحداث وتحولاتها غير الظاهرة وهنا ندخل في حيز التاريخ اللاحدثي ذي الايقاع البطيء على حد تعبير بروديل.

لتوضيح ذلك أضرب مثالين: الاول يخص المشهد العالمي والثاني يتعلق بالمشهد المحلي على الرغم من ايماني بوحدة المشهدين على مسرح العالم الذي تتالى فيه الصور والمشاهد دون رابط منطقي واضح لكنها كالكلمات المتقاطعة التي تحاول ملىء فراغاتها ما دمت تثق بأن هناك شخصا ما قام بوضعها، بمعنى إن هناك وعيا يكمن خلفها وخطة مرسومة تجري بموجبها وفراغات التفسير المتروكة يملئها الزمن البطيء الذي يضفي طابع المعقول على أشد احداث العالم غرابة وطابع القصدية على اكثر حوادث التاريخ عفوية، وبذلك يرتبط (الحدثان-المثالان) على مستوى البنية العميقة المتحكمة بالاحداث، واقصد هنا حدث تدمير البرجين التؤام في نيويورك وحدث تدمير القبتين المقدستين في سامراء.

في 11 ايلول 2001 لو حكمنا بناء على معطيات الحدث وفقا للايقاع السريع لذهبنا الى ان الولايات المتحدة تشهد زمن آفولها كدولة عظمى لكن بعد مرور اعوام (2001-2006) واحداث (احتلال افغانستان واحتلال العراق) متصلة بالحدث الاول المنتج (تفجير البرجين) اتاحت رؤية البنية العميقة للحدث ومخرجاته التي امتدت على نطاق العالم ومعانقة الحدث آلاني ذي الايقاع السريع لفضاء الزمن المفتوح على المستقبل جعلتنا ندرك الوجه الاخر من العملة اذ ان الاحداث الكبرى (المنتجة أو الحاسمة) اذا اتخذت طابع اللامتوقع فأن مستوى ادراك القادة وصناع القرار قد يعجل بوقوعها أو يسهم في جعلها تتخذ مسارا معينا أويدفع بها لاثبات وترسيخ نقيضها (النظام ينبثق من الفوضى).

الطابع الجدلي للحدث المنتج يعمق صعوبة ادراك هذا الشعار الذي يلخص مدخل التحكم البشري بالحدث (الازمة تؤدي الى الفرصة). الاحداث هنا يعاد بناءها كجسر يؤدي الى نظام للتحكم بها فتوظف بحيث تنتج نقيضها (اعادة انتاج الحدث وتوظيفه) اذ يعاد مثلا انتاج الهزيمة الى نصر وترجمة الهيمنة الى شرعية وتحويل العدوان الى دفاع عن النفس.

يمكن قياس ذلك على حدث تفجير القبتين في سامراء فهذا الحدث المنٌتِج مثل حجر ضخم سقط في بحيرة الادراك اللامتوقع أثار العديد من الدوائر المتداخلة على سطح الاحداث وكأنه انبثق من العدم ليزلزل استقرار البلاد ويتخذ معه مسار الاحداث انعطافة نوعية خطيرة مما قاد البلاد الى اعتاب الحرب الاهلية وما زلنا الى يومنا هذه نتعرض لشتى التأثيرات العنفية التي فجرتها التحولات غير الظاهرة للحدث وحتى نهاية عامنا الان سنظل نشهد المخرجات الناجمة عن البنيات العميقة المتحكمة بمثل هذا الحدث المفتوح على اللايقين الا اننا نستطيع تأشير عدد من الاستنتاجات منها:

-كشف الحدث ضعف مركزية السلطة ووجود العديد من السلطات الموازية لسلطة الدولة وهشاشة ادارة الازمة على المستوى الرسمي والحكومي

- أشر الحدث ضعف فاعلية المرجعيات الاجتماعية الفاعلة في التحكم بمجرى الحدث على خلفية من تعدد الفاعلين في البيئة السياسة الداخلية للعراق:التيارات السياسية المتنوعة، الميليشيات، الجماعات المسلحة، المرجعيات الدينية..الخ وتعدد الفاعليين الاقليميين من دول الجوار الجغرافي: ايران، سوريا، دول الخليج، ومحورية الفاعل الدولي وضابط الايقاع العالمي: الولايات المتحدة.

- عدم توقع الحكومة لمثل هذا الحدث وعدم استعدادها وقدرتها على ادارة الازمة الناجمة عنه مؤشر خطير (على المستوى الوطني والاقليمي والكوني) في حالة تكرار الحدث في اماكن مقدسة اخرى (ليس في داخل العراق فحسب بل في السعودية –مكة- وفلسطين –القدس- على سبيل المثال ) بحيث اننا ربما نستعير من خيال الجنون لكي نتوقع نظام التعاطي مع الحدث اللامتوقع المقبل وممكنات الادارة اللازمة له والقوانين الجيوسياسية الحاكمة لانبثاقه وتطوره انه مؤشر على مستوى الحرب الكونية الشاملة او حرب نهاية العالم (هرمجدون بتعبير لاهوتي).

هل يكون حدث تفجير القبتين بدلالة حدث تفجير البرجين مؤشرا واضحا وعلامة على العامل الحاسم في حدث الاحداث الذي يرسم صورة النهاية القصوى للبشرية ؟.

ربما لاينقصنا سوى تدخل بشري واحد، خطأ أرادي او غير مقصود من صانع قرار أو قرار ارعن صادر من ارهابي مختل يتضافر مع حدث ما ليزج بنا في الجحيم.

يريد منا المؤرخ البارع اريك دورتشميد في كتابه الرائع (دور الصدفة والغباء في تغيير مجرى التاريخ) أن لا نصدق المؤرخين حين يذهبون الى ان المعارك تكتسب ببسالة و ألمعية سادة الحرب فليس هناك في نظره وصفة سرية لنهاية معركة مظفرة عدا انها تعتمد على حدث يرتكب فيه الخطأ الكبير الفادح وباختصار يرى دور تشميد ان كثيرا من المعارك حسمت بفعل عامل لا يمكن التنبوء به وهذه الظاهرة تسمى وفق المصطلح العسكري(العامل الحاسم)

العامل الحاسم أو دعنا نسميه الحدث الحاسم يقود الى الكارثة وتزخر سجلات الحروب حسب دورتشميد بأمثلة تثبت الفشل في كثير من الحالات ليس بسبب قلة الذكاء انما لعدم الكفاءة الشخصية، فعندما يقدر احمق وفق منظومة أفكار مسبقة سرعة تطور ظرف ما او حدث فأنه يرسي السبب الوجيه للفشل.

دعنا نعيد تفسير الاحداث وفقا لحدث احمق بفعل صادر عن قلة ذكاء او غباء مطلق كحدث غزو العراق للكويت بفعل القرار الطائش والارعن لصدام حسين وسلسلة الاحداث التي اطلقها هذا الحدث التي ترتبط على مستوى البنيات العميقة مع احداث اليوم.هل الدرب الذي بدأ بغزو صدام للكويت سينتهي بغزو الولايات المتحدة للعراق ؟

ما كان احد منا ليستطيع وقتذاك وفقا للايقاع السريع للاحداث ان يتنبأ باللامتوقع المحتوم !

في خاتمة كتابه تطرق دورتشميد الى حدث عده نقطة تحول في تفكير المدنية المعاصرة الا وهو ألقاء القنبلة النووية على اليابان، اذ لم يخمن احد عند اندلاع الحرب العالمية الثانية ان القنبلة النووية ستصبح عاملا حاسما في السياسية الدولية في أقل من عقد، لقد جسد العصر النووي الدافع البروميثي لسيطرة الانسان على الطبيعة لكنه فلت من يده ليخرج الى دائرة سباق التسلح، هكذا في نظر دور شميد وغالب علماء السياسية فأن سبب عدم حصول حرب عالمية ثالثة يعود الى منطق بسيط يقوم على كون الحرب اصبحت مستحيلة الا اذا كان ثمنها الانتحار.

لكن في زمننا الحالي حيث يسود منطق الذين يقاتلون بموتهم ويحكم اللامتوقع ويدخل الفجائي ضمن نسيج اليومي الرتيب فأن امكانية تدمير العالم بحصول نفر من الارهابيين على السلاح النووي وتفجيره يدخل حيز المتوقع ويشكل الحدث الحاسم في معركة النهايات القصوى.

هل نتحكم حقا بالاحداث ؟

هل تجري وفق خطة مرسومة حقا ؟

هل يغذي نمو الاحداث غاية ما تخدم نخبة ما تسيطر على الاحداث وتتحكم بها في السر ؟.

الكاتب الاميركي (جيم مارس) حاول أن يلعب دور المؤرخ الذي يقدم نسخة مغايرة من تاريخ الاحداث والعالم من سومر الى عالم والت دزني في تاريخه السري المثير (الحكم بالسر) فذهب الى ان الماضي شهد استخدام الحروب والاديان بشكل ناجح كآلية للسيطرة لكن في عالم اليوم فأن الاقتصاد وقوة المال صارت هي طريقة الاختيار للسيطرة على العالم، ومهما كانت الحقيقة في رأينا فأن مارس يطلب من الناس أن يكونوا حذرين من القادة الذين يسعون – سواء بالقوة او بالاستغلال أو بالخداع الى تحريك الناس جميعهم الى وجهة ربما لا يرغبون في التوجه اليها وربما لاتكون مفيدة على ألاطلاق.

تعلمت من قراءة مارس ان طموح أن تكون مؤرخا ناجحا قد يعني ان تراقب الاحداث على مستوى ايقاعها السريع دون ان تغفل البنيات العميقة المتحكمة بها حتى لو قدمت نسخة غير رسمية للاحداث ذلك ان هناك دائما تاريخا أخر غير قابل للتصريح به او التعامل معه ويسير طبقا لوجهة نظر تآمرية واضحة وهي قد لا تنجح في جعلنا متحكمين بالحدث بقدر ما تفضح توظيفه من قبل اعداءنا وهذا هو المهم الان.

في هذه اللحظات التي اسطر فيها هذه الكلمات، منتصف ليل بغداد الموحش، كيف تراني اضع الحدث اللامتوقع الحاسم لحياتي الفردي في صيغة متوقعة ؟ أنظر الى النافذة او الى الباب وأنا اسمع صوت الرصاص يتعالى من مكان قريب، أتخيل شبح الموت يتسلل بألف طريقة وطريقة. وأفكر في اهلي وجيراني وابناء وطني، كيف سنتحكم في يوم غد في بلد لا يملك فيه أحد من السلطة ما يكفي ليحكم.

(ان نكون على مستوى الحدث) معناه ان نحجم من أثره ونحد من سلبياته ان لم نستطع التحكم بمساره ومخرجاته وان نضع خطة لما هو اسوأ ذلك ان المستقبل يخبأ صورا قاتمة تنعكس في مرآة الحدث الآني وان تكن ملامحها وقسماتها غير واضحة بدرجة كبيرة اثناء ملىء فراغات الكلمات المتقاطعة في عراق 2006.

قبل ان نضيع في مجرى التاريخ الحدثي ذي الايقاع السريع علينا ان ندرك اننا محمولون على سطح الحدث الكبير المقلق لكن ارادتنا وحدها هي ما يجعل هذا الحدث يأخذ وحهته نحو الجحيم او نحو الجانب الاخر من الازمة.

التاريخ في النهاية –كما يقول المؤرخ الفرنسي دوبوشير- لايعرف المعجزات. والتاريخ ليس أقل أو أكثر أخلاقية من الزمن الذي يقترن به ويتقمصه احيانا، ولا هو باكثر أو اقل اخلاقية من النار التي تلتهم احيانا بعض اعماله.

 

الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا