الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا

   فكر أسلامي

الأخلاق في عرصات التدريس والبحث

 حسن عبيد عيسى

 دعا سيد الأنبياء والمرسلين (ص) إلى التعبير عن رسالته بأنها رسالة أخلاق، وذلك عندما سأله بنو قومه عن فحواها وغاياتها فأجاب (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)..فهو (ص) كلمهم (على قدر عقولهم) وبالمفردات التي يفهمونها ويقدرون قيمة مؤداها..

أليس الرسول الأكرم (ص) هو الذي مدح أخلاق حاتم الطائي وهو كافر فقال مخاطبا ابنته التي ذكرت محاسن أبيها وسيرته في حضرة النبي الأكرم (ص)، (يا جارية هذه صفة المؤمن حقا، لو كان أبوك مسلما لترحمنا عليه خلوا عنها فان أباها كان يحب مكارم الأخلاق).

ولقد عزز سبحانه وتعالى ذلك النهج وتلك الرؤية بما ورد في الكتاب الكريم من آيات تفيد بلزوم سيادة الأخلاق في مجتمع الإسلام، ولعل خير وصفٍ وَصَفَ الحق تعالى نبيه الأمين (ص) به هو قوله جل وعلا (وإنك لعلى خلق عظيم) (1).لا بل إن القرآن الكريم والسنة الشريفة يعدان المنبعين الأروع والامثل، لاستخلاص وفهم واقتباس الأخلاق القويمة التي من شأنها إنتاج مجتمع سليم ومعافى، فتلك سيرة النبي الأكرم (ص) جعلها تعالى مثالا يقتدي به المسلمون فالباري تعالى يقول في محكم كتابه المجيد (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ومن يتول فإن الله غني حميد) (2).

جهود مسكويه الأخلاقية

ولعل من بين أوائل من فطن إلى ظاهرة الاهتمام الإسلامي بالأخلاق استهدافا لتطوير المجتمع ورفع قيمه هو (محمد بن يعقوب الرازي) الذي عرفه الباحثون بلقب (مسكويه) وهو العالم المولود في سنة 325 والمتوفى في سنة 421 للهجرة الشريفة.

فمع إن هذا العالم الجليل قد أبدع في مجالات الكيمياء التي صنف في علمها كتابين، أولهما في الأدوية المفردة والثاني في تركيب الباجات من الأطعمة، وان الأمراء والملوك كانوا يطلبون نصيحته ومشورته في مجال علم الكيمياء.وانه كان بارعا في مجال التاريخ، فهو مدون حسن لحوادث أيامه وزمانه من خلال قربه من الملأ من ملوك وأمراء ووزراء وكبار آخرين غيرهم.ومثل تلك البراعة التي جمعها في المجالين المذكورين، فإنه كان على مثلها في الفلسفة التي لم يكن شغفه بها ومهارته في زواياها أقل مما هو عليه في العلوم الأخرى.

لقد كانت تلك الموسوعية والقدرة على التحقق والتبحر في مجالات العلم المختلفة والمعروفة في زمانه وراء تولد الرغبة في نفسه لان يخدم دينه الحنيف وأمته الإسلامية عن طريق إعداد كتاب يعد سابقة رائعة في فهم وإشاعة الأخلاق وفلسفتها، فكان ذلك هو كتاب (تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق).

لقد أوضح (مسكويه) هدفه من إعداد كتابه المذكور بان (نحصل لأنفسنا خلقا تصدر به عنا الأفعال كلها جميلة، وتكون مع ذلك سهلة علينا لا كلفة فيها ولا مشقة، ويكون ذلك بصناعة بصناعة وعلى ترتيب تعليمي) (3).

فإذا ما تمعنا في حصيلة ألف من السنين تفصلنا عن هذا العالم الجهبذ المتفرد، فإننا نجد ان كثيرا من العلماء قد حذو حذوه في مجال تنمية الأخلاق وتطويرها سواء عن طريق البحث والدراسة وإشاعة تحصيلاتهم عن طريق الكتب، أو ما يمارس عن طريق التدريس للطلاب والمريدين.

ولعل من بين أهم الكتب التي صنفت في هذا المجال لعلماء آخرين هو كتاب (مكارم الأخلاق) الذي ما زال الناس يطلبونه ويرجون من وراء مطالعته الحصول على خير وفير.

السيد صادق الشيرازي

ما حفزني على استذكار هذا الجهد العلمي الإسلامي والدأب الحثيث في مجال الأخلاق دراسة وتدريسا هو ما شرحه لي الأستاذ مرتضى معاش من دور علمي جليل للسيد صادق الحسيني الشيرازي كأحد العلماء الذين ورثوا هذا الجهد الخير والمنطوي على هم إسلامي عظيم، فجعل الأخلاق بحثا وتدريسا ديدنه على أمل توجيه المجتمع نحو الوجهة الإسلامية الصحيحة التي جاءت الرسالة السمجاء من أجل توجيه الناس لانتهاجها.

فالجهد المبدع للسيد صادق الشيرازي يتمثل في كتابه البحثي الثر (نفحات الهداية) (4) وهو سلسلة من المحاضرات التربوية التي ألقاها على مستمعيه وزواره – سواء في لقاءاته العامة في المناسبات المختلفة، أو في المحاضرات الأخلاقية التي كان يلقيها على طلبة العلوم الدينية أسبوعيا (5).

لقد تضمن هذا الكتاب القيم أربعا وعشرين محاضرة احتوتها حوالي 350 صفحة من القطع الكبير، وميزة هذا الكتاب الجامع للمحاضرات المذكورة، أنه يحتوي قائمة بالمصادر والمراجع، مع فهارس، أحدها لثمانين آية قرآنية كريمة وظف المؤلف كل واحدة منها في موضع أو أكثر من الكتاب مع عشرات الأحاديث الشريفة والروايات.

وعدا عن هذا الجهد، فإن ثمة سلسلة من المحاضرات التي تعنى بالأخلاق كمسألة إسلامية ذات قيمة عاليا، كان السيد صادق الشيرازي قد نشرها على موقعه على الانترنيت، وقد زودني الأستاذ مرتضى معاش بسبع منها..

نجد إن عناوين تلك المحاضرات ما هو دافع لدراستها وفهم مغازيها، مثل (العلم والأخلاق) وهي المحاضرة الأولى، أما المحاضرة الرابعة منها فهي المحاضرة الموسومة (الفرق بين الأخلاق والعلوم الأخرى) وخص موضوع (التعامل مع الناس) المحاضرة التاسعة، بينما لم تنأى المحاضرات الباقية عن هذا المسعى التربوي الأثير على النفس الإسلامية.

السياسة من واقع الاسلام

ولعل كتابه الآخر (السياسة من واقع الإسلام) يبحث في مجال أوسع من مجال إشاعة فهم الأخلاق وسيادتها في المجتمع، فهو استنباط لأهم الممارسات السياسية من خلال استنباط مفاهيم الآيات القرآنية الكريمة ذات العلاقة، ومعالم السيرة النبوية الشريفة ما يمكن أن يؤسس لعلم أخلاق سياسي جديد خصوصا وان السياسة كما أرادها مكيافيلي ومن دأب على تقليده ومحاكاته تشكل مجالا لا أخلاقيا وهو موضع الخلاف بين الأسس الإسلامية والغربية في هذا المجال كما سنرى ذلك لاحقا..ما يستوجب التعمق في دراسته وفهمه ونحن في هذه الحقبة التي يراد فيها الإساءة البالغة للإسلام من خلال سلوك وتصرفات بعض الساسة المسلمين السائرين على نهج مكيافيلي والمشبعين بأفكاره الشيطانية، وبذا تكون جهود السيد صادق الشيرازي في هذا الصدد بادرة موفقة بحاجة إلى توسيع رقعة انتشارها وفهمها..فهل ثمة داع لنسأل :أيهما أفضل: سيرة النبي الأكرم (ص) أم التعاليم الشيطانية التي وضعها مكيافيلي صاحب نظرية (الغاية تبرر الوسيلة)؟

لقد اجتهد المفكرون المسلمون على مر الأزمنة والعصور قي مجال إنتاج نظرية إسلامية لسياسة الرعية، مع إن السيرة الشريفة ماثلة أمام أنظارهم إلا إنهم حاولوا التشريق والتغريب بحثا عن صيغ ورموز تفيد في تأسيس كل من هؤلاء العلماء الباحثين للأفكار التي يريد ترسيخها في عقول القادة.

فنجد إن الجاحظ على سبيل المثال أنتج كتاب (التاج في أخلاق الملوك) استلهم فيه سير أكاسرة الفرس وأباطرة الروم وغيرهم، وأنجز الماوردي تأليف كتاب الأحكام السلطانية والولاية الدينية) ولم يبتعد أخوان الصفا عن هذا النهج عندما وضعوا رسالتهم المشهورة بـ (سر الأسرار لتأسيس السياسة وترتيب الرياسة ) والذي هو ترجمة لكتاب الفيلسوف أرسطوطاليس.. في حين وضع محمد بن منصور بن حبيش المعروف بابن الحداد كتابا عنوانه (الجوهر النفيس في سياسة الرئيس) وآخرون غير هؤلاء وضعوا كتبا في السياسة، مبادرة منهم أو بناءا على طلب الحكام والسلاطين.

حاول كل هؤلاء العلماء وضع مادة بحثية رصينة بيد قادة الأمة لتسهيل فهم أساليب السياسة وعمل الرئاسة متوخين الأخذ بما هو مفيد من تجارب الأمم والشعوب ذوات الاتجاهات الدينية والفكرية المختلفة من وثنيين ونصارى ومجوس وغيرهم..

وهذا هو الفرق بين مؤلف السيد الشيرازي وتلك المؤلفات العربية والإسلامية التراثية، فالسيد الشيرازي حاول استلهام الينابيع الأساسية الصافية للإسلام، إلا وهي القرآن الكريم والسيرة النبوية الشريفة ليثبت للقارئ أن السياسة ليست غريبة على هذا الدين القويم، إضافة إلى إن كتاب الشيرازي ذو نمط بحثي عصري سلس يفهمه الناس على شتى مشاربهم وقدراتهم بسهولة ويسر..

فالمؤلف يرى إن (السياسة تفسر بأنها:تنظيم أمور دنيا الناس على أحسن وأرفه وجه) (6) وهو بذلك يرجع إلى القرآن الكريم الذي يصف نبينا الأكرم بأنه (يضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم)(7). فالسياسة الإسلامية التي تصدى السيد المؤلف لتبيان علاقتها بالدين وعلاقة الدين بها إنما هي (مبنية على أسس العدل الكامل.. والكرامة الإنسانية..والعفو بجنب الصمود والقوة) (8) وعلى هذا الأساس فإنه يخلص إلى أن (في الشريعة نصوص كثيرة.. وكثيرة جدا، تدل على إن السياسة جزء لا يتجزأ من الاسلام، بل الأصح أن نقول:الاسلام والسياسة لفظان لمفهوم واحد، فالسياسة هي الاسلام والإسلام هو السياسة بمعناها الصحيح العام) (9).بينما يستحضر كمّاً كريما من الأحاديث النبوية الشريفة التي يذكر فيها نبينا الكريم (ص) مفردة السياسة بما يراد بها على وفق المفهوم المتداول لدينا، ومنها قوله (ص) : (فوض الله تعالى إلى النبي أمر الدين والأمة ليسوس عباده) و (كان بنو إسرائيل تسوسهم أنبياءهم) وغير ذلك من أحاديث تدلل على ما ذهب إليه المؤلف.

أما وجهة النظر الإسلامية بالمبدأ اللاإخلاقي الهدام الذي وضعه مكيافيلي والقائل (الغاية تبرر الواسطة) فإنها مستمدة من أحكام الشريعة التي جاءت بها الآيات القرآنية الكريمة والسنة النبوية الشريفة متمثلة بالأحاديث الشريفة والسيرة الكريمة لنبي الهداية (ص) وهي على وفق ما يرى المؤلف معاكسة لما ذهب إليه السياسي الإيطالي مكيافيلي تماما، فهي تخلص إلى انه (لا يطاع الله من حيث يعصى) ويفسر المؤلف ذلك بان طاعة الله تعالى، لا يجوز تحصيلها من طرق معصية الله، وإراقة الدماء البريئة، وهدر الكرامات(10).

من هنا نجد إن السيد المؤلف استمد من هذين الينبوعين الطاهرين الكريمين المادة الأساس لكتابه، خصوصا وان النبي الأكرم (ص) أسس دولة الاسلام الأولى التي كان هدفها تسييد العدل وإحقاق الحق وذلك كله مستمد من الإيمان القويم برب العزة الذي انزل قرآنه الكريم ليكون الدستور الدائم لتلك الدولة، ولك عزيزي القارئ أن تتصور حجم ونوع النقلة التي نقلت بها تلك الدولة الكريمة بسياستها الحكيمة الإنسان من مجتمع الهمجية والتخلف والبهيمية إلى مجتمع إنساني متحضر يعمل على وفق ما يريده الله تعالى ويقوده ويسوسه أعظم الخلق طرا، رسول الله (ص) وبين يديه أعظم دستور، ألا وهو القرآن الكريم.

إن قراءة هذا الكتاب تضع القارئ أمام طريقة تداول الأمور السياسية بطريقة الأخلاق الإسلامية من قبل قدوتنا ومتمم أخلاقنا النبي الأكرم (ص) والذي هو المعلم الأول لهذه الأمة، في مجال الحياة والدين وكذلك في مجال السياسة وتدبير شؤون الناس والأمة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

1- القلم:4

2- الممتحنة:6

مسكويه:تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق-منشورات دار مكتبة الحياة-بيروت ط2 بلا ص27 (3)

4- السيد صادق الحسيني الشيرازي:نفحات الهداية، دار العلوم –بيروت-ط1 2004

5- المرجع السابق ص8

6- السيد صادق الحسيني الشيرازي:السياسة من واقع الاسلام-مؤسسة المجتبى –بيروت ط4 2003 ص151

7- الاعراف:1572

8- السياسة من واقع الاسلام، مرجع سابق ص213

9- المرجع السابق ص164

10- المرجع السابق ص235

 

الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا