الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا

 

ذاكرة المكان

بغداد/ الواقع والاسطورة

 (كتاب بغداد في الايام الخوالي)

قيس ياسين

في تاريخ الانسانية قليلة هي المدن التي اصبحت مثالا للكمال، ووصلت إلى اقصى حدود الخيال والادهاش، مدن خلابة، مدن سحرية، مدن عاشت عصورا ذهبية مثلت ارقى مثالا، وربما دخلت مجال الخرافة في جوانب عديدة من اطوار تاريخها.

بغداد! منذ تاسيسها اخذت بكل الاسباب، التي جعلت منها مدينة لا تتكرر في التاريخ، بغداد مجالس العلماء والشعراء، بغداد المتوجة بالجدل والفلسفة والنحو والفقه، وحركات التصوف والزهد، وحركة الترجمة والمترجمين، والحركات الفكرية المتصارعة والمبدعة على ساحتها، بغداد الف ليلة وليلة، وحكايات شهرزاد وشهريار، ولياليهم الخلابة، وحكايات السندباد ورحلاته السبع، بغداد الصعاليك والبهاليل والحرفيين والوراقين والشطار والعيارين، نبع من حيوات متداخلة متجانسة متنافرة، الا انها في نهاية المطاف، بغداد... بغداد.

بغداد بمنائرها المطلية بالبياض، والاخضر والكاشاني، وبغداد بنهرها الخالد دجلة وبساتينه وطيوره وزوارقه، بجسورها وعيون المها بكرخها ورصافاتها.

بغداد التي اجتمعت على ساحتها، انواع شتى من فنون الحضارة، واجتمعت وتوحدت تحت رايتها اجناس مختلفة، وغيرها من النعوت والاوصاف، نبع حيوات لا ينضب، بغداد الوافد عليها لا يريد ان يبارحها، والخارج منها تنهشه الحسرة والندم، وتبقى ترن في خياله مثل ليرة من الذهب الخالص.

وكثير ما تطالعنا ادبيات المستشرقين في وصف رحلاتهم إلى الشرق بالاثارة والاندهاش والسحرية التي تصل حد الخرافة، ويقف المستشرقون مواقف لا تتباين كثيرا عن هذه النظرة الخلابة، نحو مدن الشرق واصفين اياها بكل الاوصاف والاندفاعات الشاعرية، وبخيال يستحضر من كل الادبيات والمدونات، في وصف تلك المدن العربية- الاسلامية في مشرقه ومغربه.

وحين طالعت كتاب (بغداد في الايام الخوالي) للانسة: (كونستانس. م. الكسندر) عن رحلات المستر (ريج) التي بدأت سنة (1808م) وانتهت عام (1821م)، في رحلات مكوكية بين مدن العراق وخارجه، وداخله، وسفره عنها وعودته مرارا وتكرارا.

حين قرأت هذا الكتاب مسني السحر، واخذني للمقارنة بين مدن المثال والخيال والكمال والسحر والخرافة، وبين مدن الواقع الحزين واليائس، وقد وقفت بغداد متراجحة على طرفي هذه المقارنة، فمنذ عصورها الذهبية إلى حد الساعة، بغداد كمكان يربك اي وافد اليها، ولا يستطيع ان يختزل ابعادها في اي بعد، سواء كان تاريخيا أو ثقافيا أو اجتماعيا أو يوميا معاشا.

فقد ظلت بغداد كمكان ذاكرة تدون تأريخها، بمسارين، تاريخا يتحدى التاريخ الرسمي ويوغل في الاسطوري والشعبي، ويوازيه ويتحداه بتحد لا مثيل له، وتاريخا واقعيا يشكل بصمات الرسمي والاسطوري والشعبي ولهذا نرى ان مأثرة بغداد وتاريخها يكمن في انها اجترحت اسطورتها وتاريخها الخالص.

وظل هذا التارجح، يؤجج جذوة الحنين اليها ويخلط السحر بالواقع، والمكان بالزمان، ويبقى اسم بغداد من بين مدن قليلة في تاريخ البشرية التي حافظت على هذا التناقض الأخاذ.

وليس الهدف هنا هو عرض الكتاب بل مناسبة للحديث عن بغداد- المكان، ونتناول مواضيع هي في صميم الهم الثقافي والمأزق الوجودي والتاريخي والاجتماعي الذي اوصلنا اليه النظام السابق، من هدر لكل شيء في بلادنا وبغدادنا وارثها الحضاري، الذي تناوشته الايدي من كل حدب وصوب نهبا وتخريبا وحرقا كانما هو القدر نفسه يطل من يبن العصور في مرايا بغداد.

وعودة لكتارب (ريج) عن بغداد، يطالعنا المستر (ريج) وهو يتحدث عن بغداد قائلا:

بغداد مدينة الف ليلة وليلة التي يستحضر اسمها السحري في الذهن صورة رومانسية مدهشة، وخيال الانسان يرسم منظرها الرائع بانه منظر لمدينة ذات بياض يشبه بياض المرمر، تبرز من خلاله القباب الذهبية الصقيلة لكثير من المساجد، فتتلألأ كخيط من أحجار كريمة ملونة في شمس الظهيرة الملتهبة، وتشمخ منائرها الهيفاء بوضوح في قلب السماء اللازوردية العميقة- ولعلها، ذات قصور تخفي صورا جمالية اخاذة.

يرتدي فيها الخدم الملابس الجذابة الآسرة، ويندفعون هنا وهناك في الافنية الواسعة أو يحرسون بوابات تلك القصور حراسة مشددة في وقت تزدحم فيه الشوارع والاسواق بحشد مندفع طلق الاسارير لتجار الاقاليم، اثرياء الشرق (من كتاب بغداد في الايام الخوالي، ص 57).

إن هذه الصورة المنتخبة لخيال مستشرق، غذتها ذاكرة الحكايات والتاريخ المروي والمكتوب عن بغداد، فهي لم تأت من فراغ أو من صنع الخيال وحده فقط، ولكن اين التاريخ بوقائعه المدونة تحديدا؟ من الاسطورة؟ في بغداد وعنها، تندمج الخطوط انها خليط منتخب مما جاء في الف ليلة وليلة وما دونه تاريخها الرسمي.

ويقول (ريج) ما عرفناه عن عظمة هذه المدينة النابع من المتخيل والمليء بصور الجمال والكمال عند زيارتك لبغداد تجد ان واقعها مختلف عمّا كانت عليه بالامس (المصدر نفسه، ص 58) وهنا تنتاب الحيرة المستر (ريج) مثلما تنتاب أي زائر لبغداد حين يعقد المقارنة، ولكن هذه الحيرة تخف وتيرتها عندما نسمع الكلام القائل: ان بغداد تطاردك منها صور واماكن منقوشة في جغرافية مكانها، تشير أو تكون بمثابة علامات وملامح مما تحمله الذاكرة عن بغداد المتخيلة ففيها الكثير من الاماكن التي تشبه ما روته شهرزاد في لياليها المضمخة بالفتنة، والاغواء لاميرها شهريار وانطلقت به منتشياً على جناح الحكاية الساحر.

وهناك نصب توشي ببغداد الاسطورة (الف ليلة وليلة)، وهناك اطلال قوضتها الازمنة وخربتها الايدي، تروي خرائبها لسان حالها وما الت اليه، وهناك مدونات نشرت، وأخريات ما زالت موزعة في الخزائن والمكتبات في كل بقاع العالم، كل هذا يدل على عظمة هذه المدينة، بالرغم من ان الزائر لبغداد كما وصفها (ريج) عام 1808م يخالجه شعور بالاحباط، اليأس من واقع المدينة، فهي مدينة غير مشرقة، ازقتها ضيقة واسوارها خاوية ومساجدها واسواقها كثيرة، ولكن ليس لها سمة بارزة أو واقع جدير بالاهتمام مما هو موجود في باقي المدن (المصدر نفسه، ص 58)، الا انها تبقيك في سحرها ما روى عنها التاريخ وتجد في البحث والتفتيش في كنوزها المخبئة هنا أو هناك.

ولكن بغداد كما يقول (ريج): ينظر اليها كونها احدى المدن التي كان (نابليون) يزمع ان يقيم فيها مركزا لقيادته في طريقه لاحتلال الهند، وهو هدف يسعى اليه لتحقيق طموحه، وكان طموح الفاتحين، والغزاة يبقى ناقصا بدون الدخول أو المرور بغداد، اهو القدر الخفي لبغداد على مد العصور وما اشقى بغداد، واشقانا نحن اهلها بهذا القدر.

فهل كتب على بغداد واهلها ان تكون محط انظار العالم، يتفجر منها الحدث وبها، وعلى اثره تتغير معالم وعوالم كثيرة، أم انها مبالغة نريدها (لبغدادنا) وفي كلتا الحالتين نسأل: نريد بغداد تشبهنا في اوجاعنا والامنا وجروحنا وقسمات وجودنا، ولنضع تعويذة (رقّية) ضد الاقدار المباغتة لبغداد.

ان الكتاب شكل بالنسبة لي حدثا مهما وانا اقرأه في هذه الايام، فهو يشكل وثيقة هامة عن بغداد، مضافة إلى الوثائق المكتوبة والعيانية (المكانية) فهو (الكتاب) يضيء جوانب مهمة من تاريخ بغداد، ويؤرخ لمكانها بصورة رائعة، فاذا كانت النية أو المشروع يتجه في استقطاب ما كتب عن بغداد كمكان وذاكرة، فيجب علينا ان نفتح هذه الاضبارة المهمة كي تتجذر ذاكرتنا بذاكرة المكان ولاتكون سابحة في طوفان الفوضى والخراب، وان نوجه وننشط ذاكرة المكان كي تعمل بصورة صحيحة، فهي هذا الافق الكبير الكثير من الكنوز المخبأة.

_____________________________________________________________________________

كتاب/ بغداد في الايام الخوالي.

تاليف: كونستانس. م. الكسندر

(عن رجلات المستر (ريج) في بغداد).

ترجمة: سعيد احمد الحكيم.

الناشر: أبو ظبي، المجمع الثقافي.

سنة النشر: 2001م.

 

الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا