|
||||
الياسمين المر |
||||
شكراً لك أيها الكمبيوتر |
||||
عباس خضر |
||||
منذ سنين أجلس كل مرة لأكتب شيئا من سيرتي، ولكني في كل مرة أمزق ما أكتبه. روايات كثيرة وقصص قصيرة وأشكال للسيرة فكرت فيها وبدأت بكتابة سطورها الأولى ولكن في كل مرة يكون مصيرها سلة مهملات أو صندوق خشبي أسميته صندوق الأعمال المؤجلة، حتى يومياتي التي لم أفلح أن أدونها يوما بيوم والتي أفضل تسميتها شهريات أكثر منها يوميات لم يكن تدوينها في أحيان كثيرة سهلاً، فبسبب التفتيش الدائم للورق والكتب وخصوصا خلال رحلتي الاوديسية منذ 1996 وحتى2000 من مدينة إلى مدينة أو دولة إلى دولة في أرض العرب ثم من الشرق إلى الغرب، كان عليّ كل مرة كتابة بعض الأسماء وخصوصاً أسماء السياسيين والرؤساء وبعض الأمكنة والحوادث المهمة بالأحرف الإنكليزية أو الأرقام والرموز كشفرات لا يعرفها غيري في العراق، مثلاً، كنت استعمل أغلب الأحيان الرموز والأرقام والكلمات الناقصة ومنها بعض الرسوم والأشكال الهندسية التي تشير لممنوع ما وفي الدول العربية في ليبيا على سبيل المثال كنت استعمل اغلب الأحيان اللهجة الجنوبية العراقية ومعها أيضا الأرقام والحروف والأشكال الهندسية.. والكارثة اليوم أن الكثير من يومياتي أو شهرياتي لا أعرف أن أفك رموزها وطلاسمها، فقد نسيت أغلب مفاتيح الشفرات وتبدو لي اليوم وكأنها مجرد خرابيش طفل هذا إضافة إلى أن بعض الوريقات قد محيت كلماتها بمرور الزمن والسبب أنني أحب الكتابة دوما بقلم رصاص! الشيء الوحيد الذي فلحت فيه هو كتابة القصائد، ولكن حتى هذه أغلبها قد ضاعت مني، عدة مرات أكتب قصيدة وأنساها خلفي، وأحيانا أهبها لصديق فلا يعيدها لي، ربما يرميها في سلة المهملات أو يدعي انه هو صاحبها. لا أعرف بالضبط! مثل هذه الحوادث صغيرة قد تعرض لها البعض قبلي حتماً ولكن هنالك ضياع من نوع آخر لقصائدي، ضياع جماعي، إنها مثل شعب مغضوب عليه، مثل الغجر تماما، كل يوم في وادٍ أو في محرقة أو رميا على قارعة الطريق. مرة عندما كنتُ شابا صغيرا مولعا بالقراءة والكتابة لم يكن هناك شيء يستحق في تصوري العناء أكثر من الكتابة. كتبتُ الكثير من القصائد، مرة على طريقة المتنبي وأخرى على نمط (الأرض اليباب) لـ ت.س. إليوت ومرة أخرى على طريقة بدر شاكر السياب وكل يوم أقلد أحدا، لم أترك القدامى والمحدثين بحالهم. وذات يوم شتائي قرر أبي أن يكون هتلريا مازالت تلك اللحظة عالقة في ذاكرتي، كنت عائدا من مكان ما لا أذكره، وصلت الدار قبل مغيب الشمس بلحظات، كان الزقاق بأكمله صامتا، كل شيء ساكن سوى صوت قطرات المطر وهي تنزل من المزاريب بجنون، كانت محطة الباصات لا تبعد عن دارنا سوى أمتار قليلة، بمثل هذه الحالات كان من الطبيعي أن تستقبلني أمي بوجبة عشاء أثيرة، ولكن هذه المرة كانت في انتظاري أكوام الكتب والقصائد مثل جثث ممدة في وسط بركة الوحل قبالة الدار، كان الجو ممطرا، ومدينة الثورة في بغداد حيث ولدت وترعرت من المدن التي تحيط بها برك المياه السوداء والوحل من كل صوب، فما أن تسقط بعض قطرات المطر حتى تهب مياه المجاري من باطن الأرض إلى الشوارع والمنازل والساحات وكأن المرء قبالة هجوم مائي غريب ومن كل صوب دفعه شبح بيديه من باطن الأرض. اقتربت من هذه الأكوام وكانت هي لا غيرها قصائدي وكتبي! بعد وقفة تأمل شبه هستيرية كأي عراقي يختلط فيه عادة التأمل بالهستيرية أخترقت المياه ودخلت المنزل بهدوء محاولا تجاوز عصبيتي، قابلتني أختي وهي تهمس في أذني (لقد كان أبي). انتهت منذ ذلك اليوم علاقتي بأبي ولم تعد بيننا سوى بعض الكلمات التي يتداولها الغرباء عادة واعترف باني كنت قاس في تصرفاتي معه لكني لم أستطع والحقيقة تقال أن أبحلق في وجهه دون أن أصاب بمغص وقرف، وإن كنت أشعر بذات الشعور اتجاهي أحيانا واتجاه الجميع فكلنا دون استثناء كائنات فنطازية وإلا كيف استطاعت سلطة أن تحول القراءة والكتابة خارج حدود المقاعد الدراسية إلى تهمة جنائية جعلت أبي يتلف مكتبتي بأكملها خوفا؟! المفارقة أن كل الكتب الممنوعة التي كنت أمتلكها أخفيها تحت أرض برج الحمائم فوق السطح حيث لا يخطر على الجن نفسه أن تتواجد الكتب تحت بيوض الحمام أما تلك التي حرقها أبي فكانت من إصدارات دور النشر الرسمية ولكن من أين يعرف أبي بالرسمي من اللارسمي وهو رجل أمي لا يعرف كتابة اسمه! في أواخر العام ذاته جاءت الواقعة الثانية لتكمل خوف أبي، فكانت أروقتها معتقل الأمن العامة ومستشفى الرشيد العسكري في بغداد وتنور أمّي، في معتقلات البعث العراقي لم يكن يسمح للمعتقلين بامتلاك الأوراق أو الأقلام أو أي شيء يذكر عدا الملابس التي يقبض عليهم بها، فكانت سنوات من العمر دونما قراءة ولكنها لم تخل من فرصة الكتابة، كنت أميل كبقية المعتقلين للكتابة على الجدران ولكن حتى هذه لم تتوفر لي دوما، لكني كتبت ذات يوم على ورق حقيقي، ورق أبيض صاف، كان هذا عندما أصبت بمرض الجرب وهو مرض جلدي يكاد أن يكون من الأمراض العادية جدا داخل المعتقل، ويعالج بسرعة بمرهم ذي رائحة كريهة تشبه رائحة الكبريت، ولكن الجميع قد أعتاد على هذا المرهم إلا جسدي فقد جعله المرهم يتحول إلى مستنقع من الطفح الجلدي، على أثره وخوفا من عدوى بقية السجناء بمرض جديد تم نقلي إلى مستشفى الرشيد العسكري وهناك وفي داخل مستشفى السجناء المنعزل الذي لا يختلف كثيرا عن أي معتقل آخر، وافق الحارس الذي بدأ من ملامحه بأنه جنوبي على أعطائي بعض الأوراق وقلما، فكان أسبوعا كاملا من الكتابة، كتبت بصخب وحزن دونما مراجعة ودونما تفكير، كانت هلوسة كبيرة وقتها، واظنها كانت أجمل قصائدي وبلا مبالغة، فأجمل ما يكتبه المرء هي في مثل هذه الحالات حتما، قبل موعد عودتي لمعتقل الأمن العامة وبعد ملحة مني وكلمات وقسم بعدم إفشاء الأمر لأحد ساعدني ذلك الحارس- الذي وللأسف نسيت اسمه- في إخفاء بعض هذه الأوراق، قام بفتح ثقب صغير في حواف قميصي وبنطلوني وحشر الأوراق ثم خيط الثقوب بحيث لا يفكر حتى إبليس بأن في داخل ملابسي تختفي أوراق، لما أعلن العفو العام عن السجناء السياسيين عام 1995 وخرجت ضمن الخارجين وفي دهشة الخروج والخوف والرعب والفرح والأهل والشوارع نسيت أن أخرج الأوراق أو أخبر أمي عنها فكانت نهايتها وفي نفس يوم خروجي الحرق، رمت أمّي ملابسي التالفة والمتسخة وذات الرائحة النتنة التي خرجت وعدت بها بعد سنتين في التنور واحترقت الملابس ومعها أهم أوراق حياتي. أما الطامة الثالثة فكانت في نفس العام بعد أن ضاقت بي الأرض، فتجربة الاعتقال تجربة مريرة وتترك في نفس المرء حالات شعورية مرضية غريبة، وهذا ما حدث، لقد كان شعورا غريبا، شعورا بأن الجميع يتكاتف ضدك، ويتخلى عنك، هذا الشعور الذي احتاج إلى35 سنة أخرى لأستطيع أن أصفه بشيء من الدقة، لقد كان شعورا بأهمية الاختفاء ولنقل الانتحار. ذات ليلة جمعت كل ما عندي من كتب وقصائد ورميتها على أرض الغرفة في الطابق الثاني كالدائرة حولي وجلست في وسطها ورميت بكل هدوء عود الثقاب لتبدأ النار بالتصاعد، لم أعرف شيئا لحظتها، لقد كنت في عالم آخر، عالم يحاول أن يسحبني بعيدا، كل ما أذكره بأن أخي الأكبر خطفني من النار وبقية العائلة وكذلك الجيران يركضون بالماء، لقد كان هذا اليوم هو الذي قررت بعده أن أغادر بغداد إلى أبعد نقطة ممكنة تقع على الخارطة. بعد سنين طويلة جاء الفقد الأكبر، كان ذلك هو عام 1999 حيث كنت هاربا من الشرق بأكمله لا أملك سوى بعض المال وأوراق كثيرة، كانت مجموعة من الشعر حصيلة سنوات عديدة بين عرب آسيا وأفريقيا، وبين الحدود التركية اليونانية كان مصير الديوان، فبينما كنا مجموعة تتعدى العشرين نتسلل ونحاول بعد منتصف الليل عبور الحدود التركية نحو اليونان، كان الحظ ليس حليفنا، إذ وقفت أمامنا دورية شرطة حدودية تركية وفتحت النار نحو السماء، تفرقنا شرقا وغربا، كان على أثرها سقوطي على الأرض وسقوط حقيبتي في واد سحيق ومعها أوراقي وملابسي والطعام الذي اشتريته ليكفيني طريق الوصول، عندما حاولت النهوض للركض إلى داخل الوادي لم أجد إلا الجندرمة التركية تقف فوق رأسي بالبنادق وتضع القيود في يدي، مازلت لليوم أشعر بالحزن كلما تذكرت هذه الأوراق التي ضاعت وأحيانا أظن بأن كل ما أكتبه هو محاولة لاستعادة ما فقدته ذات يوم. ولكن هذا الفقد لم يستمر طويلاً، قبل عام تقريباً 2005 وكعادتي كلما كتبت بعض القصائد أن أمضي إلى أحدى المقاهي وسط المدينة، وأقوم بشرب القهوة وتنقيح النصوص الجديدة ومراجعتها، وهذا ما فعلته مرة مع30 قصيدة، عنونتها (محطة آدم)، وفي طريق العودة إلى المنزل، لا أعرف كيف نسيتها على مقعد الباص، عدتُ وأنا أتذكر القصائد الضائعة وبداخلي تكبر رغبة أن أصفع نفسي ألف مرة. في المنزل قالت زوجتي) تبدو حزينا؟ هل حدث شيء ما؟) (أجل لقد أضعت 30 قصيدة) (كيف؟) (نسيتها في الباص) (ولكن، ألم تخزنها في الكمبيوتر؟) ركضتُ صوب الكمبيوتر، الذي كان شغالا وقتها، فتحت ملفات) عباس خضر) ثم ملف (الشعر) وبعدها وجدت ملف (محطة آدم)، وفي داخله كانت 30 قصيدة محفوظة (بملف وورد). نظرتُ إلى زوجتي وقلت: شكرا لك أيها الكمبيوتر. |
||||
|