الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا

 

قراءة التاريخ

ابن خلدون: الاستبداد المكبوت

حسن عبيد عيسى

حظي العلامة (ابن خلدون) الذي مرت الذكرى المئوية السادسة على وفاته في شهر مايس المنصرم، باهتمام العلماء في الغرب والشرق على مدى أكثر من قرنين، وخاصة من العاملين في مجال الدراسات الإنسانية (وتحديدا علمي التاريخ والاجتماع) لما تركه الرجل من آثار عدت إبداعات فكرية (1)، فهو في مقدمته وضع أسسا لعلم الاجتماع وله نظرية خاصة في مجال التاريخ، مما يجعل كتابه الموسوم بالمقدمة الذي أراده مدخلا لتاريخه المسمى (العِبر، وديوان المبتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر) فريدا من نوعه وحقلا واسعا للدراسة والبحث على مر السنين.

ما يهمنا هنا هو معرفة كيف ولماذا ألف (ابن خلدون) تاريخه ذاك، ومقدمته المشار إليها، وماهي الظروف التي ألف فيها تاريخه وما دوافع تفرغه لتلك المهمة، وان سبيلنا إلى إنجاز ذلك هو تتبع سيرة الرجل من خلال ما كتبه في كتابه (التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا) وما كتبه عنه المعاصرون بخصوص تلك السيرة مع تحليلنا للمكونات الرئيسة لسيرته ونزوعه نحو تحقيق أهداف وغايات عجز عن تحقيقها في ميدان السياسة والحياة العامة.

 

من هو ابن خلدون

هو ولي الدين أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن الحسن بن محمد بن جابر بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن خلدون الحضرمي الاشبيلي المالكي، ترجع أسرته إلى (وائل) من عرب (اليمن)، ونزح جدهم (خلدون) إلى (الأندلس) في القرن الثالث الهجري (2). ولد في (تونس) عام1332م الموافق للعام 732 للهجرة، وتوفي عام 1406 م الموافق للعام 808 للهجرة، وكان جده الأعلى (وائل بن حجر) القادم من (اليمن) من العناصر الفاعلة في بناء الدولة الأموية تحت أمرة (معاوية بن أبي سفيان) مات والداه بالطاعون في مسقط رأسه، اندفع ابن خلدون نحو السياسة وهو ابن ثمانية عشر عاما تحدوه طموحات واسعة. طاف في بلدان كثيرة هي بلدان (المغرب العربي) و (الأندلس) و (مصر) و (الحجاز) و (الشام)، حبس نفسه أربع سنين في قلعة (ابن سلامة) بتلمسان، أنجز خلالها تأليف تاريخه ومقدمته، ثم عاد إلى (تونس) ومنها انتقل إلى (مصر) حيث وضع نفسه بأمرة السلطان (برقوق) الذي ولاه قضاء المالكية، رافق الجيش المملوكي الزاحف نحو بلاد الشام لمقاتلة (تيمورلنك) ولكن (ابن خلدون) الذي خاف على نفسه تدلى من فوق السور بواسطة حبل (3) واتصل بتيمورلنك مما سهل لهذا القائد التتري

دخول (دمشق).

 

النزوع نحو الإقطاع

نشأ (ابن خلدون) مصابا بداء العظمة فهو يرى انه خلق للقيادة والإمارة، وهو يذكر دور جده الأعلى (وائل بن حجر) في بناء الدولة الأموية، وذلك الجد هو الذي كلفه (معاوية بن أبي سفيان) بقتل الصحابي الجليل حجر بن عدي (رضي الله عنه) صبرا لا لسبب غير انه رفض سب الإمام (علي بن أبي طالب- عليه السلام)، ذلك القتل الذي أحدث ضجة في أوساط الصحابة الذين أفزعهم قتل الصحابي الجليل للسبب المذكور من دون مراعاة صحبته للرسول الكريم (ص) حتى إن أم المؤمنين (عائشة) تألمت لهذا الحدث الجلل الذي صار من مثالب (معاوية) التي لا تغتفر (4)، وعندما يذكر (ابن خلدون) ذلك الجد ويذكر جده الاقرب (كريب) يرى انه خليق بالسلطان، فكان يسعى من اجل تحقيق ذلك الطموح.

وكان أحد أجداده القريبين وهو المدعو (كريب) لمس ضعف الحكومة المركزية في (الأندلس) فأراد الاستفادة من ذلك الظرف الذي رآه مؤاتيا لتحقيق طموحات مضمرة في دواخله ففصل مقاطعة واسعة عن سلطة الدولة وشكل فيها أمارة خاصة به كانت (أشبيلية) إحدى حواضرها. ونقرأ في سيرة هذا الجد النزّاع نحو السلطة، انه كان طاغية مارس البطش والاضطهاد ما ثوَّر السكان ضده فقتلوه. كان ذلك النزوع والتطلع اللامشروع وراء إبعاد تلك الأسرة عن مزاولة العمل السياسي (5) وبالتالي اضطرارها إلى ترك (الأندلس) بعد استيلاء (الأسبان) عليها، ولما كان أفرادها لايستطيعون العيش بعيدا عن أفياء قصور السلاطين وموائدهم الدسمة، فإنهم عرضوا خدماتهم على سلاطين (بني حفص) في (تونس) ما جعل بعضهم يترقى في المناصب ثانية حيث ولد صاحبنا (عبد الرحمن بن خلدون).

من خلال ذلك يبدو إن (ابن خلدون) كان سليل أسرة ضالعة في ركاب السلاطين بصرف النظر عن طبيعة أولئك السلاطين، تطيع الناشز من أوامرهم وتنفذ مآربهم مهما كانت بشعة ومقززة، مما جعلها تحصل على اقطاعات واسعة وثروات طائلة، وهي نهّازة لفرص الاستحواذ على السلطة، وان الرجل (إقطاعي في انحداره الطبقي، لم يعبّر في منهاجه السياسي إلا عن مصالح الفئة المثقفة ضمن الطبقة الإقطاعية)(6).

 

الانغماس في المؤامرات

لقد أُعد (ابن خلدون) إعدادا علميا دينيا فقهيا حتى سن الثامنة عشر أسوة بأبناء العائلات المحترمة التي تدفع بأبنائها نحو التفقه في الدين وحفظ كتاب الله الكريم، وكان يفترض أن يتجه اتجاها علمائيا في اختيار مستقبله، وكان علمه المتحصل حتى تلك السن كفيلا بان يجعل منه مشروع عالم فقيه ذي تأثير كبير، خصوصا وانه كان يزاول التدريس في الجوامع الكبيرة وله طلبة ومريدون في كل الحقب حتى في تلك الفترات التي انغمس فيها بالعمل السياسي.

ولأن الرجل منذ مراهقته كان نزّاعا نحو السلطة راغبا في التقرب من السلاطين كدأب كبراء أسرته التي شذ عنها أبوه الذي عزف عن العمل السياسي محاولا دفع بنيه الثلاثة (محمد وعبد الرحمن ويحيى) نحو الفقه والقضاء، فانه (أي عبد الرحمن) ومنذ كان مراهقا في بداية مرحلته الحياتية الجديدة التي سماها (محمد عابد الجابري) مرحلة المغامرات السياسية (7)، عرض خدماته على (ابن تافراكين) الذي سارع بضمه إلى طاقم كتبة قصر سيده السلطان (أبي إسحق) بصفة كاتب، إلا أن ما يسْكن ذات الرجل من طموح منفلت دفعه إلى ترك العمل في قصر (أبي إسحق) ليلتحق بالسلطان (أبي عنان) وهناك وجد فرصة أفضل بسبب الالتصاق الأكثر بالسلطان الذي عينه كاتما لأسراره.. وبعد مضي سنتين وجد (ابن خلدون) إن هذا المنصب دون طموحه ولا يتلاءم مع رغباته كونه سيطوّل طريقه نحو المجد الذي يحلم به، فنراه يعترف (قبلت على مضض من حيث لم أعهد مثل هذا المنصب لسلفي) (8).

وبدلا من أن يحفظ الأيادي البيضاء للسلطان الذي قرَّبه من عرشه وأودعه أسراره، ولأنه كان (شديد التلون) (9) فقد تآمر ضد سيده مع غريمه (أبو عبد الله محمد بن أبي زكرياء الحفصي) أمير (بجاية) الذي كان مسجونا في عاصمة (أبي عنان) واتفق معه على أن يساعده على الهرب مقابل تعهده بتعيين (ابن خلدون) بمنصب الحجابة في قصره عندما تنجح الخطة ويستعيد أمارته(10)، ولسوء حظه، فان السلطان (أبا عنان) وقف على حقيقة هذا التآمر الخياني فزج به في السجن سنتين، ولكن بسبب الروح التملقية للرجل وهذا ما سنعرج عليه لاحقا، فان وزير السلطان (الحسن بن عمر) نجح في استحصال عفو عنه من السلطان، ولم يكتف الوزير بذلك بل تشبث لإعادته إلى منصبه السابق، وهذا دليل على كذبه في أنه قبل المنصب على مضض.

وبسبب انطوائه على روح تآمرية جاحدة، فانه لم يبخل بما عنده من معلومات سرَّبَها إلى زعماء (بني مرين) أعداء الوزير الذي بذل الجهود بسخاء من أجل إطلاق سراحه ورد الاعتبار إليه، وفعلا فقد التحق بزعيمهم (منصور بن سليمان) ناكرا جميل الوزير عليه.

كانت المرحلة التالية للرجل الانضمام إلى بطانة (أبي سالم) الذي كان يسعى للاستحواذ على السلطة في إمارة (فاس)، ونجحت جهود الرجل المثابر الذي استعان سرا بابن خلدون، وصار سلطانا، فعين حليفه العالم الفقيه (ابن خلدون) الذي ساعده في حصوله على الأمارة كاتما لسره، ثم اسند إليه منصبا خطيرا لا يسند عادة إلا لكبار الفقهاء وهو (صاحب المظالم). وكجاري عادة الرجل ذي النَفَس الخياني، الذي ما إن أحس بوجود انقلاب قصر يستهدف السلطان، فانه بدلا من أن يقوم بواجبه الذي يحتمه الضمير وحفظ الجميل، فإنه عرض خدماته على قائد الانقلاب الوزير (ابن مرزوق) الذي قتل ولي النعمة (أبا سالم)، وبفضل تلك الخدمات، فان انقلاب القصر نجح وأطاح الوزير المتآمر بسيده ليستولي على عرشه، أما بالنسبة إلى (ابن خلدون)، فان قائد الانقلاب رأى إبقاءه في منصبه الحساس في تلك المرحلة الحرجة كونه جدير بحفظ الأسرار السلطانية، لا بل زاد من إقطاعه (11).

ولما كانت دوافع (ابن خلدون) الذي قام بعمله الخياني وتآمر ضد ولي نعمته هي الطمع في منصب أعلى يقربه خطوة أو أكثر نحو هدفه النهائي وهو الحصول على عرش، فإنه اعترض على إبقائه (كاتما للسر وصاحبا للمظالم) مما دفعه إلى الاعتزال، الأمر الذي أغضب السلطان الجديد ووزيره الذي كان يروم الاستفادة من قرب (ابن خلدون) منه لحفظ أسراره ومده بالمشورة اللازمة عند الحاجة. وخوفا من بطش السلطان، فانه رحل إلى (تونس) باحثا عن فرصة أخرى في ظروف أفضل. يعلل (ابن خلدون) فعله ذاك بأنه كان يسمو (بطغيان الشباب إلى أرفع) (12).

وكجاري عادته التي لمحنا إليها في موضع سابق، فانه تحجج في إن ذلك المنصب الذي أبقاه فيه السلطان لا يلائم مكانته ولا يستجيب لطموحاته.

لم تكن الفرصة المرجوَّة متيسرة في مسقط رأسه (تونس)، ما دعاه لأن يعرض خدماته على (ابن الأحمر) سلطان (غرناطة) ووزيره المؤرخ المعروف (ابن الخطيب)، الذين ربطته بهما علاقة صداقة وطيدة يوم كانا محبوسين عند (أبي سالم) وكان (ابن خلدون) يحسن اليهما سرا كدأبه في التنسيق مع أنداد وخصوم سيده. ووجد الرجل في تلك الديار استقبالا رائعا لم يكن يحلم بمثله في ذات يوم من الأيام، ولا عجب فانهما أرادا أن يردا له الجميل.

لم يضيّع (ابن خلدون) وقتا، فما إن وصل (الاندلس)حتى انغمس مجددا في السياسة يريد أن يحقق لنفسه مكانة مرموقة ينطلق منها نحو تحقيق ما يعشش في دواخله من طموحات وآمال لا حدود لها، فأناط به السلطان مهام كثيرة وجليلة منها سفارته إلى (بطرس) ملك (قشتالة) حيث حالفه الحظ فحقق نجاحا أرضى السلطان، لذا فإن (ابن الأحمر)انعم عليه بالكثير من العطايا الثمينة والاقطاعات الواسعة.

ولما رأينا إن الرجل لم يحفظ جميلا ويقابل إحسانا بإحسان، وانه كان دائما يعض اليد التي تحسن له إن لم يفلح في قطعها، فان الجفاء تسرب إلى علاقته بصديقه العزيز الوزير (ابن الخطيب) وأحس الرجل إن الوزير قد أحيط علما بما ينطوي عليه من خيانة وتآمر، فآثر الهرب قبل أن يقع المحذور، خصوصا وان تحقيقه لطموحاته هنا صار ضربا من المستحيل، بل صار الخطر يحيق به وهو الرجل الذي (تستهويه المناصب الرفيعة ويستبد به طموح سياسي واضح) كما يبين (الجابري ص64) الذي يصف تصرفاته بأنها (ركض وراء المناصب-ص77)، فسارع إلى ترك (الأندلس) والعبور إلى عدوة (المغرب).. وظن إن الحظ ابتسم له من جديد عندما طرق سمعه أن صديقه القديم الأمير (محمد) قد أفلح في الاستحواذ على العرش في (بجاية) عله يجد المنفذ الملائم لبلوغ ما أخفق في بلوغه حتى تلك اللحظة.

وما أن حط عصا ترحاله في قصر الأمير المذكور حتى وجد نفسه متقلدا منصب (الحجابة) وكبيرا للمستشارين في كل الشؤون والأمور، وعلى الرغم من ذلك، فقد وجد متسعا من الوقت ليحيط نفسه بعدد كبير من الإتباع والمريدين الذين كان يصنعهم بتأن وتؤدة تأهبا لمهام المستقبل، وذلك من خلال فتحه لصف دراسي في الجامع الكبير زاول فيه التدريس بنفسه لنخبة مختارة من التلاميذ الذين عقد عليهم الآمال في معاونته من أجل بلوغ غاياته السياسية المستقبلية، ونرى انه بعد توقفه عن ممارسة تقلباته السياسية قال واصفا ذلك المنصب (ومعنى الحجابة في دولنا بالمغرب، الاستقلال بالدولة، والوساطة بين السلطان وبين أهل دولته، لا يشاركه فيها أحد) (13).

وفي ذات يوم وجد انه منشغل عن التدريس في الجامع، فان هذا العالم الجهبذ والفقيه الكبير قرر أن يقود الجيش بنفسه وذلك في سنة 1367 ليقاتل القبائل ويسفك دماء أبنائها ويسبي نسائها ويصادر أموالها لأنها تلكأت في تسديد الضرائب التي فرضها هو وسيده السلطان إشباعا لأطماعهما، والعجيب انه حاول أن يبرئ نفسه مما فعله من تعسف واستبداد باتهامه أمير (بجاية) بعد ان قتل في مؤامرة شارك فيها (ابن خلدون)، بأنه متعسف، وان عسفه أثار السكان وحركهم ضده، ناسيا انه شخصيا كان يقود حملات الموت ضد السكان تنفيذا للسياسة التي كان هو شخصيا المستشار الأكبر والمساهم الأعظم في صنعها!!.

وما أن انتهت مغامرته الحربية تلك حتى رأى أن ينحاز إلى (أبي العباس) خصم سيده، فلم ينته العام 1367 حتى انتقل (ابن خلدون) بولائه نحو عسكر الخصم المدعو (أبو العباس) صاحب (قسنطينة) الذي كان يراسله سرا ويعده بفتح المدينة التي كانت حتى تلك اللحظة عاصمته وموضع عزه، حال محاصرته لها. وما أن حاصر الجيش المهاجم المدينة حتى قام العلامة الفقيه (ابن خلدون) بدوره ففتح الأبواب على مصاريعها وقام بتسليم العرش وما يتبعه من رموز السلطان القتيل إلى السيد الجديد الذي كان يعرف طبيعة (ابن خلدون) الخيانية لذا فانه لم يوله ثقته ولم يسند إليه منصبا. ولم يسكت (ابن خلدون) الذي لم يقبض بعد ثمن خيانته، لذا أبدى استياءه أمام السلطان الذي أمر باعتقاله، ولكنه أفلح في الهرب، فما كان من (أبي العباس) إلا أن اعتقل أخاه وصادر أموالهما.

ولما رأى نفسه طليقا بعيدا عن البلدة التي باعها للسلطان الجديد والتي خلف فيها أخا سجينا وأموالا طائلة مصادرة، حتى رأى أن يبيع خدماته لسلطان آخر، فتوجه نحو (يعقوب بن علي)، ولكنه فوجئ بأن الرجل لا يثق به كما هو شأن (أبي العباس). فعلم إن تجارته صارت كاسدة لا يقبل عليها أحد، ما دفعه إلى المغادرة نحو (بسكرة)، فإن شيخ تلك الناحية صديق قديم له ولو انه غير ذي نفوذ كبير وتأثير قوي، لذا مكث عنده سبع سنين يراقب ذات اليمين وذات الشمال ويتحين الفرص. وعندما استدعاه (أبو حمو) لتسلم الحجابة عنده، فانه لم يطمئن قلبه للرجل ما دعاه لأن يرسل أخاه الأصغر (يحيى) لتسلم ذلك المنصب. وكان الملجأ التالي الذي قرر (ابن خلدون) أن يلجأ إليه هو (الأندلس).. ولكن لجوءه لم يكن طويلا، فسرعان ما عاد بعد بضعة أشهر ليتلمس طريقه نحو (تلمسان).

 

مرحلة اليأس

كان (ابن خلدون) قد بلغ الثالثة والأربعين من سنه عام 1375، ما أشعره أن الشروع بمغامرة جديدة لتحقيق الطموحات أمر لا فائدة ترتجى منه خصوصا وانه حتى ذلك الحين خاض غمار سبع مغامرات فاشلة، فالأمر يحتاج إلى وقت طويل (ولو أنه كان مستعجلا في كل مغامراته التي مرت بنا) إضافة إلى تأكده انه لن يستطيع تأمين العناصر اللازمة لبلوغ تلك الطموحات، فهو لا يحظى بعدد وافر من الناس الكفوئين الذين يعتمد عليهم، والاهم من ذلك كله أنه لا يجد قبيلة قوية تناصره وتمده بالقوة اللازمة لتحقيق غاياته، مما ولد في ذهنه جرثومة (العصبية) التي بنى عليها جزءا كبيرا من نظريته، فهي تجربة ذاتية جاءت عن طريق الممارسة العملية للرقص فوق حبال السياسة التي لم يتورع عن ممارسة كل الألعاب البهلوانية فوقها. فلقد أشرنا في موضع سابق إلى الأساليب التملقية التي كان يمارسها من أجل بلوغ بعض أهدافه، إذ أن من حيله أنه كان لا يتورع عن اللجوء إلى المديح للوصول إلى أغراضه (14) كما يصفه (عبده الحلو) الذي يتقل عن (محمد عبد الله عنان) إن شخصية (ابن خلدون) كما تبدو من خلال (التعريف) تفصح (في كثير من المواطن عن خواص صاحبها النفسية، وليست هذه الخواص دائما مما يحمد، أو مما تقرّه الأخلاق الفاضلة، فهناك الكبرياء والزهو والاثرة، وهناك الطمع وحب التغلب وشغف الدس وانتهاز الفرص بأي الوسائل ثم هناك الجحود ونكران الصنيعة) (15) ولم يتورع (الوردي) عن وصمه بمثل تلك الصفات فهو يرى انه (لم يدخل السياسة بخلق فقيه وإنما دخلها بخلق رجل منافق نهّاز للفرص لا يكاد يستقر في ولائه على شئ) وانه كان في السياسة (انتهازيا منافقا يجري مع التيار) (16).

فماذا كان الرجل يريد بالضبط؟.. إننا هنا نؤيد ما استنتجه (الدكتور علي الوردي) من انه كان يسعى إلى تأسيس دولة أو أمارة صغيرة لنفسه ولأسرته، ليعيد بها أمجاد أسرته القديمة، فوجد نفسه في نهاية المطاف فاشلا مخذولا (17). ولعل الوصول إلى المراد من تأسيس تلك الأمارة ليس صعبا، فالرجل الذي كتب مقدمته بعد أن نضج وصار في سن يفترض انه يفيض حكمة وعقلا، يبين لنا انه على الرغم من تركه السياسة وانه صار أكثر نضجا، إلا أنه ينطوي على قدر كبير من الاستبداد المكبوت كان سيطلق له العنان لو انه تمكن من الاستيلاء على السلطة، فهو نزّاع إلى قيادة الجيوش وسفك الدماء البريئة لا لسبب إلا لحلب أموال الناس وإجبارهم على دفع الضرائب الجائرة صاغرين،ثم انه يقول في مقدمته (السيف والقلم كلاهما آلة لصاحب الدولة يستعين بها على أمره، إلا أن الحاجة في أول الدولة إلى السيف ما دام أهلها في تمهيد أمرهم أشد من الحاجة إلى القلم، لأن القلم في تلك الحال خادم فقط منفذ للحكم السلطاني والسيف شريك في المعونة وكذلك في آخر الدولة) (18) فهو عمليا لم يكن يريد أن يكون صاحب قلم لكي لا يكون خادما، فقاد الجيوش وقتل وسبى ليشعر انه شريك في المعونة.

وإن رجلاً يرى إن للسيف أفضلية على القلم فهو يحمل في ذاته ولا شك، كمّاً هائلا من الاستبداد المكبوت نحمد الله تعالى انه لم يجد للتنفيس عنه سبيلا، والا لكان قد أجرى الدماء أنهارا، ولكنه فشل وذهبت ريحه ويئس عن تحقيق أهدافه النفعية وغاياته السلطوية ما جعله أبشع صورة من (ميكافيلي) كما قال (الوردي) الذي يضيف (لعلني لا أغالي إذا قلت إن آراء ابن خلدون كانت أشد انحرافا عن شرعة الأخلاق والأديان من آراء زميله الإيطالي، ولكن الناس لم ينتبهوا إليها، فقد امتاز ابن خلدون بأسلوبه الدبلوماسي الذي يغطي الآراء المنحرفة بغطاء براق. فهو يكثر من ذكر الآيات القرآنية والأحاديث النبوية يدعم بها براهينه، ويكثر كذلك من ذكر العبارات الدينية ينهي بها أقواله من قبيل (الله أعلم) و(هو الهادي للصواب) و(عليه التوفيق) وما أشبه. وظن الناس انه كغيره من الفقهاء والمؤرخين سائر على سنة الله ورسوله، ولو إنهم أدركوا مقاصده الحقيقية بوضوح لربما شنوا عليه حملة شعواء لم يعهد ميكافيلي لها مثيلا) (19).

دفعه ذلك اليأس إلى تطليق السياسة طلاقا بائنا لارجعة فيه، فآوى إلى قلعة (ابن سلامة)حاملا معه كماً كبيراً من الكتب ومن بينها عدد وافر من كتب التاريخ لمن سبقه في تحبير الأحداث التي مرت بها البشرية، ووجد نفسه أكثر خبرة ممن سبقوه في كتابة التاريخ خصوصا وانه ساهم بشكل فاعل في صناعة أحداث تاريخية رآها كبيرة ومؤثرة، لذا شرع بكتابة تاريخه الذي أراده خاصا بالمغرب العربي (العِبر، وديوان المبتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر).. ولكنه رأى انه لا يمكنه انجاز ذلك العمل بمعزل عن تاريخ الأمة، فكان تاريخه عاما على الرغم من رغبته في أن يكون خاصا، وما كان الموضوع الأهم في مقدمته وأعني به (العصبية) الذي ما أعجم الرجل أمره إلا بعد أن زاوله بنفسه، فرأى إن فشله الشخصي في التسيّد إنما بسبب غياب دور القبيلة القوية ذات العصبية الفاعلة، ولما رأى إن قبائل العرب لا توليه زمامها ليقودها نحو مغامراته وأطماعه فانه صار شعوبيا يذم العرب ويصفهم بأحط الصفات.

لقد عكف في تلك القلعة أربع سنوات يجتر ذكرياته المريرة ويستعرض تجاربه الفاشلة ويتحسر على طموحاته الضائعة فأنجز خلالها مقدمته وتاريخه. وبعد ذلك قرر أن يخرج من عزلته فعاد إلى مسقط رأسه (تونس). وهناك كانت العيون لا تغمض عنه، إذ أخضعه السلطان لمراقبة دقيقة ومستمرة وشديدة خوفا من خططه السرية وطموحاته المنفلتة، فرأى أن يستأذن سيده في السفر، ولكن ذلك السلطان لم يكن مطمئنا لرحلة الرجل الذي صار معروفا في التقلب والخيانة، ما دعاه لأن يكذب، فقد ادعى انه ينوي التوجه إلى (الحجاز) لأداء فريضة الحج، ما جعل الأمير يأذن له كونه لا يتحمل وزر تأخير هذا الفرض، ولكن (ابن خلدون) الذي لم يكن صادقا في دعواه كما هو شأنه، لم يتوجه إلى (الحجاز)، وإنما استقر به المقام في (مصر)، ولو انه أدى الحج في سنة لاحقة، إلا انه عموما لم يتوجه إلى الحج في ذلك العام كما زعم.

 

اللعبة الأخيرة

كان بمقدور الرجل الذي بلغ سن اليأس السياسي أن يركن إلى زاوية هادئة في جامع من جوامع (القاهرة) يفيض على الناس مما خزن في رأسه من علم لم ينتفع به طوال عمره ولم ينفع به أحدا، ليرجع إلى ربه يطلب عفوه ومغفرته عن طريق التدريس البرئ بعيدا عن اللعب على حبال السياسة خصوصا وانه كان يقول (العلماء من بين البشر أبعد عن السياسة ومذاهبها) (20)، ولكنه وهو العالم الذي يقول مالا يفعل، لم يستطع مقاومة الرغبة في السير بركاب السلطان، لذا فإنه كان محسوبا على السلطان (برقوق) وعندما توجه السلطان المذكور إلى (الشام) فإنه لم يقو على مقاومة الرغبة في مصاحبته، وهناك في (دمشق)، حوصر مع من حوصر، عندما أطبق (التتر) بقيادة (تيمورلنك)، وإذا بصاحبنا العالم الكبير والفقيه الجهبذ يشعر بالخوف الشديد على حياته (21)، ويفكر في إنقاذ نفسه ولو بالطرق التي يأنف غيره عن اتباعها، فطلب من بعض الجنود أن يربطوه بحبل، وتدلى من أعلى السور، ثم انطلق يطلب مقابلة (تيمورلنك)، وهناك فاوضه على دخول (دمشق).      

لقد استسلمت (دمشق) بفضل مفاوضات (ابن خلدون) الذي هبط بواسطة آخر حبل من حباله السياسية التي كان يجيد اللعب عليها، والذي كان خلال فترة المفاوضات وما بعدها ضيفا عزيزا على (تيمولنك)، يغدق عليه من الاحترام والتكريم ما قل نظيره، في حين كان جنوده يفتكون برجال (دمشق) ويغتصبون نساءها وينهبون أموال أهلها.

_______________________________________________________________________________

[email protected]

1- يذكر الدكتور علي الوردي إن الاهتمام العربي بمقدمة ابن خلدون لم يبدأ إلا بنهاية القرن التاسع عشر،أما في الغرب فان أقدم من وجه نظر الاوربيين إلى المقدمة هو المستشرق الفرنسي (دربلو)الذي نشر مقالا عن ابن خلدون ومقدمته عام 1697 ولكن الاهتمام الأوربي الحقيقي بالمقدمة بدأ في أوائل القرن التاسع عشر- انظر:منطق ابن خلدون في ضوء حضارته وشخصيته، الدكتور على الوردي– معهد الدراسات العربية العالية، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر،القاهرة 1962ص259-261.

2- علي الحلي (ابن خلدون في مرايا النقد) دار الشؤون الثقافية العامة-بغداد ط1 2004 ص5

3- عبد الرزاق مسلم ماجد (دراسة ابن خلدون في ضوء النظرية الاشتراكية)-وزارة الإعلام-بغداد 1976 ص35

4- علي الوردي (مرجع سابق) ص127

5- عبد الرزاق مسلم ماجد (مرجع سابق) ص29

6- المرجع السابق ص26

7- محمد عابد الجابري (فكر ابن خلدون: العصبية والدولة) مشروع النشر المشترك، دار الشؤون الثقافية العامة –بغداد ودار النشر المغربية،طبعة خاصة بالعراق،بدون تاريخ ص49

8- التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا،القاهرة 1956 ص55

9- عبده الحلو (ابن خلدون،مؤسس علم الاجتماع)بيت الحكمة-بيروت ط3 1979ص16

10- الجابري (مرجع سابق)ص61

11- المرجع السابق ص62

12- التعريف (مصدر سابق)ص77

13- المصدر السابق ص96

14- عبده الحلو (مصدر سابق)ص21

15- المرجع السابق ص21-22 نقلا عن محمد عبد الله عنان (ابن خلدون،حياته وتراثه الفكري) ص 161-162

16- الوردي (مرجع سابق) ص 142

17- المرجع السابق نفس الصفحة

18- ابن خلدون (المقدمة)دار القلم-بيروت ط1 1978،ص257

19- الوردي (مرجع سابق)ص14-15

20- المقدمة (مصدر سابق) ص542

21-  دراسة ابن خلدون (مرجع سابق) ص35

 

الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا