الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا

 

مفاهيم ومصطلحات

التخلف

رفعت المحمد

برز مصطلح التخلّف بعد نهاية الحرب العالمية الثانية مع حصول عدد كبير من البلدان المستعمَرة على الاستقلال. وذاع استعماله وكثرت الكتابات حوله ابتداءً من خمسينات القرن الماضي وتجمعت خلال فترة قصيرة آلاف المقالات والأبحاث حول موضوع التخلف، ذاهبة في كل اتجاه ومنطلقة من محطات مختلفة ومنظورات متنوعة، لدرجة صار يصعب معها على الباحث تنسيق هذه المعطيات في كلّ توليفي، يوضح نظرية التخلف وتعريفه له.
لقد أصبح مصطلح التخلف، ونظرية التنمية التي يتضمنها بالضرورة، خاصاً بوضعية بلدان العالم الثالث بحيث تلازمت مفردات (العالم الثالث- التخلف- التنمية) طارحة أكبر قضية أو تحد تواجهه البشرية في القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين ونعني به تحدّي النهوض بثلاثة أرباع البشرية كي تلحق بركب بلدان العالم الأول (الصناعي الرأسمالي) وبلدان العالم الثاني (الاشتراكي) التي يطلق عليها اسم البلدان المتقدمة. هذا التحدي يطرح على مجمل بلدان العالم الثالث، ولم يعد من الممكن اعتبار التخلف مشكلة اقتصادية محضة مرتبطة بنظرية الاقتصاد التقليدي، خارج إطار الزمان والمكان فلقد كانت بلدان العالم الثالث تدمج قبل خمسينات القرن العشرين في النظرية والممارسة الشائعتين في البلدان القديمة، إذ يعتقد أنه يكفي لتحريكها، اللجوء إلى الديناميات نفسها التي حركت العالم الصناعي، أي حرية التفاعل الاقتصادي والمبادرة الفردية، وتأسيس الأعمال والمشاريع الصناعية والإنتاجية، لقد أخفق هذا المنطلق بشكل واضح في بلدان العالم الثالث بعد استقلالها، حين ظنّ أنه يكفي الحصول على رؤوس الأموال الكافية والأطر الفنية الملائمة والإدارة التقنية، كي تنطلق على دروب التنمية.
لقد فشلت تماماً نظرية إدارة الاقتصاد انطلاقاً من الأساليب التي نجحت في البلدان الصناعية، وظلّت هذه المحاولات في أحسن الحالات جزراً متقدمةً في محيط من الجمود والبؤس، عاجزةً عن تحريك المجتمع بأكمله.
والعقل العربي الحديث، من رفاعة الطهطاوي في منتصف القرن التاسع عشر إلى مفكري اليوم، هو عقل يفرز وعياً سلبياً يعرف ما لا يريد ويعجز عن تحقيق ما يريد فالفرق كبير جداً، أو أكبر من أن يقاس، بين أن ترفض التجزئة وأن تستطيع تحقيق دولة الوحدة بإنجاز الخطوات التدريجية الضرورية لبلوغ هذا الهدف الأسمى، ورؤية الفرص التاريخية واقتناصها للسير قدماً ودون التراجع نحو الهدف والفرق هائل بين أن تحصل على ثروة وأن تعرف كيف تستثمرها وأن تتمكن من تنميتها والمحافظة عليها، الفرق هائل لأن كل خطوة من هذه الخطوات الثلاث تحتاج إلى معرفة وخبرة وممارسة وخلق ظروف قائمة لكل واحدة بذاتها.
ولهذا فإننا: (نعمر خمسين جامعة فيزداد اعتمادنا على بيوت الخبرة الأجنبية ولا تقدر صناعاتنا الوطنية على متابعة التطور، ونشتري أسلحة تضاهي ميزانية حلف الأطلسي فتكون النتيجة انكشاف المنطقة العربية، وهذا يعود إلى بنية العقل العربي الذي يحكمه وعي التخلف).
وهنا ينبغي أن نفرق بوضوح بين وعي التخلف وتخلف الوعي. فوعي التخلف يصدر عن بنية فكرية اجتماعية اقتصادية متخلفة، إنه تخلف يعي العالم بطريقته ووفق معطياته. وهو وعي خاص بهذه البنية المتخلفة التي تبرزه إلى الوجود مزوداً بأدوات السيطرة على المجتمع وإدارة صراعاته، فهو بذلك يختلف اختلافاً بيّناً عن الوعي المتخلف الذي يمكن أن يوجد في كل البيئات المتقدمة والمتخلفة على السواء فقد نجد في السويد أو اليابان وعياً متخلفاً يظهر على شكل الجمعيات العنصرية وعصابات السطو وتصريف المخدرات. أما وعي التخلف فهو وعي قائم بذاته يحمل علامات المجتمع الذي أفرزه ثم يطبع هذا المجتمع بطابعه لأنه وعي بنيوي يتخلل كل البنى في المجتمع، الثقافية والعلمية والسياسية.. وغيرها، وهذا أيضاً ما يفرق بين وعي التخلف وتخلف الوعي، ففي الوقت الذي يشمل وعي التخلف المجتمع في كل فعالياته وأوجه نشاطاته فهو وعي يفرق مجتمعاً عن غيره، نجد أن تخلف الوعي هو وعي جزئي يتخلف عن وعي التقدم بفارق كمي يمكن قياسه وتحديد أماكن وجده ومحاصرته ومعالجته. ومن ثم يمكننا تمييز ثلاثة أنواع من الوعي:
وعي التخلف، وعي التقدم، تخلف الوعي.
الأول والثاني وعيان بنيويان يشملان كل نواحي المجتمع ويطبعانه بطابعيهما. أما النوع الثالث فهو نسبي عابر يمكن توسيعه ويمكن القضاء عليه بحسب الظروف واستعداد البيئة.
التخلف ظاهرة كلية، وعلاجها يجب أن يكون شمولياً، يتنبه إلى كل مَواطن مقاومة التغيير التي يتضمنها ويتصدى لها بنفس طويل. فالعقل الانتقادي هو عقل جماعي بالدرجة الأولى، فليس في وسع أي فرد أو مجموعة من الناس أن يتناولوا واقعهم كله بالنقد، ولكن إذا عمّ الوعي النقدي فإنه يخلق عقلاً جماعياً قادراً على الخروج من وعي التخلف ووضع الأسس لعقل التقدم وهو العقل الذي يؤمن بأن من حق الإنسان أن يعيش حياة أفضل وأن بالإمكان رفع مستوى الحياة عن طريق العدالة والتعليم والطبابة وتأمين المسكن والتأهيل المهني.. شيئاً فشيئاً تصبح الحياة جميلة، خلاّقة، معطاء. ويصبح غدنا أزهى من حاضرنا ويعيش أحفادنا والأجيال القادمة في أوطان تعطيهم دورهم في صنع حياتهم ورفاهيتهم فتزداد لديهم روح المبادرة ويعرفون أنهم حين يغيّرون واقعهم فإنهم إنما يغيّرون العالم.
إن أشد نقاط المقاومة استعصاءً على التغيير هي البنية النفسية التي يفرزها التخلف، بما تتميز به من قيم ونظرة إلى الكون. فكما أن الأمة، نتاج التقنية المتقدمة، قد يعاد تفسيرها كي تستخدم بشكل خرافي أو سحري من خلال الأطر المتخلفة وتفقد بالتالي قدرتها التغييرية.
والإنسان المتخلف منذ أن ينشأ تبعاً لبيئة اجتماعية معينة، يصبح قوة فاعلة ومؤثرة فيها. فهو يعزز هذه البنية ويدعم استقرارها، بمقاومة تغييرها، نظراً لارتباطها ببنيته النفسية. العلاقة إذاً جدلية بين السبب والمسبب (البنية والنمط الإنساني الذي ينتج عنها) مما يحتم علينا الاهتمام بهما كليهما عند بحث حالة أحد المجتمعات المتخلفة بغية وضع الخطط التنموية.
تتميز المقاومة التي يبديها وعي التخلف بالعنف وردود الأفعال المتفرقة لذلك تكثر الأحزاب والشيع والاستبداد في البلاد المتخلفة، في حين أن البلاد المتقدمة التي تعرف كيف تحدد مسارها وتتمتع بحريتها لا تعرف كثرة الأحزاب على الرغم من أن مبدأ حياتها السياسية يقوم على التعددية.
فليس في بريطانيا وأمريكا وبلاد الشمال غير حزبين رئيسيين يضيق مدى الخلاف بينهما، كلما نعم المجتمع بثمرات التقدم، في حين أن وعي التخلف يفرز أحزاباً متضاربة ففي خلال عامين تشكل في الجزائر 36 حزباً مرخصاً ما عدا الحركات السرية.
يتلخص وجود الإنسان المتخلف في وضعية مأزقية يحاول في سلوكه وتوجهاته وقيمه ومواقفه مجابهتها، ومحاولة السيطرة عليها بشكل يحفظ له بعض التوازن النفسي، الذي لا يمكن الاستمرار في العيش بدونه. هذه الوضعية المأزقية هي أساساً وضعية القهر الذي تفرضه عليه الطبيعة التي تفلت من سيطرته وتمارس عليه اعتباطها، وعلاقة القهر والرضوخ هذه تجاه الطبيعة تضاف إلى قهر من نوع آخر، قهر إنساني. الإنسان المتخلف، هو في النهاية الإنسان المقهور أمام القوة التي يفرضها عليه السيد، أو المتسلط، أو الحاكم المستبد، أو رجل البوليس، أو المالك الذي يتحكم بقوته، أو الموظف الذي يبدو كأنه يملك العطاء والمنع، أو المستعمر الذي يفرض احتلاله بالطبع هذه السلسة تترابط حلقاتها لما تقوم بينها من مصالحها، كي تُفقده السيطرة على مصيره، فارضة عليه قانونها الذي يتميز أساساً بالاعتباط، وبذلك يصبح الإنسان الذي لا حق له، ولا مكانة ولا قيمة، إلا ما شاء الطرف المتسلط أن يتكرم به عليه.
لا يجد الإنسان المقهور من مكانة له في علاقة التسلط العنفي هذه سوى الرضوخ والتبعية، سوى الوقوع في الدونية كقدر مفروض. ومن هنا شيوع تصرفات التزلف والاستزلام، والمبالغة في تعظيم السيد، اتقاءً لشرّه أو طمعاً في رضاه.
إنه يعيش في عالم بلا رحمة أو تكافؤ إذا أراد المجابهة أو فكر في التمرد. فسيأتي الرد عندها حاسماً يقنعه بقمع أفكاره التمردية. إن عالم التخلف هو عالم التسلط واللا ديمقراطية، يختل فيه التوازن بين السيد والإنسان المقهور ويصل هذا الاختلال حداً تتحول معه العلاقة إلى فقدان الإنسان لإنسانيته وانعدام الاعتراف بها وبقيمتها. تنعدم علاقة التكافؤ لتقوم مكانها علاقة التشيؤ Chosification. بدل علاقته أنا ـ أنت التي تتضمن المساواة والاعتراف المتبادل بإنسانية الآخر وحقه في الوجود، ذاك الاعتراف الذي يشكل شرط حصولنا على إنسانيتنا من خلال اعتراف الآخر بنا كقيمة إنسانية، بدل هذه العلاقة تقوم علاقة مع نوع أنا ـ ذاك.
ذاك هو الشيء، ما هو الكائن الذي لا اعتراف به، بإنسانيته وقيمتها، أو بحياته وقدسيتها. باعتباره شيئاً، يصبح كل ما يتعلق به أو ما يمت إليه مباحاً (غبن، اعتداء، تسلط، استغلال، قتل… الخ)، ذلك هو الإنسان المقهور، إنسان العالم المتخلف. على العكس تتضخم ذاتية المتسلط بشكل طغيان الأنوية Egocentrism.
ويصبح الكذب أيضاً جزءاً أساسياً من نسيج الوجود المتخلف، على مختلف الصعد وفي كل الظروف. الكذب بين المتسلط والإنسان المقهور يعمم على كل العلاقات كذب في الحب والزواج، كذب في الصداقة، كذب في ادعاء القيم السامية، كذب في ادعاء الرجولة، كذب في المعرفة، كذب في الإيمان. كما يكذب المسؤول على المواطن وكما يكذب الموظف على صاحب الحاجة، وكما يكذب التاجر على المشتري، وكما يكذب الحرفي على الزبون. معظم العلاقات زائفة، معظم الحوار تضليل وخداع. يكفي أن نرى كيف يزين الناس في العالم الثالث الأمور بعضهم لبعض، حتى يتم استدراج الآخر واستغلاله. ذلك الاستدراج عندما ينجح يعتبر نوعاًَ من البراعة في التجارة والعمل والوظيفة وممارسة المسؤولية.
وعندما يتحول العالم إلى زيف وتضليل يصبح لزاماً على كل واحد أن يلعب اللعبة كما تسمح له إمكانياته، وويل لذي النية الطيبة. إنه لا يغرّم فقط من خلال استغلاله، بل يزدري بوصفه ساذجاً وغبياً. تدلنا علاقات التكاذب والتضليل على مدى الانهيار الذي ألم بقيمة الإنسان في العالم المتخلف حين يتحول إلى مضلل أو ضحية تضليل. فالآخر ليس مكافئاً لنا بل أداة نستغلها. بمختلف الوسائل الممكنة، أداة لخداعنا. ولكننا في النهاية نحكم على إنسانيتنا بالتبخيس من خلال هذا الخداع.
يصل المجتمع المتخلف بالضرورة في مرحلة من مراحل تطوره إلى العنف، بعد فترة شيوع العلاقات الاضطهادية. وهنا يتوجه العنف ضد القوى المسؤولة عن القهر (المستعمر والمتسلط الداخلي). يتضح للشعب المقهور أن العنف المسلح هو السبيل الوحيد كي يعبر عن نفسه وعن حقه في الوجود. لقد يئس من إمكانية الوصول إلى الحق الذاتي بالرضوخ أو بالعنف الداخلي. ليس هناك من لغة ممكنة مع قوى التسلط سوى لغة مماثلة للغتها، لغة القسوة لغة الغلبة. ومع ترسخ اليأس من الحوار السلمي أو الرضوخ، يترسخ الإحساس بضرورة العنف وإلا تحول الشبع إلى ضحية دائمة ونهائية نحن هنا أمام الظاهرة التي يسميها علماء الأحياء برد الفعل الحرج والتي تتلخص في الخيار بين الفناء أو المجابهة. وهي تلاحظ عند الإنسان والحيوان على حد سواء. فقد يستسلم الكائن الحي ويرضخ أو يهرب طالما برزت لديه إمكانية للنجاة ولكن عندما تنعدم هذه الإمكانية يتحول الضعف إلى قوة يستجيب برد فعل حيوي يعبئ كل طاقاته ويكثفها في دفاع مستميت عن وجوده. ومن المعروف في هذه الحالة أن فئة مستضعفة قد تغلب فئة قوية، أنست إلى قوتها واطمأنت إلى أن الغلبة ستكون بجانبها، ولذلك فهي تستجيب بشيءٍ من التراخي الذي يشكل مقتلاً لها. الكثير من الانتصارات المفاجئة وغير المتوقعة التي حققها فئة قليلة ضد فئة تفوقها عدداً وعدةً، كان للاستجابة الحرجة دور هام فيها.
وبالعودة إلى تخلف العقلية نجد أنه يعود إلى أسباب اجتماعية سياسية، هي المسؤولة عن نمط الإنتاج وأدواته وتقنياته وانعكاساتها على الذهنية، هذه الأسباب تذهب، في الوطن العربي على الأقل، في اتجاهين أساسيين مترابطين هما: سياسة التعليم في المجتمع، وعلاقات التسلط والقهر السائدة فيه.
فمن الاتجاه الأول لاشك أن مدى تفشي الأمية في العالم النامي، مسؤول بالدرجة الأولى عن استمرار الذهنية غير العلمية التي تسيطر عليها الخرافة. ولا شك أن تطور الذهنية يسير بشكل عام مع ارتقاء المستوى التعليمي في المجتمع، وما يجره من سيطرة على الواقع والتاريخ. غير أنه مع انتشار التعليم في العديد من البلدان النامية، وفي الشرائح التي وصلت درجات متقدمة من الدراسة ما يزال هنالك شعور بأن الخرافة والتقليد لا يزالا يعيشان في أعماق نفسية الإنسان العربي الحائز على درجات جامعية، تؤثر على ممارسته ونظرته إلى الأمور المصيرية على وجه الخصوص، وتكمن العلة في الوطن العربي، كما في العديد من بلدان العالم الثالث، في نوعية التعليم ومدى تأثيره على تغيير الذهنية. يبدو أن التعليم لم يعمل على اكتمال الشخصية، بل ظل في الكثير من الأحوال قشرة خارجية تنهار عند الأزمات، لتعود الشخصية إلى نظرتها الخرافية (إن العلم لا يشكل بالنسبة للعقل المتخلف أكثر من قشرة خارجية رقيقة يمكن أن تتساقط إذا تعرض هذا العقل للاهتزاز، إن العلم ما زال في ممارسة الكثيرين لا يعدو أن يكون قميصاً أو معطفاً يلبسه حسن يقرأ كتاباً أو يدخل مختبراً أو يلقي محاضرة ويخلعه في سائر الأوقات). هناك إذاً نوع من الازدواجية في شخصية الإنسان المتخلف، بين دور التعليم ودور الإنسان الممارس حياتياً. لا زال الانفصام أو الانشطار هو السائد. ففي الحياة اليومية نرى التقليد وانتشار الخرافات والنظرة المتخلفة إلى الوجود (بما فيها من اعتباط وتخبط ولا منهجية) هي السائدة. أما في المناسبات العلمية فنرى الواحد من هؤلاء، أو بعضهم، تحليق في الأجواء العليا ولكن للحظات.
ومن مشكلات التعليم الشائعة في البلدان النامية، الانفصام بين لغة العلم ولغة الحياة اليومية. ونعني بذلك دراسة العلوم المضبوطة بلغة أجنبية يظل غالبية الطلاب، ما عدا أبناء القلّة ذات الحظوة، عاجزين عن التعامل بها، يظل غريباً عنهم عالمهم وواقعهم، ويشكل في أحسن الحالات قشرة خارجية لا تتجاوز السطح. بينما عالمهم المعاش تحكمه اللغة الأم المشحونة بالانفعالات والخرافة، والبعيدة كل البعد عن العملية.
إن مسألة تعريب العلوم المضبوطة وتدريسها باللغة الأم من المسائل الملحة، وهي تمسّ قضية ديمقراطية التعليم بالصميم. هل نعلّم العلوم المضبوطة بلغة الشعب، كي نسهم بذلك في إدخال القوالب العلمية على هذه اللغة، ومن ثم على الذهنية نفسها، باعتبار أن اللغة (كما أصبح معروفاً في علم اللسان) تشكل الذهن وتحدد النظرة إلى الوجود، أم نستمر في الحفاظ على الانشطار بين العلم والحياة، ومن ثم نرسخ استمرارية التخلف الذهني عند القطاع الأكبر من المواطنين.؟!!.
من استعراضنا لأسباب تخلف الذهنية، رأينا أنها تتضمن عنصر قهر حياتي يقع الإنسان المتخلف ضحية له. قهر الطبيعة وغوائلها، قهر المتسلط في المجتمع الزراعي، قهر التقاليد العشائرية الجامدة التي تشل الفكر، وتمنع الموقف النقدي من ظواهر المجتمع وأنظمته، ثم القهر التي تمارس السلطة في المدينة على اختلاف وجوهه وأشكاله وتبريراته. كل ذلك يخلق جواً عاماً من العنف يمارس على الشخصية، مانعاً تفتحها وانطلاقها وتصديها بشكل أوثق لمختلف قضاياها الوجودية. ويحاول الإنسان المقهور، خلال مرحلة الرضوخ، من إدخال شيء من التوازن إلى وجوده من خلال عدة وسائل (التمسك بالتقليد والماضي المجيد، الذوبان في الجماعة، وعلاقة الاتكال) إبعاد شبح القلق الذي يلفه والاحتماء من التهديدات المتنوعة التي تزرع مسيرة حياته. فالإنسان المتخلف كالمجتمع المتخلف سلفي أساساً يتوجه نحو الماضي ويتمسك بالتقاليد والأعراف بدل التصدي للحاضر والتطلع إلى المستقبل، وتزداد السلفية شدة وبروزاً بمقدار تخلف المجتمع، وبشكل يتناسب طردياً مع درجة القهر التي تمارس على الإنسان فيه. وتترسخ السلفية من الناحية الذاتية بمقدار الشعور بالعجز عن مجابهة تحديات الطبيعة والمتسلطين، على اختلاف فئاتهم ومراتبهم. وهكذا فإذا كان بعض علماء الاجتماع، يعتبرونها من الخصائص الأساسية للتخلف الاجتماعي وإذا ذهب بعضهم الآخر إلى حد القول بأن التخلف هو أساساً تحكّم السلفية في حركة المجتمع، فإنها تجد لها تعزيزاً وتوكيداً لدى الإنسان المقهور الذي يتمسك بها. فهي من هذه الناحية ليست فقط خاصة ببنائية اجتماعية بل في الوقت نفسه آلية دفاعية نفسية ففي حين تشكل اجتماعياً، موجهاً للسلوك، وقانوناً يضبطه، نرى الإنسان المقهور، من الناحية النفسية، يتخذها معياراً لحياته ونظرته إلى الوجود. وهكذا يتلاقى ويتضافر الاجتماعي والذاتي على الدوام.
تشيع السلفية بشقيها (الرضوخ للتقاليد والأعراف، والاحتماء بالماضي وأمجاده)، من الناحية النفسية، بمقدار درجة القهر التي تمارس على إنسان العالم المتخلف، وبمقدار إحساسه بالعجز والضعف والغلبة على أمره إزاء غوائل الطبيعة وعنت المتسلطين. وهي لذلك تشكل آلية دفاعية إزاء تحديات لا قبل له بها، تشل مبادراته في الحاضر وتسد أمامه آفاق الخلاص المستقبلي. هذه الوظيفة الدفاعية قد لا تبدو على السطح بشكل واضح في فترات السكون الاجتماعي، ومن ثم قد يبدو من المستغرب لأول وهلة القول بوظيفة كهذه. ولكن عندما يتعرض إنسان العالم الثالث لغزو متسلط خارجي يرمي بكل ثقله للسيطرة عليه، وعندما يعيش هنا الغزو كقوة حارفة لا قبل له لمجابهتها وإيقاف اجتياحها لأرضه وكيانه وتراثه ورزقه، تبرز السلفية بوضوح كوسيلة حماية من خلال الانكفاء على الذات، والرجوع إلى الماضي التليد الأمثلة على ذلك كثيرة وفصيحة، بعضها قديم العهد والآخر حديثه، في المجتمع العربي، أحدثها عهداً ما يجري في العراق اليوم الذي يتعرض لمحاولات استلاب حضاري ضارية ومنظمة يواجهها البعض بالاحتماء بالتراث، والعودة إلى الماضي، والتمسك بالتقاليد لدرء تهديد الغزو الخارجي للهوية القومية.
استعرضنا في هذا البحث بعض الملامح البارزة لبنية التخلف الاجتماعي، وما تولده من سيكولوجية خاصة عند الإنسان المقهور، وبعض الأساليب الدفاعية الأكثر بروزاً التي يجابه الإنسان المتخلف من خلالها مأزقه الوجودي. هنالك لا شك جوانب هامة كثيرة على كل صعيد لابد للأبحاث الميدانية أن تكشف عنها مستقبلاً وما نستطيع توكيده منذ الآن هو أن الخصائص النفسية التي تميز شخصية الإنسان المتخلف وآلياته الدفاعية تشكل في الكثير من الحالات عقبات جدية في وجه التغيير الاجتماعي وتكوّن كوابح هامة لمشاريع التنمية. وهنا يكمن خطرها تحديداً، وتبرز أهمية اكتشافها والوعي بها ومعرفة كيفية تحريكها لحياته وتحكمها بها، ذلك هو أيضاً المبرر الأساسي لبذل جهد كبير للأبحاث في هذا الميدان، إذا أردنا لمشاريع التغيير والتطوير في مجتمعنا العربي أن تنطلق من أسس صلبة تحيط بالواقع وتتحكم بالقوى التي تحركه. بذلك وحده يمكن للآمال التي نضعها فيما نرسم من مخططات تنموية أن تؤتي بعض أُكلها.
____________________________________________________________________________
المراجع
1- د. مصطفى حجازي، التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور.
2- د. فيصل سعد، التخلف والتنمية في ظل العولمة الرأسمالية، مجلة المعرفة السورية، العدد 459، آذار 1999.
3- محي الدين صبحي، وعي التخلف، مجلة العربي، العدد 444 تشرين الثاني 1995.
4- نمر الشاهين، التخلف والتبعية، مجلة المعرفة السورية، العدد332 أيار 1995.

 

الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا