|
||||
فكر إسلامي |
||||
السلم والجهاد في فكر الإمام الشيرازي (قدس سره) |
||||
د. خليل الربيعي |
||||
تتنازع الفكر الإسلامي السياسي المعاصر حول العلاقة مع الأخر نظريتان؛ الأولى ترى أن الأصل فيها هو الحرب والجهاد، والسلم والصلح هما الاستثناء، وإلى هذه الرؤية تميل اغلب المدارس التي تقسم العالم إلى دار حرب ودار سلام. في حين ترى النظرية الثانية أن السلم هو الأصل وان الحرب وسيلة لحفظ السلم، ولكل من النظريتين آثار على الواقع السياسي والاجتماعي بل وعلى النظرة للإسلام، إذ في ظل النظرة الأولى تبلورت نظريات صدام الحضارات التي تقوم على أساس التعارض في الرؤيا بين الديانات، والرغبة في فرض تصوراتها على الآخرين في حين أن النظرية الثانية تستند على إمكانية التعايش والتعارف والحوار بما يخدم البشرية وتطلعاتها المستقبلية. والسيد الشيرازي من ابرز المنظرين لنظرية السلم في العلاقات الدولية إذ لم تعد قضية السلم استحسانا من سماحته، وإنما أشادها على قاعدة رصينة من الأدلة الثقيلة (القرآن الكريم والسنة القولية)، والممارسة العملية أيضا للرسول الأكرم (ص) وال بيته (ألائمة المعصومين) عليهم السلام. وانطلاقا من إيمان السيد الشيرازي بان الدين الإسلامي رسالة تغييرية للفرد والمجتمع فانه يؤمن بأن عملية التغيير الفكري لا تحصل بالقوة، وإنما بالقناعة، وهذه تحتاج إلى أساليب سلمية وليست عمليات إكراه وقسر، ومن هنا فان الأصل في الإسلام هو السلم، سيما وان الإسلام رسالة يراد منها تغيير الناس في المعمورة. ولكن مثل هذا التصور يتعارض مع تأكيد القرآن على الجهاد وعلى استخدام القوة إذ أن الأحاديث النبوية دلت على أهمية الجهاد وانه باق إلى يوم القيامة، وهذا يعني أن استخدام القوة مبرر من الناحية الإسلامية. وللسيد الشيرازي أسلوب في حل هذه الإشكالية، قد يبدو انه تفرّد به وهو ينم عن قراءة واعية ومعمقة للواقع الدولي المتغير من جانب، وللنصوص القرآنية من جانب آخر بحيث وازن بين مبدأ السلم ومبدأ الجهاد من خلال أسلوبين: الأول: إيمانه بان للقوة استخدامات متعددة في الإسلام ولكن يغلب عليها طابع الردع (أي اعتمادها) لصيانة السلم وليس لزعزعته، إذ استخلص من الآية القرآنية الكريمة (واعدو لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) بأن تحقيق السلام لابد له من قوة كافية للحفاظ عليه (فقه السلم والسلام. ص254). ومع أن القوة الواردة في الآية مطلقة فهي ليست مقصورة على القوة العسكرية، فان الغاية منها ردع العدو وان قبل حصوله أي قطع الطريق على المعتدي من خلال الإيحاء له بان الإسلام قوي وان المجتمع الإسلامي قوي، ومن ثم لا يمكن النيل منه لتحقيق غايات المعتدي. ومن هنا سلط السيد الشيرازي على الفروق الجوهرية بين النظرية الإسلامية عن القوة ورؤية الغرب لها، فالإسلام أرادها قيدا على الآخر لكي لا يستخدمها لاستغلال الآخرين وقهرهم في حين أن الغرب يعتبرها وسيلة لفرض آرائه وأفكاره على الآخرين، ولعل في مقولة (العولمة) التي ينادي بها الغرب تعبيرا عن هذا التوجه لما تستبطنه هذه المقولة من اعتماد القوة لا سيما الاقتصادية والسياسية للضغط على الآخرين لقبول التصور الغربي للحياة وربما تلجأ هذه الدول إلى استخدام القوة تحت ذرائع متعددة قد تكون حقا ولكنها تخفي دوافع غير إنسانية. والسيد الشيرازي– وانطلاقا- من النصوص القرآنية والسنة القولية للرسول (ص) والأئمة عليهم السلام يعتقد أن امتلاك القوة يؤدي وظيفة المحافظة على كرامة الأمة وعزتها، فهناك فرق بين السلام والاستسلام، فالسلام يأتي من موقع القوة الرادعة في حين أن الاستسلام يحصل نتيجة اختلال توازن القوى لصالح احد الأطراف سيما وان صراع الحق والباطل يكاد يكون قانونا يحكم الوجود الإنساني ولذا فان امتلاك القوة يعزز من موقف الحق وأصحابه في مواجهة الباطل. والسيد الشيرازي وان آمن بان القوة (ليست في الجانب العسكري فحسب بل في جميع الجوانب الاقتصادية والإعلامية والاجتماعية والدبلوماسية وغيرها) (فقه السلم والسلام ص254) فان رؤيته للقوة العسكرية المادية انها ليست مطلقة، فهو يعتقد أن أسلحة الدمار الشامل لا تشكل عاملا مساعدا لتحقيق السلام، بل أن امتلاك هذه الأسلحة يخالف الإنسانية لما لها من ضرر عام يشمل الأبرياء، بل ويتعدى ذلك إلى الطبيعة التي هي أمانة في عنق البشرية، وأنها تمثل احد مرتكزات التنمية الإنسانية، فضلا عن مخالفة هذا الامتلاك للمبادئ القيمة للإسلام. والسيد لم يكتف ببيان موقف الإسلام من هذه الأسلحة وإنما يضع الوسيلة للتخلص عنها من خلال دعوته إلى نزع مختلف هذه الأسلحة عن جميع الدول، بل ويدعونا نزع الأسلحة الخفيفة. وفي دعوته هذه فانه يتجاوز ما توصل إليه العقل السياسي، من إيجاد معاهدة تحذر من انتشار الأسلحة النووية وكذلك باقي أسلحة الدمار الشامل، وهناك فرق بين حذر الانتشار وبين نزع هذه الأسلحة، هذا من جانب، ومن جانب آخر فان المعاهدات الدولية التي تنظم السلاح النووي منعت الدول من خارج النادي النووي امتلاك هذا السلاح في حين ان دعوة السيد تشمل حتى الدول النووية. وعلى الرغم من أن هذه الدعوة تنطلق من رغبة إنسانية صادقة لتجنيب البشرية ويلات الحرب، إلا إنها تبقى دعوة مرهونة بإرادة الحاكمين الذين لا يمتلكون مثل هذه الرغبة الصادقة. ولكن تبقى دعوة السيد إلى نزع الأسلحة الخفيفة محل اجتهاد خاصة وانه نزع هذه الأسلحة لا يحقق الغاية الأخرى من امتلاك السلاح سيما وأن القرآن تحدث عن هذا القوة بقوله تعالى (ومن رباط الخيل) على اعتبار أن الخيول كانت من أدوات الحرب في تلك المدة، فالإنسان مهما ارتقى في درجات التكامل يبقى يحتاج إلى وسيلة يحمي بها نفسه ان لم يكن من الإنسان نفسه فمن الحيوان وباقي الموجودات. كما ان وجود هذه الأسلحة ينسجم مع الطريقة الثانية التي امن بها السيد للجمع بين مبدأي السلم والجهاد وهي استخدام القوة للجهاد. طريق الجهاد وعلاقته بالسلم إن الحديث عن الجهاد وما رافقه من فتوحات كانت محل جدل فقهي بين التيارات الإسلامية وبالإجمال يمكن تقسيم الجهاد عند الشيعة الإمامية الإثنى عشرية إلى جهاد ابتدائي يراد منه نشر الدعوة الإسلامية بالقوة، وآخر جهاد دفاعي، ولكل من الجهادين احكامهما الخاصة وظروفهما مع تباين في النظرة إلى كل منهما بين الفقهاء. ويميل السيد الشيرازي إلى الجهاد الدفاعي مستلهما هذا الامر من السيرة العملية وتحديدا الحربية للرسول (ص) والأئمة المعصومين إذ يؤمن السيد بأن حروبهم كلها كانت دفاعية. ويبدو أن السيد يميل إلى الأخذ بالأساليب السلمية وعند الضرورة يتحول الجهاد لإحلال السلم والأمن، وهذا الرأي سارت عليه مواثيق المنظمات الدولية والإقليمية إذ إن الفصل السادس من ميثاق منظمة الأمم المتحدة ينص على الوسائل السلمية لتسوية المنازعات بين الدول في حين جاء الفصل السابع ليعالج الأزمة أو النزاع في حالة فشل الإجراءات السلمية لتسويته. وربما يتضح هذا من قول السيد إن (الحرب تكون عند الضرورة القصوى فقط) (فقه السلم والسلام ص258). والسيد وان أجاز الحرب والجهاد إلا انه حدد له أركانا ثلاثة هي: (أسبابها وشروطها وغاياتها)، لكي يميز بين اعتماد الحرب كوسيلة للتوسع وبسط النفوذ وسيادة القوى كما هو الحال الآن، وبين اعتمادها وسيلة لدفع ظلم يقع على الطرف الذي يلجأ إلى اعتمادها أو من اجل استرجاع حق سلب منه. ففيما يتعلق بالأسباب الداعية إلى استخدام القوة أشار السيد إلى قضية الدفاع من اجل حفظ الأوطان عندما يتعرض بلد المسلمين إلى الاعتداء والغزو من قبل الأعداء مستنبطا هذا الأمر من قول تعالى في سورة البقرة الآية 246 (ومالنا الا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا) وعلى الرغم من أن هذه الحالة تكاد تكون فطرية، إذ إن كل الأقوام تستخدم القوة للدفاع عن أوطانها فان السيد الشيرازي ومن شدة اهتمامه بالسلم وتقديمه على القوة والحرب، فانه رفض بقوة أن تكون الحرب من اجل الاعتداء على الآخر، في وطنه، هذا من جانب، ومن جانب آخر آمن بالأسلوب السلمي في مواجهة العدوان، سيما وانه عاش في فترة كان الاستعمار قد احتل اغلب البلاد الإسلامية. إن السيد الشيرازي انطلق من رؤية واقعية في معالجة هذا الأمر عندما أشار إلى أن الطرق السليمة لمواجهة الإرهاب الاستعماري (هو الأفضل وربما المتعين) (فقه السلم والسلام ص 251). وفي موقفه هذا اثبت القدرة الفائقة في تحليل الظرف السياسي، كما انه لم يعد ينظر إلى الأمور التكليفية لاسيما في هذا المجال في إطار الالتزام دون المصالح والغايات المترتبة على تشريعها، إذ إن موازنة عناصر القوة والضعف بين المسلمين واعدائهم تثبت ان كفة الميزان تميل لصالح الأعداء وهذا يسهم في زيادة معاناة المسلمين عند المواجهة، فضلا من ان الأسلوب السلمي أسهم في نيل الآخرين حقوقهم من المستعمرين كما هو الحال مع تجربة غاندي في الهند وكذلك في الجزائر. إن تحليل السيد الشيرازي للعلاقة بين القوة ورد المحتل وجدت لها صدى كبير في المجتمع العراقي بعد الاحتلال الأمريكي، إذ إن غالبية القوى السياسية آمنت بالمقاومة السلمية (أي اعتماد الصيغ والسبل السياسية) لمواجهة المحتل لإدراكها بالتفوق العسكري الذي يمتلكه المحتل أولا، ولقناعة بعض القوى انه سوف لن يبقى طويلا في العراق، إذ لم يعد للاستعمار المباشر قبولا في الشرعة الدولية، وانه أكثر استنزافا لطاقات وقدرات المحتل. اما الحالات الأخرى التي أجاز فيها استخدام القوة، فهي حالات يكاد يتفق عقلاء العالم على شرعية استخدام القوة من اجلها كالدفاع عن النفس، وهنا فإن السيد آمن بان الدفاع عن النفس تارة يكون المراد به الدفاع الشخصي (أي رد الصائل أو المعتدي) كما يطلق عليه في بعض كتب الجهاد. وتارة أخرى يكون الدفاع من اجل الآخر، أي حماية المستضعفين ورفع الظلم – بغض النظر عن كون المستضعف مسلما أم لا، انطلاقا من أمرين مهمين احدهما وحدة الجنس البشري في منظور الاستخلاف، لذلك لابد من إزالة كل القيود التي تقف بوجه وجوده وحركته في الدنيا، والأمر الآخر قناعة الإسلام بان هناك منهجا موحدا لتكامل البشرية وان هذا المنهج يتمثل في تفجير طاقات الإنسان عن طريق تهيئة مقومات التفجير وإزالة المعوقات والتي يعد الاستبداد السياسي من أهم عوامل تأخر المجتمعات وتخلفها. وأجاز السيد الشيرازي استخدام القوة للدفاع عن الأموال ولكن ضمن شروط معينة، ليس من اجل المال لذاته، لأن الإسلام يحارب أن يكون المال هدفا لذاته، وانما باعتبار المال وسيلة لتحقيق سعادة الإنسان سواء أكان فردا أم في إطار مجموعة معينة، فالإسلام مثلما يبيح استخدام القوة للمحافظة على الإنسان الذي يمثل غاية وهدف بالنسبة للمنهج الإسلامي كذلك يعمل على المحافظة على الوسائل التي تمكن الإنسان من تحقيق أهدافه في الحياة والتي وضعها الله سبحانه وتعالى والتي تتمثل في استعمار الأرض وتحقيق السعادة الدنيوية. وإذا كان المال في السابق ينظر إليه على انه المال الشخصي، فان هذا المفهوم توسع في الوقت الحاضر يشمل الثروات الطبيعية والاقتصادية، ولذا يمكن الاستفادة من الإذن الشرعي باستخدام القوة للمحافظة على المال، لتوسيع هذا المفهوم حتى يشمل المال العام أيضا، سيما وان هذا المال أكثر أهمية لحركة المجتمع من المال الفردي، مع تأكيد القران على الوظيفة الاجتماعية للمال إذ كثيرا ما يعبر عنه بصيغة الجمع كما جاء في قوله تعالى (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) في حين ان المال هو مال السفيه. ومثلما سعى الإسلام للمحافظة على الإنسان والوسائل التي تحقق له هدفه في الحياة، سعى أيضا إلى المحافظة على المنهج الصحيح الذي يسهم في توجيه الإنسان وإرشاده لما فيه خير الدنيا والآخرة وهو الدين، إذ أجاز الإسلام اعتمادا القوة لحفظ الدين من التشويه والانحراف انطلاقا من الفهم الإسلامي الدقيق لوظيفة الدين في المجتمعات، إذ لم يعد الدين مجرد أوامر ربانية علينا الالتزام بها امتثالا لمفهوم العبودية بل تعدى الأمر إلى فهم الدور المؤثر للدين في صلاح المجتمع واستقراره وتقدمه وتكامل حركته، ولذا فان أية إعاقة للدين تعني إعاقة لتطور المجتمع وتقدمه، وهذا الفهم يمكن استخلاصه من قول السيد الشيرازي (ان الإسلام يدعو إلى حفظ الدين لان المجتمع لا يستقر ولا يستقيم إلا به) (فقه السلم والسلام ص 264). وفي مجال المحافظة على الدين لا بد من التفريق بين ثلاث قضايا أساسية هي: المحافظة على الدين وتهيئة مقدمات نشر الدين، وعملية التبليغ والنشر إذ كثيرا ما نجد الخلط واضحا بين هذه الأمور لدى الكتاب والباحثين عمدا أو سهوا، فالإسلام طالب بالدفاع عن الدين كمنظومة فكرية وقيمية لما له من دور في حركة الفرد والمجتمع، كما انه حارب من يواجه عملية نشر الدين من خلال الضغط على المؤمنين بالقوة والإكراه لإرغامهم على التخلي عنه، في حين لم يجز استخدام القوة لنشر الدين كما جاء في قوله تعالى (لا اكراه في الدين)، ومن هنا يمكن التوفيق بين الآيات الداعية إلى استخدام القوة للمحافظة على الدين كما جاء في قوله تعالى (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله) وبين الآيات التي تتحدث عن الجانب السلمي في التبليغ والنشر بل وحتى في مواجهة الخصم كقوله تعالى (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن). إن مثل هذا التحليل يدفع عن الإسلام شبهة انتشاره بالسيف رغم إقرارنا ان هناك حالات كثيرة من الفتوحات لم تتم على أساس الغاية من وراء استخدام القوة وانما كان دافعها اقتصادي وآخر لإثبات قوة الدولة وقدرتها على التأثير في الوسط العالمي لحركتها. وحتى في الحالة الثانية وهي ممارسة الضغوط على المؤمنين بالرسالة لثنيهم عنها فان السيد الشيرازي آمن ومن خلال تحليل حدث الهجرة- بان الوسائل السلمية مقدمة على الوسائل العسكرية والحربية إذ اعتبر الهجرة انتقال من موقع الحرب إلى موقع السلام، وهو تحليل غاية في العمق ويتسق مع رؤية السيد بان الأصل هو السلم وليس الحرب. ورغم ما في الهجرة من جوانب سلبية نفسية وشعورية واقتصادية، فان الإسلام انطلاقا من حرصه على إنسانية الدين من جانب والمحافظة على الإنسان من جانب آخر، وعلى سلمية وسائل نشره، دفع المؤمنين إلى الهجرة إلى الأماكن التي يستطيع أن يقيم فيها عباداته وشعائره الدينية لان في الهجرة أمن للدين،من خلال توفير الأمن لحامليه، وأنها قد تكون وسيله لنقل الدين إلى بقعة أخرى، سيما وان الإسلام لا وطن له، وانما هو دين عالمي يتوجه إلى الناس جمعيا. إن المتتبع لبحوث وأقوال السيد الشيرازي يصل إلى استنتاج مفاده ان القوة هي وسيلة لضمان السلم وتحقيق الاستقرار العالمي، وليست وسيلة للمحافظة على النظام السياسي، كما هو الحال مع عدد من المنظرين، والتي أدت فيما بعد إلى شيوع ظاهرة الانقلابات العسكرية من ناحية وظاهرة الاستبداد السياسي من ناحية اخرى، والغريب ان نجد من يحاول ان يضفي المشروعية على الفعل الصادر من هؤلاء المستبدين، إذ حفل تاريخ الفكر الإسلامي لا سيما في عصور التدهور والانحطاط بأسماء تبرر سلطة المتغلب وتضفي عليها الشرعية والمشروعية على أفعالها. كابي حامد الغزالي وابن تيمية ومن جاء بعدهم من وعاظ السلاطين ولذلك جاءت نظرة السيد الشيرازي على النقيض من هذا الفهم والتصور، إذ آمن ان استخدام القوة مدعاة لزوال الملك انطلاقا من القول المنسوب للإمام علي (عليه السلام) (ان سفك الدماء مدعاة لزوال الملك) ولقد اثبت الواقع صحة هذا التحليل، فقد تهاوت أنظمة دموية ومجرمة رغم امتلاكها لعناصر القوة نتيجة استخدام القوة ضد شعبها، إذ حصل الانفصال الشعوري والنفسي بين الحاكم والمحكومين، تحول فيما بعد إلى مقاومة سواء كانت سلمية أم عسكرية أدت إلى سقوطه ولعل في تجربة صدام خير مصداق لهذا التحليل. أما شروط استعمال القوة فيحددها السيد الشيرازي بالاتي: أولا: إجازة من بيد ه الأمر إن توفير دواعي استخدام القوة لا تكفي لوحدها عند السيد الشيرازي ليكون الأمر مشروعا وانما يحتاج إلى إذن (من الناحية الشرعية) أو ما يعبر عنه قرار سياسي، وهذا القرار أو الإذن الشرعي لا يمكن ان يصدر من جهة لا تتمتع بالقدرة على تطبيق الموضوع على العنوان الكلي للحكم، إذ ان سفك الدماء يحتاج إلى إذن شرعي، وهذا الإذن لا يتحقق الا من جهتين فقط عند السيد الشيرازي هما : 1- إذن المعصوم: وهذا الأمر يرتبط بوجود المعصوم الفعلي والقدرة على ممارسة دوره الشرعي، ولذا فان المصداق الحقيقي لهذا الإذن تجلى في مواقف الرسول (صلى الله عليه وآله) والإمام علي (عليه السلام) إثناء خلافته. وبما ان الأداء الفعلي للمعصوم غير متحقق الآن (في عصر الغيبة) فان هذا الإذن منحصر بـ: 2- إذن الفقيه الجامع للشرائط دون غيره، ولكن السيد الشيرازي ادركا منه لخطورة هذا الأمر، لم يجعل الأمر مقتصرا على فقيه واحد، وانما جعل قرار الحرب (الإذن) منوطا بالفقهاء المتواجدين زمن الحاجة إلى الإذن الشرعي من خلال اعتماد شورى الفقهاء المراجع، وهو أمر لم يسبق حسب علمي إليه احد من المراجع أو المنظرين والمفكرين الإسلاميين، إذ إن اغلبهم يشير إلى أن صدور حكم من مرجع ما يجعله ملزما حتى لمقلدي الآخرين. واشتراط الشورى بين الفقهاء يأتي في سياق اهتمام الإسلام بحياة الإنسان واعتبارها قيمة عليا، ولذا لا يناط أمر القتال بفرد من الفقهاء بل يحتاج إلى تقليب الأمر من وجوهه المتعددة ومعرفة الجوانب الايجابية والسلبية لهذا الأمر وان الشورى تحقق مشاركة لأفكار وعقول المراجع الآخرين في هذا الأمر عملا بما روي عن الإمام علي (عليه السلام) قوله (من شاور الناس شاركهم في عقولهم). ولم يكتف السيد باستشارة الفقهاء وانما أضاف إلى إذن المراجع شرطا آخر تمثل في استشارة الأخصائيين في جميع المجالات التي لها صلة بالحرب من عسكريين وإعلاميين واقتصاديين وغيرهم. وفي هذا الرأي من القوة والواقعية ما يصلح لان يكون دعوة إلى اعادة بناء العلاقة بين المختص والفقيه بما يعود بالنفع على الأمة ودينها، وبما يؤدي إلى ردم الهوة بين الاكاديمي والفقيه أو طلاب الحوزات العلمية، ويعيد اللحمة إلى الديني النبوي. ثانيا: ان تكون ردا على عدوان وهو المعبر عنه عدم البدء بالقتال والذي يكاد يكون من المسلمات لدى الشيعة الإمامية، وهذا ينسجم مع الرأي الذي يتبناه السيد الشيرازي من ان الأصل هو السلم وان القوة تراد لصنع السلام، وفي ضوء هذا الشرط فان السيد الشيرازي وفاقا لما جاء به القرآن الكريم لا يضفي المشروعية على قتال غير المعتدي سواء كان قادرا على حمل السلاح أم لا، طالما انه لا يمارس العدوان على الإسلام والمسلمين. وهذا الشرط يفقد الاتجاهات والتيارات التي توسع من مفهوم الجهاد ليشمل المدنيين وأحيانا ذرية وزوجات المقاتلين، يفقدها مشروعية عملها ويدخلها في دائرة المعتدين، لانها تسلب الآخرين حقوقهم. ولعا ما تشهده الساحة العراقية من أعمال إرهابية تحت مسمى الجهاد خير مصداق للخلط بين مفاهيم الشرعية ومشروعية الأعمال وبين الاجتهادات الشخصية، إذ إن استهداف المدنيين ورجال الشرطة والجيش يعد خروجا على احكام الجهاد التي اجازها الإسلام، وإذا كان في الماضي قد حرم الاعتداء على ممتلكات الآخرين (الزرع والأرض) وغيرها كما جاء ذلك في النصوص النبوية (لا تقطعوا شجرة) فان ما نشاهده اليوم من استهداف الأبنية والمحلات قد يكون محل إشكال من هذه الزاوية أيضا. ثالثا: أن تكون الحرب منضبطة بقوانين الإسلام للحرب والتي ورد ذكرها في وصايا الرسول (صلى الله عليه وآله) والإمام علي (ع) لقادة الجيش ومنها ما يرتبط بمقدمات الحرب وطرق مرور الجيش، إذ حرم الإسلام الاعتداء على أهل المناطق التي تكون في طريق سير الجيش طالما انها لم تقاتل وتحارب، وكذلك ما يرتبط بالحرب منها كما ذكرنا النهي عن مقاتلة غير الخصم (الحامل للسلاح والمشاركة في المعركة)، وكذلك بعد انتهاء الحرب إذ وضع الإسلام ضوابط لمعاملة اسرى وجرحى العدو بل وحتى قتلى العدو. رابعا: التقيد بغاية الحرب إن الإسلام وكما قلنا مرارا أراد الحرب لدفع العدوان وتحقيق السلام، ولذا فان القتال مشروط بتحقيق الهدف وإذا ما تحقق هذا الهدف فلا يجوز استمرارها وتحقيق هذا الهدف يتم عن طريقين: 1- إعلان حالة السلام من قبل العدو وفي هذه الحالة يطالب السيد الشيرازي بعقد الصلح معهم إذ إن القوم الذين يعتزلون المعركة ولم يقاتلوا المسلمين لا سبيل للمؤمنين عليهم بقوله تعالى (وان جنحوا للسلم فاجنح لها). 2- تحقيق الأهداف من خلال هزيمة العدو وعندها تتوقف الحرب وتمثل هذه الأهداف لمنع الفتنه والدفاع عن حقوق المؤمنين، إذ ليس في الإسلام حب إراقة الدماء أو الانتقام من العدو. وهكذا ومن خلال العرض السابق تبين لنا أن السيد الشيرازي من دعاة السلم والسلام في العالم، وان دعوته هذه مبنية على قراءة معمقة للنصوص القرآنية والسنة النبوية، وتحليل واع لواقع عالم اليوم، وهو برؤيته هذه أعاد للإسلام في أذهان الآخرين الصورة الايجابية عنه بان دين الخير والتسامح والإخاء، وليس دين القتل والإرهاب وسفك الدماء دون وجه حق. كما أن قراءته هذه تنسجم مع الغايات الأساسية للإسلام والمتمثلة بإعادة التوازن إلى النظام الاجتماعي الذي يختل من خلال اختلال قيم الأخوة والإنسانية نتيجة هيمنة الأنظمة المستبدة على مقاليد الأمور. إن تعميم هذه الرؤية من خلال تسليط الأضواء إعلاميا وفكريا يمكن أن يسهم في إشاعة ثقافة السلم في المجتمع العراقي الذي مزقته الأفكار الاقصائية والظلامية تحت عناوين الجهاد والمقاومة حتى أصبح شيعا يقتل بعضه بعضا. ___________________________________________________________________________________ * ورقة مقدمة إلى ندوة عقدها مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث لمناقشة كتاب فقه السلم والسلام. http:// www.shrsc.com |
||||
|