الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا

رحلتي الباريسية لفهرسة وتصوير المخطوطات العربية

 

د. عدنان جواد الطعمة

 منذ أن عملت كمحضر كيميائي في قسم الكيمياء عام 1958 بكلية التربية وكانت دراستي الثانوية في الفرع العلمي، أصبح اتجاهي وميلي الخاص واضحا باتجاه الفروع العلمية، ولكثرة ما قرأت من كتب ومجلات عن تاريخ العلوم عند العرب والمسلمين ترسخت في ذاكرتي ونفسي الرغبة الشديدة في البحث والتقصي عن المخطوطات العربية والإسلامية في العلوم البحتة في مكتبات ومتاحف العالم. وفي يوم الرابع عشر من ديسمبر عام 1963 سافرت بالقطار من بغداد عبر تركيا إلى ألمانيا. وكان هدفي الرئيسي السفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية لغرض مواصلة دراستي العليا.

وحال وصولي ألمانيا في الرابع والعشرين من شهر ديسمبر عام 1963 تغيرت وجهة نظري وذلك بتأثير من أحد أصدقائي المقربين الأخ الدكتور محمد علي إبراهيم الطويل الذي أقنعني بالبقاء في ألمانيا، لأنها قريبة من الدول الأوروبية والعربية.

بقيت في ألمانيا لمدة سنتين درست اللغة الألمانية ودخلت دورات تعليمية تدريبية في الكهرباء.

وفي أثناء إقامتي في ألمانيا في العامين 1964/ 1965 قمت بزيارة مكتباتها للتعرف على ما كتبه المستشرقون والعلماء الألمان عن علوم العرب والمسلمين بالإضافة إلى مراجعة فهارس المخطوطات العربية والإسلامية في مختلف ميادين العلم والمعرفة.

 بعد اطلاعي على الكم الهائل من المخطوطات العربية والمصادر الألمانية الكثيرة أثار الموضوع في نفسي حب الفضول والإطلاع بحماسة على ما اكتشفه وكتبه الأجداد.

غادرت ألمانيا في يوم 1/1/1966 عائدا إلى بغداد. وحال وصولي بغداد عدت إلى وظيفتي السابقة كمحضر كيمياوي في قسم الكيمياء، وكان رئيس قسم الكيمياء في حينه البروفسور الدكتور عبد العزيز كاظم (أبومريم). وعلى الفور بدأت بدراسة اللغة الألمانية في كلية اللغات وأنهيت دراستي الجامعية في موضوع اللغة الألمانية عام 1970. وفي الفترة 1970– 1972 قمت بتدريس طلبة الماجستير في قسم الكيمياء بكلية العلوم بالأعظمية موضوع اللغة الألمانية كلغة ثانية.

وفي عام 1972 ابتعثت إلى ألمانيا لمواصلة دراستي العليا والحصول على شهادة الدكتوراه في موضوع علم اللغة الألمانية وعدت إلى العراق بعد انتهاء دراستي العليا يوم 1/1/1976.

وقد تم تعييني مدرسا للغة الألمانية في كلية التربية والآداب في الوزيرية. وقد باشرت عملي بالإضافة إلى ذلك كباحث علمي في مركز إحياء التراث العلمي العربي التابع لجامعة بغداد، منسبا بدءا من العام الدراسي 1977– 1978.

كان مقر مركز إحياء التراث العلمي العربي في بناية ديوان رئاسة جامعة بغداد في منطقة الجادرية. وكان رئيس المركز المرحوم الدكتور ياسين خليل.

كما أصبحت في الوقت ذاته عضوا للجنة الترجمة العليا في وزارة الإعلام لغرض انتقاء ودراسة الكتب الألمانية المراد ترجمتها إلى العربية.

أجريت إتصالات مكررة مع الأساتذة والباحثين العراقيين للإستفادة من خبراتهم وتوجيهاتهم، أخص منهم بالذكر الأستاذ المرحوم كوركيس عواد والمرحوم الأستاذ ميخائيل عواد والأستاذ المدقق والباحث المحقق المحامي هلال ناجي وأساتذة آخرين من المهتمين بشؤون فهرسة وتحقيق المخطوطات العربية.

واتفقت مع الأخ الأستاذ هلال ناجي في حينه على مشروع ترجمة فهارس مكتبة برلين من الألمانية إلى العربية ويقوم الأخ الفاضل هلال ناجي بمراجعة الترجمة ودعمها بالمصادر العربية على أن يصدر في كل سنة أوسنتين جزء واحد منها، إلا أن هذا المشروع لم يتحقق بسبب مغادرتي العراق عام 1978 إلى ألمانيا.

قمت بدراسة القواعد الألمانية لفهرسة المخطوطات العربية والإسلامية، فأصبحت لدي خبرة متواضعة عامة لفهرسة ودراسة المخطوطات العربية ومواطن وجودها في مكتبات أوروبا وخصوصا في ألمانيا.

وقد فاتني ذكر قيامي بفهرسة المخطوطات العربية والإسلامية المحفوظة في مكتبة الجمعية الإستشراقية الألمانية بمدينة هاله/ ساله أثناء دراستي العليا والحصول على شهادة الدكتوراه في موضوع تدريس اللغة الألمانية كلغة ثانية للأجانب في الفترة الواقعة ما بين 1972– 1976. وقد صدر فهرسي الأول في مطلع عام 1977 بعنوان: فهرس المخطوطات العربية المحفوظة في مكتبة الجمعية الإستشراقية الألمانية بمدينة هاله/ ساله الذي طبع بمطبعة النجف وفي مدينة النجف الأشرف.

وقبل صدور فهرسي أعلاه ناقشت مشروعي الخاص حول فهرسة وتصوير المخطوطات العربية العلمية في المكتبة الوطنية بباريس ومكتبة المتحف البريطاني بلندن ومكتبة الدولة الألمانية ببرلين مع السادة المذكورين أعلاه وجلب مصورات تلك المخطوطات إلى العراق لكي يقوم الأساتذة المختصون بتحقيقها ونشرها. وقد شجعني الجميع على إنجاز هذا المشروع الجليل وقررت القيام بتوحيد فهرسة المخطوطات العربية بادئ الأمر في موضوع الرياضيات والهندسة والحساب والجبر والمقابلة والمثلثات للمكتبات الآنفة الذكر ثم في الرحلة الثانية القيام بفهرسة وتصوير المخطوطات العربية في الصيدلة والطب والكيمياء..الخ.

كان المرحوم والدي السيد جواد كاظم الطعمة يعاني من آلام واوجاع الكليتين لوجود الحصى فيهما، فقررت مصاحبة والدي إلى الأطباء المختصين والإشراف عليه وإرجاء سفري إلى أوروبا إذا لزم الأمر. ثم راجعنا آخر طبيب حاذق جراح لا أتذكر إسمه بالضبط ولعله البير متي على ما أعتقد بناء على طلب ورغبة المرحوم والدي لإجراء عملية لإستخراج الحصى من الكليتين.

سأل والدي الجراح هل بإمكانك إجراء العملية بنجاح؟

فأجابه الطبيب: يا عمي، أنا من أشهر الجراحين في العراق ومنطقة الشرق الأوسط وأؤكد لك بأني أستطيع إجراء عملية لك بشفرة (موس) الحلاقة بنجاح، لكن الشفاء من الله سبحانه وتعالى.

وعندما سمع المرحوم والدي جواب الدكتور إنتابه شعور مزيج من الخوف والقلق، وشكر الطبيب وقال لي: (دعنا نعود للبيت). فقلت له: (يا والدي هذا جراح ماهر وهذه فرصة نادرة استطعنا أخذ موعد معه فتوكل على الله ودع الجراح يجري لك العملية. وأنا سأصاحبك في المستشفى وأشرف عليك وأقوم بخدمتك)، لكن والدي أصر على العودة إلى البيت.

أخبرت والدي عن رحلتي إلى فرنسا وبريطانيا وألمانيا لمدة شهرين أوثلاثة والتمست منه بألا يجري العملية في غيابي، فوعدني بذلك وقال: (سافر برعاية الله).

وعندما تأكدت من المرحوم والدي بأنه لن يجري العملية في غيابي، قمت بإجراء ترتيبات السفر وذهبت إلى السفارة الفرنسية في بغداد وأخبرت الملحقة الثقافية الفرنسية بعد أن أهديت لها نسخة من فهرسي الأول، بأني عازم على زيارة المكتبة الوطنية في باريس لفحص وفهرسة وتصوير المخطوطات العربية العلمية وكذلك على زيارة معهد الإستشراق في جامعة السوربون وأيضا متاحف باريس وفرساي.

أخبرتني السيدة الملحقة الثقافية الفرنسية بأن أذهب إليها قبيل سفري بأسبوع أوأقل لكي تقوم هي بإرسال تلكس إلى صديقتها المادموزيل فانجيل Mademoiselle Vanjel)) المسؤولة عن العلاقات الثقافية في وزارة الخارجية بباريس آنذاك وتخبرها بأن تساعدني في تحقيق هدفي.

ولدى زيارتي المرحوم الصديق طارق العزاوي وعائلته الكريمة أم سميرة الساكنة في شارع الصاحب بن عباد في الوزيرية مقابل ساحة الكشافة ببغداد، أخبرتني السيدة أم سميرة بأن إبنتها ذكاء طارق العزاوي تدرس في أكاديمية الفنون الجميلة فن السيراميك في باريس وأعطتني عنوانها وقالت لي إبعث لها برقية فأنها ستستقبلك مع خطيبها في المطار.

بعثت رسائل إلى تلك المكتبات الثلاثة وبرقية إلى الأخت ذكاء طارق العزاوي لغرض إشعارها عن مشروعي وموعد وصولي.

وبعد التوكل على الله سافرت في يوم الخميس من نهاية شهر حزيران إلى باريس بالخطوط الجوية الفرنسية وعند خروجي من المطار شاهدت الأخت ذكاء طارق العزاوي وخطيبها أكرم ينتظراني، ثم ذهبنا إلى أحد فنادق باريس إسمه المومبرناس على ما أتذكر. أخبرت الأخت ذكاء بأن نتصل بالمادموزيل فانجيل صباح الجمعة لكي نأخذ منها موعدا. وفي صباح الجمعة إتصلت بحضور الأخت ذكاء وخطيبها بالآنسة فانجيل وحددت لي موعدا في الساعة العاشرة صباح الإثنين القادم.

سافرنا بالمترو يوم الإثنين، حيث رحبت بنا الآنسة فانجيل، مشكورة. وقالت لي سأوفر لك مترجمتين تتحدث إحداهما بالعربية والأخرى بالألمانية لكي ترافقانك إلى المكتبة الوطنية والجامعة وفارساي وبعض المتاحف بصورة رسمية. وقد وقع بادئ الأمر الخيار على السيدة الألمانية، لا أتذكر إسمها، التي كانت موجودة والتي ستصاحبني يوم الثلاثاء من الفندق إلى المكتبة الوطنية. شكرنا الآنسة فانجيل والسيدة الألمانية.

وفي الموعد المحدد أقلتني السيدة الألمانية بسيارتها قبل بدء الدوام من الفندق الواقع في شارع رودي سان جك rue de Sant Jeque إلى المكتبة الوطنية الفرنسية الواقعة آنذاك في شارع: Bibliothèque Nationale، 58، rue de Richelieu، 75084 Paris Cedex 02-Téléphone 742-02.51

زرنا رئيس قسم المخطوطات المسيو فاجدا (Monsieur Vajda، G. Georges) الذي رحب بي كثيرا وأراني بعض المخطوطات النادرة المحفوظة على رفوف وداخل خزانات المكتبة. كما أنه أراني نظام الكارتات الذي كان متبعا في قسم المخطوطات عام 1977. شرحت له خطتي لفحص وتصوير المخطوطات العربية في الرياضيات والهندسة والجبر وغيرها.

سبق وأن هيأت أوراقا دونت في كل ورقة أهم قواعد فهرسة المخطوطات العربية على هيئة رؤوس أقلام مختصرة وأمامها مجال للكتابة وذلك لعدم ضياع الوقت ولغرض إنهاء فحص المخطوطات العلمية في غضون أسبوعين على النحو الآتي:

رقم المخطوط الأصلي وفق سجلات المكتبة بين قوسين، ورقم تسلسل المخطوط، وعنوانه، واسم مؤلفه، وقياس المخطوط (طول المخطوط × عرضه بالسنتيمتر)، وقياس الكتابة بالسنتيمتر، وعدد أوراق وصفحات المخطوط، وعدد السطور في الصفحة (المسطرة)، ونوع الخط، واسم الناسخ إن وجد، وتاريخ النسخ، ونوع الورق، ونوع الغلاف، وأول المخطوط، وآخر المخطوط، وحالة المخطوط العامة على ما هومتبع في قواعد فهرسة المخطوطات العربية.

باشر عملي ثماني ساعات يوميا بدون إنقطاع. وبعد انتهاء دوام المكتبة كانت المترجمة تنتظرني أمام باب المكتبة كل يوم وتقلني إلى الفندق أو المطعم لتناول الغداء.

أما المترجمة الثانية فكانت السيدة عطية أو أتية تتحدث اللغة العربية بطلاقة وبلهجة لبنانية، لأنها ولدت وعاشت في لبنان مع عائلتها الفرنسية العربية لمدة 14 سنة، كما أخبرتني.

كانت مدام عطية تصاحبني إلى المتاحف وتريني معالم مدينة باريس وأحياءها الجميلة.

أما زوجها فكان من أشهر الأطباء في معالجة أمراض السرطان.

طلبت من السيدة عطية إجراء مقابلة مع رئيس القسم العربي أومعهد الإستشراق في جامعة السوربون. وبالفعل زرنا البروفسور مسيوآبل Abel Monsieur وكان اللقاء طيبا حيث دار بيني وبينه حوار عن الدراسات الإسلامية والشرقية وعن المستشرقين الفرنسيين أمثال: Blochet E.، Postel G.، Vattier P.، Sédillot J. J.، Beaussier A.، Slane Baron Mac-Guckin de، Derenbourg H.، Massignon L.، وغيرهم.

ثم قمنا في يوم السبت بسفرة إلى فرساي وكانت السيدة عطية تشرح لي تاريخ القصر وحديقته الغناء، كما شاهدت إحتفالات 14 تموز الصاخبة بصحبة السيدة عطية في باريس.

وفي أيام السبت والأحد زرت متاحف باريس وأهمها متحف اللوفر وبومبيدو والمتحف الحربي والمتحف الإسلامي مع الأخت ذكاء وخطيبها. وقد لفتت انتباهي إحدى غرف متحف اللوفر أو بومبيدو كان فيها حوضان كبيران من الرخام أوالسيراميك يبلغ نصف قطر الحوض الواحد أكثر من متر، وأحدهما يبتعد عن الآخر مسافة خمسة أمتار تقريبا. ذهبت ذكاء إلى الحوض الثاني وهمست بصوت واطئ جدا في داخل الحوض وقالت هالو، وأنا سمعت صوتها بصورة عالية جدا هالو أي رجع الصدى بأضعاف. وفي تلك اللحظة قدمت عائلة إنكليزية مع طفلتها الصغيرة، قلت لها هل تريدين أن تتحدثي مع والدك كالهاتف (تليفونيا) عبر هذا الحوض؟

فأجابتني بنعم. قلت لها إذهبي إلى ذلك الحوض وتحدثي في داخله بصوت واطئ جدا وقولي لوالدك صباح الخير، فإنه سيرد عليك أيضا بصوت واطئ، إلا أنك ستسمعين صوته عاليا مدويا.

فرحت الطفلة وعائلتها بهذا الإختراع الجميل الذي صنعه إما نصير الدين الطوسي أو بهاء الدين العاملي. وفي الرحلة القادمة إلى باريس، سأحاول البحث من جديد عن هذه الغرفة للتأكد من صانعها، إن شاء الله.

وبعد انتهاء عملي من فحص المخطوطات العربية وتصويرها حزمت حقائبي وسافرت في اليوم التالي المصادف 16/ 7/ 1977 إلى لندن لزيارة مكتبة المتحف البريطاني ومتاحف لندن وغرينيتش. وبعد مكوثي عشرين يوما سافرت إلى ألمانيا لزيارة مكتبتي جامعة ماربورغ ومكتبة الدولة الألمانية في برلين لغرض فحص المخطوطات العربية في الرياضيات.

وقد استغرقت رحلتي حوالي 80 يوما وعدت إلى العراق العزيز حاملا معي مسودات فهارسي الثلاثة التي ألفتها ومصورات المخطوطات.

طلب مني الأستاذ المرحوم الدكتور ياسين خليل رئيس مركز إحياء التراث العلمي العربي التابع لجامعة بغداد تسليم مصورات مخطوطات المكتبة الوطنية في باريس ومكتبة المتحف البريطاني لغرض وضعها تحت تصرف الإخوة الباحثين العراقيين في مكتبة المركز.

أما مصورات مخطوطات مكتبة الدولة الألمانية فأخذتها معي إلى ألمانيا، حيث صدر فهرسي الثاني عام 1982 في ألمانيا بعنوان:

فهرس المخطوطات العربية في الرياضيات (1) مخطوطات برلين، الذي كتب عنوانه الخطاط كريم.

ثم صدرت لي فهارس أخرى للمخطوطات العربية باللغتين الألمانية والعربية في موضوعات الطب والصيدلة والرياضيات والفلك وغيرها. ولدي ما يقارب 11 فهرسا بين تأليف وترجمة فهارس مخطوطات مكتبات أوروبية، لم تر النور لحد الآن، بعضها جاهز للطباعة وبعضها مخطوط.

ـــــــ

* باحث عراقي مقيم في ألمانيا

[email protected]

 

الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا