الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا

محاكمة صدام

من سلطة الخطابة إلى هيمنة الكتابة

 

حيدر علي

من الحقائق التاريخية المهمة التي تحتاج إلى إعادة نظر، وقراءة جديدة، وتأويل معرفي (ابستمولوجي/ نقدي)، هو التلازم المنطقي.

وبين ولادة الكتاب/ الكتابة، والسلطة/ القوة، بشكلها اللاهوتي (الديني)، والميثولوجي (الأسطوري)، كما هو الحال في تاريخ الأديان والأساطير الشرعية، أقول إن هناك تلازما منطقيا يحتاج إلى قراءة وتأويل ابستمولوجي، بمعنى كشف المخبوء والمحجوب عن الرؤية وفضح الانسقة السلطوية والكيانية (السلطة المطلقة)، التي تحتمي بالكتابة وتلوذ بالخطابة.

فلا نتعجب بعد ذلك أن تولد الكتابة في أحضان السلطة والقداسة والمقدس سواء كان سياسيا أو دينيا (متعالي) فمن كتاب الوحي وكتاب الحديث وكتاب السيرة النبوية، كما هو الحال عليه في الثقافة الإسلامية، مرورا بكتاب الملك (في الحضارة المصرية، وصولا إلى حفاوة (غايدرويس في الكتابة)، لأفلاطون، إذ أن أفلاطون بوعي أو بدون وعي كان ينظر إلى الكتابة نظرة إرتيابية بوصفها تعمل على الفصل بين العارف والمعروف أو بين الآتي والموضوعي وبالتالي تؤدي إلى حصول حالة من الاغتراب بين الإنسان والأشياء الخارجية التي يفترض أن تتأسس هذه العلاقة وفقا لأفلاطون بطريقة حميمية، تشعر الفرد بحضوره الحيوي ووجوده الممتلئ لا المغترب وهذا ما حدا بالقديس بولس أن يقول: (إن الكلمة تحييّ والحرف يميت).

من هنا نرى أن هناك ثمة تداخلات أنثروبولوجية (اناسية) بين هذه العلاقات المتفاعلة فيما بينها والمتصارعة بطريقة معرفية وأيديولوجية تارة أخرى.

من خلال هذه المقدمة أردنا أن نصل إلى مقدمة منطقية وهي اقتران اللغة بالسلطة أي المالك للغة مالك للسلطة وهذا الأمر هو الذي أدى إلى ولادة طبقة الكتاب، هذه الطبقة التي ستتولى شؤون الدولة أو تنظيم السلطة.

(نشأت الكلمة لتدل على ميلاد فئة متميزة من المختصين بالتدبير الكتابي لشؤون الدولة)، (اومليل، علي، السلطة الثقافية والسلطة السياسية، ص53).

لكن هل كانت وظيفة الكتاب هذه وظيفة معرفية أم أيديولوجية؟

أي هل كانت تصب في أهداف ثقافية منزهة عن كل سلطة بشتى صورها وأشكالها أم إنها كانت على العكس من ذلك؟ وهذا هو ما جعل علي اومليل يسمي مثل هؤلاء الكتاب بـ(خدام الاستبداد)، بل إن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد فحسب بل قال أيضا: (الكتابة ظلت محكومة بأصلها، وهو الخدمة)، فالكاتب خديم الخليفة أو السلطان، وقد قال الجاحظ: (الكتابة لا يتقلدها إلا تابع ولا يتولدها إلا من هو في معنى الخديم)، (اومليل، علي، المصدر نفسه، ص 54).

لذا نرى أن طبيعة الانتقال من الخطابة إلى الكتابة لا تتم بدون أن يكون هناك محتوى أيديولوجي بمضمون معرفي كأن يكون هناك فضاء أيديولوجي يرعى هذه النقلة كالمؤسسات الفضائية والثقافية.

جدل الخطابة والكتابة..

إن المتتبع لسير محاكمة الرئيس المخلوع بكل جلساتها يرى أن هناك ثيمة أساسية حكمت نص المحاكمة وهي (العلم/ الورقة/ الكتابة)*، وهذه الثيمة استطاع الرئيس المخلوع أن يجسدها بالخطابة الصورية أي الخطابة المعتمدة على الحركة والصورة التي تؤثر بشكل أو بآخر على ذهنية المتلقي العادي أو الرسمي الذي لا يؤمن إلا بالأيديولوجي الجاهز والمغلق أو المسلفن، بأغلفة ديماغوجية وقوموية شعاراتية.

أقول إن هذه الثيمة تم استثمارها بطريقة خطابية لأكثر من سبب إذ إن حضور الورق والقلم يؤسس للمكتوب والمكتوب يستدعي المكبوت السلطوي للرئيس المخلوع الأمر الذي جعله يتصور انه يمسك القلم ويكتب ويرتدي نظارته ويضع قدم على قدم يتصور انه لا يزال رئيس الدولة ولا يزال حاكما وقد تبدو صورته وهو يكتب يعيد لأذهاننا إحدى صوره الكبيرة وهو منحنٍ وممسك بالقلم بيده ويسطر بعض ما يكتب والمفارقة هنا أن بداية حكمه كانت بالقلم ونهايته كانت بالقلم أيضا.

نعود هنا إلى الخطابة التي استعملها الرئيس المخلوع هو والأخ غير الشقيق له برزان التكريتي، نرى أنها كانت متأسسة على أسس وجود خصم خارجي ينبغي الإيقاع به وهذا هو أحد تعاريف الخطابة.

(تقوم الخطابة بطبيعة الحال في الجوهر على التعارض لان الخطيب يتكلم على الأقل في مواجهة خصوم ضمنيين، كما أنها (أي الخطابة) ذات جذور خصامية عميقة) (اوبخ، والتر، الشفاهية والكتابة، ص 207).

ويقول في موضع آخر: (احتفظت الخطابة بكثير من الشعور الشفاهي القديم بأن الفكر والتعبير يقومان أساسا على المخاصمة والصيغ)، (اوبخ، والتر، المصدر نفسه، ص206).

من هنا نرى أن حكاية القلم**، والورق صارت فوهة واحدة في حديث الرئيس المخلوع لدرجة انه كتب على يده ورفعها أمام القاضي ليشير إليه بأنه إلى تلك اللحظة لم يحضروا له الورق والقلم، حتى يبقى يعيش وهم السلطة/ الكتابة، الذي لا يستطيع أن يتخلى عنه في كل الأحوال والظروف كأنه منزل من السماء باسم هذه الجماعة التي لا تفهم من السياسة شيئا إلا الحكم الشمولي، والكليانية القبلية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* كان الرئيس المخلوع يشكو بصورة مستمرة من عدم إحضار الورق والقلم إليه أثناء المحاكمة، هذا يعني انه لا يستطيع أن يمارس سلطته إلا بهما.

** هل يمكننا أن ننسى الشعار الذي لطالما تم ترديده أبان النظام السابق وانطبع في لا وعينا إلا وهو (القلم والبندقية فوهة واحدة) إذ كان القلم يوقع على أمر قتل الإنسان العراقي والبندقية تنفذ.

 

الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا