الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا

ردك على هذا الموضوع

الاخيرة

صالح زامل

لقد وجدت ظاهرة العنف صورتها في الحرب فهي واحدة من الثيمات التي أخصبها الفن الإبداعي في الكتابة، وقد عرضتها الملاحم على أنها أعمال بطولية تُبنى على قحف أبطالها قمة ترتفع على أنها المجد والانتصار، وتغنت بها أكثر من بكائها نزيف الدم وما تخلفه في البنية الاجتماعية والاقتصادية من تخريب، على أن هذا الأمر لم يكن مقتصرا على الملاحم وحدها وعناية مجايليها وإنما استمر في حقب تالية، وفي إرثنا العربي نجد شواهد صارخة في حربي البسوس وداحس والغبراء وهما من الحروب التي استنزفت سنوات طويلة، ولا نعدم في الجاهلية واحدا من النصوص المهمة وهي المعلقة الحكمية لزهير بن أبي سلمى وفيها التفات في غاية الإنسانية أمام مشهد الخراب الذي تخلفه الحرب، وهي تتحدث عن سعي شيخين لإيقاف حرب داحس والغبراء، ولحقن الدماء، فتتغنى بمسعاهما على أنه قيمة أخلاقية عالية تقصر الحرب عن أن تعطي معادلا لها، فيقول زهير في أبيات من هذه المعلقة:

فَتَعرُكُكُمْ عَركَ الرِّحَى بِثِفَالِها          وتَلقَــــــحْ كِشَـافاً ثُم تُنتَجْ فَتُتئِمِ

فتُنتجْ لكُم غِلمـــانَ أشأَمَ كلُّهم           كأحْمَرِ عَادٍ ثُم  تُرضِعْ فَتَفْطِمِ

فتُغلِلْ لكُم ما لا تُغِلُّ لأهلِهـــــا           قُرىً بالعِــــراقِ مِن قَفِيزٍ ودِرْهَمِ

وهذا استثناء في النظام القيمي الذي تكرسه المجتمعات القبلية، والنصوص هي الأخرى أقل التفاتا للقيمة الإنسانية، وهو ما تمثله في نص مجاور لنص زهير معلقة عمرو بن كلثوم التي توظف ذات الصورة التي أشرناها لزهير لكن بوجهة أخرى منتمية إلى السياق القبلي الذي وجد في الحرب البطولة، فيقول:

متى نَنقُلْ إلـى قـومِ رَحَانا       يكونُوا  في اللِّقاءِ لهَا طَحِينَا

يكونُ ثِفـالُها شَـرقِيَّ نَجْـدٍ      ولُهوَتُهـا قُضــــــــــــــــــاعَةَ اجمعينا

وشتان بين الرحى في أبيات زهير والرحى في أبيات عمرو بن كلثوم، وقد تصطرع القيمتان وهما النزوع الإنساني الشفيف وجسارة الحرب وقسوتها، وغلبة الثاني لأن الأول يكسر النظام القيمي وينحرف به من الشجاعة إلى الجبن في منظومتهم الأخلاقية، ونستعين بقول المهلهل بن ربيعه وهو يكرس هذا التناوح:

ونبكِي حينَ نذكرُكُم عليكُم          ونقتلُكُـم كأنّـا لا نُبَالي

فالقيمة في الشطر الأول لا تشابه تماما التي كرستها بداية الجملة في الشطر الثاني لاغية ومستبعدة للقيمة الأولى لتصبح شاهدا على تفاهتها، وتحسم بالانتصار لقيمة كرستها الحروب بالانقطاع للقتل وتجاهل المصائر التي تحترب، فيبرر فيها فعل القتل على أنه واجب ويعطى سمة التقديس.