ردك على هذا الموضوع

العلمانية..

حل لمشكلة أم هرب من حقيقة؟

عقيل رحيم

من النظريات المهمة التي دخلت إلى عالمنا التي كان لها صداها الواسع لدى المفكرين وأصحاب القلم العربي من أولئك الذين تأثروا بالفكر العربي في كافة مستوياته، نظرية فصل الدين عن السياسة المعروفة بالعلمانية، التي أعطت لكل واحدة من المنظومتين الدينية والسياسية مجالها الخاص الذي تعمل من خلاله ومن ثم لم تعد هناك حاجة لإجراء مزاوجة بين الدين والسياسة، بل أن الحل الشامل لجميع المشكلات التي يعاني منها الواقع العربي عموما والعراقي على وجه الخصوص لا يتم إلا من خلال قيام دولة علمانية متعددة الاتجاهات ولا تخضع لأي ضوابط دينية.
وقد طرح دعاة العلمانية أكثر من رأي لتبرير موقفهم الداعي إلى فصل الدين عن السياسة تتلخص في ثلاث نقاط رئيسية:
1- إن الدين لا يعبر عن حاجة ثابتة لدى البشر إنما نشأ التفكير الديني لدى الإنسان نتيجة لما كان يحيط به من ظروف موضوعية أثرت عليه سلبا مما أدى به إلى أن يستنجد- عن طريق مخيلته- بقوى غيبية صنعها ذهنه وليس لها وجود على مستوى الواقع، وهذه القوى الغيبية أو التهيؤات كانت النواة الأولى لنشوء الحس الديني لديه، وقد كانت هذه التصورات حافزا لبقاء الإنسان في مرحلة بدائية من حياته الاجتماعية، إلا أن الإنسان من خلال تطورها الاجتماعي لم يعد بحاجة إلى التمسك بفكرة غيبية أو معتقد ديني أو مقدسٍ متعالٍ ينظم له حياته ويرشده إلى تحقيق كماله ويجنبه الوقوع في التيه بل أصبح بإمكانه أن يجد حلولا لمشكلاته أكثر واقعية وبعيدا عن سلطة المقدس أو ما يسمى بالدين.
وبكلمة أخرى: إن الدين يعتبر ذا قيمة عندما كانت المجتمعات تعيش مرحلة الطفولة، ولكنه يفقد قيمته حتما عندما تصل هذه المجتمعات إلى رشدها وتقطع المراحل المتقدمة في سلم التطور.
2- إن الدين له مجاله الخاص الذي يتعلق بالجانب الذاتي من الإنسان، الدين غيب وروحانيات ولا علاقة له بالأمور التي تحدد علاقة الإنسان بأخيه الإنسان وبالطبيعة، أما السياسة فهي المصدر الذي يمد الإنسان بهيكلية محددة لكافة أبعاد الحياة الاجتماعية، الدين ساكن يعاني من حالة الجمود في الجانب الموضوعي من حياة الإنسان والسياسة متحركة تؤدي دورها بكل حيوية وبدون تقهقر.
3- إن إخضاع السياسة للدين- حكما ورجالا - سيؤدي إلى خلق حالة جديدة من الحالات المأساوية التي مر بها الإنسان في تاريخه عندما كانت السياسة خاضعة لحكم الدين ورجاله، حينما أطلق العنان لسلطة هؤلاء فتحكموا بالناس ومقدراتهم وكبتوا حرياتهم وساموهم سوء العذاب وخرج عدد الضحايا عن إطار العد والحصر، وخير شاهد على ذلك ما حصل في عهد بني أمية وبني العباس حينما أصبح السلطان خليفة الله فأخذ يقتل ويستولي على المقدرات باسم السماء، وهو ما حصل أيضا في أوربا حينما ترك الملوك السلطة بيد الكنيسة فحولت الناس إلى عبيد وأنشأت الاقطاعيات وأخذت تمتلك من الأموال والأراضي ما لا يملكه الشعب بمجموعة وأصبح الكلام عن أية نظرية أو أبتكار علمي خارج عن رأي الكنيسة ينوء بتعريض النفس إلى الهلاك.
ويظهر من خلال هذه النظريات الثلاث وجود نقطة التقاء ونقطة تقاطع، فهذه النظريات تلتقي من حيث إيمانها بضرورة فصل الدين عن السياسة هذا من جهة، ومن جهة ثانية ترى أن الفصل بين المنظومتين سيؤدي إلى حل المشكلات التي تواجه المجتمع.
أما نقطة التقاطع فهي اختلاف طريقة التبرير التي وضعها أصحاب هذه النظريات لفصل الدين عن السياسة والمناداة بفكرة العلمانية، فالنظرية الأولى ترى أن الدين مضى بمضي المرحلة البدائية للمجتمعات البشرية، والثانية تقصر دوره على مجال محدد، والثالثة تتحفظ منه.
أولا: إن أصحاب الآراء المتقدمة وإن قام رأيهم على ضرورة إقصاء الدين ووضع العلمانية كبديل له إلا أنهم وبدون شعور منهم قد أسسوا نظريتهم على دين آخر لا منظور بواسطة مفاصل الوجود الذهني ومحركيته للتاريخ، فالعلمانية مستقبل منشود، فهو غاية، والغاية مثل أعلى، وهذا المثل الأعلى مقدس، والمقدس دين مع اختلاف الخصوصيات.
ثانيا: إن تأسيس دولة علمانية بل الدعوة إلى العلمانية ينبغي أن يكون مساوقا لحالة ديمقراطية قائمة على رأي الأكثرية، وهذا من البديهيات عندهم، إلا أن الحاصل غير هذا، فالنظرية غير التطبيق، حيث أنهم لم يلجأوا إلى الديمقراطية ورأي الآخرين المعتقدين بالدين وما ذلك إلا لأنهم يعلمون أن الأغلبية هي أغلبية دينية لا علمانية، وبهذا يسقط لديهم من عوامل قيام الدولة العلمانية (= الديمقراطية).
والحاصل أن العلمانيين يقفون بين مفترق طريق، بين الظاهر والخفي، بين المعلن والمسكوت عنه، بين الدعوة إلى حل المشكلة بواسطة العلمانية وبين الهروب من قيد الدين الذي غلّفوه بإطار التحرر والديمقراطية، لذلك فأنهم لم يحلّوا المشكلة، بل إن ما حصل بالفعل هو الهرب من قانون اسمه الدين.

 

الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد 75

إتصــلوا بـنـــا