ردك على هذا الموضوع

جوهر التعدد والتنوع

أصالة التعدد مدعاة للتفاضل والتنافس والسياسة فن إدارة الاختلاف

نضير الخزرجي*

يظل التساؤل قائما عن الغاية من خلق الله للإنسان، كلما جاءت أمة اثر أخرى، وبنفس السياق يظل التساؤل مشرئبا بعنقه عن مغزى التعدد والتنوع في الخلق وفي الكون، وفي كل ما يحيط الإنسان من مشارق الأرض ومغاربها.
تكمن الإجابة في هذا الكون المحيط بنا، وبهذا الإنسان نفسه، فهذا التعدد الكوني هو الذي جعل الكون والأرض بهذا الجمال المتنوع الخلاق: (فالخلاقية والجمال تنبع من التفاعل التعددي بين عناصر الكون ومكوناته وثمرة لذلك الامتزاج الحيوي بين النباتات المتضادة التي تتداخل مع بعضها مكونة ذلك الإنتاج العظيم.
وإذا كانت المخلوقات الجامدة تتألف في الإبداع عندما تتوزع وتتعدد فان الإنسان الذي يمتلك روحا حية وعقلا دافقا وفكرا شعوريا يرتكز في أساسه وتكوينه على التعدد والتنوع حتى يستطيع التكامل والتصاعد عبر التفاعل العقلي والروحي.
ثم ان العلة الغائية من خلق الإنسان يمكن ان تنتفي مع انتفاء التعدد لأنه يعني انتفاء الحرية والاختيار، والقول بوحدة الوجود كما يقوله بعض الفلاسفة يعني سلب حرية الإنسان عبر اندماجه القهري، واضمحلاله الجبري في منظومة واحدة غير متجزئة، ولهذا فإن مبدأ وحدة الوجود ليس إلا تعبير واضح عن تلك المحورية الذاتية يبحث دعاتها عن المبررات الفلسفية لإلغاء الآخرين ودمجهم في منظومتهم الذاتية المتمركزة) (1).
التعدد وتفاوت العقول
ولسنا هنا في صدد تناول مسألة وحدة الوجود التي يكثر حولها اللغط بين علماء وفلاسفة المسلمين والتي طحنت تحت صخرتي رحاها أرواح الكثيرين من دعاتها، لكن ما يعني موضوعنا هو الجانب التعددي والتنوعي في المخلوقات في مقابل الوحدة البسيطة الصمدية لله الخالق، والإنسان المتعدد غير المتوحد هو من المخلوقات الذي يقع في دائرة السؤال والحساب والكتاب صاحب الإرادة والحرية والاختيار.  ولا شك ان فلسفة التنوع، وجوهر التعدد نابع من تفاوت العقول البشرية التي مهما تعالت فهي قاصرة عن فهم كل مراد الله في هذا الكون، فضلا عن قصورها في الإلمام بكل ما جاء به كتاب الله الكريم، وهذا القصور والتفاوت في الفهم، أحد المظاهر الجلية والواضحة للتعدد: (فتفاوت العقول يقتضي بالبداهة تفاوت الآراء، فسنة الله جرت في هذا الكون على التعددية.
{ومن كل شيء خلقنا زوجين}(سورة الذاريات: 49)، ولا يستثنى من ذلك الحاكم والمحكوم، فكل ما في الحياة يدل على التعددية.. ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولكنه وهو يعدهم لحياة لها قيمة.. يتركهم يدركون بقوة العزم والجهد والتفاعل والتجربة الغاية المنشودة من خلقهم ألا وهي الصعود بإنسانيتهم إلى ذروة الكمال الميسور) (2)، والتركيبة التي خلق الله الإنسان على صورتها تقتضي بطبيعتها الاختلاف: (إذ الإنسان وكما هو معروف مركب من العقل والشهوة (الغرائز) وهذه الغرائز لها دور كبير في التحكم ببعض الناس مالم يتمكنوا من تهذيبها وقهرها أي الإنسان معرض لارتكاب الأخطاء بل هو كثير الأخطاء إلا من عصم الله تعالى، فمقتضى ارتكاب الإنسان للخطأ اختلاف الآخرين معه في آرائه وتفاوت آرائه) (3)، وهذه الهدفية التي ينشدها الله في عباده، أي هدفية التكامل، هي جزء من رسالة الإسلام التي تتعامل بواقعية مع الإنسان على ما هو عليه: (وخالق الإنسان - تبارك وتعالى- يعلم مَن خلق وهو اللطيف الخبير، فقد وهب لعباده عقولا ومقدرات متباينة من شأنها ان تؤدي إلى اختلاف في نظراتهم وأفكارهم ومواقفهم من كثير من الأشياء، ولذلك فان الإسلام يتسع إلى تلك الاختلافات كلها التي لا تهدد وحدة الأمة، فيكفي ان تتفق الآراء، وتلتقي التصورات وتتوحد المواقف إزاء القضايا الكبرى والقواعد الأساسية، أما ما عداها من أمور فرعية، وقضايا ثانوية مما يساعد اختلاف الرأي فيها على الجنوح نحو الأفضل والأمثل فلا ضير فيه على ان يكون لهذا الاختلاف ضوابطه وحدوده، وقواعده وآدابه، وألاّ يؤثر على وحدة فكر الأمة ومواقفها من القضايا الأساسية الكبرى) (4).
المفهوم السياسي للتعدد والتنوع
 وعندما نمر على معاني ومفاهيم السياسة، نجد ان بعض الضليعين يعطون تفسيرات خاصة لمعنى السياسة تنسجم كليا مع طبيعة الاختلاف والتنوع في البشر، فهذا بيتر مادغويك (Peter Madgwick) يعرفها، بقوله: (السياسة هي الطريق الذي يسلكه المجتمع أو المجموعة لإدارة الخلافات والنزاعات)، ويقرر مادغويك: (ان الخلافات والنزاعات بين بني البشر هي جزء من تعريفنا وفهمنا لمعنى السياسة، فلا تعني السياسة إدارة الحكم فحسب، فالمدرسة على سبيل المثال يسيطر عليها الجانب التعليمي الأكاديمي، ولكن عندما يدب الخلاف بين الإداريين والكادر التعليمي، فان السياسة تدخـل في صلب هذه المدرسة لحل النزاعـات وإدارتها، فإدارة الخلاف داخل المدرسة ينسجم كليا مع تعريفنا للسياسة) (5).
هذا المعنى والمفهوم، يشير إليهما كاتبان آخران هما آلان رنويك وأيان سوينبورن (Alan Renwick/Ian Swinburn)، عند تناولهما لمظاهر الاختلاف والتغير والتنوع في الحياة ومفهوم السياسة، فعندهما ان: (الشيء الأكيد حول هذه الحياة هو التغير والاختلاف، ومن مظاهر ذلك هو التغير الحاصل من فصل لآخر، التغير الفسيولوجي في الإنسان وتغير الأعمار، وأعظم حقل للتغيير هو الحاصل في المجال الاجتماعي والاقتصادي الذي يؤثر على ملايين الناس).
 ويقرران: (ان التغيير هو صفة ثابتة في عالم البشرية، وإدارة التغيير نحو الأحسن لخدمة البشرية والإنسانية عادة هو على علاقة بعقلانية الإنسان نفسه، ومن ملامح الإنسان هو الاختلاف حول ماذا ومتى وكيف يترجم هذا التغيير إلى واقع فعلي وعملي، ومهما حاول الناس تجنب الاختلاف فإنهم سيختلفون، والاختلاف ليس فقط حول الأهداف، بل حول تطبيق الأهداف. وهنا يأتي دور السياسة لإدارة هذا الاختلاف بين المجموعة الواحدة فيما يخص الأهداف أو تطبيقها، وان عملية حل الاختلاف فيما اذا كان داخل البيت، أو في المدرسة، أو بين طبقات المجتمع، هذه العملية تسمى سياسة، فالسياسة هي إدارة الاختلاف نحو الأحسن) (6). ولذلك اشتهر في الادب السياسي العلاقة التلازمية بين السياسة والاختلاف، فأينما حصل الاختلاف من قبيل الاختلاف في وجهات النظر حلت السياسة لإدارة هذا الاختلاف وصرفه عن التنازع العقيم.
ويوافق العلواني الكثيرين بان لعقل الإنسان شأنا كبيرا في هذا التنوع والتعدد الذي نلحظه في ذاتية الإنسان، فقد قضت مشيئة الله تعالى خلق الناس بعقول ومدارك متباينة، إلى جانب اختلاف الألسنة، والألوان والتصورات والأفكار، وكل تلك الأمور تفضي إلى تعدد الآراء والأحكام، وتختلف باختلاف قائليها: (وإذا كان اختلاف ألسنتنا وألواننا ومظاهر خلقنا آية من آيات الله تعالى، فان اختلاف مداركنا وعقولنا وما تثمره تلك المدارك والعقول آية من آيات الله تعالى كذلك، ودليل من أدلة قدرته البالغة، وان إعمار الكون وازدهار الوجود، وقيام الحياة لا يتحقق أي منها لو ان البشر خلقوا سواسية في كل شيء، وكل ميسر لما خلق له {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم}(سورة هود:118-119) (7).
الماهية جوهرالاختلاف والتفاضل
 ولما كان الاختلاف أمرا فطريا وهو من سنة الحياة: (فليس هناك من لا يختلف لان الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان بقدرات عقلية متباينة، لذا كان الاختلاف أمرا طبيعيا) (8)، وكذلك الخلاف المحمود غير المذموم، من هنا: فان شهاب الدين احمد بن محمد ابن أبي الربيع في كتابه سلوك المالك في تدبير الممالك- الذي ألفه للمعتصم العباسي المتوفي العام 227هـ/842م- لا يذهب في الخلاف مذاهب الهوى والتلفيق، بل مذاهب الاختيار والروية والفكر، فيقول: والباري تعالى حيث وهب الاختيار والروية والفكر للبرية لم يكن ليهمل أمرها، وكان من الواجب في عدله ان ينهج لها نهجا تسلكه، وظاهر ان في الناس وعقولهم وقوى أنفسهم تفاضلا بينا (9).
وأشار ابو الحسن علي بن محمد الماوردي (ت 450هـ/1058) في كتابه تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملِك وسياسة المُلك إلى ذلك التفاضل في نفوس وعقول البشر في قوله: (ان الله جل اسمه ببليغ حكمته، وعدل قضائه جعل الناس أصنافا مختلفين، وأطوارا متباينين، ليكونوا بالاختلاف مؤتلفين وبالتباين متفقين، فيتعاطفوا بالإيثار تابعا ومتبوعا، ويتساعدوا على التعاون آمرا ومأموراً، قال الشاعر:
وبالناس عاش الناس قدماً ولم يزل
من الناس مرغوب إليه وراغـــب وراز) (10).
اذا كان التنوع في الكون أمرا حتميا وفطريا، ترى ما هو جوهر وفلسفة الاختلاف عند بني البشر، وكيف يحصل التفاضل بينهم مع ان الله خلقهم من نفس واحدة بنص قوله تعالى: {وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون} (سورة الأنعام:89) (11)، وان هذه السلسلة من البشرية ترجع في الخلقة لأب واحد هو آدم عليه السلام وأم واحدة هي حواء عليه السلام؟
يجيب (الشيرازي) على مثل هذا التساؤل آخذا بنظر الاعتبار الجانب الفلسفي من علة الخلق والتفاضل في الكفاءات بين بني البشر، ويرجع العلة الغائية من التفاضل البشري إلى أمرين منظورين:
أولا: لأنه جمال الكون، فالجمال إنما هو بالتنوع لا باللون الواحد، فالحديقة ذات الأزهار الحمراء أو الصفراء أو البيضاء أو الزرقاء فقط لا ترضي الشعور الجمالي للإنسان بقدر ما ترضيه حديقة ذات أزهار مختلفة، وألوان متنوعة، وعطور مختلفة، فان الأولى لوحظ فيها التساوي، لكن لم يلحظ فيها الجمال، فان الجمال بالكبر والصغر، والألوان المختلفة والأحجام المتباينة، والروائح المتنوعة.
ثانيا: لان كل شيء - مما يُعبر عنه في لسان الفلسفة بـ (المهية) - يطلب الوجود بلسان الحال، ومن جود الفياض المطلق ان يفيض الوجود على كل مهية حقها، ومثل ذلك:أفراد يأتون إلى ساقي ماء، وكل يطلب الماء، ولكن هذا إناؤه صغير، وذلك إناؤه كبير، وثالث إناؤه مربع، ورابع إناؤه مدور وخامس إناؤه مستطيل.. إلى غير ذلك من الاختلافات، فالمهيات - بلسان الحال- تطلب من الله سبحانه وتعالى إفاضة الجود، والله يفيض الجود على الجميع لأنه الجواد الكريم كما ألمع إليه: {أنزل من السماء ماءً فسالت أودية بقدرها}(سورة الرعد:17)، فالأودية تحتمل كل واحدة منها بقدرها من الماء النازل من السماء، وهكذا حال ماء الوجود المفاض على المهيات المختلفة التي هي مثل أودية الماء المختلفة.
من هنا فان الشيرازي يتساءل بصورة استنكارية: فهل من الصحيح عدم إعطاء كل ذي حق حقه؟ أو عدم التنويع الموجب للجمال؟ (12) وبتعبير آخر وباستخدام مفهوم المخالفة المنطقي، نتساءل: أليس من الظلم عدم إعطاء كل ذي حق حقه ؟ أو التساوي المنفر للجمال؟ بالطبع ان العدالة تقتضي ان يأخذ كل مخلوق حقه، فالعدالة لا تقتضي التساوي دوما، والتساوي لا تعني العدالة دوما، فلا تلازم دائم مائة بالمائة بين العدالة والتساوي.
وتزخر الحياة ويمتلأ القران الكريم بالكثير من القصص والأمثال التي تشير إلى مسألة المهية المفاضة على كل مخلوق من مخلوقات الله (*)، وفي رحلة النبي موسى عليه السلام إلى مدين والتقائه بابنتي النبي شعيب عليه السلام، دلالة واضحة الصورة على الإفاضة والماهية، فانهما وبما أفاض الله عليهما من الوجود غير قادرتين على مزاحمة الرجال لسقي أغنام أبيهم شعيب كما ان رعاة الأغنام كانوا يمنعانهما، وقيل ان رعاة الأغنام كانوا قد سقوا أغنامهم ووضعوا حجرا كبيرا على فوهة البئر تعجز النسوة عن رفعه، فرفعها لهما موسى عليه السلام بما وهبه الله من قوة بدنية ونفسية، وسقى الغنم، فضلا عن الجانب النفسي والأخلاقي التي تمنع هاتين المرأتين من مزاحمة الرجال: {ولما توجّه تلقاء مدين قال عسى ربي ان يهديني سواء السبيل. ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمّة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان، قال ما خطبكما، قالتا لا نسقي حتى يُصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير. فسقى لهما ثم تولّى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلى من خير فقير}(سورة القصص:22 إلى 24).
الأنا منشأ الإختلاف
ان العقل السليم يحكم ابتداء دون الخوض في تلافيف المسألة من جانبها الفلسفي، ان التنوع غاية في الجمال والإبداع، فلو كان لإنسان ثوبان مختلفان في الشكل واللون والهيئة يتناوب على لبسهما بين حين وآخر، فان سعادة هذا الإنسان أكثر من سعادة إنسان آخر يملك مائة ثوب وبشكل واحد ونمط واحد ولون واحد وهيئة واحدة، بل ربما تصاغرت أو انعدمت النسبة في السعادة بين الاثنين، ونلمس مثل هذا في طبيعة المرأة التي تشعر بنشوة السعادة كلما استجد عندها ثوب جديد تلبسه في مناسبة جديدة، وكم من النساء من يرتدين في المناسبة الواحدة اكثر من ثوب، وما ذلك الا لسد رغبة نفسية في نشدان التنوع.
وحقائق (علم النفس والاجتماع) قائمة غالبا على التجارب التي لها قيمتها.. وهي واضحة لكل ذي عينين: (وعلم النفس يقسم نفسيات المجتمع اكثر من (300) ثلاثمائة قسم.. وعلم الاجتماع يؤكد هذا التقسيم.. أما في الواقع الخارجي فهو شاهد نراه ماثلا أمامنا، يؤكد التعددية النفسية) (14).
وفي تقديري، ان (الأنا) غير متعلقة فقط بالنفس البشرية التي يجهد الإنسان لصقلها وتهذيبها، فان للمدارك العقلية والعلمية، ولتجارب الحياة، وللبيئة المكانية والزمانية، علاقة بـ (الأنا) من جهة أخرى، فعبادة العالم غير عبادة غير العالم، فهما يشتركان من حيث العبادة وتهذيب النفس، لكن مراتب التهذيب لدى العالم أرقى بكثير من مراتب التهذيب لدى غير العالم، فغير العالم يجهد بعبادته وتهذيب نفسه لأنه يجد نفسه مجبرا على ذلك وهو يؤدي واجبا، في حين ان العالم إنما يعبد الله لا من باب الوجوب فحسب وإنما من أبواب أخرى غير متوفرة لدى غير العالم، مثل العبادة لان العالم يرى ان الله أهلا للعبادة، أو ان عبادته لله من باب الشكر على ما انعم الله عليه من نعمة الهداية والعلم وملامسة الحق والعمل به، إذ يجد ان الله أهل لشكره على نعمائه وآلائه، وقد ورد عن الإمام علي عليه السلام: (ان قوما عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وان قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وان قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار)، يقول الشيخ محمد عبده في شرحه لنهج البلاغة: (فالتجار يطلبون العوض، والعبيد أنهم دلوا للخوف، والأحرار لأنهم عرفوا حقا عليهم فأدوه وتلك شيمة الأحرار)، وقد ورد عنه عليه السلام: (ما عبدت الله خوفا من ناره ولا طمعا في جنته ولكن وجدته أهلا للعبادة فعبدته) (15).
التفاضل قائم بين الأنبياء
نعم ان عصمة الأنبياء ومعرفتهم الله حق المعرفة تقتضي عدم اختلافهم فيما بينهم، ولكن التفاضل يبقى قائما بينهم من حيث تعدد الرسالات ومتعلق نزول الرسالة إليهم، وملكة وقدرة كل نبي، والتمايز من حيث النبوة والإمامة، والنبوة والرسالة، والتفاضل في الكتب المنزلة، ولولا هذا التفاضل لما احتاج الله لان يبعث 124 ألف نبي إلى البشرية، فقد: (ورد عن السيد عبد العظيم الحسني قال: كتبت إلى أبي جعفر الثاني (الإمام محمد بن علي الجواد) عليه السلام اسأله عن ذي الكفل ما اسمه؟ وهل كان من المرسلين؟
 فكتب صلوات الله وسلامه عليه: بعث الله تعالى جل ذكره مائة ألف نبي وأربعة وعشرين ألف نبيا، المرسلون منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، وان ذا الكفل منهم صلوات الله عليهم) (16).
ومن التمايز ان يبعث الله أنبياء إلى أهليهم وآخرين إلى عشيرتهم وآخرين إلى أقوامهم، وان تكون هناك نبوات موضعية زمانية ومكانية ونبوات عامة كرسالات السماء اليهودية والمسيحية وخاتمتها رسالة الإسلام، فحكمة الباري اقتضت التفضيل والتنوع في مراتب بني البشر. بل وحتى الأنبياء عليهم السلام فضل الله بعضهم على بعض، قال تعالى: {ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض} (سورة الاسراء:55)، {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض}(سورة البقرة:253).
يقول القرطبي في جامعه: (فالأنبياء يتفاضلون)، والتفضيل قائم بما منح من الفضل وأعطى من الوسائل وقد أشار ابن عباس إلى هذا فقال: (إن الله فضل محمدا على الأنبياء وعلى أهل السماء فقالوا: بم يابن عباس فضله على أهل السماء؟، فقال: إن الله تعالى قال: {ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين}(سورة الأنبياء:29)، وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم:{إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر}(سورة الفتح:2)، قالوا: فمـا فضله على الأنبياء؟، قال: قال الله تعالى:{وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم}(سورة إبراهيم:4)، وقال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم: {وما أرسلناك إلا كافة للناس}(سورة سبأ:28)، فأرسله إلى الجن والإنس. ذكره أبو محمـد الدارمي في مسنده.
ان الثبات والصمدية من صفات الله تعالى، أما التغير والتعدد والاختلاف فهي من صفات الإنسان وتكوينه، وفلسفة الحياة وجوهرها يقتضي التعدد والتنوع في كل شيء، وإلا استحالت الحياة وانعدمت نضارتها، ولما أمكن تذوقها، لان التذوق أساسا نابع من عملية مناظرة ومقابلة بين عدة أنواع من جنس واحد أو مجموعة أجناس، فلا يعرف الحسن إلا بمعرفة القبح، ولا النهار إلا بمعرفة الليل، وبالمقابلة والمناظرة تعرف نسبة الجمال أو القبح، والأشياء تعرف بأضدادها.
______________________________________________________________________

*اعلامي وباحث عراقي-الرأي الآخر للدراسات- لندن
(1) انظر: مرتضى معاش (هل يقر الإسلام التعددية الحزبية؟) مجلة الرأي الآخر (لندن، مركز التثقيف الإسلامي، السنة 1، العدد 23، 1419هـ/1998م) ص12.
(2) الشيخ فاضل الصفار، ضد الاستبداد (بيروت، دار الخليج العربي للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 1418هـ/1997م) ص85.
(3) حيدر حسين عبد السادة (حرية المعارضة.. ثمار الإطلاق ومضار الكبت) مجلة النبأ (بيروت، المستقبل للثقافة والاعلام، السنة 6، العدد 45، 1421هـ/2000م) ص30.
(4) د. طه جابر فياض العلواني، أدب الاختلاف في الإسلام ( قطر، رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية، الطبعة الثانية 1406هـ) ص18.
(5) Peter Madgwick، A new introduction to BRITISH POLITICS، Stanley Thornes (publishers) Ltd، Forth published، Cheltenham (UK)، 1994، P2.
(6) Alan Renwick/Ian Swinburn، Basic Political Concepts، (Stanley Thornes publishers Ltd، Cheltenham،UK) Second Edition،1991،p.13/14.
(7) د. طه جابر فياض العلواني، أدب الاختلاف في الإسلام (مصدر سابق) ص26.
(8) السيد محمد الشيرازي، تلك الأيام.. صفحات من تاريخ العراق السياسي (بيروت، مؤسسة الوعي الإسلامي، الطبعة الأولى 1420 هـ/2000م) ص267.
(9) شهاب الدين احمد ابن أبي الربيع، سلوك المالك في تدبير الممالك، من مقدمة بعنوان: الفلسفة السياسية عند ابن أبي الربيع، للكاتب ناجي التكريتي (بيروت، دار الأندلس، الطبعة الثانية 1980) ص90.
(10) انظر: د. احمد فؤاد عبد الجواد عبد المجيد، البيعة عند مفكري أهل السنة والعقد الاجتماعي في الفكر السياسي الحديث (القاهرة، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1998م) ص162.
(11) هناك شبه إجماع بين العلماء وخاصة بين علماء الجيولوجيا والبيولوجيا والعلماء الذين يبحثون في اصل الإنسان وعمره على وجه البسيطة، بان جد الإنسان واحد، ولكنهم اختلفوا في تقدير عمره، ومكان نشوئه وانطلاقته، وقد فجرت دراسة أسترالية الجدل حول ما اذا كان جد الإنسان عاش في أفريقيا قبل مائة إلى مائة وخمسين ألف عام كما تقول بعض النظريات العلمية، فقد ذكر البروفيسور آلن ثورون، من جامعة كامبيرا ان تحليلات جديدة لعينة من الحمض الريبي النووي (AND) أعيد تركيبها اعتمادا على هيكل عمره ستون ألف عام عثر عليه في استراليا عام 1974م أظهرت - كما تقول الدراسة - ان البشرية كلها تعود إلى جد واحد كان يعيش في استراليا قبل ستين ألف سنة.
راجع: بشرى الخزرجي (استراحة.. منوعات خبرية) مجلة الرأي الآخر (لندن، مركز التثقيف الإسلامي، السنة 5، العدد 55، 1421هـ/2001م) ص21.
(12) للمزيد انظر: السيد محمد الشيرازي، الصياغة الجديدة لعالم الايمان والحرية والرفاه والسلام (بيروت، مؤسسة الفكر الإسلامي للثقافة والاعلام، الطبعة الثالثة 1413هـ/1992م) ص60-61.
(*) والمفيد ذكره، ان هذه النقطة هي مدار نزاع بين التيار الديني والتيار العلماني، حيث يطلب الأخير من المرأة مزاحمة الرجال في كل الأعمال دون الإقرار بالتفاوت القائم بين المرأة والرجل والاختلاف في ماهية كل موجود من الموجودات، وهذه الماهية هي التي تحول دون تسلم المرأة لبعض الأعمال في مجال الحكم والقضاء حسب النظرة الإسلامية.
(13) السيد كمال الحيدري، التربية الروحية.. بحوث في جهاد النفس (بيروت، مؤسسة الثقلين الثقافية ودار الخليج العربي للطباعة والنشر، الطبعة الثانية 1421هـ/2000م) ص99-100.
(14) الشيخ ناصر حسين الأسدي، شورى الفقهاء المراجع (بيروت، مؤسسة الفكر الإسلامي للثقافة والإعلام، الطبعة الأولى 1411هـ/1991م) ص159.
(15) نهج البلاغة ج4، جمع: الشريف الرضي، وشرح: الشيخ محمد عبده (بيروت، دار البلاغة، الطبعة الرابعة 1409 هـ/1989م) ص714.
(16) السيد حسن الشيرازي، كلمة الامام الجواد (بيروت، مركز الرسول الأعظم (ص) للتحقيق والنشر، الطبعة الأولى 1419هـ/1999م) ص13.
- وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:خلق الله (عز وجل) مائة ألف نبي وأربعة وعشرين ألف نبي أنا أكرمهم على الله ولا فخر، وخلق الله (عز وجل) مائة ألف وصي وأربعة وعشرين ألف وصي فعلي أكرمهم على الله وأفضلهم.
راجع: السيد محمد كاظم القزويني، موسوعة الإمام الصادق.. النبوة والانبياء ج5 (قم ايران، مؤسسة نشر علوم الإمام الصادق (ع)، الطبعة الأولى 1417هـ) ص11 وما بعدها.
وللمزيد، انظر: السيد علي الحسيني الصدر، العقائد الخفية (قم ايران، مجمع الذخائر العلمية، الطبعة الأولى 1419هـ/1999م) ص202 وما بعدها.

 

الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد 75

إتصــلوا بـنـــا