ردك على هذا الموضوع

دور الدين في ترسيخ الديمقراطية

احمد شهاب

يمكن للدين أن يؤدي دورا مهما في ترسيخ الديمقراطية ، كما يمكنه أن يُثبط التجربة ويلغي القناعة حولها ، وخلال السنوات الخمسين الماضية استخدم الدين بصورة واسعة لتقويض الدعوات الديمقراطية ، فكانت الأصالة الدينية هي الشماعة التي يُستند إليها للتحذير من اتساع الحريات المدنية ، وإثارة المخاوف من نتائج الانفراج السياسي ، ووضع التعارضات بين الحداثة والدين ، وبين الشورى والديمقراطية ، وبين دور المثقف ومكانة رجل الدين .
لقد أولت الحركة الإسلامية ورجال الدين أهمية كبيرة لمسألة الحريات العامة ، وانخرطت أغلبها في صفوف متراصة لمقارعة الأنظمة المستبدة وفرض مناخ الحرية  ، لكن سرعان ما أصاب اهتماماتها النكوص وبدا أن أولوياتها استندت إلى ردود الأفعال المتصاعدة على موجة الأفكار التحررية المتأثرة بالأطروحات الفكرية الشرقية أو الغربية ، وبدا الهم الأساسي للحركة الإسلامية مقاومة المد الشيوعي والتغريبي وإيجاد مفاهيم أصيلة في مقابل المفاهيم المستوردة والطارئة ، فبرزت ظاهرة الثنائيات في الفكر العربي والإسلامي بصورة حادة ومريبة ، وأصبح من العسير على أية حركة أو توجه إسلامي أن يدفع نحو الحريات بصيغتها الغربية لما قد يسببه ذلك من تخلخل البنية العقدية أو السلوكية للفرد المسلم ، حتى تورطت جهات رئيسة من التيار الإسلامي في اتخاذ مواقف معادية للتعددية والحرية ، واعتبرت نفسها الاستثناء للقاعدة ، وأهملت تطبيقات الديمقراطية والشورى في أنظمتها وممارساتها الداخلية .
يمكن للبعض أن يرد على هذا القول بأن موقف العلماء والحركات الإسلامية ضد الديمقراطية إنما ينبع من موقف إسلامي ثابت وصريح ضد ما تفترضه الديمقراطية من المساواة بين المواطنين ، فيما الموقف الإسلامي يفترض أن صوت المسلم أعلى من صوت غير المسلم ، وصوت الفقيه أعلى من صوت العامي ، وصوت الرجل أعلى من صوت المرأة، ويظهر من خلال الأدبيات الإسلامية الحديثة أن هذه القضايا لا تزال محل تباين وخلاف شديدين ، وحتى وقت قريب كان الجدل طويلا حول تساوي صوت الفقيه - في قرارات الحركة - مع صوت بقية الأعضاء عند التصويت على قرار ما ، وكان ثمة رأي بأن الكفة التي يميل لها الفقيه هي التي ترجح بغض النظر عن عدد الأصوات في الكفة الأخرى ، أما على مستوى العمل السياسي المعلن فيمكن تسليط المجهر على رفض قطاع كبير من التيار الإسلامي في الكويت لمنح المرأة حقها السياسي ، بل ونفي وجود هذا الحق من الأساس ، أما إهمال صوت غير المسلم فهو لا يحتاج إلى أمثلة أو براهين إذ لا تزال بعض مجتمعاتنا تستنكف التساوي بين رأي المسلم الخالص والمسلم الذي ينتمي إلى مذهب آخر .
 لكن ثمة أدلة على أن هذه المواقف ( المناهضة للديمقراطية ) ليست أصيلة في الدين ، بل هي طارئة وحمية علمائية متأخرة ، منها أن رجال الدين قبل الخمسين سنة الماضية كانوا أكثر مرونة في النظر إلى الديمقراطية ومفاهيم الحرية السياسية ، وساهم العديد منهم في تقديم معالجات راقية تتجاوز الكثير من نظرات الحذر الظاهرة الآن ، وينقل عن الكواكبي أنه تأثر كثيرا بالمفكر الايطالي فيري صاحب كتاب (الاستبداد) ، وظهر ذلك جليا في كتابه (طبائع الاستبداد) ، كما تأثر النائيني بالفقه الدستوري الغربي  و بالفكر السياسي الأوروبي الحديث كما أشار هو إلى هذا الأمر في مقدمة كتابه (تنبيه الأمة وتنزيه الملة) .
 ويتضمن مصنف الشيخ الكواكبي إعجابه الكبير بالنموذج السياسي الغربي وثناءه على قابلية هذا النموذج على إقامة حكومة عادلة ، ولا يرى في ذلك انسلاخا عن شرعة سيد المرسلين ، فيما يصف العلامة النائيني النظام السياسي البرلماني الذي يعتمد على آراء الشعب، والمشابه للنظام البرلماني الغربي بأنه أفضل نظام يمكن تعقله ، ولم يعارض القول بمساواة المواطنين المسلمين مع غير المسلمين وحقهم في المشاركة في الانتخابات ودخول مجلس الشورى ، واستدل على ذلك بأحقية من يدفع الضرائب للدولة الإسلامية مراقبة ومحاسبة من يتصرف بالمال على حسن تصرفه .
وفي عام 1917 وقع عدد من مراجع الشيعة في النجف (شيخ الشريعة الاصفهاني ، وعبد الكريم الجزائري ، وجواد الجواهري ، ومهدي كاشف الغطاء) على بيان يطالب بإنشاء حكومة عربية إسلامية يرأسها أمير عربي مسلم مقيد بدستور ومجلس تشريعي منتخب ، ويلاحظ من مفردات البيان المذكور تأثره بأفكار العلامة النائيني ورياح المشروطية .
    وهو الأمر الذي تكرر في كربلاء حيث وقع عدد من المجتهدين (بزعامة المرجع محمد تقي الشيرازي) وهو أحد أنصار المشروطية على بيان يطالب بمجلس منتخب من أهالي العراق ، لسن القواعد الموافقة لروحيات هذه الأمة ، وبالنظر إلى موقف القادة السياسيين في العراق المؤيد لإدارة بريطانية ، فإن موقف المؤسسة الدينية يعتبر موقف متقدم ووطني ومنسجم مع روح الشريعة بما يعنيه ذلك من أن الدين (في فهمهم) لم يمانع من الأخذ بالأفكار الجديدة المتوافقة مع متطلبات العصر ، كما أن فقهاء الشريعة في ذلك العصر لم يترددوا من طرح البدائل الفكرية المناسبة التي توفر للمسلمين سُبل الرقي والازدهار أسوة بالأمم المتقدمة .
حتى لا يكون العصيان هو الحل
يقسم كل من الكواكبي والعلامة النائيني الاستبداد إلى صنفين، الاستبداد السياسي، والاستبداد الديني، ورغم أنهما يرفضان كلا النوعين إلا أنهما ينتهيان إلى اعتبار الثاني اشد من الأول، و(إن الاستبداد السياسي هو وليد الاستبداد الديني) كما يقول الكواكبي، بينما يعتقد النائيني أن (الاستبداد الديني والاستبداد السياسي توأمين متآخيين يتوقف أحدهما على الآخر، ويرى انه من السهل القضاء على الاستبداد السياسي بينما يصعب القضاء على الاستبداد الديني)، ذلك في ظني عائد إلى أن الاستبداد السياسي عادة ما يكون مكشوفا أمام الناس، ولا تتطلب معرفته دليلاً أو مرشداً، فهو يسلب الإنسان حريته وكرامته، ويتدخل في الحد من حركته اليومية بل وفي تحديد مصادر دخله، بالصورة التي نراها في الأنظمة الشمولية.
بينما يسير الاستبداد الديني تحت غطاء من النرجسية والنقاء أمام الناس، فمن الصعوبة كشفه إلا بعد الإصابة بعدة ضربات موجعة، فهو يتحرك باسم (الرحمة الإلهية) و(وصايا الرب) و(المسؤولية المقدسة)بما يجعل التجرؤ على مواجهة آراء رجال الدين، أو القائمين على المؤسسات الدينية ضربا من الجنون والمغامرة.
في الغرب عملت المؤسسة الدينية على إعاقة التنمية، وتعطيل حركة تطوير المجتمع وتحديث آليات عمله، وفي سبيل فرض هيمنتها اصطدمت مع المجتمع القائم، وتكاثرت قوائم الملحدين، وتفشت ظاهرة ذبح العلماء والمكتشفين بدعوى الهرطقة والإلحاد، واتسعت دائرة التسلط من خلال سيادة سلطة الكهنوت، وانتشار ظاهرة التحليل والتحريم وصكوك الغفران، ولم تكن أمام المجتمعات الغربية من حل سوى بالتمرد على الكنيسة وفصل الدين عن الدولة مع ظهور (فلسفة التنوير) في القرن الثامن عشر على يد مفكرين أمثال مونتسيكو وفولتير وروسو.
استلت الخطوات التصحيحة المناهضة لاستبداد الكنيسة مشروعيتها الاجتماعية نتيجة إصرار رجال الكنيسة ومن هم في حكمهم، على توظيف الديني في السياسي من خلال فرض مقولات ورؤى مصنعة داخلياً بما يعنيه ذلك من قياس الإيمان والإلحاد حسب مستوى القرب والبعد، فالأقرب هو المؤمن الذي يستحق كافة الحقوق والتسهيلات، والأبعد هو الملحد الذي يستوجب إنزال اشد العقوبات عليه، وما يترتب على تلك المقولات من إغفال تام لمبدأ المواطنة والعدالة الإنسانية.
إن هذا الاستدعاء التاريخي للتجربة الأوروبية لا تعني انطباقها على المجتمعات الإسلامية، ذلك أن الإسلام فيما نعتقد لم يضع نفسه بديلا عن العلم والمعرفة، ولم يغلق أبواب الحوار والتثاقف مع سائر المجتمعات الإنسانية، كما انه لم يعمد إلى إلغاء ثقافات الشعوب وطبائعها، ولم يعمل على توحيد لغتها أو سد الطرق أمام ممارسة الآخرين لعباداتهم في أديرتهم وكنائسهم وحرم الاعتداء عليهم.
على أن الإصرار على تلغيم الفهم الإجماعي للإسلام بأطروحات مغلقة، وخلق حالة من التقابل أو التعارض بين الإسلام وبين الحداثة والمعرفة الإنسانية، سوف يفضي بنا إلى تكرار التجربة الأوروبية في التمرد والعصيان، لاسيما وان أجندة الانغلاق عند السجاليين المهمومين بانتزاع الأمة من قضاياها الحيوية ورميها في متاهات المقولات التاريخية، تستبطن رغبة دائمة في إشغال جبهات داخلية في صراعات وهمية متكررة، وعلى الأمة أن تقتفي أثرهم لتبرهن على صدق اتباعها للإرشادات الفوق أرضية.
إن أي مجتهد سوف يوصم بالمروق عن الدين وان جاءت نظراته من خلال قراءة متمنعة لكن مختلفة للنص الديني المتفق على قداسته بين المسلمين، بالضبط كما وصف الشيخ (سفر الحوالي) في رسالته (مجدد ملة عمرو بن لحي) الراحل محمد بن علوي المالكي (شيخ المالكية في السعودية) بأنه رأس من رؤوس الوثنية، أو وصفه للصوفيين بالخرافيين والخروج من ملة أهل الإسلام.
وفق هذه المدرسة يتم اعتماد سلطة التراث على حساب ادراكات الحاضر، ضمن رؤية معتمة تقضي برفض الاجتهادات المعاصرة التي تختلف مع مقولات محددة سلفاً، واعتبارها من البدع التي يجب القضاء عليها وتهميش أصحابها، رغبة في تحويل الدين ورجاله ومؤسساته إلى سلطة قهرية في مقابل فكر الإنسان وإنتاجه وإبداعه الكوني.
الإسلام والحراك الديموقراطي
كنت أعتقد سابقا أن الحديث عن اتفاق الديموقراطية مع الدين لا يجدي كثيرا، وإنما الأجدى لنا كعرب ومسلمين هو اتخاذ خطوة نحو تطبيق الديموقراطية والتحول نحوها بصورة عاجلة، وبصرف النظر عن المسميات أن تكون ديموقراطية أو شوروية، فالمهم هو تطبيقات الديموقراطية مثل الإيمان بالتعددية والمشاركة في القرار والانتقال السلمي للسلطة.
إذ يبدو أن الموقف من الديموقراطية ليس ملتبسا فقط عند بعض التوجهات الإسلامية، ولكنه معاد إلى درجة القطيعة المعرفية عبر وصمهم دعاة إرساء الحكم الديموقراطي بالكفر والزندقة ومنابذة كتاب الله وأقوال نبيه، ومن خلال استعراض أهم مؤاخذاتهم على الديموقراطية يتضح أنها تتحرك من موقف متشدد من عموم مفهوم التعددية والتنوع، فلا تزال صورة المجتمع النقي طبقا لما تعكسه بعض المصنفات الدينية عن العصور الإسلامية الأولى من وحدة القيادة والتزامها بالشورى، والزهد عن الحكم وحطام الدنيا، وتطبيق العدالة على النفس قبل تنفيذها على الآخرين هي السائدة.
يستدعي هذا اللبس من وجهة نظري تكثيف الجهود لإعادة بناء الإجماع الوطني حول الديمقراطية، وحول ما نريده تحديدا عندما ندعو إلى الحكم الديموقراطي، إذ أن القول بالديموقراطية يعني تحقيق عشرة مطالب عادلة:
1- قيام حكومة دستورية.
2- فصل واضح بين السلطات الثلاث، مع وضع ضوابط للمحاسبة والمراقبة.
3- إجراء انتخابات حرة ونزيهة.
4- استقرار الحكم والمسيرة الديموقراطية.
5- قضاء مستقل ونزيه.
6- تساوي جميع المواطنين أمام القانون.
7- وجود مؤسسات سياسية فاعلة تتمثل فيها مختلف التوجهات السياسية.
8- توافر تشريعات تضمن حماية الحريات الفردية، بشرط عدم الإضرار بالمصلحة العامة والأمن الاجتماعي.
9- توافر المعلومات والمعرفة ووسائل نشرها للمواطنين.
10- بناء العلاقات الداخلية بين الأطراف المختلفة على التسامح والقبول المتبادل. هذه القائمة ليست خيارا بل ضرورة حياتية لا يمكن لمجتمعاتنا أن تحقق الاستقرار المنشود دون توافرها، وان أمكن في السنوات القليلة الماضية أن تستقر المجتمعات بتوافر الحد الأدنى من هذه المطالب، فان السنوات القليلة القادمة ستخلع الشرعية عن أي نظام لا يوفر الحد المعقول منها.
فعلى مستوى الحراك الديموقراطي العالمي تتسارع المجتمعات نحو إقرار المساواة وترسيخ الديموقراطية وبسط العدالة السياسية، ولم تعد مسألة الصراع ضد الاستبداد قضية وطنية داخلية أو إقليمية وإنما أصبحت قضية دولية وعالمية، بعد أن أدى ذلك الاستبداد إلى تفريخ منظمات عنيفة فجرت غضبها في أنحاء متفرقة من الجسد الغربي، أبرزها ما جرى في الحادي عشر من سبتمبر، فقد انتبهت القوى الدولية إلى أن استبداد الأنظمة العربية والذي لسنوات طويلة ساهم في تفاقم ظاهرة الإرهاب المروعة.
أما على مستوى الضرورات الداخلية فان تكاثر الجماعات والمدارس الفكرية والسياسية في العالمين العربي والإسلامي لا يحتمل الإصرار على فرض طريقة تفكير وفهم جماعة واحدة تفترض أنها التعبير الحقيقي عن الإسلام وتخطيء الآخرين بالجملة أو تخرجهم من عباءة الإسلام لأنهم اختلفوا معها في تصوراتها، إذ لا بد من الإقرار بأن الحقيقة لم يعد يمتلكها شخص أو جماعة واحدة.
إن الاتفاق على هذه الحقيقة في تصوري يستدعي الإقرار بالديموقراطية والمطالب العشرة سالفة الذكر، ورغم يقيني بأن الشورى تحقق المطلب الديموقراطي لو اتسعت مدارك البحاثة المسلمين، فان استمرار اختلاف رجال الدين في تعيين معناها وتضارب الأقوال عند تحديد من هم أهل الشورى؟ وتباين القول فيما إذ كانت الشورى ملزمة أم معلنة للحاكم؟ يدفع إلى القول بضرورة الإقرار بالديموقراطية لوضوح الكثير من مبانيها وتقصير رجال الدين في إجلاء الرأي حول الشورى، وأخيرا لانسجام الديموقراطية مع مقاصد الشريعة.

 

الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد 75

إتصــلوا بـنـــا