ردك على هذا الموضوع

معضلة المعنى في مفهوم الإرهاب
شق غربي، وشق شرقي

ناظم عودة

حتى نهاية القرن العشرين، كانت المعضلة السياسية والحضارية المستعصية على أيّ حلّ بالنسبة للأوربيين، هي المعضلة (الشرق أوسطية). وظل الغرب يراقب التحولات التي تجري في بلدان الشرق الأوسط عبر مدارس أو معاهد (دراسات الشرق الأوسط) والجمعيات (الشرقية)، أو عن طريق مراكز التجسس التي ترفع تقارير منتظمة حول ما يجري هنا، أو كشوفات الرحالة المثيرة بأوصافها لطبيعة الحياة الإجتماعية.
وأساس الاختلاف في معضلة الشرق الأوسط يكمن في دلالتها المفهومية، التي يترتب عليها انتزاع موقفين من العرب: تحديد جغرافي، وتحديد تاريخي سياسي، لكيان أنشئ بإرادة أوربية أصلاً، وهو إسرائيل. وظلت (الشرق أوسطية) مشروعاً أوربياً غريباً لجعل إسرائيل جزءاً من العائلة السياسية والتاريخية لبلدان الشرق الأوسط. لكن هذا المشروع كان يصطدم بصورة مستمرة بمقاومة صلبة، تتغذى من طبيعة الثقافة الإسلامية التقليدية التي تهاجم اليهود على طول الخط، وتتغذى كذلك من الواقع السياسي نفسه، حيث الهجرة اليهودية الكثيفة إلى أرض فلسطين واغتصابها بالقوة.
هذا العامل الأخير، كان كافياً لتكوين جماعات إسلامية متطرفة تهاجم المصالح الإسرائيلية، والدول التي تساندها وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية. ومع إطلالة الألفية الثالثة، استحوذ ( الإسلام) على لب الصراع الستراتيجي بين الغرب والشرق. وحتى يستكمل هذا الصراع عدّته التاريخية، كان يتعين على طرفي النزاع أن يجهّزا ( خطاباً) Discourse مخصوصاً للمسألة. وهكذا انبثق خطاب الإرهاب Terrorism منقسماً من ناحية التحديد الدلالي إلى شقين: الشق الغربي، والشق الشرقي. ومثلما لم يتفق الطرفان على نقطة التقاء سياسية عبر تاريخهما، فإن خطاب الإرهاب لدى الطرفين ظلّ هو الآخر خطاباً مختلفاً في ما يعنيه تمام الاختلاف.
بيد أن التفسيرات التي طرحت لمفهوم الإرهاب من قبل الأمريكيين، والأوربيين، ومن ثمّ الروس (بعد تزايد عمليات المقاومة الشيشانية)، ثم التفسيرات الهندية (وهي تكتيكات سياسية لتحجيم المقاومة الكشميرية)، ومؤخراً التفسيرات التركية (التي تعتمد على آلية ضرب عصفورين بحجر واحد: إرهاب القاعدة + إرهاب المنشقين الأكراد من حزب العمال)، كانت أكثر عقلانية من التفسيرات التي طرحت في الخطاب السياسي العربي، إذ أفلحت في وصم الإرهاب بالعار الأخلاقي والوجودي، بعد أن وضعتْ كل أعمال العنف المناوئة لها في خانة: الإرهاب. وفي مقابل ذلك، كان الخطاب العربي تسويغياً وفيلولوجياً، وأعطى وقوعه في هذا المأزق الحقَّ لخصومه أن يكيلوا له الأوصاف غير المريحة، واتهامه بالسعي إلى كسب ودّ الشارع العربي الذي ينتقد السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط.
وهكذا سوف نضع أيدينا على شروحات مطوّلة تبحث في (الجذر اللغوي) لمفهوم الإرهاب، أو على خطابات هدفها إيجاد أساس منطقي وتاريخي لهذا المفهوم في مصادرنا الثقافية. ومن جهة أخرى، لم يكن الموقف السياسي الرسمي بأقل سلبية من الموقف الثقافي، فثمة مواقف متباينة بصورة جذرية تكشف عن عدم تبني موقف ستراتيجي من الإرهاب بوصفه ثقافةً أو نشاطاً عنفياً، وربما كانت المملكة المغربية الدولة العربية الوحيدة ـ بعد تفجيرات الدار البيضاء ـ التي عاقبت بالسجن كاتباً ينتمي إلى ما أطلق عليهم: كتّاب الإرهاب الفكري. وفي الوقت الذي كان فيه موقف المملكة العربية السعودية يتسم بآلية الدفاع عن النفس بعد توجيه أصابع الإتهام إلى بعض أمرائها (الأميرة هيفاء زوجة السفير السعودي في أمريكا بندر بن سلطان التي اتهمت بتوصيل الأموال إلى أيدي شخصيات من القاعدة)، وكذلك الاتهام بأنّ الأموال السعودية كانت وراء انتشار المدارس والجمعيات الإسلامية المتطرفة في الباكستان واندونيسيا. وبدلاً من مراجعة ثقافة العنف في هذه البلاد، خرج الأمير نايف ليصرح بأنّ تفجيرات  الحادي عشر من سبتمبر مؤامرة صهيونية، مما أزعج الإدارة الأمريكية كثيراً، على الرغم من الإدانة السعودية الصريحة.
وعلى العكس من ذلك، كان هنالك موقف متشفٍ (موقف صدام حسين)، وربما كان ذلك سبباً من الحقد الأسود الذي انفجر بطريقة هستيرية تجاهه، ودفع صقور الإدارة (دونالد رامسفيلد، وبول وولفويتز تحديداً) إلى إثارة فكرة مهاجمته والقضاء عليه وعلى حزب البعث بعد أيام من أحداث 11سبتمبر.
وبوسع المراقب أن يلحظ موقفاً آخر، وأن يضعه في خانة الجدل الفيلولوجي لمفهوم الإرهاب، فهو يستند إلى (فقه لغة الإرهاب) للتفريق بين دلالة (المقاومة ) ودلالة (لإرهاب )، في محاولة لإشراك إسرائيل في وصمة العنف والإرهاب أيضاً، وهذا هو موقف الرئيس السوري بشار الأسد، الذي دعا إلى هذا التفريق الفيلولوجي في مؤتمر صحفي مشترك مع رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، إذ اتهم إسرائيل بأنها تمارس (إرهاب الدولة) ضد المدنيين الفلسطينيين.
وهكذا أصبحنا أمام ثلاثة تفسيرات للمفهوم تشترك كلها في صفة العنف ولكنها جميعاً تريد أن تضفي عليه صفة (العنف المقدس ). وعلاوة على ذلك، كان هنالك موقف للجمهورية العربية اليمنية وُصِف بأنه من أكثر المواقف تذبذباً في صياغة ستراتيجية واضحة من الإرهاب، فطَوراً كانت تشن حملة بنفسها لمهاجمة الخلايا الإرهابية النائمة والمستيقظة معاً، وطَوراً تعطي الضوء الأخضر للولايات المتحدة الأمريكية لكي تهاجم بطائراتها الحربية أشخاصاً قيل إنهم من الخصوم السياسيين، فاغتنمت السلطة الفرصة لوصفهم بالإرهاب ومن ثم التخلص منهم.
ومادام كل يغني على ليلاه، فيعطي لـ (الإرهاب ) معنى جديداً يخدم قضاياه الخاصة فإن إسرائيل من جهتها استغلت هذا (التأويل المفتوح) وصنفت حركتي (حماس ) و (الجهاد الإسلامي ) وكذلك (حزب الله) اللبناني، على لائحة الإرهاب المتعمّد ضد المدنين الاسرائيليين.
بيد أن أخطر الدلالات التي نُسِبَتْ للإرهاب، هي الدلالة التي يأخذ بها المتطرفون الإسلاميون، إذ كانوا يبحثون على الدوام عن جذر لغوي إيجابي لهذا المفهوم في مصادر التشريع الإسلامي، وفي طليعتها القرآن الكريم. وهؤلاء ينشدون من وراء ذلك أن يشرعنوا الإرهاب ويسوغوه دون أن يلتفتوا أو يبالوا بخطر هذه الشرعنة المفترضة التي اعتمدوا في تخريجها على (استنطاق ) النص القرآني: ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم... وإذا كانت هذه الجماعات من الأصوليين الذين لا يميلون بمزاجهم التقليدي إلى التأويل أو الاستنطاق أو الاجتهاد، إلا أنهم أجازوا لأنفسهم هنا ممارسة التأويل والاستنطاق، وكانت تلك مفارقة عجيبة.
لا شك في أن الدلالة السياقية لمفهوم الإرهاب التي وردت في الآية لا تتطابق تماماً مع ما ذهب إليه هؤلاء، فكلمة (يرهبون) لا ترقى إلى الدلالة الإصطلاحية المتداولة للإرهاب في هذه الأيام، ومن ناحية أخرى فهي مقترنة بوضع تاريخي خاص ذي مزايا زمانية ومكانية، لا يمكن القفز عليها في أية مقاربة لهذا المفهوم. وعلى الرغم من أنّ ابن منظور صاحب معجم لسان العرب يعرّف الإرهاب بأنه: إرهاب العدو ليرتدع عن قصد الرعية وأذاهم فيأمنوا بمكانة من الشر، إلا أن إشارة ابن منظور الخاصة بعدو مباشر مدجج بالسلاح، لم تدرج في أيّ تفسير لغوي للإرهاب، وهكذا وجدت عبارة الخليل بن أحمد في معجم (العين): رهبوت خير من رحموت أي  أن ترهب خير من أن ترحم، ترحيباً واسعاً في التفسيرات المتطرفة.
وفي إحدى المقابلات التلفزيونية مع إدوارد سعيد، اعترض بشدة على التفسيرات التي صاحبت أول عملية انتحارية لأمرأة فلسطينية، التي سُوِّغتْ بأن القرآن والشريعة تجيز هذا العمل، وأبدى إدوارد سعيد انزعاجاً واسعاً من هذا التفسير الذي يعرّض الإسلام والثقافة العربية عموماً إلى تهمة الوحشية أو اللاإنسانية. وعلى أثر ذلك، اتسع المجال الدلالي للإرهاب، من تفسيرات لغوية صرفة، إلى تفسيرات علاماتية، إذ اقترن الإرهاب بطائفة من (العلامات) الخاصة بالزي الإسلامي، وبالهندام كإطالة اللحى وحلق الشوارب وقصر الثياب واستعمال المسبحة، وإلى ما هنالك من أمور أصبحت علامات فارقة للإرهاب في نظر الأوربيين.
وبغية البحث عن مرجعيات دينية أو ثقافية أراد المتطرفون الإسلاميون أن يعقدوا صلة دلالية بين معنى (الجهاد) و (الإرهاب)، فما يسميه الغرب إرهاباً يسميه الإسلاميون جهاداً. وهكذا وقع المتلقي لخطاب الإرهاب في إشكالية (اللبس اللغوي) للمفهوم، وتحوّل الصراع من صراع سياسي إلى صراع لغوي وتفسيري فانقلب مفهوم الجهاد رأساً على عقب، من عنف (مقدس) إلى عنف مدان.
وإذا كان الجهاد يقترن بشرط أساسي لا يمكن التنازل عنه مطلقاً، وهو كما في تعبير بعض المجتهدين تعرّض بيضة الإسلام للخطر، فإنّ ما سوى ذلك لا يُعـدّ سوى ضرب من ضروب (الدفاع) أو (المقاومة). ويلزم منا المقام هنا أنْ نشير إلى أنّ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، كان يسمى في القاموس السياسيّ العربي: (المقاومة الفلسطينية)، وليس ( الجهاد الفلسطيني). واشتقت منه تعبيرات مثل: (فصائل المقاومة)، ورفعت شعارات لا حصر لها كانت تدرج مصطلح (المقاومة) في أية عبارة تحريضية. ولم تتصاعد الدلالة الدينية التي حاولت اختزال كل أشكال (المقاومة) إلى (الجهاد) إلا في أواخر الثمانينيات.
ونخلص من هذا إلى أنّ مفهوم (الإرهاب)، إنما هو مفهوم سياسيّ معاصر جداّ، وله علاقة بمفهوم (العنف) الذي كان جزءاً من تاريخ المجتمعات البشرية عموماً، وَوُجِدَ في داخل كلّ الحضارات القديمة على صلة قوية بالتحولات التاريخية العظمى للمجتمعات والدول والكيانات السياسية. ولا يمكن في أية حال من الأحوال أنْ يُـختزل العنف إلى الإرهاب. فإذا كان العنف يتضمن قسماً من الدلالات الإيجابية كمعنى الدفاع عن النفس والممتلكات والشرف، أو طرد الشرّ، أو الدفاع عن الوطن، فإنّ الدلالة التي تريد أنْ تثبّتها الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية هي الدلالة السلبية. بمعنى انتزاع كل الدلالات الإيجابية الموجودة في العنف التي ذكرناها، لكي توصم أعداءها بوصمة الإرهاب. وهي تشنّ حملة دعائية واسعة لترويج هذا المفهوم.
ومن الغريب، أنّ قسماً من الكتّاب العرب حاول أنْ يؤصّل مفهوم الإرهاب فقال إنّ التراث العربي يتضمن نصوصاً وحالات ومواقف يمكن وصفها بالإرهاب، والأكثر إدهاشاً هو حصر هذا التأصيل في التراث العربي. ففي الوقت الذي توجد في التراث البشري نماذج ونصوص ومواقف لا حصر لها من أشكال العنف الذي ينطبق عليه مفهوم الإرهاب، فإنّ وجوده في التراث العربي ليس إلا حالة طبيعية وغير شاذة. صحيح أنّ تراثنا المقدس، وتراثنا الأدبي يبيح استخدام القوة إلا أنّ ذلك كان دائماً مقروناً بشرط صارم، كما هو حال اقتران الشجاعة أو الفروسية بـ (الفضيلة)، واقتران الجهاد بـ (الدفاع عن بيضة الدين). وعلاوة على ذلك، فإنّ (الجهاد) بالمفهوم المقدّس التقليدي في التراث الإسلامي كان مقترناً بقوة بـ (مرجعية الإفتاء)، أما المحاولات الحديثة فهي محاولة لتفتيت هذه المرجعية. وبذلك تحول مفهوم (الجهاد) إلى مفهوم سياسيّ هو الآخر، كما الإرهاب، ومن هنا سَهُـلَ إيجاد علاقة بين الاثنين، وهذا ما لا يمكن القبول به مطلقاً.

 

الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد 75

إتصــلوا بـنـــا