ردك على هذا الموضوع

قراءة في كتاب (لكي لا تتنازعوا) للإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي

 

 

"الإسلام أدب الحوار والمناقشة"

"بالأدب الإسلامي الرفيع يستطيع أي إنسان أن يناقش آراء الآخرين حتى لو كانت مضادة له" ص144

هل يمكن للسرد أن يحقق ما لم تستطع الكتابة الفكرية أن تنهض على إيصاله؟ يبدو أن الكثير من المفكرين ممن يمتلكون مشروعا تحديثيا، يجدون هذه الحاجة التي تعترف للسرد بأنه يكمل عموم النص الفكري الذي كتبوه، وإذا كان النص الفكري غوصا في الماضي المقيد وفي الآتي المبتغى (غير معلوم الملامح) فإن الآني أو اللحظوي المتوجه إليه كل نص يحتاج أن يعترف أمامه إلامَ يسعى؟ وإلى أين كل هذا؟

ذلك ما لا يقدمه الفكر بتبسيطة يطلبها عامة الناس (ولسنا هنا بصدد التحقير ولكن الإشارة للكثير من الناس ممن لا يتعامل مع الكتابة الفكرية ويأخذ الدين والفكر من مصادر بسيطة)، ولأن الكتابة الفكرية تتهم بالانحياز للنخبة في حين السرد يميل لتجاوز هذا الاتهام فضلا عما يبدو أن رغبة المفكرين ذاتهم إلى التواصل عبر جنس آخر من الكتابة لكي تزيد الرقعة التي يخاطبونها، وهذا الحرص يكون بحسب طبيعة المشروع، وذلك ما نلاحظه على مشروع الإمام الشيرازي؛ فبلا شك قد نظر إلى ميل الناس لقراءة السيرة والتأريخ وهما يسجلان الواقعة اليومية وإذا حللاها (أي السيرة والتاريخ) فلا يسجلان غير وجهة واحدة يستأنس لها القارئ ولا تربكه.

وهنا يقف الراصد على خلفية هي النتاج الفكري للإمام الشيرازي (قدس سره) في تآليفه المختلفة التي توحي بدءا من عناوينها إلى انشغال واضح بالعالم عموما وتحولاته وصلته بالعالم الإسلامي الذي يعنيه، لأنه يرى للماحول صلة أيضا بالذين يتوجه إليهم بمشروعه الفكري، فيجد الحاجة كبيرة للإحاطة بكل شيء والإجابة عنه، فلا نستغرب بعد ذلك أن يلج بالبحث في العولمة والاجتماع، وغيرها من الاتجاهات والظواهر التي تحرك العصر بشكل متسارع، وكيفما يكون الموقف منها فإن فكرة التعرض لها وحدها تمثل جرأة فكيف بالكتابة عنها.

ويأتي كتاب الإمام الشيرازي (لكي لا تتنازعوا) هو أقرب للسيرة الفكرية في جانب كبير منه وهو ينقل تجاربه أو تجارب آخرين ممن له شبه بهم من السابقين، ويضع هذه التجارب في سرد يعني به كما قلنا العاميّ أولا لأنه يقرب بالمحصلة له أفكاره المبثوثة في تآليفه المتنوعة التي يتوزعها انهماك بموضوعات ذات بعد حياتي يومي، هي التسامح ونبذ العنف والتطرف وطلب المعرفة والعلم وتبريز معالم الدين التي تلتقي مع هذه الوجهة، وهو يلتفت بوقت مبكر بأن الإسلام يؤسر وينهب لوجهة واحدة هي التي ترتهنه أكثر مما تعرضه بما يعزز الحياة وكرامة الإنسان باعتباره خليفة الأرض المعمر لها.

إن كتاب (لكي لا تتنازعوا) محكوم باستهلاله الذي يؤكده عنوان الغلاف لتكون مضامينه بعد ذلك إكمالا للعنوان وتفريغا له، ولأن العنوان أصلا يوحي من جهة أخرى بجملة غير متكاملة إذا أردنا فإنه حينئذ يغري بفضاء بعده لم يكتمل هو جواب الشرط (الذي سيكون مادة الكتاب)، إذن عدم التنازع الذي هيمن على الكتاب والتفريغ منه يكون بالضديات التالية التي تقترب وتبتعد فيما بينها، لكنها تدور في دائرة رجحان واحدة هي التنازع:

الفرقة × الوحدة

الاختلاف × التراضي

القبول × الرفض

الفردية × الجماعية

الصفاء × الفتنة

الاستبداد × العدالة

الصديق × العدو

الصبر × الجزع

الهجر × الوصل

الفوضى × التنظيم

الخسارة × الربح

النزاع × التصالح

الاستعمار × التحرر

التجديد × التخلف

فمثل الأولى قوله: (الوحدة تبدأ من الدائرة الصغيرة لتنتهي إلى الدائرة الأكبر) ص36 فالدائرة الصغرى هي الأسرة والكبرى (دائرة الدولة) الأولى يحكمها القانون والتنظيم فيكون الأخلاقي بالمحصلة منظما أيضا للالتزام القانوني.

ومثال الثانية قوله: (ويقف هذا المنزع في مقدمة الإمام الشيرازي فيقول (ولم يكن قصدي من هذه النتيجة التي انتهيت إليها القول بأن كل اختلاف منشؤه غير شرعي، ومرده إلى العوامل النفسية الثلاث التي ذكرتها، يقصد (الجهل، الكبر، الحسد)) ص21. وهكذا نستطيع أن نمثل لكل ضدية بأمثلة من الكتاب.

الحقلان الدلاليان السابقان تتنازعهما ضدية واحدة وتشدهما تقريبا هي (التفرق والتجمع) وهما مفردتان فضلا عما تجذبان من اللقاء والفراق فيهما مساحة من جذب وطرد والكتاب في سرده منشغل ليس بروايته التي تعنى بالمساحة السابقة، ولكن يحاول أن يكرس منطقة اشتغال مقترحة تكون محطة تحول نحو تحقيق بعضٍ من رؤاه لكي لا تظل حبيسة كما يبدو من المكتوب الذي جاهد الإمام الشيرازي في يوم ما أن يجعله مبذولا بدءا من تشجيع استقبال الكتاب لدى القارئ، إلى جعله جزءا من حاجات يجب أن يعنى بها المسلم، وانتهاء إلى تآليفه، والتأليف هو الآخر يمثل فعلا ممارسا، وأنت أمام الكتاب المطبوع تحقق حضور الأفكار ومواجهتها لغيرها، وإن لم يضع السيد الشيرازي نفسه في المواجهة بل كان يطمح بالوصول للآخرين من خلال لغة الحوار أنظر ص203... وهي مرحلة حضرية ومدنية، أعود إلى أن الكتاب يمثل ممارسة للفعل إلا أنها في سيرة الإمام الشيرازي كما يبدو لي كانت تحمل تحولا تراتبيا يكون كبر تحولاته في دعوته للتنظيم (ليس التنظيم بمعناه المؤسسة الحزبية الضيقة، فهو يقف بعد معاصرته لتجارب الحياة الحزبية إلى أن يكون بالضد منها، وفي كتاب (لكي لا تتنازعوا) أكثر من إشارة لذلك مثلا ص136). فأي تنظيم عنى به الإمام الشيرازي؟ إن كتابه يدعو إلى مؤسسات تقارب منظمات المجتمع المدني التي لها طابع اجتماعي وثقافي وفكري أكثر منها معبرة عن وجهات نظر سياسية، هذه المؤسسة لا يعني أن تكون مؤسسة (واجهة) غير فاعلة، بقدر ما يعني بحلقات غير صغيرة تكون فاعليتها في المحيط حولها، لأن اجتماعها في واجهة يصادر فعلها الأرضي الأدنى، وما يهمه هو الحلقات التي تجمع العامة والأخيرة تحتاج أن تعبر عن ذاتها وأن تمارس الحياة من خلال الحدث اليومي وهذا بالمحصلة يوطد تهذيب النفس وبناء وجهها المستقر أنظر ص204، 245، 248.

إذن يؤكد الإمام الشيرازي من خلال كتابه هذا تحديدا بما أنه متوجه إلى قارئ محدد في مستواه الثقافي وهم (العامة من الناس) حرصه على الجانب التطبيقي لأفكاره التي أخذت أسانيد لها من تجارب له جمعها أو تجارب آخرين لكي تقترب مع الشارع واليومي لا أن تنفرط عنه، والتجربة نوع من الممارسة الفعلية تعطي (الدعوة أي دعوة) مبرر الاستمرار إن كانت الأفكار مجاورة لهذه التجارب.

وتتفاوت هذه التجارب في خصوصية أشخاصها وعمومهم فهي قد تنقل تجارب تدور بين النخبة من علماء الدين في علائقهم وخلافاتهم، ونقلها للآخرين اعترافا، إنما هم مثل كل البشر تتفاوت فيهم النوازع البشرية من الخير والمحبة وأضدادها، وهو في الوقت ذاته يؤكد قيمة أخلاقية يسمو بها، أن الإنسان في كل مراتبه (العالم والمتعلم، العالم و الجاهل، الخاص والعامي) يبقى يتعلم، ويتعلم من الأدنى ومن الخطأ كما يتعلم من المساوي له والأعلى منه. أنظر ص233، 235.

وقد تغطي هذه التجربة علاقة بمن هو أدنى في الرتبة العلمية ولا يجد حرجا أن ينقل تجربة له مع العوام لا لشيء إلا ليؤكد تساميه وإنكاره للتعالي وحرصه على ممارسة منظومة القيم الإسلامية التي يراعيها في تآليفه، وهو يفلسف أهميتها والحاجة إليها، فيغادر الإمام الشيرازي التأليف إلى ممارسة الحدث اليومي ليؤكد أفكاره أو يعدلها، لكن هناك خطا عاما ينحاز فيه لنكران الذات دائما، وذلك واضح في بعض ما يسرده من أخبار تتصل بأمور يومية يمكن أن تمر عشرات المرات، لكن دون أن يعار لها أهمية، لكنه حتى هذه الأمور الصغيرة لا يتركها تمر دون أن ينحت منها قيمة يحولها للوجهة التي طالما آمن بها، لأنها ما دامت تصدر منه تبرز نظرته لغيره بعين التساوي، وإلا فما قيمة أن يشغل باله برجل يسلم عليه الإمام والرجل لا يرد أو يرد بفتور ولا يتركه إلا بعد أن يعتذر الرجل له ويعترف بالخطأ. (أنظر مقابلة الهجر بالإحسان ص239، وتقاربها، لو كنت أعلم الغيب ص237).

*اسم الكتاب: لكي لا تتنازعوا

*المؤلف: آية الله العظمى الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي

*تحقيق: صاحب مهدي

*الناشر: دار العلوم- بيروت ومؤسسة الوعي الإسلامي، ط1، 1425- 2004

*عدد الصفحات: 376