ردك على هذا الموضوع

مع الغزو الثقافي من جديد.....

رصد للواقع... وخطوة في طرح البديل

جمال الخرسان

 

في معرض الوقوف على بدايات انطلاقة الغزوات الثقافية، يختلف الباحثون في تحديد ذلك ففيما يعتقد البعض إن البداية كانت منذ حملة الترجمة التي انتعشت في العصر العباسي يذهب آخرون الى ان البداية الحقيقية كانت مع ولادة المرحلة الثالثة من مراحل الأستشراق وذلك في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي على وجه التقريب (1).

واذا ما حصل ريب في ان البداية كانت في التاريخ الأول يكاد يجمع المؤيدون لظاهرة الغزو الثقافي على التاريخ الثاني.

ما هو الغزو الثقافي؟

للجواب على ذلك المفهوم قد يتكفل التعريف الموجز الذي يجمع بين ما ذكر من أجوبة بغية الابتعاد قدر المستطاع عن الخوض في ركام التعريفات الهائلة وكسب الجهد من أجل التركيز على الرصد الواقعي لتلك الظاهرة فهو الذي يحسم الموقف في نهاية المطاف، وباختصار فالغزو الثقافي (تغليب ثقافة المستعِمر على ثقافة المستعَمر وخلق هوة بين ماضي الشعب وحاضره وبينه وبين تراثه الثقافي يؤدي إلى أن الشعوب المستعَمرة ينسون فيه أنماط حياتهم وقيمهم الموروثة وتقاليدهم ويخسرون بسببه استقرارهم الروحي ويتمزقون بين ماضيهم وحاضرهم) (2) اذن ليس الغزو الثقافي إلا استعمار الثقافة الوطنية واستبدالها بثقافات مستوردة.

والتساؤل الذي يطرح نفسه بشدة هل أن البنية المعرفية الإسلامية والتراث الحضاري الإسلامي واقع تحت وطأة الغزو الثقافي أم أن القضية ليست إلا ترفاً فكرياً أفرزته الطاولة المستديرة لبعض النخب المثقفة التي تحلل كل شيء تحت غطاء نظرية المؤامرة؟

هل نقف مع أقصى اليمين بتلك الشعارات التي تنذر بهجمات ثقافية كانت ولا تزال تحرق الأخضر واليابس ولا تبقي علي شيء من ثقافة الإسلام ولا تذر؟ ولأجل ذلك نسدّ أبواب الحوار مع الآخر مكتفين بالجلوس وراء الأقبية حفاظاً على ذلك الكنز الثمين من أن يسرق عاجزين عن تقديم أطروحات تحفظ لبنية المعرفة الإسلامية مكانتها ضمن حدود العالم الإسلامي كحد أقل.

أم نقف في أقصى اليسار نرفض فكرة أي عدو آخر يحاول تسيّد معارفه على ثقافات الآخرين نستورد المعرفة من معين الغرب الذي كان ولا يزال صافياً نتهم كل من يحاول مخالفة ذلك بالرجعية والتخلّف؟

علماً أن هناك تيار ثالث يشكل حالة وسطية يمكن الوقوف بجانبه إذ أنّه لا يرى الأشياء بمنظار واحد.. ويحمل خطاباً يتمتع بمرونة أكثر تؤهله كي يتعامل مع المعطى المعرفي للآخر بمرونة أكثر وبخلفية تفرّق بين ما هو غزو ثقافي وما هو تبادل معرفي ثقافي يغذي ثقافة الأنا ويجعلها تطرح نفسها في عصر أصبح فيه العالم قرية واحدة.

لكن ذلك لا يتسنى قبل تسليط الضوء على أرض الواقع من أجل الوقوف على مصداقية كل طرف فيما يقول.

الواقع المعاش يدل وبوضوح كل من يحاول رصد ظاهرة الغزو الثقافي على ملامح عديدة لتلك الظاهرة وهي بحاجة للتوقف عند أبرزها:

1- نخب المتغربين:

حاولت نخبة كبيرة من الكتاب والمفكرين في العالم الإسلامي تصوير الشمال قنديلاً في ظلام هذا الكون، والتزم بعضهم بذلك أمام أسياده الكبار كما قال طه حسين عميد الأدب العربي في وقته: (لقد التزمنا أمام أوربا أن نذهب مذهبها في الحكم ونسير مسيرتها في الإدارة ونسلك طريقها في التشريع) (3).

أما الأغرب من ذلك فهو قول السيد الهندي أحمد خان مؤسس الكلية الإسلامية الإنجليزية المسماة بـجامعة علي كره: (لابدّ للمسلمين أن يقبلوا حضارة الغرب بتمامها حتى يُعدّوا في الشعوب المثقفة ولا تزدريهم باقي الأمم) (4)، حين ذاك لا نلوم الأديب التركي المؤسس ضياء كول على قوله: (علينا اختيار أحد الطريقين إما أن نتقبل الحضارة الغربية أو نظل مستبعدين لقوى الغرب لابدّ أن نختار أحد الأمرين) (5).

وأخيراً يقول: رأيت أن تاريخنا الإسلامي هو وحده البذر الذي ينبت ويثمر) (6). وهروباً من الإسهاب سوف نختم هذه النقطة بكلام الدكتور جلال أمين العالم الاقتصادي المصري والكاتب المعروف (كأني خلعت نظارة ملونة كانت تلوّن لي كل شيء بلون معين واذا بي ارى كل شيء بلونه الحقيقي هكذا كانت فرحتي بلغتي العربية وديني وتاريخي وابطالي) (7).

2- التبعية في المنهج:

أدى ظهور النخب المتغربة (كما أشير له سابقاً) إلى تبعية على مستوى المناهج التعليمية على حدّ تعبير المفكر الإسلامى محمد باقر الصدر في اقتصاده (8).

فأساليب التعليم تفتقد المنهج الإسلامي الذي يستمد هويته وأسسه من معالم الديانة الإسلامية التي تضع العلم وأهدافه ضمن إطار تنظيمي هادف وبنية فكرية معينة. وتعود تلك التبعية على صعيد المناهج التعليمية (إضافة لما تقدم)؛ إلى إشراف شخصيات أجنبية على ذلك المجال في العديدمن البلدان الإسلامية.. على سبيل المثال كان المستشار لوزارة المعارف المصرية في عهد الإحتلال البريطاني هو الإنجليزي (دنلوب) أما في المغرب فيقول الدكتور هشام جعيط: (أنا متخوف على الفكر المغربي وقلق من كثرة الأخذ من وادي الفكر الفرنسي هناك من يتبع منهج قولو، هناك من يتبع منهج بارت وخصوصاً عند الشباب ويقفون عند هذا المؤلف أو ذاك أو تصير المسألة تطبيق هذا المنهج أو ذاك..). ثم إن الأمر بلغ مرحلة غيّرت فيه المناهج الدراسية في مصر او الأردن وغيرها من الدول الإسلامية لأنها تحرض أحياناً ضد الكيان اليهودي في الشرق الأوسط (إسرائيل).

كل ذلك فضلاً عن المؤسسات التعليمية الأجنبية التي عشعشت في ربوع الكثير من بلدان المنطقة كمصر وباكستان وتركيا ولبنان...

3- المظاهر الاجتماعية:

مظاهر وعادات اجتماعية كثيرة توضح مدى تأثير البنية الاجتماعية في هواجس النزعات التقريبية على مختلف الشرائح الاجتماعية، فقصات الشعر وموضات الألبسة وسعي العديد من الطبقات المختلفة سيما شريحة الشباب في كون سلوكياتهم وموضاتهم طبقاً لما يرتديه مشاهير السينما ونجوم الرياضة والغناء. بل إن بعضهم لا هم له سوى ذلك والنظرة الخاطفة لدور الحلاقة أو العديد من المتاجر وصالات العرض تريك ملصوقات ذلك بكل ابتذال.

4- السلطة الإعلامية:

ويكفي في ذلك أن حصة الأفلام الأجنبية تشكل (90 %) من أفلام السينما المعروضة في البلدان الإسلامية (9)، أما نسبة البرامج الأجنبية المعروضة في تلفاز البلدان الإسلامية فتترواح بين (60 - 80 %) بالنسبة لمجمل البرامج المقدمة (10). علماً أن معظم تلك البرامج تعجّ بالعنف وتصحب بإثارات جنسية مشفوعة بتأثير بلاغى متميز يتوسل (علوم النفس والحواس والإستقبال الحسي والإدراك) (11)، وصولاً لـ(التكثيف والتكبير والتصغير والدمج والفرز) (12) وغيرها من وسائل التأثير في بلاغة الصورة بغية خلق متلق ذي دور سلبي لا يجد مجالاً لنفسه في تلك البرامج من أجل الاستحواذ على ما في جيبه خدمة لشركات تجارية لا تحبذ برامج ثقافية وفكرية مطلوبة لأنها تضعف الهيمنة الإعلامية على المتلقي، وهذا ما يجعله بعيداً عنها. ولو قدّر لوسائل الإعلام أن تبقى كذلك فإنها إضافة لإسهامها في خلق أجواء التوتر والإندفاع نحو العنف في نفس المتلقي وهذا ماله مضاعفات سايكولوجية كبيرة اجتماعياً في تصرفات لا يحمد عقباها، إضافة لذلك تقضي على معظم أوقات الآخرين بدل أن تزرع فيهم الجد والمثابرة.. ولذلك لا غرابة حينما يتصدر الغربيون احصائية البراءات العلمية في العالم بنسبة (97%) طالما كان ذلك قد أتى نتيجة لتخطيط دقيق لا نتيجة لتشتيت الطاقات وإرساء ثقافات استهلاكية لو عوّل عليها فلا بدّ من انتظار المزيد من الضياع.

5- الاقتصاد:

سيطرة المثلث العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية والذي يتمثل في صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير ثم منظمة التجارة العالمية، فصندوق النقد الدولي أقل ما يفرضه على البلد المقترض هو التدخل في إلغاء الرسوم الجمركية أو التسعيرة السوقية داخل البلد نفسه.

6- السياسة:

تقسيم الحدود وحسم النزاعات الناشبة بين الدول الإسلامية بل حتى توزيع الحكومات في بعض الأحيان يحدده آخرون!، ألم تكن التقسيمات الحدودية بين دول العالم بما في ذلك العالم الأسلامي وفقاً لما جاء في معاهدة سايكس بيكو الشهيرة وما تلاها من اتفاقات بين الدول العظمى في العالم والتي ترعرعت في أحضان الأجنبي؟؟!

أما حينما يتنازع بلدان في نقطة حدودية معيّنة فإن فصل خطابهم في ذلك محكمة العدل الدولية (لاهاي) في الأعم الأغلب.

بل هناك بلدان إسلامية تتقيد بأغلب ما يطلبه الكونغرس الأمريكي حتى لو كان ذلك على حساب المصلحة الوطنية وخصوصاً إذا كانت الطلبات في مقابل حماية عسكرية ستحرم منها تلك الدول لولا استمرار التنازلات.

سرّ المواجهة

إن تلك الهجمات الشرسة التي خطط لها بدقة واتقان يمكن احتواؤها أو التقليل من مخاطرها كحد أقل.. إذا ما حاولنا أولاً معرفة مكامن الضعف في الصف الإسلامي ومنافذ العبور ونحاول طرحها بكل شفافية على طاولة البحث ومن ثم تأتي الخطوة التالية في كيفية المواجهة وتلافي الأخطاء وملأ الفراغ حتى يتسنى لنا أن نطرح المقابل لثقافة التغريب والبديل عن الإعلام الإستهلاكي أو التبعية لذوي النزعات الشمالية الذين مازلنا ندفع استحقاقات خطواتهم وأطروحاتهم العقيمة إلى يومنا هذا.

أولاً: أسباب الضعف والتلكؤ:

1- تقليدية الأساليب المتبعة في المناهج التعليمية ووسائل التعليم والتدريس مع إصرار بعضهم على كلاسيكيتها من جهة، وغياب المناهج العقلانية، وغياب فلسفة العلوم بوضوح من جهة اخرى...

2- الوقوف بوجه التيارات التجديدية أو الحركات النقدية الفعالة واتهامها بالعدوانية والتبعية الغربية.. فإن ذلك يقتل الحس المعطاء أو الإعلام الحي، والأصوات المصلحة في واقعنا الحالي تخنق هذه الاتجاهات المطلوبة من دون مبرر موضوعي:

إن غياب الحركة النقدية الفعالة أو الثقافة الحيّة في ثقافة المجتمعات الإسلامية يجعل الساحة الثقافية جامدة... تترواح مكانها.. وهذا ما يفسر استفحال العديد من الأزمات في المجتمع الإسلامي خصوصاً وإن اسقاط الحلول الجاهزة أو نقل الماضي بماضويته يزيد الطين بلة أكثر من ذي قبل. حيث ان كثرة النظريات وطوابير المعلومات من دون تعريضها لمجهر النقد والتحليل لا يدفع بالحاضر نحو الأفضل ولا يحفظ للأمة الإسلامية مكاناً مناسباً في زحام الصراع المستقبلي امام حضارات العالم.

3- نتيجة لعدم الإستقرار في حياة الفرد المسلم لأسباب اقتصادية أو أمنيّة أو عسكرية كالحروب والنزعة الأمنية للحكومات إلى غيرها من الأسباب والعوامل التي تساعد في زعزعة الثبات في واقع المجتمعات الإسلامية نتيجة لكل ذلك برزت ظاهرة غياب الوعي الفردي وخمول في التفكير وضمور هاجس الإحساس بالمسؤولية.

4- الموقف الرسمي للحكومات القائمة امام الوعي الجماهيري وامام تحريك عجلة الثقافة، اذ انّ ذلك يؤدي الى ظهور من يعارضها او يقف حجر عثرة في طريق الكثير من ممارساتها النابعة عن مصالح واهداف شخصية مغرضة استبدادية، وهذا ما يثير حفيظتها ويشيط غضبها لذلك فانها تقف بوجهه وبشدة.

فالحكومات المستبدة لا تعرف سواها بل هي غير مستعدة أن تسمع رأياً آخر قبالها وإن كان ذلك الرأي صواباً، لذلك تراها تعمل جاهدة في تسطيح الوعي، وتغذية الشعوب بثقافة هشة تهزها الرياح من كل جانب من أجل ابقائها في سدة الحكم... فتكوين معرفة شكلية وثقافة هشة وبناء المجتمع على رافد معرفي سطحي يساهم كل ذلك في تمرير الاعيب الدكتاتوريات.

5- انقطاع التواصل بين المؤسسات الفكرية، وابتعاد المراكز الثقافية والعلمية بين بلدان العالم عموماً والإسلامي خصوصاً وضعف التنظيم أو التنسيق بين تلك المراكز أدى إلى ضعضعة في البنية الثقافية وساعد على غياب المعرفة المتجددة الحيّة.

وذلك الانقطاع ناتج عمّا يلي:

6- هروب النخبة الدينية الى الإنزواء:

إن أهم الأسباب في تخلف العالم الإسلامي عن ركب التنوّر بالمعرفة المعاصرة والحضوة بمكانة عالمية مناسبة هو هروب الكثير من رموز المؤسسة الدينية إلى عالم الإنزواء أحياناً والمثاليات أحياناً أخرى.. وانكماش العديد من علماء الدين على أنفهسم جعل منهم أناساً منكبّين على الماضي التليد من دون استحضاره من أجل النهوض بالحاضر وبناء المستقبل... 

7- القطيعة بين الجمهور والنخبة:

إن البون الشاسع بين النخبة والجماهير واتساع المسافة بينهما أدى إلى وقوع الجمهور فريسة للآخرين.

8- هجرة الأدمغة:

الكوادر العلمية تشكل عصب الحركة الفعّالة في المجتمع على الصعيد المعرفي والعلمي ولكن التفريط بها يعكس المعادلة تماماً وهذا ما حدث بالفعل.. ففي احصائية أمريكية بين الأعوام (1962-1977) استقطبت الولايات المتحدة الأمريكية لوحدها (18200) كفاءة علمية من بينهم (2500) مهندس و (3700) طبيب و (1100) عالم. وفي احصائية أمريكية أخرى تقدر الكفاءات العربية المهاجرة للولايات المتحدة الأمريكية عام (1978م) في حدود المائة الف 50 % منهم يحملون شهادات الدكتوراه، بينما تشير احصائية بريطانية إلى أن حوالي مائة ألف عراقي مقيم في بريطانيا بينهم (2000) طبيب (13)، وتشير بعض الدراسات إلى (أن 70 في المائة من المبعوثين العرب لا يعودون إلى بلدانهم بعد الانتهاء من الدراسة. ومن المفارقات أنه من بين كل خمسة باحثين عرب يوجد ثلاثة منهم خارج الوطن العربي... وتصل نسبة الأطباء والمهندسين العرب إلى إجمالي الأطباء والمهندسين المهاجرين إلى الولايات المتحدة حوالي 50 في المئة و 23 في المئة على التوالي) (14)، وقدرت خسارة العرب (بسبب هجرة العقول العربية بـ 1.57مليار دولار سنوياً كما ورد في دراسة حديثة صدرت في دمشق) (15) ومن الطبيعي جداً أن تنخفض تلك النسبة بشكل كبير فيما لو وضعت العقول المهاجرة في مكانها المناسب.. ولكننا للأسف الشديد (نهتم بالتكنولوجيا وحدها وأساليب انتاج المكائن والآلات وهذه الأمور من خواص الثورة الصناعية بينما ميزة تكنولوجيا المعلومات والمعرفة تتمركز حول الإنسان كقيمة أساسية، ولهذا نرى الدول المتطورة تعطي أهمية للاستثمار في رأس المال البشري تعادل ذاك الذي تعطيه لرأس المال المادي) (16) حتى أن جانب التنمية البشرية أصبح في الوقت الحاضر عنصراً مهماً جدّاً تناسباً مع ثورة المعلومات فإن الطاقات المتعلمة تلعب دوراً مهماً في العصر الحاضر وتختزل جهوداً كبيرة بعدما أصبح الشخص الواحد بإمكانه ادارة مصنع بأكمله.

9- تواضع المنتج الإعلامي:

الحياة المعاصرة أدخلت إلى المجتمعات عناصر ومكونات أسرية جديدة لها الدور الكبير في تشكيل ثقافة الفرد أو المجتمع وأبرز تلك المكونات هي التلفاز والمذياع والإنترنيت وغيرها من وسائل الإعلام بالإضافة للصحافة والكتاب.

حيث أصبح التلفاز الآن حاجة ملحة في كل أسرة وعائلة، وله الدور الكبير في انشاء البنية الثقافية والتربية الأُسرية لجيل اليوم من أجل ذلك ينبغي أن تكون المادة الإعلامية المقدّمة بمستوى طموحات الجمهور وبذلك تبدأ المنافسة المشروعة بين وسائل الإعلام في تقديم برامج متنوعة، لكن الضعف في مستوى المادة الإعلامية المنتجة محلياً أو لعدم تمتعها ببعض الجوانب الفنية التي تشدّ المتلقي حدى ببعض وسائل الإعلام أن تستفيد من نتاجات أجنبية أعدت في أغلب الأحيان لبيئة ولمجتمعات تختلف كثيراً عن المجتمعات الإسلامية. بل إن بعض المواد المستوردة يوزع على دول العالم الثالث ذات الأغلبية الإسلامية (مجاناً من قبل المنتجين بعد أن استنفذت أغراضها لديهم طمعاً في قيمتها الدعائية) (17) أو تحقيقاً لأهداف اخرى. ثم إن تلك الفجوات وضعف البلاغة في الصورة أدى إلى استحواذ الشركات الكبيرة على وسائل الأعلام وسخرتها لأغراض تجارية بحتة تتبع ثقافة أحادية التفكير في ظل وسائل وأدوات حديثة تمكنها من التأثير على المتلقي كي يندفع باتجاه ثقافة الأستهلاك التي لا تفيد إلا المتاجرين.

خطوات في سبيل المعالجة

بعد أن تمّ اجمالاً معرفة أهم الأسباب التي تشكل ثغرة في الواقع الإسلامي يستثمرها الخصم في النفوذ إلى أعماق المجتمعات الإسلامية ينبغي بعد كل ذلك الإتجاه نحو معالجة تلك المعوقات.. فمع أن آلية التغيير والمواجهة شائكة وعصيبة إلا أنها مما لا بدّ منه إذا ما أريد ضمان الحضور الفعال للحضارة الإسلامية بفكرها وتراثها ومنهجها واصطلاحاتها في ظل المتغيرات الحاصلة في الحاضر والاستحقاقات التي يتوعدنا بها المستقبل:

1- محاربة الجهل:

تحجيم الجهل ومحاربته والسعي في تضييق دائرة الأمية ليست الألفبائية. (وهي متفشية في الأوساط الإسلامية بشكل عجيب) فحسب بل إضافة لكل ذلك تحديد دائرة الأمية في الإعلام والحاسوب ومتطلبات القرن الحادي والعشرين.. حيث ان الجهل اوقع الكثيرين منّا في مطبات ظلماء بقينا الى الآن ندفع استحقاقاتها ومتطلباتها.

لذلك لا بدّ من استخدام جميع الوسائل المعاصرة لنشر الحالة الإسلامية في ثوبها المعاصر وإلا فـ(كيف نطرح أنفسنا كبديل حضاري للعالم ونحن لا نستطيع أن ننتشل أنفسنا من هذا الواقع المرّ الذي لا يطاق والذي يصعب علينا تصويره كما هو واقع فعلاً؟) (18).

2- إنشاء المراكز العلمية لدراسة التراث

إن تكوين مؤسسات للدراسات التراثية الإسلامية هي ضرورة ملحّة شريطة تسخير الأدوات والآليات المعاصرة واستثمار التقنية الحديثة في تلك المراكز والنظر لذلك التراث بنظرة نقدية تحليلية متحررة عن التفكير الأحادي من أجل الخروج بحلول موضوعية مع الأخذ بعين الاعتبار أن لا تكون المعالجات المستخلصة قد استوردت بأم عينها من المجتمعات الماضوية ومحاولة تطبيقها على الواقع المعاش بدون أن يلاحظ المتغيرات الحاصلة وخصوصية الزمان في عملية التغيير.. ولا بدّ من العمل على إحداث صلة وثيقة بين تلك المؤسسات العلمية من أجل توزيع الأدوار وتحديد الأولويات من أجل توفير الوقت والجهد.

3- تفعيل الحركة النقدية في مختلف المستويات:

إن تفعيل عجلة النقد يعطي الساحة الفكرية حيوية أكثر، مما يؤهلها لمواكبة العصر والوقوف على معالم التيارات الفكرية والاتجاهات الجديدة وامكانية الاستفادة منها، فإن النقد اليوم (هو امتلاك امكانيات جديدة للتفكير والعمل تتيح للمرء أن يتغير عمّا كان عليه) (19) وبذلك تتلاقح الأفكار وتتعدد الآراء وهذا ينتج الفكر الجديد الذي يبعث الحياة في جسد الأمة الإسلامية. وبعكس ذلك ينتج الجمود الفكرى وذبول النقد حيث أنه يضع أصحابه أمام أكثر الأزمات تعقيداً في مواقف صعبة في ظل عصر تتضاعف سرعة العلوم الفكرية والتكنولوجية فيه بشكل مذهل.. سيما وأن الشعارات المرفوعة والتي تنادي بأن الخيار الإسلامي هو الخيار الأفضل للمستقبل.. إن تلك الشعارات تجعل أصحابها أمام تحدٍّ كبير بمستوى تلك اللافتات.

4- إعادة النظر في المناهج التعليمية:

المناهج التعليمية والتعليم العالي بالذات بحاجة ماسة لاستبدالها خصوصاً بعد أن سبقت الإشارة إلى أن المشرفين عليها او الذين وضعوها هم النخبة المتغربة التي حاولت أن تسقط الكثير من مناهج التعليم وأهدافه التي نشأت في بيئة تخالف البيئة المسلمة وتستثمر إيديولوجيتها بغير ما نصبو اليه، ليس بالضرورة أن تكون مناهج التعليم المستوردة من البلدان الشمالية لهذا العلاج هي مناهج مخطوءة ولكنها لا تناسب المنظومة الثقافية الإسلامية، فالتعليم يعتبر محوراً للحفاظ على الثقافات الموروثة وتنميتها... فالمنهج العلمي قبل كل شيء مرتبط بالغايات التي يتطلع اليها المجتمع لتحقيقها ويتأثر بعوامل مثل الدين والإيديولوجية العامة.... ومن هنا نلاحظ اختلاف الأنظمة التعليمية للقارة الواحدة....)(20) وفقاً لذلك لابدّ أن تأخذ المناهج المطلوبة أولوياتها من صميم الواقع المعاش حتى تكون البديل المعقول.

ليس التبادل المعرفي غزوا ثقافيا

التحذير من مغبة الغزو الثقافي واستحقاقاته ومخلفاته بل كل ما يتعلق به من مساوىء يتركها على جبين كل ثقافة مغزوّة، لا يعني الوقوف سلباً تجاه مطلب حساس وحاجة ملحة كقضية التبادل المعرفي والتفاعل الثقافي مع الآخرين... فبقدر ما يشكل الغزو الثقافي عامل خطر فعّال يهدد المنظومة المعرفية، فإن التبادل الثقافي يساهم الى حدّ كبير في النهوض بالمجتمع نحو الازدهار والتمدن طالما كان التبادل (الأصالة مع الانفتاح، إبراز الهوية الحضارية الذاتية دون إغفال مكاسب الإنسانية الحضارية والعلمية والقدرة على التكيف الإيجابي مع تطورات الحياة دون نسيان القيم والثوابت)(21) ولا (يهدف إلى استئصال الثقافة الوطنية واجتثاتها) (22) فالتفاعل ناتج عن اختيار وقدرة وحرية... ولكن التبعية تنبع من الإجبار والضعف والانقياد.. ولهذا فالدعوات التي تظهر هنا وهناك بوجه ذلك تحت ذريعة أن المكون الثقافي الإسلامي يجعلها مستغنية عن الآخرين.. هي في الحقيقة تناقض نفسها قبل كل شيء حيث أنها لو وقفت عند هذه الحجة فلا يحق لها استثمار المعطى الغربي بما في ذلك استخدام الخدمات العامة التي صنعت أو اكتشفت هناك، بل لا يحق لها أن تستخدم حتى مصباحا كهربائياً أو تقطع الأميال على متن الطائرة. اضف لذلك المساحة الكبيرة التي تركتها الرسالة الإسلامية للمسلمين وغيرهم من اجل ان يعمروا الأرض.. وإلا فماذا يعني ذلك الكم الهائل من النصوص التي تحث على طلب العلم؟!!

لذلك يفترض بنا أن نتفاعل مع المعطى الحضاري القائم و (التفاعل مع نتائج ومكاسب الحضارة) وليس بالضرورة أن يكون مع أسسها الفكرية أو الفلسفية أو جذورها الثقافية، إذ أن الإسلام حينما لا يكون (إلا رحمة للعالمين) فإن الإنفتاح والتبادل الثقافيين لا يكون إلا من صميمه لأن ذلك الشعار لا يتحقق عن طريق الإنكماش على الذات والقوقعة على النفس فاللافتات التي يفترض بها أن تكون عالمية تتطلب آليات معاصرة تناسباً مع ما يتطلبه العصر الحاضر فـ(الثقافة الإسلامية لا تخالف العالمية بل ترحب بها ما دامت غنية بتراث قوي ومتفاعل مع كل عصر ومصر ولكن تبقى المهمة في نجاح ذلك على المؤسسات الفكرية الإسلامية والكتاب الإسلاميين حيث اذا ما قدموا الخطاب الإسلامي عالمياً بصورة تليق به عندها سوف ينجح وإلا تنعكس العالمية سلباً على الإسلام) (23).

لم يكن الشمال بأجمعه صفحة سوداء ولا يمكن اختزال أوربا وأمريكا في حفلات الديسكو وتنفيذ الاغتيالات والعدوان والاستعمار.. بل هناك كثير من مجالات الحياة المختلفة نحن بأمسّ الحاجة إليها قد جاءت من الشمال.. فكم قدّم الحاسوب الآلي للمسلمين من خدمات جبارة فوفر عليهم الوقت واختزل الجهد؟! ألم يكونوا بأمس الحاجة للأنترنيت الرحب الذي أوصل أصواتهم لنقاط جغرافية من العالم لم يكونوا ببالغيها إلا بشق الأنفس.

الاعتماد أساساً على الهوية الإسلامية لا يعني الانغلاق على الذات ورفض مكتسبات العصر والحضارة الحديثة وانما للمشروع الثقافي أفق انساني يسعى نحو التفاعل مع قضايا الإنسان المختلفة من منظور قيمي إنساني خالص (24) وهذا ما يعضده تاريخ الحضارة الإسلامية في العصور الأولى فتفاعلت مع الهند فأخذت منه آداباً دون أن تعتنق ديانتهم وأخذت من الحضارة الفارسية تنظيم الجيوش دون أن تجرّ معها عبادة النيران.

* كاتب عراقي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- قراءة في كتاب (الفكر الأستشراقي تأريخه وتقويمه) لمؤلفه محمد الدسوقي مراجعة جلال الأنصاري ـ مجلة التوحيد ـ عدد 88

2- تعريف ببعض المصطلحات ـ دار الحرية للطباعة ـ بغداد 1987 ص 85 ـ مكتب الثقافة والأعلام.

3- مستقبل الثقافة في مصر ج1 ص 36 ـ طبعة القاهرة 1938.

4- تركيا الجديدة - يوسف القرضاوي ص 44.

5- نفسه- ص 39.

6- التوحيد العدد91.

7- كيف هزم اللاشعور العلمانية ـ محمد الكسواني ـ مجلة المجتمع ـ عدد (1395).

8- اقتصادنا ـ محمد باقر الصدر، الطبعة السادسة عشرة ـ دار التعارف للمطبوعات (1982).

9- الحلول.. مصدر متقدم ص 36.

10- مواجهة الغزو الثقافي ومظاهره في العالم الأسلامي ـ الأستاذ علي عليلات مجلة التوحيد ـ عدد (21).

11- المصدر نفسه.

12- حصار الثقافة ـ مصطفى حجازي ـ ص 31.

13- علماء وجواسيس ص 108.

14- الشهيد الصدر بين ازمة التأريخ وذمة المؤرخين ـ مختار الاسدي ص 81 ـ 1997.

15- هجرة العقول العربية العوامل والأسباب ـ صحيفة الأتحاد الكردستانية عدد (356) 4 / 2 / 2000.

16- الواقع التعليمي والثقافي والأعلامي في الوطن العربي ـ حسن حمدان العلكيم ـ الاتحاد الأماراتية 25 / 12 / 2001.

17- جريدة البيان الأماراتية، 10 نيسان، 2002.

18- الأتحاد الكردستاني مصدر متقدم.

19- حصار الثقافة ص 33.

20- المسألة الحضارية ـ كيف نبتكر مستقبلنا في عالم متغير؟ ص 116، الطبعة الأولى 1999.

21- الأستلاب والأرتداد ـعلي حرب ـ ص 73 ـ الطبعة الأولى.

22- العولمة دراسة تحليلية نقدية ـ ص 130 ـ الدكتور عبد الله عثمان التوم، عبد الرؤوف محمد آدم ـ الطبعة (1999).

23- نحو منهج جديد في قراءة الغرب ـ محمد محفوظ ـ مجلة الكلمة عدد (2) ص 42.

24- الغزو الثقافي ص61. مصدر متقدم.