ردك على هذا الموضوع

محاولة سيكولوجية لتفسير الشعور بالانتماء للوطن

(الانتخابات العراقية نموذجاً)

الدكتور اسعد الإمارة – السويد*

 

عندما نتناول القضايا السيكولوجية في أية دراسة لابد لنا أن نتناول محور التفكير البشري الذي ينصب على دراسة السلوك البشري، سلوك الفرد، سلوك الأسرة، سلوك المجتمع، سلوك الدولة، سلوك الأمة، سلوك الأمم في مجال العلاقات الحضارية، بمعنى أدق أننا إزاء ظاهرة نضعها تحت مجهر التشريح السيكولوجي والتداخل التكويني في أبنيتها، فإذا ما عرفنا السلوك الفردي وطريقة تعامله والأسلوب الذي ينتهجه، كان بالإمكان الوصول للغاية المنشودة لدراسة القضية السيكولوجية المراد معرفتها، حينئذ يستقر الوصف العلمي للدراسة ومن ثم المعالجة لتلك الظاهرة.

إن محاولة معرفة ودراسة الشعور بالانتماء للوطن عند الإنسان، أي كان ذلك الإنسان، يجب دراسة (وعي) ذلك الإنسان ومدى تغذية المعرفة والثقافة لكي تتحول هذه المكونات من حيز الخيال والتفكير إلى حيز اتخاذ القرار، وهو السلوك بعينه، وهو تجسيد لهذا الوعي الذاتي الذي يتحول في مراحل حياة الفرد إلى قوة ذلك الانتماء، هو انتماء إلى الوطن بالدرجة الأولى.. ثم يتحول إلى واقع أي ينتقل من مستوى الشعور إلى مستوى السلوك.

الحرية الشخصية وحرية التعبير

يقول الإمام محمد الحسيني الشيرازي: الأصل في الإنسان الحرية. كذلك إبداء الرأي والتعبير عن الأفكار والتحاور، وهي سمة تميز بها الإنسان عن الكائنات الحية الأخرى وهي بنفس الوقت من الناحية السيكولوجية تدريب الثقة بالنفس وتأكيد حرية التعبير عن المشاعر، لذا يرى علماء النفس أن حرية التعبير يشير إلى مفهوم تأكيد الذات وهي خاصية تبين أنها تميز الأشخاص الناجحين من وجهة نظر الصحة النفسية والفاعلية في العلاقات الاجتماعية. ويرى (سالتر 1994) أن هذه الخاصية تتوفر في البعض فيكون توكيديا ناجحا في مختلف المواقف وقد لا تتوافر في البعض الآخر فيصبح سلبياً وعاجزاً عن توكيد نفسه في المواقف الاجتماعية المختلفة. أما عالما النفس المشهورين (ولبي ولازاروس) فقد أعادا صياغة خاصية التعبير وتطويرها بقولهما: تتمثل في التعبير عن النفس والدفاع عن الحقوق الشخصية عندما تخترق دون وجه حق.

إن المراد من الحرية الشخصية أن يكون الشخص قادرا على التصرف في شؤون نفسه وفي كل ما يتعلق بذاته، آمناً من الاعتداء عليه في نفّس أو عرض أو مال أو أي حق من حقوقه، على أن الحرية الشخصية تتحقق بتحقق أمور: مكون من حريات عدة وهي:

حرية الذات، حرية المأوى، حرية الملك، حرية الاعتقاد، حرية الرأي وحرية التعليم، ففي تأمين الفرد على هذه الحريات كفالة لحريته الشخصية. وكلما أدرك الفرد في كل موقع من مواقع الحياة الاجتماعية متطلبات هذه المسؤولية الاجتماعية، وامتلاك زمام نفسه دون تأثير الآخرين عليه قسراً أو عنوة، فأنه يمكن إيفاءه من حقوق تجاه الوطن والمساهمة فيه من حيث البناء والتشييد الجديد للأبنية المعنوية السيكولوجية والاجتماعية بعد عقود من التسلط والهدم المنظم، وانهارت خلالها قيم كانت سائدة، ولكنها تمزقت وتناثرت.

ما الذي يمكن عمله كي يستحق هو الآخر في استعادة قيمه وإعادة بنائها؟ المشاركة الفعالة الآن في إبداء الرأي ومنح الصوت بكل حرية ودون خوف رغم التهديدات، هي معادلة صعبة أن تقول الحق دون الخوف من لومة لائم ولو أجرينا مقارنة بسيطة بين الواقع الحاضر المؤلم بكل ثقله الأمني وبين الماضي القريب زمن الطاغية، لوجدنا الأمر لا يختلف كثيرا من حيث التمسك بالعقيدة والدفاع عنها، حينما كانت يوما ما انجح سلاح في وجه التسلط حتى جعلت النظام الدكتاتوري يطارد أبناء الوطن من اجل قمع الرأي والفكر، واليوم يتكرر نفس السيناريو ولكن بأساليب مختلفة وهي ذات الأصابع ولكن بشكل خفي هذه المرة يحركها أيتام الدكتاتورية وبقاياه ومن تبعهم من المتعصبين السلفيين الجدد.

كل ذات إنسانية قادرة على التعبير عن نفسها وتمتلك وسائلها في التعبير للبوح عما في داخلها من هواجس وأراء، لذا فالذات الإنسانية ليست التعبير عن الفردية ضد المجموع، بل التعبير عن الأنا لصالح المجموع، وهي تستمد أبعادها الحقيقية من الأجواء الديمقراطية ومن نهج التسامح وقيم الخير وقبول الأخر والتعاطف مع الآخرين وإنشاء المودة بين الناس مهما كانت مذاهبهم أو أجناسهم أو أديانهم أو اتجاهاتهم، لذا من اللازم النظر بين الحرية والمسؤولية في معظم الحالات كوضع ايجابي لأنه يخلق توازنا يحّول دون تحّول الحرية إلى فوضى ويكبح إمكانية نموها إلى استبداد. على الناس في ظل الأنظمة الديمقراطية احترام حقوق الآخرين، إن لم يكن من باب اللياقة، فمن باب المفهوم الأساس القائل بأن انتقاص أو تقليل أو سلب حقوق فرد واحد قد ينتج عنه فقدان هذه الحقوق بالنسبة لجميع الناس، ونرى في قول السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) في الحرية الحقة قوله: الحرية أصيلة في الإنسان، التحرر هو الطابع العملي في عالم الواقع والحياة، الإسلام يجمع بين أصالة الحرية وضرورة التحرر، الحرية هي التي تؤطر القوانين الاجتماعية، العلاقة بين الحرية والتوحيد علاقة عضوية.

الروابط الاجتماعية والعلاقات بين الناس

يقول علماء النفس إن الناس بحاجة إلى الناس فالبشر يقدم كل منهم للآخر أعظم مسرات الحياة وأفراحها وكذلك مشاركتهم بأحزانهم ومواقفهم المؤلمة عند الأزمات والشدائد، وربما كان هذا السبب الرئيس في فكرة التقارب والالتقاء النفسي وإقامة أواصر المودة والألفة بيننا، فالانتماء الاجتماعي وإقامة العلاقات تحكمه عدة دوافع وحاجات نفسية لاسيما أن الدوافع في الأساس هي حالة داخلية تنتج عن حاجة ما وتعمل هذه الحالة على تنشيط استثارة السلوك الموجه عادة نحو تحقيق الحاجة المنشطة. واهم تلك الدوافع، الدوافع الاجتماعية بعد أن عزلنا الدوافع الأخرى التي يعرفها طلبة علم النفس بشكل مفصل مثل الدوافع التي تنشأ لإشباع حاجات فسيولوجية أساسية (مثل الحاجة للطعام والماء) وتسمى بالحوافز. وحديثنا الآن عن الدوافع وبالتحديد الدوافع الاجتماعية التي تقود السلوك الإنساني وتوجهه نحو إشباع رغباته من خلال الاتصال بالآخرين والتفاعل معهم وإقامة الروابط بينهم، ومن أعظم الأمثلة الحياتية في ذلك، الدوافع الاجتماعية لإشباع حاجات مرتبطة بالمحبة والقبول والاستحسان والاحترام والتعبير عن الرأي واحترام الرأي والقدرة على المحاورة وقبول الآخر.

إن الفكر الإسلامي له رأي واضح في عمق الروابط الاجتماعية أو سطحيتها وقوة الانتماء الاجتماعي مؤكداً في ذلك احتياج البشر بعضهم للآخر، ومثل ذلك ما ورد عن الإمام الباقر (ع) من أنه سمع رجلا يقول: اللهم أغنني من خلقك. فأوصاه بان يقول: (اللهم أغنني عن أشرار خلقك) وهذه الأمثلة تؤكد فاعلية أهمية الروابط الاجتماعية والانتماء الاجتماعي. وقوله (ع): (أكثروا من الأصدقاء في الدنيا، فإنهم ينفعون في الدنيا والآخرة، أما الدنيا فحوائج يقومون بها..) وإزاء ذلك نستنتج بان الإسلام يوصي بأهمية الروابط الاجتماعية والانتماء الاجتماعي، رغم أن أعظم ارتباط للعبد مع الله، وأعظم انتماء للإنسان هو الحاجة إلى الانتماء لله وحده.

كثيراً ما يتأثر بعض الناس بآراء وأهواء الآخرين وربما تصادر حرياتهم دون وعي منهم وهذا ما يسمى بالانقياد الأعمى، إلا أن فكرة التفاعل بين الأفراد تحددها طبيعة العلاقات القائمة بين الأشخاص ويرى علماء النفس الاجتماعي هناك شكلان أساسيان للتفاعل:

الشكل الأول.. هو السلوك المتبادل بين الأشخاص Inter personal Behavior

الشكل الثاني.. السلوك المتبادل بين الجماعات Inter group Behavior

سواء كان هذا التفاعل ايجابيا أو سلبيا، وبالتالي تتحدد نوعية هذا التفاعل في إقامة الروابط الاجتماعية بصورة فردية أو جماعية، وتحكم هذه الروابط محكات من أهمها المحك المعرفي ويقصد به (الوعي) والمحك الآخر تقويمي ويقصد به ارتباط هذا الوعي ببعض التوجهات القيمية، وربما كان من أهمها القيم الدينية والقيم الفكرية والقيم الاجتماعية والقيم المادية.

إننا حينما ننظر إلى الروابط الاجتماعية لابد من استعراض السلوك المتبادل بين الناس وهو الذي يتم من خلال التفاعل الاجتماعي في إطاره بصورة فردية أو جماعية سواء كان هذا التفاعل ايجابيا أو سلبيا وسواء تم التفاعل بين جماعات في المجتمع تنتمي لنفس المجتمع أو جماعات تنتمي لمجتمعات أخرى مختلفة، فالمهم هو إدراك الأفراد لهوية جماعتهم ومدى إمكانية التوحد معهم بالهدف العام، وهو الهدف الأشمل، وهنا يتجسد في تحقيق هدف اجتماعي سياسي ينحصر في إنجاح مهمة التعبير عن الرأي في الانتخابات. وهناك أمثلة عديدة لهذا النوع من التفاعل وإقامة الروابط الاجتماعية وخصوصا في المجتمع العراقي الذي عانت جميع قومياته ومذاهبه وأديانه وانتماءاته الأثنية إلى الاضطهاد والتسلط من النظام السابق، فالتفاعل بين المسلمين والمسيحيين أو بين السنة والشيعة أو التفاعل بين الأكراد والعرب أو التفاعل بين التركمان من السنة والشيعة والمسيحيين أو التفاعل بين الآثوريين والكلدان والبروتستانت والكاثوليك والصابئة والأيزيديين والمسلمين أو التفاعل بين جنوب العراق المضطهد عبر التاريخ وبين الوسط والشمال المحمل بالويلات والتصفيات، التفاعل بين الطوائف المتعددة في العراق التي لاقت التشريد والتصفية والقمع عبر أكثر من ثلاثة عقود مضت في العراق، هذا التفاعل بين الجماعات والأديان والمذاهب والطوائف التي ينتمي أعضاؤها إلى نفس المجتمع، هو محك الإخلاص لمواجهة ثقل تركة الدكتاتورية، وهم بإزاء إدراك المتفاعلين لموقف التفاعل الذي يعد عاملا مهما وليس فقط مجرد التصنيف الموضوعي للأفراد أو الأديان أو المذاهب أو الطوائف أو الجماعات الأثينية لكل منها خصالها التي تجسم هذا التصنيف من حيث الناحية السلبية، لاسيما أن النظام السابق حاول ذلك بطمس هويتهم الاجتماعية والدينية والتاريخية، وإزاء ذلك فالانتخابات العراقية تعد النموذج الذي يجسد الهوية الاجتماعية والقيمية لكل الأديان والمذاهب والطوائف والأحزاب والحركات السياسية. فالأفراد والجماعات والأديان والمذاهب والحركات السياسية أثناء تفاعلهم بعضهم مع البعض الآخر في الانتخابات لا يكونون في معزل عن خصال كل فرد أو حركة أو دين أو مذهب أو طائفة أو حزب سياسي وعن خصائص جماعتهم التي ينتمون إليها ويدركون هويتهم الاجتماعية في ضوئها. الانتخابات هي الموقف المباشر بكل خصائصها التي يتم فيها التفاعل والترابط الاجتماعي، وهو بنفس الوقت حضور نفسي. ففي الحضور النفسي psychological Presence. يتلقى الشخص تنبيهات مباشرة وفورية من آخرين موجودين معه في نفس الموقف في حين أن الحضور الجسمي للآخرين لا يمثل وحده نوعاً من التنبيه الاجتماعي لان بعض الأشخاص ربما يكون له حضور جسمي فعلي في الموقف الاجتماعي دون أن يمثل تنبيها اجتماعيا للآخرين. كما قد يوجد عدة أشخاص في نفس الموقف دون أن يحدث بينهم أي قدر من التفاعل لان الاجتماعي كلاً منهم ليس لديه حضور نفسي بالنسبة للآخرين. ومثال ذلك الأشخاص المسافرين معا في حافلة النقل العام أو بالقطار ربما لا يمثلون لبعضهم البعض أي شكل من أشكال التنبيه الاجتماعي رغم تواجدهم معا في نفس المكان. ومن أهم آثار الحضور النفسي انه يؤدي إلى التحرك في اتجاه معين ويوفر نوعاً من الرضا والإحساس النفسي بالتقدير ويساعد على تبادل المشاعر والعواطف والتأثير على الآخرين ودرجة نحو الفاعلية ويقول علماء النفس الاجتماعي يساعد الحضور النفسي إبراز الأشخاص الآخرين ودرجة إدراك التشابه في الحماس والمعنى الحقيقي بالدافعية نحو الانجاز، وكل تلك العملية تتم من خلال سلوك إنساني يسمح للآخر بالتعبير عن رأيه وإدراكه لذاته ومكنوناتها الحقيقية في إبداء الرأي ويتمثل ذلك في الديمقراطية وحرية إبداء الرأي وقول الإمام محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) إن الديمقراطية أفضل أساليب الحكم لأنها تهيئ الجو الكامل للحرية، وفي الحرية تظهر الكرامة الإنسانية من جانب، والكفاءة من جانب آخر، فتنمو الملكات وتبرز العبقريات ويعمل النقد البريء على إظهار عيوب الاستنباطات ومؤاخذة التطبيقات للقوانين، وبذلك يظهر في الحياة الأصلح فالأصلح.

العراقيون بين سيكولوجية الحشد وتأثير الرأي العام

عانى الشعب العراقي عقود قاسية من الظلم ومصادرة الحريات والتعبير عن الرأي وتهديم القيم بأنواعها: القيم الاجتماعية، الدينية، الفنية الجمالية الأصيلة، المادية، الفلسفية، وحتى السياسية المعتدلة، فجعل النظام السابق المعروف بدكتاتوريته المقيتة ضد كل شرائح المجتمع العراقي المؤهلة علميا ومهنيا وحرفيا، وادياه ومذاهبه وقومياته وطوائفه في بوتقة الانصهار الواحد لعبادة الصنم ومحاولة تأليه الدكتاتور وتسلط الرأي الواحد، فحوّل الرأي العام نحو اتجاه واحد وهو حماية النظام والدكتاتور وأسرته بعد أن كان الرأي العام كما هو معروف في كل العالم وسيلة للضبط الاجتماعي والحماية من الاستبداد كما قال عالم النفس الانجليزي (جيرمي بنتام) وطالب بأن تكون كل الأمور معلنة وعامة من اجل منع سوء استخدام السلطة.

ويرى علماء النفس الاجتماعي أن أهمية الرأي العام تتمثل في العديد من المجالات ومنها:

- سن القوانين والتشريعات.. فمن الضروري أن يكون سن القوانين أو إلغاؤها نابعا عن رغبة الرأي العام.

- مساندة الهيئات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.. وهو عنصر مهم لنجاح أي فكرة تدعو إليها هذه الهيئات أو المؤسسات.

- التعرف على مدى انتشار بعض الآراء أو التصورات الصحيحة أو الخاطئة التي توجه سلوك الأفراد والجماعات.

- له الدور الكبير في احتضان القيم الاجتماعية والخلقية ومنع فقدان السيطرة عليها.

- رفع الروح المعنوية عند الجماهير.. إي سيطرة الرأي العام على مقاليد المجتمع ستؤدي حتماً إلى الابتعاد عن التفرقة بين أبناء الوطن الواحد وتحقق الوحدة.

إن إلغاء الدور الأساس للرأي العام هو تحويل الناس إلى قطيع يقوده من كان يحمل السيف أو المسدس ويوجهه نحو من يواجهه أو يقف ضده وبالتالي يظل (يصول ويجول) لوحده ويلغي ادوار المجتمع بكاملها ويرسخ دوره الانفرادي فحسب، وعليه لا يمكن النظر إلى الرأي العام على انه مجرد تعبير لفظي عن اتجاهات متعددة، بل قوة ضاغطة يمكن استخدامها في إلغاء وتغيير القوانين، إذا ما أحسن استخدام التوجيه الأمثل.

إن الرأي العام كما يراه علماء الاجتماع بأنه ظاهرة اجتماعية وعلى هذا الأساس فاهتمامهم بالرأي نابع من كونه جمعياً واجتماعياً، وهو النتاج النهائي لعملية التفاعل الاجتماعي بين الأفراد، التي تتأثر بطبيعة البناء السياسي والاجتماعي للمجتمع. أما علماء السياسة فيتناولون الرأي العام باعتباره ظاهرة جماهيرية، ويهتمون بالدور الذي يلعبه الرأي العام في اتخاذ القرار السياسي مفترضين أن وجود حكومة ديمقراطية يستلزم أن تلعب آراء الجمهور دوراً مهماً في تحديد السياسة العامة، وعليه فان فقدان همزة الوصل بين الرأي العام والسلطة في الدولة يعني بحال، انقطاع التواصل بين المجتمع والدولة، وهذا ما حصل خلال عقود مضت في تاريخ العراق الحديث.

ولما كان الكائن البشري المتمثل في الإنسان كونه كائنا اجتماعيا يتأثر بالسياق النفسي والاجتماعي الذي يعيش فيه، لهذا بات من المؤكد لدينا أن نأخذ طبيعة تكوين الجماعة وتقسيماتها المختلفة باعتبارها عامل مؤثر على السلوك الفردي والسلوك الجمعي، فهو يتأثر ببعض الناس وليس كل الناس، ويؤثر في معظم الناس وليس كل الناس، ومن هنا تتحدد خلال هذه التأثيرات مستوى المعايير والأهداف وأنماط الاتصال والتخاطب وقوة التأثير على الفرد ومدى التجاذب أو التنافر لدى أفراد المجتمع لاسيما أن نموذجاً مثل العراق يعد بحد ذاته حالة معقدة من التشابكات الاجتماعية والمجتمعية والتركيبية والقيمية والأديان والمذاهب والانتماءات العشائرية والمناطقية ولذا فإن أثر ديناميات التفاعل يكون من خلال الاعتماد المتبادل بين الظواهر والمكونات المختلفة ولكن بالضرورة تجمعهم أهداف واضحة معلنة تخدم الجميع في المجتمع العراقي حتى وان اختلفت السياقات والوسائل وهو ما عبر عنه عالم النفس الشهير (كيرت ليفين) بقوله إن إدراك أفراد المجتمع ككل دينامي يقوم على الاعتماد المتبادل بين أفراد المجتمع الواحد، أي أنهم يواجهون مصيراً مشتركاً ولهذا فإن الحشد Crowd من اجل الانتخابات هو نوع من الحشد الفاعل والذي يتمثل في تجمع من اجل هدف أو غرض يتجه نحو نشاط فعال وموجه وهو نشاط الحشد كما عبر عنه علماء النفس الاجتماعي ومدى اثر فاعليته في توجيه طاقات الناس نحو الهدف الأسمى.

الانتخابات العراقية وتغيير الاتجاهات

يعرف علماء النفس الاجتماعي الاتجاه Attitude بأنه عبارة عن نسق أو تنظيم له مكونات ثلاثة: معرفية Cognitive ووجدانية Affective وسلوكية Behavioral ويتمثل في درجات القبول أو الرفض لموضوع الاتجاه.

وتحمل الاتجاهات للفرد مؤثرات قوية داخلية نحو أو ضد موقف ما بعينه أو قضية ما بعينها، وقد حمل الشعب العراقي مواقف متذبذة وتكونت عنها آراء في البداية، وتبلورت هذه الآراء لتصبح اتجاهات، والاتجاهات أكثر ثباتاً من الآراء، واقل قوة وتأثيراً من المعتقد، فالناس في العراق حملت اتجاهات بغيضة نحو السلطة عبر عقود مضت منذ تأسيس الدولة العراقية أوائل القرن العشرين حتى آخر حكومة دكتاتورية زمن النظام السابق، فكانت من أهم سمات الحكومات العراقية، التسويف الدائم في قضايا المواطن وحقوقه واستغلال تسمية المواطنة وحقوقها، والتلاعب بالمفاهيم كيفا شاءوا لصالح السلطة ضد المواطن، وبالشكل الذي يناسب توجه السلطة في أي مرحلة. وإزاء ذلك تكونت اتجاهات سلبية لدى الفرد العراقي نحو السلطة على مر الزمن حتى باتت تشكل في وعيه الجمعي العقلي المعرفي نمطا من الضد تجاه الدولة من الناحية الوجدانية، ولو تناولنا فقط جانبي الحب والكراهية من حيث الجوانب الوجدانية لوجدنا أن الكثرة الكاثرة من العراقيين تكن كراهية نحو السلطة وميولا بغيضة نحو رجالها، حتى بات التعامل مع السلطة في كل الأزمنة الحديثة سلوكيا ينتابه الشك والظن في نوايا السلطة، ويفسر البعض من الساسة أو المتحذلقين ممن مسكوا زمام حكم العراق مقولة إن الشعب العراقي شعب صعب المراس وصعب الإدارة والتوجيه وهذه المقولة تعد تجني بحق الشعب العراقي رغم انه لا يوجد ما يدعم هذا الافتراض علميا.

إن طول فترة المعاناة والتسلط الحكومي أدى إلى ضغوط متعددة منها الضغوط الاقتصادية والنفسية والعقائدية والاجتماعية والمهنية أدت إلى سلب الحريات واختلال التوازن في السلوك وقيم المجتمع العراقي ويقول (معتز سيد عبد الله وعبد اللطيف محمد خليفة) في كتابهما علم النفس الاجتماعي، يختلف تأثير الاتجاهات على السلوك باختلاف الضغوط الموقفية من حيث قوتها أو ضعفها.

أما في ما يخص تغيير الاتجاهات، ففي البداية نعّرف معنى تغيير الاتجاهات، ويقصد به استيعاب المتلقي للرسالة المعروضة عليه، بشكل ينعكس على إدراكه وانفعالاته، وأفعاله، كاشفاً عن الالتزام بما توصي به الرسالة. ويرى علماء النفس الاجتماعي أن تغيير الاتجاه يعد مدخلا رئيساً يمكن تغيير السلوك من خلاله، فإذا ما جرت العملية الانتخابية في العراق الجديد بشكل يرتقي إلى مستوى النضج الحضاري، فإن الآمل سيكون كبيراً بالتغير نحو الأحسن، ولكن إذا لم يحدث ذلك، بل حدث العكس، مثل ممارسات التسلط ومصادرة الرأي هي السلوك السائد، ستكون النتائج مخيبة للآمال، وأزاء ذلك يقول الإمام الشيرازي (رحمه الله) حين تقمع وتقهر الآراء بواسطة أدوات القمع من اجل إلغاء وتغييب بعض الأفكار، وتزدهر أساليب العنف في المجتمعات.

ويطرح علماء النفس ثلاث آليات لتغيير الاتجاهات لدى الأفراد أو المجموعات أو السلوك السائد مع الأخذ بنظر الاعتبار طول المدة المتاحة وأسلوب التطبيق المناسب، وهذه الآليات تنحصر في:

- الإغراء والاستمالة

- الإقناع

- الاستقطاب

ولسنا بصدد التوسع في هذا المحور بقدر ما أردنا تبيان الوسائل وما يهمنا هنا هو قوة تأثير فعل مجريات الانتخابات على المواطن الفرد وقناعة الجماعات والطوائف والحركات السياسية بموضوعيتها واعتدالها، إن تغيير الاتجاهات لدى الأفراد يعتمد على ذلك بالدرجة الأولى على إعادة تنظيم البناء المعرفي الذي يستند إلى فكرتين أساسيتين هما:

- التوازن

- الاتساق

وبهما يفترض الفرد أو الجماعات أو المواطنين في العراق بان هناك احتفاظ واتساق نفسي بين معتقداته واتجاهاته وسلوكه وبين ما يجري في الواقع والمتمثل في العملية الانتخابية برمتها، كعامل جديد مؤثر يختلف عن الممارسات السابقة التي تقوم بها الحكومات الماضية، هذا الاتساق هو تكافؤ بين مكونات الاتجاه الثلاثة المتمثلة في الجانب المعرفي (العقلي) والوجداني والسلوكي، فالفرد أو الجماعات أو الشعب العراقي، حين يعي بوجود تناقض بين اعتقاداته واتجاهاته، يكون مدفوعاً إلى إعادة الاتساق، ولذلك فان تعديل الاعتقاد أو الاتجاه يتطلب أن يحدث إذا حصل الفرد على معلومات جديدة لا تتسق مع آرائه السابقة. ومن أوضح الأدلة على ذلك الشعور السلبي العام للحرب العراقية الإيرانية لدى معظم أبناء الشعب العراقي، وما نتج عنها من تحشيد طاقات الملايين من الناس ضد أهداف ظلت كبيرة في عقل الدكتاتور، ولا قيمة لها في عقوا الناس من العراقيين، وما تبعها بعد ذلك في حرب غزو الكويت واستباحة أرضها وشعبها، فلم تكن تلك الحربين تحمل أية اتساقات بين الممارسة الفعلية للمواطنين والأفكار والأهداف النظرية لها، وهذا ما سماه علماء النفس الاجتماعي بنظرية التنافر المعرفي Cognitive Dissonance وهي تقوم وتهتم بتأثيرات التنافر على اعتقادات واتجاهات وسلوك الأفراد، فما حدث من هزائم واندحارات في جبهات القتال أثناء الحروب يمثل عدم قناعة الجنود في تلك المغامرات والحروب، وهو الأمر عينه إذا ما شعر المواطن بأن الانتخابات الجديدة ما هي إلا نسخة من المهازل السابقة في الحروب أو الاستفتاءات أو الانتخابات الشكلية وأساليب التزوير والتزييف، طالما أنها احترفت الكذب والتلاعب في مصائر الناس.

إن إبداء الرأي في الانتخابات عبر صناديق الاقتراع هو حق طبيعي مكتسب لكل مواطن عراقي، ويمر ذلك من خلال غايتان احدهما قريبة والأخرى بعيدة، أما الغاية القريبة وهي التي تطلب لذاتها دون اعتبار آخر في محاولة فهم الآخرين وتوجهاتهم وأحقيتهم في الممارسة. أما الغاية البعيدة فهي إقناع الآخرين بوجهة نظر معينة وتمر من خلال:

- إبداء الرأي في التصويت مع عدم الاستفزاز وازدراء غيرك.

- احترام رأي الآخرين من خلال إبداء الرأي بدون المجادلة عبر صناديق الاقتراع.

- حق التصويت.. إبعاد حوار الإلغاء (فكرة ما عداي خطأ).

- حق التصويت وإبداء الرأي.. إلغاء وإقصاء حوار السلطة القائم على: (اسمع واستجب).

- حق التصويت وإبداء الرأي.. إلغاء حوار العنف والعدوان.

الخاتمة

كان ومازال التاريخ هو المعلم الأول للإنسان منذ أقدم العصور والى يومنا هذا، وما زال صوت الإنسان الحر يعلو دائماً على صوت الدكتاتور والظالم مهما امتد به العمر، فالحضارات والأمم بنيت تارة بالقسوة والتسلط وتارة بالعمل والحوار والتشاور، ولكن أبنية القسوة والتسلط كثيراً ما انهارت وتلاشت حضاراتها، وبقى الصوت والرأي الحر هو السائد رغم أن كاهل التاريخ أثقل ألوان الحق بألوان الباطل، وسجّل لنا التاريخ على الكرة الأرضية شواهد مادية ومعنوية، نقرأ أحداثها كل يوم كلما نبشنا في كتب التاريخ ولم يبقَ منها إلا الحفريات والروايات وان سطرت إلا أنها تسطر بكلمات مبهمة مبتورة.

إن الانتخابات العراقية ما هي إلا دورة من دورات الحياة للإنسانية في العراق الحديث، وهي أما تتجه للصعود والرقي في السلوك العراقي الفردي والجمعي أو إلى الهبوط، لاسيما أن التراكمات السلبية ما زالت تضفي بظلالها على معظم أفراد المجتمع العراقي، ورغم أن الجميع في العراق يبحث عن الحاجة إلى الأمن النفسي والاجتماعي والكل يعمل باندفاع إلى تحقيق الانتماء الاجتماعي والتقدير الاجتماعي سواء منهم الأقليات أو الأغلبية الساحقة فضلا عن الأحزاب والحركات السياسية التي حرمت لعقود مضت من حقوقها. فان الدافع الأقوى يبقى لدى العراقيين أفرادا وجماعات، أحزابا وحركات سياسية، مذاهب واديان وأقليات أثنية، احترام الذات، وهذا لا يحدث بسعة أو بسهولة لكنه ممكن الحدوث عبر خطوات أساسية أهمها: تربية النفوس، الانتماء إلى الجماعة ومشاركتهم في المساعدة مع الابتعاد عن النقد الهدام وكشف العورات ونشر الغسيل، وعليه يقول علماء النفس عندما يكون الإنسان أو الأفراد أو الجماعة على درجة عالية من الحماس تكون الطاقة عالية، والدوافع هي التي تمد الطاقة، ويبقى متغير الفعل هو الحكم الفصل في كل ذلك، يقول الفيلسوف الألماني (غوته): المعرفة وحدها لا تكفي، لابد أن يصاحبها التطبيق، والاستعداد وحده لا يكفي فلابد أن يصاحبه العمل، والانتخابات العراقية تبقى الفيصل في القدرة والدافع والاستعداد والعمل لكل أبناء الشعب العراقي في المرحلة الجديدة.

*أكاديمي عراقي وباحث سيكولوجي.

[email protected]


المصادر:

- الحرية العقلية، مصطفى الفاخوري، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1994 - السياسة، الإمام محمد الحسني الشيرازي، دار العلوم، بيروت، 1987. - حقوق الأفراد في ظل الإسلام، عبد الوهاب خلاق، موقع الموسوعة الإسلامية.

- شرعية الأنا ومقومات الذات، صاحب الربيعي، موقع الحوار المتمدن، العدد 935 في 24/ 8/2004

- الحرية والإسلام، الإمام محمد الحسيني الشيرازي, - مدخل علم النفس، ليندا دافيدوف، ترجمة سيد الطواب وآخرون، دار ماكجروهيل، القاهرة، 1983. - تحف العقول، أبو محمد الحسن الحراني، مطبعة شريعت، إيران، 1421 هج.

- الوسائل / ب (7)/ج (5)/ المعاشرة. - علم النفس الاجتماعي، معتز سيد عبد الله وعبد اللطيف محمد خليفة، دار غريب، القاهرة، 2001.

- الإسلام وعلم النفس، محمود البستاني، مجمع البحوث الإسلامية، بيروت، 1992.