ردك على هذا الموضوع

من الآثار العلمية للإمام الصادق

* راجي أنور هيفا

 

المتتبع لأخبار الإمام الصادق (عليه السلام) ولآثاره الفكرية، يلاحظ أنه كان عالماً بارزاً في كل ميادين العلوم والمعارف الدينية والدنيوية.

وبالطبع فإن هذه الصفحات القليلة لن تكون كافية لإعطاء القارئ الكريم الصورة الشاملة عن عبقرية ذلك الإمام الذي بلغت شهرته الآفاق طولاً وعرضاً، ولكن لا بأس في أن نتحدث ولو بشكل موجز عن بعض علومه التي كان ينشرها بين طلابه الذين كانوا يأتون إليه من شتى الأقطار والأمصار.

ففي علوم التوحيد، على سبيل المثال، لم يكن هناك من يجاريه، أو حتى من يدانيه، فهو الإمام والسيد المطلق الذي لا يشق له غبار في هذا المجال من العلوم الذي يعتبر بحق من أعقد وأصعب أنواع العلوم والمعارف.

ولنستمع إليه الآن ماذا يقول عن الله جل وعلا بعد أن طلب إليه أحد السائلين أن يصفه، فأجابه (عليه السلام) قائلاً: (إن الله عظيم، رفيع، لا يقدر العباد على صفته، ولا يبلغون كُنْه عَظَمتِه، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، ولا يوصف بكيفٍ ولا أينٍ ولا حيثٍ، فكيف اصفه بـ (أين) وهو الذين أَيَّنَ الأين حتى صار أيناً، فعرفت الأين بما أيَّن لنا من الأين، أم كيف أصفه بحيثٍ وهو الذي حيَّث الحيث حتى صار حيثاً، فعرفت الحيث بما حيث لنا من الحيث، فالله تبارك وتعالى داخل في كل مكان، وخارج من كل شيء، لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، لا إله إلا هو العلي العظيم وهو اللطيف الخبير) (1).

ولا نبالغ إذا قلنا إن الإمام الصادق كان برأي الكثير من المستشرقين إمام الموحدين وإنه لعب دوراً عظيماً في تقدم علوم الفقه والكلام إضافة إلى علوم ومعارف أخرى كالعلوم الدنيوية المختلفة التي كان يبذلها لطالبيها ضمن حلقات دراسية في بستانه الجميل في المدينة حيث كان له - كما يقول المستشرق رونالدسن - مدرسة فكرية عظيمة شبه سقراطية (2).

ولذلك فليس من المستغرب أن يكون الإمام الصادق قبلة المتعلمين والباحثين، وأن يكون أيضاً المرجع الإسلامي العام في عصره إذ إن أقواله وأحكامه حجة وكذلك الحال بالنسبة إلى أعماله، ومن هنا يمكننا أن نتصور حقيقة منزلته إذ تنبأ الرسول الأعظم بقدومه من صلب الإمام الحسين (عليه السلام) فقال عنه واصفاً إياه: (جعفر صادق في قوله وفعله. الطاعن عليه كالطاعن عليَّ، والراد عليه كالراد عليَّ) (3).

ولذلك فالإمام الصادق الذي أعطى رسالة النبي محمد زخماً قوياً وَدَماً جديداً يسري في عروقها وشرايينها التي أتعبتها الخلافة الأموية لم يكن إماماً لطائفة محدّدة دون طائفة، ولم يكن إماماً قطّ لمذهب دون مذهب آخر، بل كان إماماً وسيّداً لكل المسلمين على حدٍّ سواء، ويكفي أن نقول إن أئمة المذاهب الأربعة، وبشكل خاص أبو حنيفة ومالك بن أنس، كانوا من تلامذته (4).

ومن الجدير ذكره أن الهيكلية الفكرية والمنظومة العقائدية عند الإمام الصادق لاقت عظيم الأثر عند الكثيرين من العلماء والمفكرين والعظماء في العالم الغربي، وقد رأى العديد منهم أنه قد قدّم للبشرية جمعاء من العلوم الدينية والدنيوية الشيء الكثير والذي يعجز القلم واللسان عن وصفه، ففي عام 1968 في مركز الدراسات العليا التابع لجامعة (ستراسبورغ) اجتمع لفيفٌ من العلماء والمفكرين الغربيين ليقولوا للعالم ما قدّمته الطائفة الشيعية للبشرية على امتداد أكثر من ألف وأربعمئة عام، وخاصة تلك المآثر والمنجزات الفكرية (المادية والروحية) التي قدّمتها عبقرية الصادق للعالم بشقّيه الإسلامي الشرقي والمسيحي الغربي.

وقد أجمعت أبحاث ذلك المؤتمر على أن الإمام الصادق كان عبقريّ عصره دون منازع، وقد أكدّ أولئك الباحثون والمفكّرون مثل البروفيسور (كلود كاهن) أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة ستراسبورغ، والبروفيسور الإيطالي (أنريكو شيروللي) صاحب كتاب (علم الاجتماع الإسلامي)، والبروفيسور الفرنسي (هنري كوربان) تلميذ المستشرق الشهير (لويس ماسينيون)، والدكتور (سيد حسن نصر)، والبروفيسور (هنري ماسِهْ) مدير قسم الدراسات الشرقية في جامعة استراسبورغ وعضو المجمع العلمي بدمشق، بالإضافة إلى عدد آخر من الدارسين والباحثين المتخصّصين بدراسة وتحليل الفكر والثقافات الشرقية،لقد أكَّدَ كل أولئك على أن للإمام الصادق صَولات وجولات في ميادين العلوم الفيزيائية بكافة مجالاتها.

وقد أثبت أولئك العلماء المؤتمرون أن هناك مقولات وأفكارا للصادق ذات علاقة وثيقة بفهم طبيعة (الزمان) وعلاقته بمفهوم (المكان) ونسبيّة هذين المفهومين المعقّدين، هذا بالإضافة إلى تحدّثه عن الضوء وعن أشعة النجوم التي تصل إلى كوكبنا من تلك المسافات الشاسعة التي تفصلها عنّا.

وقد تحدّث أحد أولئك الباحثين عن مفهوم الزمان في فكره، فقال موضّحاً تلك الفترة: (ففي رأي الصادق أن الزمان غير موجود بذاته، ولكنه يكتسب واقعيَّته وأثره من شعورنا وإحساسنا، كما أن الزمان هو حَدٌُّ فاصل بين واقعتين أو وحدتين، وهو يرى أن الليل والنهار ليسا من أسباب تشخيص الزمان ومعرفته، وإنما هما حقيقتان مستقلّتان عن الزمان، يضاف إلى ذلك أن الليل والنهار ليس لهما طول ثابت فالليل يقصر في الصيف ويطول في الشتاء، والنهار على عكسه، وهما يتعادلان أحياناً) (5).

وَلو كان المجال والوقت يسمحان لنا بالكلام المفصَّل عمّا تمخَّضَ عنه عقل الصادق، لَكُنّا قد جَهَّزنا أنفسنا لكتابة عشرات الصفحات عن تلك العبقرية الخالدة، ولَكُنّا قد أيْقَنّا بنفس الوقت أن الرسالة الإسلامية التي أستطاع الصادق أن يفهمها حَقَّ الفهم وأن يستوعبها حَقَّ الاستيعاب هي رسالة إنسانية فكرية لا تقتضي من الإنسان أن يستوعب علوم الدين فقط، بل تقتضي منه وتحثّه على طلب كافة أنواع العلوم والمعارف الأخرى، تلك العلوم والمعارف التي من شأنها أن تحقق الرفاهية للإنسان، وأن تجعله يُعمِلُ عقله من أجل استجلاء واستكشاف قوانين الطبيعة وأسرار الوجود.

وبما أننا كنّا نتحدّث منذ قليل عن مفهوم (الزمان) عنده، فمن المناسب أن نذكر الآن مفهوم (المكان) عنده وذلك من خلال دراسة وتحليل منظومته الفكرية الشاملة.

لقد جاء في مؤتمر ستراسبورغ الذي تحدّثنا عنه سابقاً أن له فلسفة متميّزة حول طبيعة المكان وتعلّقه بالزمان، فجاء في إحدى كلمات ذلك المؤتمر: (وفي رأي الصادق أيضاً أن للمكان وجوداً تَبَعيّاً لا ذاتيّاً، وهو يتراءى لنا بالطول والعرض والارتفاع، ولكن وجوده التَّبعيّ يختلف باختلاف مراحل العمر، ومن ذلك مثلاً أن الطفل الذي يعيش في بيت صغير، يرى بخياله وأحلامه أن فضاء البيت ساحة كبرى، ومتى بلغ هذا الطفل العشرين من عمره رأى هذه الدار مكاناً صغيراً، وأدهشته أنه كان يراها واسعة رحبة في طفولته، فللمكان بناء على ذلك وجودٌ تَبَعيٌّ لا حقيقي، وفي هذا اتفقت آراء علماء الفيزياء في القرن العشرين مع رأي الإمام الصادق في القرن السابع الميلادي) (6).

ولا ريب في أنَّ ذلك العقل الجبّار الذي تحدَّث عن نسبيّة الزمان والمكان منذ مئات السنين، لَهو عقل قادر على حَلِّ كل المسائل الأخرى المعقّدة التي شغل فكرَ الإنسان وتُحيِّرهُ دائماً وأبداً كقضية القضاء والقدر والجبر والتفويض وإلى ما هنالك من قضايا عقائدية وفلسفية أخرى.

أمّا ما يتعلّق بمسألة العلوم الكيميائية وعلاقته بهذا الفرع من العلوم الطبيعية، فيكفي أنْ نذكر أنَّ المستشرق (هولميارد) قد قام بدراسات مُعمَّقة عن سيرة الإمام الصادق (ع) من جهة، وعن سيرة العالِم الطرسوسي جابر بن حيّان من جهة أخرى، فخرج بنتيجة حاسمة ومنطقية وخلاصة تلك النتيجة أن العالِم جابر بن حيّان قد تلقّى علومه الكيميائية عن الإمام (7)، وهذا ما أكّده أيضاً الباحث (آ.إس.رابوبرت) في بحوثه عن الفلسفة والعلوم عند المسلمين، حيث رأى أن مبادئ الكيمياء قد تمَّ تحصيلها من قِبَل جابر بن حيّان بعد أن نهلها من تعاليم إمامهِ جعفر الصادق بن محمد الباقر (8)، أمّا الباحث (دونالدهيل) فقد نَوَّه في كتابه (العلوم والهندسة في الحضارة الإسلامية) إلى أنه كان يلقي بعلومه ومعارفه إلى تلميذه جابر بن حيّان الطرسوسي ضمن حلقاته الدراسية المعهودة (9).

وهنا أريد أن ألفت نظر القارئ الكريم إلى مسألة مهمة لا يمكننا أن نتجاوزها أو أن نتجاهلها، وَهي أنَّ العلماء والمفكرين الغربيين استطاعوا أن يسبقوا العديد من المفكرين العرب في تحليل وتفكيك رموز الملاحظات العلمية التي نطق بها الإمام في زمن لم يكن ليسمح له أن يصرّح بها تصريحاً أمام أُناسٍ لم تكن عقولهم مهيّأةٌ بَعدْ لتقبُّل وتفهُّم تلك الحقائق العلمية الثابتة.

وعلى سبيل المثال، فقد استطاع العديد من العلماء والمفكرين الأوروبيين أن يُثبتوا من خلال دراساتهم وتحليلاتهم أن له نظرية علمية مهمة أخرى، هي نظرية (انقباض العالَم وامتداده) فهو يقول إن العوالم الموجودة لا تبقى على حالٍ دائمٍ من الأحوال، فهي تتّسع تارة وتنقبض أخرى....وصفوة القول إنّ عِلميّ الفيزياء والفلك المعاصرين يؤكّدان نظرية الإمام الصادق (ع) المتعلقة بانقباض العوالم واتسّاعها (تمدّدها) (10).

من الصعب جداً أن نحيط من خلال هذه الوريقات القليلة بكل أفكار ونظريات الإمام الصادق (ع) على المستويين المادي والروحي.

فهو الإمام الذي مازجت روحُ القرآن الكريم روحَه الشريفة، وهو الإمام الذي ورث علوم الرسول المصطفى (ص) وعلوم الإمام المرتضى (ع) حتى أنه قد أُثِرَ عنه قوله (ع): (لا ينبغي لمن لم يكن عالماً أن يُعدَّ سعيداً) (12).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع:

1- ابن بابويه القمي (الصدوق) التوحيد مؤسسة النشر الإسلامي- قم 1415هـ ص115

2-دوايت رونالدسن عقيدة الشيعة مؤسسة المفيد-بيروت 1990 ص141

3-الشيخ شوقي حدّاد حوار مع الموسوعة الوهابية حول الشيعة الإمامية دار ذو الفقار-بيروت ص46

4-دوايت رونالدسن عقيدة الشيعة ص141

5-مجموعة من العلماء والمفكرين الإمام الصادق في نظر علماء الغرب ترجمة: الدكتور نور الدين آل علي.

راجعه: الأستاذ وديع فلسطين طبع دار الفاضل دمشق 1995 ص300

6-نفس المصدر السابق ص301

7-د.محمد يحيى الهاشمي (الإمام الصادق مُلهِم الكيمياء) المؤسسة السورية العراقية 1959ص38

8-آ.إس.رابوبرت (مبادئ الفلسفة) دار الكتاب العربي-بيروت ص125

9-دونالدهيل العلوم والهندسة في الحضارة الإسلامية (عالم المعرفة عدد103 الكويت يوليو 2004 ص115

10-الإمام الصادق في نظر علماء الغرب مصدر سابق ص330-333

11- بدمشق بمناسبة انعقاد مؤتمر الإمام جعفر الصادق (ع) الدولي المنعقد بتاريخ 26-28 أيلول عام 1991م بدمشق. راجع ص173.

12-راجع مقالة (تراث الإمام الصادق من الوجهة الفنية) للدكتور عبد الكريم الأشتر، وذلك ضمن كتاب (الإمام الصادق (ع) دراسات وأبحاث) الذي أصدرته المستشارية الثقافية الإيرانية بدمشق بمناسبة انعقاد مؤتمر الإمام جعفر الصادق (ع) الدولي المنعقد بتاريخ 26-28 أيلول عام 1991م بدمشق. راجع ص173.