ردك على هذا الموضوع

كربلاء رائعة التاريخ وحاضرة الأمل

استطلاع وعدسة/ محمد حميد الصواف

 

يقال إن لكل مدينة حكاية، والمعروف نزولا على معنى هذه الجملة إن تكون الأولى قبل الثانية أي المدينة ثم الحكاية، فحكاية آتية من حكى يحكي... أشخاص يتبادلون الكلام ليكون سبب الفعل حكى قائما، ولكن الغريب أن لهذه المدينة التي سوف تكون محور استطلاعنا اختلاف جذري في الأمر برمته، فالمدينة هنا أتت بعد الحكاية التي تناقلتها الألسن لقرون، ولم يقتصر على ذلك فقط فحتى نشأتها أتى من صراع مرير طال أمده لعدة أجيال، عكست للإنسانية جمعاء قوة العقيدة أمام طغيان الجبروت، وإرادة الحق أمام عنجهية الباطل، وليخترق وحيها حجب الظلمات التي أرادت عبثا حجبها، وليسطع نورها الأبدي على وجه البشرية ليكون قبسا أنار دروب الأحرار، لتكون بحق أهم أبواب التاريخ.. بل تأريخا قائما بحد ذاته أرادته السماء... فكانت كربلاء.

من بين رؤوس النخيل الباسقة يلوح لك، وأنت على مشارف كربلاء، بريق القباب والمنائر التي تلوح لك من الافق البعيد في تجسيد قل نظيره كأنه دعوة ترحيب بالزائرين وصرخة رفض تتحدى الظالمين، يشعر من يهم بالاقتراب لحدودها بالهيبة والخشوع في آن واحد مستذكرا واقعة ابتدأ منها التاريخ مرة أخرى، واقعة الطف، تلك الواقعة التي لم تكن مجرد معركة ليوم واحد بين الحق والباطل أو بين مصلح أو مفسد بل معركة ظلت على مدى الدهر رمزا للأحرار ومشعلا للثوار ومنارا وقبلة للطاهرين.

أصل تسمية كربلاء

ترجع تسمية كربلاء بهذا الاسم كما يراها أغلب المؤرخين إلى العهد البابلي، حيث عاد بعض الباحثين الى تحليل لفظ اسم كربلاء على أنه نحت لكلمة (كور بابل) العربية وهي مجموعة قرى بابلية قديمة، منها نينوى التي كانت عامرة في العصور الغابرة، وتقع إلى شمال شرق كربلاء الآن وهي سلسلة تلول أثرية ممتدة من جنوب سدة الهندية حتى مصب نهر العلقمي في الأهوار وتعرف بتلول نينوى، ومنها الغاضرية وهي الأرض المنبسطة التي كانت مزرعة لبني أسد وتقع اليوم إلى الشمال الشرقي من مقام الإمام جعفر الصادق (ع) ثم كربلة بتفخيم اللام وتقع إلى شرقي كربلاء وجنوبها، ثم كربلاء أو عقر بابل قرية إلى الشمال الغربي من الغاضرية وبأطلالها أثريات مهمة، ثم النواويس، وكانت مقبرة عامة للنصارى قبل الفتح الإسلامي وتقع في أراضي نهر الحسينية قرب نينوى، أما الأطلال الكائنة في الشمال الغربي لكربلاء فتعرف بـ( كربلاء القديمة) يستخرج منها أحيانا بعض الحباب الخزفية، وكان البابليون يدفنون موتاهم فيها، وقد عبر الإمام الحسين (ع) في خطبة مشهورة (وكأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء).

ثم الحائر وهي الأراضي المنخفضة التي تضم قبر الإمام الحسين (ع) إلى رواق قبته الشريفة وسمي بالحائر لأن الماء حار حول القبر في عهد المتوكل العباسي سنة 236 هجرية.

موقعها وعدد نفوس أهلها

تقع مدينة كربلاء إلى الجنوب الغربي للعاصمة العراقية بغداد، وتبعد عنها مسافة 105 كم، فيما تبلغ مساحتها 856 / 52 كم، تغطي معظمها (ومن ثلاث جهات) بساتين النخيل والفاكهة، أما من الغرب فتمتد إلى الصحراء الغربية.

فيما يسقي المدينة نهر الحسينية الذي يصب في إحدى البحيرات الصغيرة من جهة الغرب. ويبلغ عدد نفوس أهالي المدينة ما يقارب المليون نسمة بالمقارنة مع آخر إحصاء أجري فيها. ويتكون من خليط مختلف من القوميات والجنسيات، حيث تجد العرب أبناء القبائل والعشائر العراقية والهنود واليمنيين والباكستانيين والإيرانيين وان شكلوا أقلية نادرة.

اقتصاد المدينة

تعتبر مدينة كربلاء محطة استقرار للزائرين من خارج العراق، فالزائر عند دخول العراق تكون محطته الأولى كربلاء وعند المغادرة تكون آخر محطة له أيضا.

فيعتمد أهالي كربلاء بالدرجة الأولى على السياحة الدينية في تسيير العجلة الاقتصادية، حيث يزور المدينة سنويا ما يتجاوز العشرة ملايين سائح من داخل وخارج العراق، الأمر الذي انعكس إيجابيا على الأهالي فنسبة البطالة تكاد لا تتجاوز 5% ونسبة الدخل الشهري للفرد الكربلائي مرتفعة جدا بالمقارنة مع أبناء المحافظات الأخرى مما اتاح لهم حالة من الاستقرار المادي التي عمت لأغلب أهالي المدينة.

الأسواق

يعتبر مركز مدينة كربلاء وخصوصا المنطقة المحيطة بالحرمين الشريفين مركزا تجاريا ضخما لما يشهده من حركة اقتصادية مطردة بالتطور. فالفنادق السياحية والمتاجر تشكل سلسلة متصلة ومتشعبة حول المرقدين فيما تنتشر الأسواق القديمة في مركز المدينة أيضا الذي يحافظ حتى الآن على عمارته التراثية لأكثر من 400 عام، مثل سوق العلاوي، وسوق تل الزينبية، بالرغم من التعميرات والتحديثات التي طرأت عليهما مؤخرا.

معالم العمارة الإسلامية في المدينة

تركت حضارة وادي الرافدين والحضارات الفارسية والتركية والهندية أثرها البارز على المدينة في روائع فنون العمارة الإسلامية، تمثلت في بناية المراقد والمقامات والمساجد والمدارس والحسينيات بالإضافة إلى بعض الأسواق والبيوت التراثية.

فالاواوين الكبيرة والمجنبات الواسعة والفناءات المكشوفة تمثل تجسيدا لتلك الحضارات، واستعمال الفسيفساء والزفارين الآجرية والقاشانية والخشبية المتنوعة كالشناشيل دليل آخر، ومن خصائص المباني الدينية والتراثية ايضااستعمال البلاط المزجج الملون (القاشاني) الذي اشتهرت كربلاء بصناعته حيث يطلق عليه الآن اسم الكاشي الكربلائي في تزيين القباب والمآذن والجدران والأقواس والمداخل وغيرها.

أبرز معالم فن العمارة الإسلامية في مدينة كربلاء

هي الروضة الحسينية المقدسة، والروضة العباسية المقدسة، ومقام الإمام الحجة صاحب الزمان عليه السلام، ومقام المخيم الحسيني الشريفين، وسوف نتناول كل معلم تفصيليا.

الروضة الحسينية/ تاريخها وعمارتها

عندما قصد الإمام الحسين بن علي (ع) العراق سنة 61 هـ مع أهله وأصحابه الغر الميامين لم يكن في كربلاء للعمران أثر يذكر، إلى أن قتل الحسين (ع) ودفن في الحائر المقدس، يذكر ابن كثير القرشي في(البداية والنهاية) : أن مقتل الحسين(ع) كان يوم الجمعة يوم عاشوراء من محرم سنة 61، وقال هشام ابن الكلبي سنة اثنتين وستين، و قال علي بن المديني إنها لهبطته سنة اثنين او ثلاث وستين بمكان من الطف يقال له كربلاء، وله من العمر 58 عاما أو نحوها.

ويشير ابن قولويه: إن الذين دفنوا الحسين (ع) أقاموا لقبره رسما ونصبوا له علامة وبناء لا يندرس أثره، وفي عهد بني أمية وضعت على قبره المسالح لمنع الزائرين من الوصول إلى قبره المطهر، وكان القبر مطوقا بمخافر تتولى مهمة الحراسة، وفي الزمن العباسي ضيق الرشيد على زائري القبر، وقطع السدرة التي كان يستدل بها الزوار إلى قبره الشريف، وكرب موضع القبر كما هدم الأبنية التي كانت تحيط بتلك الاضرحة المقدسة.

أما في فترة عام 236/ 247 هجرية فقد كان القبر الشريف عرضة الى تعرض وتنكيل المتوكل العباسي حيث أحيط القبر بثلة من الجند لئلا يصل الزائرون إليه، وأمر بهدم القبر وحرث أرضه وأسال الماء عليه، فحارالماء حول القبر الشريف، وفي شوال قتل المتوكل من قبل ابنه الذي عطف على آل طالب، وأحسن إليهم وفرق فيهم الأموال وأعاد القبور في أيامه الى ان خرج الداعيان الحسن ومحمد ابنا زيد بن الحسن فأمر محمد بعمارة المشهدين، مشهد أمير المؤمنين (ع) ومشهد الإمام الحسين (ع)، وأمر بالبناء عليهما، بعد ذلك بلغ عضد الدولة بن بابويه الغاية في تعظيمهما.

ذلك الحين أخذ عمران القبة يتقدم تدريجيا وانطلق العلويون يفدون إلى القبر والسكن بجواره، وفي مقدمتهم السيد إبراهيم المجاب الضرير الكوفي بن محمد العابد بن الإمام موسى الكاظم (ع) وهو أول علوي وطأت قدماه أرض الحائر الشريف فاستوطنها مع ولده سنة 247 هجرية.

مئذنة العبد الشهيرة

في الآثار الفنية التي كانت تزين الحائر الحسيني الشريف هي مئذنة العبد التي كان موقعها في الزاوية الشمالية الشرقية للصحن الحسيني المقدس التي تولى في بادئ الأمر بناءها الخواجة مرجان اولجياتي والي بغداد وذلك عام 767 هجرية، وزينها بالقاشاني وبنى خلفها من الجانب الشرقي من الصحن مسجدا.

ومما يجدر بالذكر أن مرجان كان واليا على بغداد من قبل أويس الجزائري عام 767 هجرية فشق عصا الطاعة، مما اضطر السلطان إلى توجيه حملة من تبريز لإخضاعه، فهرب نحو كربلاء واستجار بالإمام الحسين (ع) وتولى حين ذاك بناء تلك المئذنة، عندها عفا أويس عن العبد وأكرمه وأعاده واليا على العراق لما قام بخدمات للحائر الشريف.

وفي عام 1308 أوعز البلاط العثماني بتصليح المئذنة وأصلحت، الى عام 1357 حيث أمر ياسين الهاشمي رئيس الوزراء العراقي بهدم المئذنة نظرا للاعوجاج الذي ظهر عليها، فكان هدمها خسارة الفن المعماري لأثر تاريخي رائع.

تعلو الروضة الحسينية المقدسة كلها قبة شاهقة مطلية بالذهب الإبريز وقد قام السلطان مراد الرابع بتعميرها وتجديدها وجصصها من الخارج عام 1048،( في حين كساها بالذهب آغا محمد خان الحطي) مؤسس الدولة القاجارية في إيران 1207 هجرية.

ويبلغ ارتفاعها 15 مترا من قاعدتها الى قمتها ورصفت بقطع الذهب ويحيطها من الأسفل 12 شباكا ترتفع على جنبيها مئذنتان شاهقتان مكسوتان بالذهب الخالص، تتجلى الريازة الإسلامية فيهما وهما على بعد 10 أمتار جنوب القبة، ويبلغ ارتفاع كل منهما حوالي 25 مترا وسمكها 14 مترا، وتمتاز الروضة الحسينية المطهرة بسعة صحنها وأواوينها الجميلة المزخرفة ويبلغ طول الصحن 95 مترا وعرضه 75 مترا وله عشرة أبواب، وهي كما تسمى: القبلة، الرحمة، في الجنوب، قاضي الحاجات، والشهداء، والكرامة، شرقي السلام، السدرة، في الشمال السلطانية، وباب رأس الحسين والزينبية غربا، ولكل باب طاق معقود بالفسيفساء البديع.

ويحيط الروضة المطهرة 65 إيوانا في كل إيوان حجرة زينت جدرانها من الداخل والخارج بالفسيفساء وقد أعدت ليتلقى طلاب العلم دروسهم، وبعضها مقابر للسلاطين والملوك وكبار العلماء.

تاريخ الروضة العباسية

العباس بن علي بن أبي طالب (ع) اشهر من أن يعرف، فهو أحد أفذاذ العلويين الذين طبقت شهرتهم الآفاق خاض معركة دامية في حادثة الطف، وصمد صمود الأبطال. يقع مرقده الشريف على بعد 300 متر على وجه التقريب بالجهة الشمالية الشرقية من الحائر الحسين، وقد قيض الله لتشييد عمارة مرقده أناسا اجزلوا بذلهم بالعطاء والسخاء المتواصل وتولى تشييده كل من تولى تشييد الحضرة الحسينية في الأدوار المتعاقبة من ملوك وأمراء ورجال إصلاح، ولا تقل الروضة العباسية روعة وضخامة عن الروضة الحسينية وعن بقية روضات المشاهد والعتبات المقدسة. وتبلغ مساحة الروضة والصحن الشريفين 4370 مترا وبه 18 بابا هي باب الحسن، الحسين، صاحب الزمان، موسى بن جعفر (ع)، للغرب من الصحن، باب علي (الإمام أمير المؤمنين)، علي بن موسى الرضا (ع)، شرقا، باب الرسول (ص)، باب القبلة، جنوبا، باب محمد الجواد شمالا.

منطقة ما بين الحرمين

تتوسط ما بين الروضتين الحسينية والعباسية ساحة تسمى مابين المشهدين، زينت بممرات مشجرة لطيفة التنظيم، تحيطها البنايات المشيدة وفق ضوابط العمارة الإسلامية وعلى نسق وارتفاع واحد، مما أضاف لهذه المنطقة جمالية خاصة جعل منها ساحة للاستراحة والترفيه يرتادها أهالي كربلاء و الزائرون أيضا، حيث تشاهد العوائل منتشرة في هذه الساحة على شكل حلقات.

التلة الزينبية

التلة الزينبية تسمية أطلقت على أحد المقامات المشيدة بالقرب من مرقد الإمام الحسين(ع) على مكان مرتفع أشبه بالتل حيث تتوسط البناية قبة غلفت بالكاشي الكربلائي البديع، وغلفت الجدران الخارجية بالمرمر التركي، ومن الداخل بالمرايا الخزفية الجميلة.

فتوجهنا إلى أحد الخدمة في هذا المقام الكريم لنتعرف على تاريخ هذا المقام وكيف شيد. والتقينا بالشيخ صلاح الاسدي وهو شاب حسن الخلقة والخلق وضح لنا أسئلتنا واستفساراتنا مشكورا حيث قال:

هذا المقام مكان مرتفع يشرف على صحن الإمام الحسين (ع) موقع معركة الطف، وبعد سقوط الحسين ورجوع جواده إلى المخيم من دون فارسه وهجوم الأعداء على المخيم، وحرق الخيام، خرجت الحوراء زينب من مخيم الحسين واتجهت إلى هذه التلة للاستغاثة بالإمام الحسين لنصرتهم من الأعداء، وتعذر عليها الوصول إلى الحسين فوقفت على التل وخطبت خطبة مشهورة موجهة إلى الإمام الحسين عندما قالت: ابن أمي يا حسين، نور عيني يا حسين، إن كنت حيا فأدركنا، فهذه الخيل قد هجمت علينا، وان كنت ميتا، فنفوض أمرنا إلى الله، في تلك اللحظة كان في الحسين رمق من الحياة فعند سماعه خطاب الحوراء نهض فخطا ثلاث خطوات، فهوى على الأرض ونهض ثانيا، وهوى، ونهض ثالثا، وهوى، فنادى: أخيّة ارجعي إلى الخيام وفوضي أمري وأمرك إلى الله و،عملي بوصيتي، ومكان الهوي الأخير هو مكان المنحر المقدس المعلوم الآن.

شيد هذا المقام أولا تكريما وتقديسا لشخص الحوراء زينب واستذكارا لخطبتها التي بقيت تتردد على ألسن الشيعة منذ تاريخها الأول.

المخيم الحسيني

المخيم الحسيني مقام أسوة بمقام التل الزينبي حيث تم تكريم هذه المساحة من الأرض التي تقع إلى الجنوب من مرقد الإمام الحسين لكونه (ع) اتخذها مخيما حين دخول كربلاء وآوى إليها عياله بعد أن أوصاهم بعدم الخروج منه حتى بعد استشهاده، وله قصة طويلة حول انتهاك جيش يزيد لهذا المخيم وحرمة آل الرسول (ص) وهو الآن قيد الترميم.

كربلاء في عيون الرحالة والمستشرقين

زار كربلاء العديد من الرجالة والمستشرقين من مختلف انحاء العالم، فوصفها ابن بطوطة عام 1307 م / 726 هجرية قائلا: زرت كربلاء أيام السلطان سعيد بهادر خان بن خدابندة بعد أن تركت الكوفة قاصدا مدينة الحسين وهي مدينة صغيرة تحتضنها حدائق النخيل ويسقيها الفرات والروضة المقدسة داخلها، وعليها مدرسة عظيمة وزاوية كريمة فيها الطعام للوارد والصادر وعلى باب الروضة الحجاب والقومة لا يدخل أحد إلا بإذنهم فيقبل العتبة الشريفة وهي من الفضة وعلى الأبواب أستار الحديد.

وفي بداية القرن السابع عشر الميلادي زار كربلاء الرحالة الأسباني(بيدرو تكسيرا) عام 1604 م، ووصفها ببلدة تحتوي على 4 آلاف بيت وسكانها من العرب والإيرانيين والأتراك وفي المدينة أسواق ذات بناء محكم بالطابوق وهي ملأى بالحاجات والسلع التجارية. كما زار الرحالة الألماني المعروف كارستن نيبور في كانون الأول 1765 مدينة كربلاء، ويذكر أن للبلدة خمسة أبواب وفي وسطها يقع المشهد الحسيني وقد رسم نيبور مخططا تقريبيا. وقد أعقب هؤلاء أكثر من عشرة رحالة...

المناسبات الدينية وشعائرها في كربلاء

كما أسلفنا أن لكربلاء الكثير من الخصوصيات التي انفردت بها عن مختلف مدن العالم وكان عدد المناسبات الخاصة بها أيضا الحظ الأوفر في كثرة أعدادها وزوارها الوافدين إليها. ففي السنة الكربلائية الكثير من المناسبات التي تمر بها، نبدأ من أهم ثلاث مناسبات، هي عاشوراء والزيارة الأربعينية، ثم الزيارة الشعبانية، وأكثر من عشرة مناسبات أخرى لكل واحدة منها شعائرها الخاصة.

ويتوافد ملايين الزوار في العاشر من محرم الحرام (يوم عاشوراء) وهو اليوم الذي استشهد فيه الحسين وأصحابه (ع) في تظاهرة ضخمة تقوم بها الهيئات الحسينية المشكلة من قبل أهالي المدينة باستذكار هذا اليوم عبر تمثيل واقعة الطف، حيث يبدأ الرجال بضرب رؤوسهم بالسيوف واللطم بالأيدي على الصدر والسلاسل الحديدية على الظهر في تعبير عن حزنهم ومواساتهم لمصيبة آل البيت (ع) فيما تغلق المحال والمتاجر أبوابها طيلة هذا اليوم وتعد الولائم الضخمة وتوزع الأصطعمة على الناس ثوابا لشهداء الطف وعلى رأسهم الإمام الحسين (ع). أما الزيارة الأربعينية فهي تصادف اليوم العشرين من صفر من كل عام أي بعد أربعين يوما لاستشهاد الإمام الحسين (ع)، واتت هذه الزيارة من سنة دأب عليها المسلمون بزيارة قبور موتاهم بعد أربعين يوما من وفاتهم ومن هنا جاءت سنة هذه المناسبة التي يربو فيها الزوار على الملايين أيضا لزيارة مرقد الإمام الحسين. أما الزيارة الشعبانية فهي تختلف في المضمون فتنظم احتفالا بذكرى مولد الإمام المهدي المنتظر محمد بن الإمام الحسن العسكري في الخامس عشر من شعبان، وتبدو على الزوار مظاهر الفرح والابتهاج حيث تقام المواليد والأفراح تفاؤلا بهذا اليوم المبارك للمسلمين عامة والشيعة خاصة.

لا توجد قارة في المعمورة تخلو من تربة كربلاء

تلاحظ وأنت تتجول في أسواق المدينة الكثير من المحال المتخصصة في بيع الترب (جمع تربة وتكون على عدة أشكال فمنها المربعة والمستديرة وأشكال هندسية أخرى وبأحجام مختلفة، يستخدمها المصلون عند السجود بوضع الجبهة عليها) ومقارنة بحجم التربة وسعرها نجدها مرتفعة الثمن جدا.

فتوجهنا إلى أحد أصحاب هذه المتاجر بهذا السؤال: عفوا نلاحظ ان هناك إقبال شديد على شراء (السبح) و (الترب) من قبل الزائرين فما الغاية من شرائها؟ فأجابنا قائلا: تمتاز تربة هذه الأرض المقدسة عن سائر بقاع العالم بقدسيتها الدينية السامية، فكم أثنى الشعراء والكتاب وأشادوا بها ورفعوها إلى المكانة اللائقة والدرجات الرفيعة بسبب اختلاطها بدم الإمام الحسين (ع)، مما أضاف لكربلاء كرامة أخرى عن سائر المدن المقدسة، فلتراب هذه المدينة قدسية خاصة لدى المسلمين الشيعة بصورة خاصة، فيما تصدر كربلاء سنويا عشرات الأطنان من تربتها عبر بيعه على الوافدين من الزوار والسياح فقد انتشرت في المدينة المتاجر الخاصة بالترب والسبح المصنوعة من الطين الكربلائي، وهذه السنّة أتت من السيدة فاطمة الزهراء (ع)، فهي أول من عمل بالتربة للسجود عليها، فقد كان المسلمون يسجدون على الحصى والحجارة عندما نهى الرسول (ص) عن السجود على كل مأكل أو ملبس، فقد أخذت عليها السلام بعض الطين من قبر حمزة عم الرسول (ص) وصنعت منه تربة لسجودها، وبعد استشهاد الإمامالحسين (ع) أخذ الشيعة يأخذون من طينة كربلاء لاعتبارها تابعة لقبره الشريف للسجود، فترى الناس يأتون من مختلف بقاع الارض للزيارة والحصول على تربة كربلاء للتبرك بالسجود عليها أثناء الصلاة.

أغلى مدينة في العالم

تعتبر كربلاء بالمقارنة مع مختلف دول العالم من أغلى بقاع العالم فسعر المتر المربع الواحد يتجاوز 10000 دولار، فحسب الإقبال الشديد الذي شهدته المدينة في الآونة الأخيرة من مشاريع تجارية وسياحية عملاقة، خصوصا، إنها تستقبل سنويا أكثر من عشرة ملايين زائر من داخل وخارج القطر والانفتاح الكبير بعد سقوط النظام السابق، الذي كان يضع العراقيل أمام الوافدين إليها، وفي مركز المدينة أكثر من 3 آلاف فندق سياحي وعشرة آلاف متجر تجاري. وبالرغم من ضخامة عدد الفنادق مقارنة بالمحافظات الأخرى إلا أنك تجد هذه الفنادق لا تستوعب عدد الوافدين، الأمر الذي تطلب أنشاء ما يقارب ضعفي هذا العدد من الفنادق وهي قيد التشييد.

المرجعيات والمدارس الدينية

كانت كربلاء أسوة بالمدن الإسلامية المقدسة كالنجف وسامراء والكاظمية لا تخلو من حركة ثقافية وعلمية أدبية في نفس الوقت دينية، كون أغلب المدارس والمعاهد الدينية تنحصر في مثل تلك المدن، لتوفر المناخ والبيئة المناسبين للطلبة الذين يطلبون العلم من مختلف انحاء العراق والعالم الإسلامي، وقد كانت لكربلاء الريادة على المستوى العالمي من ذلك، خصوصا أنها اشتهرت خلال أكثر من فترة بشرف احتضان المرجعية العليا للطائفة الشيعية، ابتداء من المؤسس الاول للمرجعية الكربلائية الشيخ ابن فهد الحلي مرورا بالمرجع الوحيد البهباني وصولا الى السيد محمد تقي الشيرازي صاحب فتوى ثورة العشرين الشهيرة، وتعتبر مدرسة ابن فهد الحلي احدى ابرز واعرق المدارس الدينية ويعود الفضل لتأسيسها إلى المرجع الأعلى آية الله العظمى محمد تقي الشيرازي عام 1916 ، وتقع إلى يسار شارع باب قبلة الإمام الحسين (ع) وتضم مسجد ومكتبة ضخمة ترفد الحركة الأدبية بمختلف المطبوعات القديمة والحديثة، فضلا عن كونها اكبر مدرسة دينية في كربلاء بالنسبة لعدد الطلبة من داخل وخارج العراق الذين يتلقون الدروس الحوزوية، والجدير بالذكر أنها أغلقت لأكثر من عشرين عاما من قبل سلطات نظام البعث المنحل، بالإضافة إلى أن النظام البائد قد هدم عشرات المدارس الدينية في مدينة كربلاء كانت تمثل عماد الحوزة العلمية المعاصرة.

وقد كان للمرجع الراحل الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره) دور جوهري في نهوض حوزة كربلاء المعاصرة، فكانت معلما دينيا وثقافيا كبيرا في العراق ارست نهضة حركية وتوعية حضارية امتدت من مدينة كربلاء الى مختلف بقاع العالم، حيث نشطت حوزة كربلاء كحوزة ذات بعد عالمي عبر تلاميذها الذين هاجروا وأسسوا المؤسسات الثقافية والدينية والعلمية.

ولازالت هذه الحوزة مستمرة في عطائها محليا وعالميا باشراف ورعاية المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي.

ثقل المدينة سياسيا

كانت ولا تزال كربلاء المدينة السباقة في المساهمة في جميع الحركات والانتفاضات والثورات التي حصلت في العراق لمقاومة الظلم والطغيان منذ ثورة الإمام الحسين (ع) وحتى الوقت الحاضر.

وإن شرارة ثورة العشرين المباركة قامت من هذه المدينة التي كانت مقر قيادة الثورة وعاصمتها بقيادة الميرزا محمد تقي الشيرازي، فإليها كان يحج جميع رجالات الثورة من مختلف أنحاء العراق للتحاور والتشاور واتخاذ القرارات اللازمة والعودة بها مستصحبين فتاوي العلماء الأعلام الشرعية لمقاومة الاحتلال، وهي الثورة التي وضعت حجر الأساس للكيان العراقي وفي كربلاء، ولأول مرة في العراق رفع علم الثوار العلم العراقي فوق مقر الحكومة الثورية المنشأة آنذاك، وأول من رفعه المربي الفاضل علي البازركان رحمه الله ليكون لها السبق والشرف في رفع العلم العراقي.