ردك على هذا الموضوع

اليابان في عصر العولمة الأمريكية

نغم نذير شكر

 

قد يختلف دور اليابان في القرن الحادي والعشرين جذريا كما كان عليه في السابق وذلك لأسباب يصعب حصرها، لذا فحديث اليابان على (فرادتها أو خصوصيتها) في عصر العولمة وبالمعنى السلبي لهاتين المقولتين، أي بإبعاد نفسها عن المشكلات الكبرى التي تعانيها غالبية الدول والشعوب سيسبب لها الكثير من المشكلات التي تسيء إلى صورتها في المحافل الدولية، فاليابان اليوم بلد غني جدا في حين تشكو معظم شعوب العالم من الفقر والبطالة والجوع والأمية، وعليها أن تساهم في حل تلك المشكلات عن طريق مد العون الى الدول والشعوب الفقيرة التي تواجه معظم الأحيان مشكلات غير قادرة على حلها دون مساندة خارجية.

إن غالبية الدول التي تعاني مشكلات الحروب والتصحر والجفاف والفيضانات والزلازل والايدز والمخدرات والأوبئة واتساع رقعة الأمية والتهجير القسري وغيرها لا تستطيع حلها منفردة بل تحتاج الى رساميل وتكنولوجيا وخبرات علمية من الدول الأخرى، وتبدو اليابان في عصر العولمة أمام تحديات جديدة في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتكنولوجية لا على مستوى منظومة الدول الآسيوية فحسب بل على المستوى الكوني. ويتوقف على مشاركتها في أنشطة حل تلك المشكلات مستقبل حفظ السلام العالمي من جهة وموجبات حل الأزمات المستعصية في عدد كبير من الدول النامية والفقيرة من جهة اخرى. وذلك تحت طائلة انفجار كثير من الحروب الأهلية عبر نزاعات عرقية ودينية وقبلية يمكن أن تودي بحياة الملايين من الناس، ونظرا لإدراكها العميق إلى حجم المسؤوليات الملقاة على كاهل الدول الغنية تجاه الدول الفقيرة تطالب اليابان بإعطاء دور كبير للأمم المتحدة ودعمها بكل الوسائل المادية والقوى العسكرية لكي تصبح حتما محايدة ومعترفا بنزاهتها في حلّ النزاعات الدولية الراهنة لكنها تصر على إدخال تغيير جذري في بنية مجلس الأمن الدولي بجهة توسيعه وبرامجه وأساليب عمله، فقد أنشئ مجلس الأمن في نهاية الحرب العالمية الثانية ولم تعد تركيبته تنسجم مع التطورات الدولية في عصر العولمة. في الوقت نفسه تسعى اليابان جاهدة للحصول على عضوية دائمة في مجلس الأمن الجديد والموسع بحيث تأتي مشاركتها من خلال موقعها الجديد في نظام عالمي جديد وبآليات عمل جديدة.

فغنى اليابان الاقتصادي في عصر العولمة ليس بمنأى عن النزاعات الدولية المرتقبة التي قد تجبرها على خسارة قسم كبير من التراكم المالي لديها في مناطق متعددة من العالم ما لم تشارك بقوة في صيانة النظام العالمي الجديد.

ان عدم تكافؤ الموقع في العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة واليابان يضع الأخير في موقع الخاضع للابتزاز المالي والتبعية السياسية، وقد تحملت اليابان تلك المرتبة الدونية طول مرحلة الحرب الباردة بسبب علاقاتها السيئة جدا مع دول الجوار الإقليمي وبخاصة الاتحاد السوفيتي والصين وكوريا، ومن ناحية اخرى كانت اليابان من أكثر دول العالم ترحيبا بنهاية الحرب الباردة والإعلان عن ولادة عصر العولمة. فبعد أن استفادت كثيرا من مظلة الحماية العسكرية الأمريكية طول النصف الثاني من القرن العشرين وأطلقت المعجزة الاقتصادية اليابانية التي ما زالت مستمرة بقوة حتى الآن وجدت ان الفرصة باتت مؤاتية لإطلاق مقولتها الثانية في التحديث وهي (التحديث في خدمة المجتمع) ويعتبر اليابانيون اليوم أن مقولة (التحديث في خدمة الجيش) ستقود بالضرورة الى نزعة عسكرية توسعية على غرار ما قامت به اليابان سابقا، وما قامت به الدول الأوروبية والولايات الأمريكية وأن مصير تلك النزعة الى الفشل الأكيد الذي يتجلى يوميا، يضاف إلى ذلك أن ممارسة الديمقراطية على الطريقة اليابانية من جهة وتطبيق الرأسمالية بطريقة أكثر إنسانية تبعا لخصوصية المجتمع الياباني من جهة اخرى جعل من اليابان نموذجا يحتذى به في التطور الاقتصادي والتكنولوجي والاستقرار السياسي والاجتماعي.

مع نهاية الحرب الباردة باتت اليابان أمام أسئلة محرجة تجاه شعبها أولا وتجاه محيطها الآسيوي ثانيا وتجاه الدول الأخرى المشاركة في النظام العالمي الجديد ثالثا، فلم يعد الشعب الياباني مستعدا للقبول بالمرتبة الدونية وغير المتكافئة في علاقاته مع الولايات المتحدة الأمريكية ولم تعد اليابان تبدي استعدادا كما في السابق لمزيد من الابتزاز الأمريكي بعد أن تصالحت مع محيطها الآسيوي، فقد أقامت علاقات دبلوماسية كاملة مع كوريا منذ عام 1965 وأرفقتها بمساعدات مالية كبيرة وقروض طويلة الأمد منذ عام 1969 وكان لها دور أساسي في النهوض الاقتصادي لكوريا الجنوبية.

كذلك أقامت علاقات دبلوماسية كاملة مع الصين منذ عام 1972 وتصالحت معها عبر سلسلة من اللقاءات والزيارات الرسمية بين كبار مسؤولي البلدين، ولعبت المساعدات المالية والقروض طويلة الأمد وتصدير الخبرات التكنولوجية اليابانية إلى الصين دورا أساسيا في التبادلات الجارية في الاقتصاد الصيني منذ عام 1978. وساهمت المعونات اليابانية معه في ولادة مرحلة الانفتاح الاقتصادي في الصين وعلى جميع المستويات بعد تخليها عن كثير من مقولات التطرف الثوري التي نادى بها الرئيس ماوتسي تونغ والمعروفة باسم (مبادئ الكتاب الأحمر والثورة الثقافية).

أما في عصر العولمة الجديد فقد أصبحت اليابان مضطرة إلى مراجعة دورها السابق لمواجهة استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية، فقد أدرك اليابانيون بالممارسة العملية أن حصر الرساميل الكبيرة والتكنولوجيا بالغة التطور داخل حدود اليابان يجعل من بلدهم جزيرة معزولة عن باقي دول العالم، لذلك وظفوا قسما كبيرا من الفائض المالي لديهم من أنتاجهم التقني في السوق العالمية وبأسعار أدنى كلفة من التقنيات الغربية، وهم على قناعة تامة بأن عصر العولمة سيزيد من دور اليابان على المستوى الكوني في مجال المساعدات المالية والتقنية للدول الأخرى، شرط معرفتها الدقيقة بحدود الدور الموكول لها على المستوى الكوني بما يفرز من موقعها في النظام العالمي الجديد. لذا فتقاعس اليابان عن القيام بهذا الدور سيسبب لها عقبات كثيرة تؤدي الى كساد سلعها بالإضافة الى نزاعات حادة مع الدول المتطورة والنامية على حد سواء. وتسعى اليابان الى كسب صداقات دول جديدة وتتحاشى انفجار أي نزاع قريب مع الولايات المتحدة من جهة ومع الصين من جهة اخرى. وهي تعمل بإصرار على إيجاد الحلول السلمية لكثير من المشكلات العالمية.

وفي المقابل لا تبدي الولايات المتحدة عداء سافرا لليابان على رغم الصراع الاقتصادي المضمر معها إلا أنها تصر على إبقائها تحت المظلة الأمريكية كما كانت طوال النصف الثاني من القرن العشرين، وحين صاغ المستشار الأمريكي الشهير بريجنسكي شكل العلاقة الموجودة ما بين اليابان والولايات المتحدة في عقد التسعينات من وجهة نظر أمريكية توصل الى معادلة مختلة ترضي الأمريكيين وتضع اليابانيين في مرتبة الشريك التابع أو الملحق. فقد جاءت توصيته على الشكل الآتي:- (إن الولايات المتحدة بحاجة إلى الرساميل اليابانية لتجديد مصانعها ولتطوير التكنولوجيا فيها كما أن اليابان بحاجة إلى المظلة الأمريكية لحماية أراضيها وإلى الأسواق الأمريكية لزيادة تراكم الثروة لديها).

لكن تلك المعادلة التي قامت على مقايضة المال الياباني بالحماية والأسواق الأمريكية لم ترضِ اليابانيين بل جرحت شعورهم القومي لأنها تحولهم إلى مجرد عمال مجتهدين في خدمة المصالح الأمريكية في جنوب وشرق آسيا. لذلك فقد رسمت استراتيجيتها الجديدة منذ نهاية السبعينات من القرن العشرين على أساس تعميق روابطها الاقتصادية مع محيطها الآسيوي وبادرت الى تأسيس عدد من البنوك والمؤسسات والشركات متعددة الجنسيات الآسيوية وبشكل خاص بنك التنمية الآسيوي الذي قام بتمويل عدد كثير من مشاريع التنمية في الدول الآسيوية طوال عقدي الثمانينات والتسعينات.

لقد اتجهت سياسة اليابان في العقدين الأخيرين من القرن العشرين بالكامل نحو المشاركة الفاعلة في الاقتصاد العالمي عبر كثافة الرساميل التي بحوزتها. وتجلت تلك السياسة في كثافة الحضور الياباني في جميع دول العالم، وإقبال اليابانيين على تعلم اللغات العالمية الحية والمشاركة في المؤتمرات الدولية وبخاصة الاقتصادية والمالية منها واكتساب كل أشكال التكنولوجيا المتطورة في العالم ونقلها وتطويرها في اليابان.

وفتحت اليابان جامعاتها ومعاهدها لاستقبال أعداد متزايدة من الطلبة الأجانب وسمحت بدخول العمال الأجانب إلى اليابان بنسب محدودة في البداية قبل أن يتحولوا الآن إلى مشكلة كبيرة بعد أن بات عددهم يزيد على مليون عامل، يعمل معظمهم بصورة غير شرعية في السوق السوداء، ودلت تجربة العقد الأول من هذا القرن على بداية عصر العولمة على أن الإدارة اليابانية تعرف جيدا كيف تقوم بدورها الجديد بإتقان، فهي قوة اقتصادية ومالية عظمى ذات مصلحة أكيدة في نظام عالمي جديد يقوم على تعزيز دور الأمم المتحدة في كل النزاعات العالمية المعقدة بالوسائل السلمية وتعمل أجهزتها الإدارية والمالية بالتوافق مع أجهزة دول أخرى لمواجهة المشكلات الحادة التي تواجه الدول النامية والفقيرة لمنع الاستقطاب الحاد في العالم بين جنوب فقير وشمال غني، بين دول تستفيد من خدمات أرقى أشكال التكنولوجيا والعلوم العصرية ودول تستعيد إنتاج تخلفها المزمن في مختلف المجالات، ومع أن اليابان تأتي اليوم في طليعة الدول العالمية التي تنقل التكنولوجيا إلى الدول النامية وتقيم معها الكثير من مشاريع التنمية الاقتصادية الكبيرة، وتمدها بقروض مالية طويلة الأمد فإن سياستها لا تزال غير واضحة المعالم على مختلف الصعد. وهناك غموض كبير يكتنف استراتيجيتها الاقتصادية التي مارستها طوال العقود الثلاثة الماضية، فقد أعطت الأولوية أحيانا للتوظيف في الدول الأمريكية والأوروبية وأحيانا أخرى للتوظيف في الدول الآسيوية، وليس من شك في أنها تبحث دوما في مصالحها بالدرجة الأولى وكيفية تحقيق أرباح كبيرة من البلدان التي كانت تعاني أزمات عسكرية واقتصادية ومالية حادة ومنها دول الكتلة الاشتراكية السابقة والصين وفيتنام وإيران وتركيا والهند وبلدان الخليج العربي وغيرها.

وهنا تبرز تساؤلات منهجية مهمة حول مستقبل السياسة اليابانية المعتمدة حتى الآن، وما إذا كانت ستساهم في تعزيز صورة اليابان لدى الدول النامية ومنها البلدان العربية؟ وهل كانت سياستها السلمية قادرة على إرجاع جزر الكوريل إلى السيادة اليابانية؟ وهل تم تصحيح صورة اليابان لدى الصين والكوريين وغيرهم من الشعوب التي خضعت للاحتلال الياباني حتى الحرب العالمية الثانية.

إن الوقائع الملموسة تظهر أن علاقات اليابان بكل من الصين وكوريا قد ازدادت تأزما في ربيع وصيف 2001 بسبب إصرار اليابانيين على إصدار كتاب للتاريخ المدرسي اعتبر مسيئا للشعور القومي لدى الصينيين والكوريين معا لأنه لم يتضمن نقدا كافيا للسياسة الاستعمارية اليابانية في كلا البلدين، كما أن رئيس الوزراء الياباني كويزومي أصر على زيارة أضرحة قادة الحرب العالمية الثانية من اليابانيين الذين دفنوا في المعبد المقدس (ياسوكوني) مما اعتبر استفزازا متعمدا هدد الصينيون بالرد عليه، وليس ما يشير إلى أن مشكلة جزر الكوريل ستأخذ طريقها للحل قريبا عن طريق المفاوضات بين اليابان وروسيا، كما أن بعض الدراسات التي تناولت مستقبل الصين في مطلع القرن الحادي والعشرين تشير إلى أن اليابان قد تعود الى سياسة التحالف الاستراتيجي العسكري مع الأمريكيين في مواجهة (التنين الصيني).

لقد أعطى النمو الاقتصادي السريع صورة لليابان تكاد تكون غير واضحة المعالم خارج أراضيها. فمن جهة مثلت اليابان نموذج الدولة الإمبريالية الأكثر بطشا في تاريخ الدول الآسيوية حتى هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، ومن جهة أخرى قدمت نموذج الدولة المسالمة جدا والمنزوعة السلاح طوال النصف الثاني من القرن العشرين. هكذا يبدو مستقبل اليابان مشوشا جدا وخير ما توصف به أنها عملاق اقتصادي وقزم عسكري. مع ذلك فهي قدمت واحدة من أفضل النماذج الاقتصادية الناجحة في العالم طوال النصف الثاني من القرن العشرين، وما زالت في طليعة الدول المتطورة من حيث جودة وحجم الإنتاج الصناعي المتطور، والابتكارات التكنولوجية الرائدة، والتراكم المالي الهائل للرساميل المعدة للتوظيف في الخارج، وتخلت طوعا عن مقولات حركة التحديث الأولى التي أفضت إلى السيطرة العسكرية والنزعة الإمبريالية التوسعية، وتبنت مقولات تجربة التحديث المعاصرة التي تدعو إلى الديمقراطية والتحديث الشمولي لأهداف غير عسكرية وإلى المشاركة النشطة في بناء نظام عالمي جديد على أسس مغايرة تماما للأسس السابقة التي كانت تشجع الحروب أو تعجز عن منعها قبل انفجارها. وعلى رغم الخلافات التاريخية بين اليابان والدول الآسيوية المجاورة فإن تجربة التحديث الثانية أحدثت تبدلات عميقة في بنى الدول الآسيوية في مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، وباتت اليابان اليوم تفخر بتقديم نفسها كأفضل نموذج تحديثي ناجح في القارة الآسيوية والنموذج القدوة لكل تجارب التحديث غير المستندة الى مقولات المركزية الغربية وثقافاتها.