ردك على هذا الموضوع

صورة العربي في أسبانيا:

مقاربة تاريخية لوجوه التنازع السلبي

عبدالهادي سعـدون*

 

تقف كتب مثل الكتاب الذي نستعرضه هنا، موقفاً حقيقياً من هدف البحث والعملية النقدية الجادة، خاصة إذا كانت الحال تتطلب شجاعة موضوعية للكشف والاستنتاج في أوقات تبدو عسيرة لما يسمى اليوم بالمواجهة ما بين الغرب والإسلام، والتي تتبناها الولايات المتحدة وتساندها أغلب دول أوربا ومنها أسبانيا، موضوع البحث، وبلد الباحث، الذي لا يكتفي بالمنقول عبر وسائل الإعلام والصورة المعتادة لدى المجتمع والعديد من الباحثين والأكاديميين، إنما يفرد لنفسه حيزاً جديراً بالتقدير والانتباه لظاهرة مهمة في فهم تاريخ أسبانيا المعاصر، وهي علاقته بالعالم الإسلامي أولاً، العربي قطعاً، والمغربي خصوصاً. من هنا تأتي أهمية كتاب الباحث والمستعرب مارتين كورالس المعنون: صورة المغربي (العربي) في أسبانيا، وهو بحث يبحر عبر قرون طويلة في مسألة العلاقات المتبادلة والتنازع الأسباني العربي ليبتدئ من عظمة الإمبراطورية الأسبانية في القرن السادس عشر (عصرها الذهبي وعصر التوسع واكتشاف أميركا) بعد أعوام من اخراج العرب من شبه الجزيرة الإيبيرية، وحتى نهاية أعوام القرن العشرين ومواجهة المعاصرة والتواجد الجغرافي والثقافي.

يهمنا هنا أن نستعرض بعض عناوين الفصول التسعة (التي تضم خلالها أكثر من 500 رسم وصورة ووثيقة إعلامية أو بحثية تدخل في صلب الموضوع الرئيسي) لأهميتها في فهم هدف الكتاب وهي: القراصنة والعبودية الشديدة (صورة الأفريقي الشمالي مابين القرون 16-17-18)، حرب أفريقيا 1860 (تهجين المغرب)، العربي الطيب (1893-1936)، العدو الخائن (1909-1927)، من المورو الفاشي إلى المورو الشريك، عن المغربي الصديق إلى المطالبة المتبادلة (1939-1975)، عن المغربي الطيب (البوليساريو) والمغربي السيئ (الملكية المغربية)، عن التعددية الثقافية ومعضلة الهجرة (1975-2000).

هذه المراقبة السريعة لفصول الكتاب نلاحظ أن المؤلف قد شاء لكتابه مسحا شاملا واستعراضيا مركزا لمعضلة العلاقة ما بين المسلم (العربي) المغربي والأسباني من وجهة نظر أسبانيا نفسها عبر أكثر من مستوى، بدءاً بالتأثير الديني الكنسي دخولاً في محطة التنافس العسكري والاستراتيجي للمنطقة في فترة العظمة الأسبانية وصولاً لنهايات القرن التاسع عشر وعصر حروب أفريقيا والتنازع على الأراضي المجاورة، حتى مسألة الخلافات السياسية والهجرة من منظور سياسة الدولة والمجتمع والخيال الشعبي حقيقة أو تلفيقاً. على أن غرض الكتاب بالرغم من وضوحه واجتهاده، إلا أن المسألة غاية في الصعوبة للإلمام بها لطالما أن المؤلف قد حدد بحثه في ظاهرة المغرب والمغاربة وعلاقة أسبانيا بهم، ذلك لأن المفردة أوسع بكثير ومتداخلة ولا مجال لفصلها عن مفاهيمها الأخرى.

إن مفردة المغربي ستقابلها بالضرورة شئنا أم أبينا مفردات جامعة مثل لفظ (المورو) الذي أوردناه سابقاً وهي مفردة تطلق على المغربي باللغة الأسبانية ولكنها، إضافة إلى معناها التحقيري والتقليل من قيمة الإنسان المنعوت بها، تعني بالضرورة كل عربي أو كل إنسان مسلم أو من يعتنق هذه العقيدة، وهي بالتالي (حتى لو قبلنا بالتصنيف الشعبي دون الانزياح بها إلى معناها العام المتداول) تشير إلى كل مشرقي أيضاً بغض النظر عن دولته، خاصة إن كان من دولة عربية أو آسيوية غير عربية وكذلك أفريقية غير مسلمة وغير عربية. من هنا فإن البحث وإن كان يعني المغربي بالتحديد إلا أن المفردة والتحليل يتجاوزان قطعاً معناهم ليشمل صفة المسلم العربي، وهذه الدلائل بالطبع لم تأت من مجرد تفكير خارج عن الواقع، لأن تاريخ الصورة السلبية المعلنة هنا على مدى صفحات الكتاب، لم تخلق بادئ الأمر بصورة المغربي، وإنما جاءت منذ حروب ما أسماها الأسبان حروب الاسترداد، أي الحروب الصليبية الأولى التي تمت بطرد كل العرب من أسبانيا في غضون منتصف القرن السادس عشر على أبعد تقدير. أي أن حروب الكنيسة الكاثوليكية ومحاكم تفتيشها كانت البادئة بهذا النزاع، وتشويه صورة العربي المسلم جاء من هناك، وعودة وافية لقراءة تواريخ أسبانيا وأدبياتها في تلك الفترة وما تلتها ستوضح ذلك، كما أن كل المجموعة كان يشار له بصورة (الموروـ المسلم) والخطر الإسلامي، سواء كان ذلك في عز الإمبراطورية العثمانية المتحكمة بالمنطقة الإسلامية في وقتها، أو في عصر ملوك (دايات) الجزائر والمغرب.

إذن فإن الوازع الديني جعل من تشكيل صورة المسلم مناقضة لصفة الأسباني الكاثوليكي آنذاك، ومنها خلقت تعابير موجهة قسراً للمسلم مثل (الكافر، غير المؤمن، الزنجي، الهمجي، المتوحش، البدائي وغير المتحضر..إلخ) وهي نفسها بشكل وبآخر، ولكن بإطراد دون نقصان تحتل أغلب الأدبيات غير المنصفة والمظللة وتواريخ أسبانيا المعاصرة منها أيضاً، وليس أكثر دلالة ما يجري من نزاع هذه الأيام وسوء العلاقة الدبلوماسية بين المغرب وأسبانيا، وما نقرأه ونسمعه يومياً عن هذه الصورة التي كأنها لم تتزحزح قيد أنملة عن ظروف قرون سابقة. أن هذه الصورة السلبية المليئة بالتجديف والخطل بحقنا لا يمكن حصرها عبر تاريخ أسبانيا الطويل في حقل واحد وهي على رأي مؤلف الكتاب في مقدمته تمتد من الكنيسة حتى السياسة مروراً بالمجتمع كحقل ماص لكل هذا المتخيل، فالصورة إضافة لذلك هي اليوم مرادفة للقذارة والهمجية والصخب والعنف تستخدم بكل ثقلها من قبل الحكومة الحالية حتى أبسط إنسان في المجتمع الأسباني.

من المفيد هنا أن نذكر أن أهم دارسي هذه الظاهرة في وقتنا المعاصر، ومن المجيدين والمشيرين لها دائماً، يقف الكاتب المفكر خوان غويتسولو في مقدمة الباحثين، و أبحاثه وإن طالت شتى مجالات المعرفة والفكر في منطقتنا، إلا أنه بالفعل قد أسس للبحث المعاصر عبر مؤلفه (حوليات أسلامية) نقطة البدء ذات المركز الصلب لتنطلق منه وتنتبه طويلاً لآثار هذه الصورة السلبية المتجددة كل لحظة والبحث في أسبابها. هذا دون أن ننسى بأن الاستشراق الأسباني في بدايات القرن العشرين ومنتصفه قد قدم دراسات وأبحاثا في هذا المجال وإن جاءت متخصصة وأكاديمية الطابع، ولعل ذكر أسماء مهمة مثل أميركو كاسترو، سانشيث البورنوث ومنتنديث بيدال يضعنا في التصور الأول حول أهمية بحث شامل وموسع ككتاب مارتينث كورالس في عصرنا الحالي.

يبتدئ الكتاب منذ نقطة الانطلاق الأساسية لفهم عملية خلق الصورة وإدخالها في ذهنية المجتمع، ليصور لنا عبر نصوص تاريخية تعود لفترة عصور الاسترداد وهو المصطلح المعني به عملية تخليص أسبانيا أو الأندلس من الوجود العربي الإسلامي عبر الطرد والتهجير، لأنه إضافة للقوة العسكرية الأسبانية آنذاك إزاء الضعف التدريجي للإمبراطورية الإسلامية كان لابد من خلق أعلامي شفاهي وغيره أعلامي كتابي كما عليه في الحوليات والأدبيات تمنح للعدو المقابل أوصافاً تحط من قيمته وتشجع على محاربته، كما عليه مفردات مثل: تزييف، خيانة، كره، قسوة، جبن، تهويم جنسي وغيرها. وعودة لأثر أهم أدباء تلك الفترة مثل ثربانتس في أعماله (الدون كيخوته أو حمامات الجزائر) أو لوبه دي بيجا وأغلب أعماله المسرحية البالغة 400 عملاً، بل وحتى بدايات الرواية الأسبانية عبر (لاثاريو دي تورميس) أو المؤلف التوثيقي المهم (تاريخ حروب غرناطة)، أقول لا نزال أن نجد أغلب تلك الإشارات والأوصاف العامة لصورة العربي المسلم، بل وتتعداها في إبداء البذاءة والسخرية كما هي عليه مسرحيات لوبه دي بيجا المذكور آنفاً.

وتستمر هذه النغمة لنصل إلى زمن القرصنة والصراع البحري حتى أن الصياح بمفردة (موروـ مسلم) في تلك الفترة تعني الحرب وهجوم الكافر المسلم على الأراضي الأسبانية المسترجعة، ومنها يحيلنا للفظ الشعبي المتداول حتى اليوم (مسلم عند الساحل) والذي يشير للخطر القادم. كما أن المؤلف في دراساته لفترة حروب أفريقيا منتصف القرن التاسع عشر وحتى نهاياته، يذكر أن الشعار المحمول آنذاك بين المجتمع- الكنيسة- الجيش هو: (الحرب، الحرب ضد المغربي الكافر). في هذه الفترة تحديداً بدأ الوضوح التام لاستخدام مفردة (المغربي) بعد تدهور وانسحاب الإمبراطورية العثمانية الممثلة للإسلام من المنطقة، وبدءاً من هذا التاريخ أصبحت مفردة المغربي و (مورو) تطلق بالتساوي دون أن تخل بشرط صورتها السلبية المحمولة.

في القرن العشرين، حملت أسبانيا وزر عشرين عاماً من تاريخ في مرحلة تصارع وحروب في منطقة الريف المغربي، والهزائم الأسبانية في البرانكو (1909) وأنوال (1921)، وقد شددت من حملتها ضد هذا الكافر إلى درجة الترويج لمسألة التخلص جذرياً منهم حتى تصبح المنطقة آمنة. ولكن بعد انتهاء الحروب وتوقيع معاهدات الحماية الأسبانية في المنطقة، تغيرت النبرة ليصبح بدلاً عن صورة الكافر، صورة أخرى كاريكاتورية وهي صورة المتخلف، الساذج، اللطيف، المبتسم بلباسه التقليدي، ونرى هذه الصورة ما تزال متداولة حتى اليوم في البرامج الترفيهية والكوميدية وصحافة الكاريكاتير والهزل.

أما أكثر الفترات تداخلاً وخللاً في العلاقات فهي التي امتدت منذ انهيار الجمهورية الثانية وصراع الأخوة في الحرب الأهلية الأسبانية التي أنتصر فيها فرانكو وقواته ضد الجمهوريين، وقد كان برفقة فرانكو جيش كبير جداً من القبائل المغربية مما جعل صورة (المورو) تحمل معنيين، هو الطيب المدافع عن وحدة أسبانيا بنظر المنتصر، وهو الهمجي المرتزق بنظر القطاع المنهزم، إلى درجة أن الزعيمة اليسارية آنذاك دولوريس إيباروري في إحدى خطبها تذكر بالحرف الواحد ما يلي: (هؤلاء المتوحشون المغاربة، خلو من كل إحساس، القادمون من أجل اغتصاب نسائنا). بعد ذلك حلت فترة طويلة من النزاع ما بين أسبانيا والمغرب حول الأراضي الأفريقية المحتلة، إلا أنها فترة هادئة نسبياً، وإن لم تخلق لها عناصر عداء وتشويه جديدة بحق صورة العربي. ولكن الوضع المعاصر جاء بعد موت فرانكو واسترجاع المغرب للصحراء عبر المسيرة الخضراء. منذ ذلك التاريخ حتى اليوم وتتوزع الصورة إضافة لما ذكرناه سابقاً: معضلة الهجرة، العلاقات الثقافية المتبادلة. ولكن على الرغم من أننا في وقت معاصر نعي مسألة التعددية الثقافية والمنفعة المتبادلة إلا أن الواقع الأسباني ما زال عبر أكثر من وسيلة ومجال، يصقل الصورة السلبية تلك، ومفرداتها جاهزة ولا تحتاج لأكثر من مجرد حالة بسيطة لوضعها في مكانها، سواء بصورة صائبة أو خاطئة.

إن جهد الباحث هنا، جهد بانورامي، عميق ومتفرد، يضعه في قمة الدراسات الجادة المعنية بعلاقات المسلم- العربي بأسباني، وضع النقاط على الحروف والحديث فيها وعنها. ولعلنا نتمنى حقاً ما يتمناه المؤلف بأن نرى كتاباً يوضح صورة الأندلس وأسبانيا في آدابنا ومجتمعنا، وهي أمنية مشروعة.

*قاص وشاعر ومترجم وتشكيلي وأحد محرري مجلة ألواح الصادرة بمدريد - أسبانيا