بحوث ودراسات | ||||||
ذهنية التنمية الحضارية.. نفحات من فكر الإمام الشيرازي |
||||||
وفيق فايق كريشات |
||||||
حظيت قضية التنمية في العقد الأخير من الزمن باهتمام كبير وعلى مستوى واسع حتى إن مؤتمراً لرؤساء الدول عقدته الأمم المتحدة لأجل ذلك، لكنه فشل فشلاً ذريعاً. لقد انجلى غبار الحرب الباردة الذي ألقى في النصف الثاني من القرن العشرين بغمامة سميكة على كثير من المفاهيم ومنها التنمية، وانقضت فترة تزيد على ثلاثين سنة، أخذت فيها الدول المتحررة من ربقة الاستعمار وقتاً كافياً للقيام بتجربتها الوطنية في إعمار نفسها. وها هي المعلومات المستمدة من التجارب المتنوعة لشعوب شتى تتكدس على مكاتب الدارسين وقد سطعت عليها أضواء البحث الموضوعي بعد انقشاع سحب الصراع الأيديولوجي.. وانفسح المجال أمام الباحث ليسأل: هل الإسلام معيق للتنمية؛ نظراً إلى فشل معظم الدول الإسلامية في بلوغها؟ فيأتيه الجواب: انظر إلى التجربة الرائدة في ماليزيا وإندونيسيا. وقد يسأل: هل التقدم وقف على الغرب الأوروبي والأمريكي؟ فيرى أن التقدم عمّ منطقة جنوب شرق آسيا وهي ليست بغربية، بل إنها تستمد قيمها - باستثناء الفلبين - من الإسلام والبوذية والهندوسية والكونفوشيوسية، وربما يسأل: كيف حدث النمو في ظل جنرالات كوريا، وفي ظل الحكم الأجنبي الاستعماري في هونغ كونغ، وفي ظل الحكم الفردي في سنغافورة، وفي ظل حكم الحزب الواحد في الصين؟ ويسأل، ويسأل.. ونحن نريد أن نذهب، بما أوردناه آنفا، إلى دحض دعوى احتكار عرق من الأعراق أو مذهب من المذاهب لإمكان النمو والسير على درب التقدم. ونسعى، من مثال ماليزيا المذكور أعلاه، إلى البرهان على أن الإسلام فيه من العناصر التي تتيح لأبنائه شق طريقهم بين الأمم الراقية. أما ذلك البرهان فسوف نستمده من فكر الإمام الراحل سماحة آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره)، الفكر الإسلامي الرحب الخصب الذي فاض وفاض. لكننا نتوقف قبل ذلك مع مفهوم التنمية ونبين الأمور التي ينطوي عليها. يتناول الدكتور مهدي الحافظ، الباحث والكاتب اللبناني، مصطلح التنمية في تطور دلالته في خلال قرن من الزمان، فيبين أن المفكرين الاقتصاديين الغربيين ظلوا يستخدمون مصطلح النمو مرادفاً لمصطلح التنمية حتى الستينات من القرن الماضي، ومنذ ذلك الحين صار الباحثون يفرقون بين الاثنين، فقصروا مفهوم النمو على الميدان الاقتصادي وما يطرأ عليه من زيادة في الناتج القومي ومتوسط الدخل الفردي، وضمّنوا في مفهوم التنمية التغيرات التي تطرأ على القوى الاجتماعية والسياسية، وعلى مجالات الحياة الأخرى، إضافة إلى التحولات الاقتصادية؛ فأصبح مفهوم التنمية أوسع من مفهوم النمو وشاملاً له، بل إن مفهوم التنمية غدا في نمو مطرد يستوعب مكونات جديدة مع الأيام. ومن أبرز هذه المكونات الجديدة مفهوم التنمية البشرية الذي ظهر في عقد الثمانينات المنصرم نتيجة للمراجعة النقدية التي أجريت لدراسة إخفاق التنمية في البلدان النامية. ويتناول الدكتور الحافظ هذا المفهوم بالتعريف ويقول: (فلأول مرة في الأدب التنموي العالمي تُعرّف التنمية البشرية على نحو محدد وواضح على أنها: عملية توسيع خيارات الناس، والمقصود بالخيارات هو الفرص المبتغاة في ميادين أساسية للحياة الإنسانية) (1). ويفصّل الدكتور الحافظ الغايات التي تنشدها التنمية البشرية، ويذكر تأمين مطالب الأجيال الراهنة والآتية، والمحافظة على توازن البيئة، واستئصال الفقر، وتحسين توزيع الثروة، واحترام كرامة الناس وكفالة أمنهم وتمكينهم من المساهمة في بناء مستقبلهم. لكن الذي ذكرناه آنفاً هو مقاصد التنمية، أما العناصر المكونة لها فشيء آخر. إن هذه العناصر هي المواد الأولية والإنسان، لكن المواد الأولية كانت موجودة مذ وجد الإنسان ومع ذلك لم يستطع تشييد الحضارة إلا منذ عهد قريب نسبياً، وهذه الحضارة حينما قامت لم تقم في كل بقعة سكنها الإنسان. إذن، ها هنا عوامل أشد أهمية من البيئة وموادها الأولية، ومن يد الإنسان الملائمة، وصنع الأدوات واستخدامها، ومن المقدرة العقلية على التجريد والتفكير وابتكار التقنية، وهي في متناول الأكثرية الساحقة من البشر. ونعني بتلك العوامل الأمور ذات الصلة بنزوع الإنسان العاقل إلى تسخير الطبيعة لخدمة رغباته. هذا النزوع غريزي في الإنسان على نحو كبير، ومع ذلك فإنه يتأثر تأثراً شديداً بالأفكار التي يستنبطها الإنسان في مسيرة حياته والتي يقتبسها من غيره. ومما لا ريب فيه أن الدين هو أحد المصادر المهمة للأفكار الفعالة في حياة الإنسان، ولأجل هذا سنتناول فيما يأتي الدور الإيجابي الكبير الذي يمكن أن يلعبه الإسلام الحنيف في توجيه أهله على طريق التنمية المنشودة، وسنفعل هذا بالنظر إلى صورة الإسلام كما أشرقت في مرآة فكر السيد الشيرازي.
وطلباً لظهور الصورة ظهوراً واضحاً، فإننا سنقدم لها بخلفية قاتمة تبين لنا الضرر المؤسف الذي قد يحدثه الاستخدام غير الصالح، العامد أو العرضي، للدين في ميدان حياة عامة الناس ومعيشتهم. أما مثال الاستخدام العامد فهو التحالف الذي عقده كثير من رجال الدين مع الظلاّم من أرباب المرافق الاقتصادية، فقد ساروا في ركابهم وظاهروهم على استغلال الناس طمعاً في نيل المنفعة من أموالهم وأراضيهم ومصانعهم.. الخ، بل لقد انضمت طوائف منهم إلى طبقة أولئك المستغلين وفعلوا فعلهم وشاركوهم في ظل من كان يحسبهم ظل الله في أرضه. فأعطى هذا الأمر صورة سيئة عن الإسلام وعلمائه حتى اتخذت مطعناً للطاعنين؛ مما صرف وجوه كثير من المسلمين عن اتخاذ الإسلام وأهله أدلة على سبيل التقدم، وزهّدهم في ذلك. وها هنا أمر آخر لا يقل سوءاً أو ضرراً عما ذكرنا، ألا وهو التهاون في أخذ الأسباب الضرورية لإنجاز التنمية والتقدم، أو ترك تلك الأسباب. أما المثال على الحالة الأولى فحكومة طالبان التي قامت في أفغانستان والتي ستظل أفعالها منجماً تستخرج منه أمثلة السوء على التطبيق المنحرف لمبادئ الإسلام. فقد أذاعت تلك الحكومة يوماً على الناس أن السبب وراء موجة الجفاف التي ضربت البلاد، هو تقصيرهم في صلوات التطوع (وهي غير صلاة الاستسقاء)، وزعمت أن علماء الحكومة قد أتاهم في نومهم آت يأمرهم بتحريض المسلمين على الإكثار من ركعات التطوع. وهكذا ألغت تلك الحكومة، وبجرة قلم، كل مسؤولية يلقيها الوضع الصعب على عاتقها؛ فمن جهة، فقدت الإحساس بالذنب لتقصيرها في القيام بواجباتها في اتخاذ الإجراءات الضرورية للتخفيف من وطأة الجفاف ونتائجه عن كاهل المواطنين، ومن جهة أخرى، تجاهلت الدماء التي سفكتها في معاركها مع خصومها من أهل البلاد المسلمين، ونخص بالذكر أبناء الهزارة الذين فتكت بهم وذبحت الألوف منهم، ولا ذنب لهم سوى تشيعهم للأئمة الأبرار من آل محمد (ع). أما الحالة الثانية، أي ترك الأسباب عمداً، فالأمثلة عليها كثيرة من التاريخ القديم والمعاصر، وهي تقوم جميعاً على فهم خاطئ لمفهوم الزهد المشهور الوارد ذكره كثيراً في المصادر الإسلامية؛ فقد تأول كثير من المسلمين ذلك المفهوم تأويلاً ذهبوا معه إلى العزوف عن العمل والسعي في الأرض وعن التمتع بشيء من ثمار العمل، إلا ما اضطروا إليه. وقد ساد ذلك التأويل في عصور انحطاط الحضارة الإسلامية؛ مما أضاف إلى سيئات تلك العصور سيئة أخرى. أما التأويل الأقرب إلى سيرة رسول الله (ص) وأهل بيته (ع) فيستشف مما روي عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع) من قوله: (ألا وإن الزهد في آية من كتاب الله عز وجل (لكيلا تأسوا على مافاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم) (الحديد: 23)) (2). فلقد كان رسول الله (ص) يحزن حتى تدمع عينه، ويفرح حتى يفترّ ثغره، وهو سيد الزاهدين. والمستفاد من ذلك أن الزهد عمل من أعمال القلب ناظر إلى رضا الله تعالى في حالتي الشدة والرخاء؛ فالزاهد هو الذي لا ينسيه الحزن الاسترجاع ولا يذهب بصبره ولا يثير فيه الجزع والسخط على قضاء الله، وهو الذي لا يلهيه الفرح عن الشكر ولا يطغيه حتى ينسى قدرة الله عليه، وهو المستفاد من حكاية أمير المؤمنين الإمام علي (ع) مع الهمذانيين؛ فقد بين لأحدهما أنه لا يجوز هجران المنزل والأهل وترك العمل بدعوى التفرغ للعبادة والزهد، وطيّب للثاني امتلاك الدار الواسعة وشرط عليه القيام بالحقوق المترتبة عليه. إن الصور التي عرضناها أعلاه والتي تبين الأثر الضار الذي يتركه سوء استخدام الدين في مجالات الحياة العملية لمما يولد الإحباط، لولا الجهود الخيرة التي يبذلها أهل الحكمة والنظر الصائب من علماء الإسلام في سبيل إظهار الدور الإيجابي الفعال للإسلام الحنيف في مسيرة التنمية والتقدم. ومن أبرز ما ذكرنا من العلماء السيد الشيرازي الذي وقف الكثير من فكره الثاقب على تفصيل المسائل المتصلة بقضية التنمية. وإن الناظر في كلام السيد الشيرازي حول هذه القضية لينتبه من فوره إلى مسألة من مسائل هذه القضية لا يخطئها النظر ألا وهي التنمية البشرية، وإن العناية الكبيرة التي يوليها السيد لهذه الشعبة من التنمية لتنسجم انسجاماً منطقياً مع الفكر الإسلامي الذي يمثل السيد ركناً مهماً من أركانه. فمفهوم الإنسان في الإسلام ينطوي على الكثير من المعاني الرفيعة؛ إنه المخلوق الذي سخر له الله تعالى ما في السموات وما في الأرض من جماد وحيّ، لقد سخر له النجوم والكواكب والرياح والمياه، وسخر له النبات والشجر والثمر، وسخر له السمك والطير والأنعام، لكنه أراد له أن يرتفع فوق ما ذكرناه حتى لا يكون كالأنعام أو أضل منها سبيلاً، فالنمل والنحل وغيرها تجني وتدخر وتبني، والإنسان يفعل ذلك، لكنه متاح له فعل ما هو أرفع من ذلك؛ إن من المتاح للإنسان أن يحيا حياة أخلاقية سامية تزخر بأوجه شتى من التعامل الحسن مع أبناء نوعه، ومن العرفان لحق خالقه عليه عرفاناً يتجلى في عبادته والعمل بما يرضيه حتى يصير ممن (يحبهم ويحبونه) فتفتح لهم أبواب السماء ويخلدون في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر. ومما لا ريب فيه أن هذه الصفات الحميدة إنما هي ثمار للشخصية الإنسانية التي ترتفع فوق الطبائع البهيمية بالمجاهدة والسعي الدؤوب. وفي هذا فإننا نرى أن السيد الشيرازي قد أولى الشخصية الإنسانية وتنميتها والارتفاع بمستواها عناية فائقة، فهو يفرد لذلك الأمر عشرات الصفحات من كتابه الاجتماع، فيتحدث بالتفصيل على الشخصية الفردية والاجتماعية وصورة تكونها، وعلى أقسام الشخصية المعنوية وعوامل صياغة الشخصية الفردية، ويفرد بالذكر انحراف الشخصية ليتحدث عن عوامل الانحراف وكيفية معالجته. فيتكلم السيد على شخصية الطفل وما يفعل فيها أحوال المحيط العائلي والمحيط الطبيعي والوضع المعيشي والتعليمي، ويعمم ذلك على الإنسان البالغ والمجتمع الكبير، ويبين الدور الإيجابي والدور السلبي الذي يلعبه كل عنصر من هذه العناصر في الشخصية الإنسانية في حال سلامته وحال فساده. وباختصار، فإن (من أعظم أفضال الفكر السياسي الشيرازي، أنه ربط التطور العمراني بل كل ميادين التطور الاقتصادي والاجتماعي بالإنسان، وتحقيق سعادة المجتمع بتوفير الأمن له، والغذاء، والصحة، والسكن، والتعليم، ليكون ذلك الإنسان هو وسيلة العمل التغييري، بما يمكن اعتباره تغييراً جذرياً في كل ميادين حياة المجتمع، مع البناء الرصين على الأساس الشرعي نفسه) (3)، على قول الدكتور أياد موسى أستاذ الاجتماع في جامعة سسكس البريطانية.
هذا، ومما تسهل ملاحظته في الأمور التي أوردناها سابقاً أن تزويد الإنسان بحاجاته الضرورية من الغذاء والمسكن والتعليم وغيرها يتوقف توقفاً بالغاً على الوضع الاقتصادي فقراً وغنى؛ ولهذا فإن السيد الشيرازي يحذّر تحذيراً شديداً من مساوئ الفقر والأضرار التي ينكب بها الإنسان فرداً وجماعة، فيتكلم على التأثير السلبي للفقر على الحياة نفسها؛ لأن الفقير لا يتمكن من الزواج، وإذا تزوج لا يتمكن من الإنفاق على أولاده؛ مما يودي بالكثير منهم وهم أطفال. وإن تقارير الأمم المتحدة تخرج على الناس سنة فسنة بأرقام مروعة لإحصائيات حول وفاة الأطفال والأمهات لقلة الموارد المتاحة لرعاية الأطفال والأمهات في أثناء الوضع. وبالإضافة إلى حرمانه من الرعاية الصحية فإن الفقير يعاني كثيراً من الصعوبات في سبيل تحصيل العلم؛ لأن الحصول على وسائله والتفرغ له يتطلبان موارد مالية الفقير محروم منها. وإذا مررنا مروراً سريعاً على التأثير السلبي للفقر على قدرة الإنسان على الإنفاق لأجل بناء المسكن وشراء الملبس، فإننا يجب أن ننتبه انتباهاً شديداً إلى الضرر الكبير الذي يلحقه الفقر بالمكانة الاجتماعية للإنسان؛ فالفقر يغلق في وجهه الأبواب المؤدية إلى المناصب الرفيعة التي تبقى من نصيب الأغنياء وأبناء الطبقة المتوسطة؛ وبهذا تنحط رتبة الفقير في أعين الناس الذين اعتادوا عادة سيئة وهي تقييم المرء بناءً على ثروته ومنصبه، فيعيش شبه منبوذ وقد صدق عليه وصف أمير المؤمنين الامام علي(ع): (الفقر في الوطن غربة) (4)، لكنّ ها هنا قولاً ثانياً يشبّه به أمير المؤمنين (ع) الفقر بالموت ويقول: (الفقر الموت الأكبر) (5)، فكما أن الموت يؤدي إلى تفكك الجسم وتقطيع أوصاله وإلى إبطال فاعليته وإلى نبذه من بين الأحياء، فكذلك الفقر يؤدي إلى نبذ المجتمع للفقير وقطع علائقه به مما يبطل كل فاعلية له فكأنه ميت لم يقبر. ونظراً إلى أن الأوضاع المزرية التي ذكرناها هي بخلاف ما يريده الإسلام لبني آدم الذين خلقهم الله وكرّمهم تكريماً فإن السيد الشيرازي يقول: (وقد ذم الإسلام الفقر، وأوصى بترفيع مستوى الفقراء حتى يصبحوا أغنياء ونظم برامجه حتى لا يبقى فقر ولا فقير) (6).
ولكننا إذا تركنا جميع المسائل التي تناولناها حتى الآن، وهي مسائل تتصل بالأوجه الاجتماعية والاقتصادية والصحية للفقر، ويممنا وجهنا شطر المسألة الأخلاقية، وهي قضية يختص بها الدين والفلسفة، لانكشفت لنا صورة قاتمة للآثار التي يتركها ضيق ذات اليد في الجانب الأخلاقي للشخصية الإنسانية. فالسيد الشيرازي يبين أن سوء الوضع المعيشي يضع الإنسان دوماً في هموم ونزاعات تثير فيه توتر الأعصاب وضيق الصدر وسرعة الغضب، وهذا كله يجعل من الصعب عليه الاحتفاظ بتوازنه الأخلاقي تحت ضغط الواقع الصعب، ولهذا يقرر: (الفقر والحرمان والضغط الاجتماعي الوارد على الفقير يوجب انحرافه وسقوطه في الرذيلة، ولذا يكون أكثر السجناء ونزلاء دور البغاء والمتعاطين للشذوذ الجنسي وما أشبه من الفقراء) (7)، وهذا الحكم يتوافق مع الوصف البليغ الذي وصف به أمير المؤمنين (ع) الدور السلبي الذي تلعبه الفاقة في حرف المرء عن جادة الدين وأحكامه وفي وقوع العقل في اضطراب حين يتناول مسألة الحكم على سلوك ما،وهو قوله (ع) لابنه محمد بن الحنفية: (يا بني، إني أخاف عليك الفقر، فاستعذ بالله منه. فإن الفقر منقصة للدين، مدهشة للعقل، داعية للمقت) ) (8). لكن العجيب من أمر الأثر الأخلاقي للفقر أن الطريق الموصلة بينه وبين التنمية هي طريق ذات خطين؛ ضعف التنمية أو قلة نصيب الفرد منها، ويأتي بالانحراف الأخلاقي، والانحراف الأخلاقي يعرقل التنمية. ولقد تناول هيمش مكري، كبير الخبراء الاقتصاديين في صحيفة الإندبندنت البريطانية، في كتابه (العالم في سنة 2020) تلك العلاقة الوثيقة بين الأوضاع التنموية للمجتمع وبين مظاهر الانحراف الأخلاقي مثل تناول المخدرات والقتل والاحتيال وغير ذلك من الأفعال غير المشروعة، وبيّن أن مظاهر الانحراف هذه أكثر انتشاراً في أبناء الطبقات الفقيرة والمحرومة (في المجتمعات الغنية في أوروبا وأمريكا وليس في المجتمعات الفقيرة وحدها). وهذا الرأي ليس بغريب ولا يفاجئ كثيراً من عامة الناس، دعك عن المختصين منهم، لكن المفاجئ من رأيه هو الذي عبر عنه بعد دراسة أثر السلوك الفاسد على مستقبل الدول الغنية نفسها، فلنسمعه يقول: (بصراحة، إذا كانت البلدان راغبة في البقاء، سائرة على طريق الغنى، فعلى شعوبها أن تتعلم أن تحسن من سلوكها) (9). وإذ تبين الضرر الكبير الذي تلحقه الفاقة وقلة نصيب الإنسان من الثروة ومرافق الحياة، فإن إصلاح ذلك الضرر يأتي بواسطة ضد الفقر ألا وهو الغنى. وهنا سنتناول من الأدوار الإيجابية المحتملة للغنى دورين: أحدهما أخلاقي إنساني عبادي والآخر متعلق بالجوانب الأخرى من حياة الفرد والمجتمع. فمن الناحية الأولى تزيح السعة توتر الأعصاب والضيق والتوتر الذي يثقل به الفقر على من ينكب به، وتوسع من الخيارات المتاحة له، ومن ذلك الفراغ المطلوب لراحة الفكر والانصراف إلى العبادة. وفي هذا ورد عن النبي (ص): (نعم العون على تقوى الله الغنى). هذا من ناحية الدور الأخلاقي للغنى، أما من ناحية الأدوار الأخرى فإن تيسير الغنى للإنسان سبل الحصول على ما يلبي حاجته المتنوعة من غذاء وملبس ومسكن وعلاج وتعليم وترفيه.. الخ، يسهم إسهاماً عظيماً في تأكيد ذاته أمام ذاته وفي فرض احترامه على الآخرين. فهذه (عصافير) كثيرة يصيبها حجر واحد، فهل من العجيب بعد هذا أن يكون (هدف الفكر الاجتماعي الشيرازي أن يبني مجتمع الإسلام وأن يوفر لجميع أهله الحياة المرفهة والعيش الكريم) (10)، والسيد الشيرازي هو من عرفنا رجل الغيرة على الإسلام وأهله؟! وفي ختام هذا الموضوع ننوه بأمرين، أما الأول فهو أن دور الغنى في الفكر الإسلامي للسيد الشيرازي هو دور مزدوج دنيوي وأخروي، فهو عامل فعال في إصلاح حال الإنسان في الدنيا وفي الآخرة، أما دوره في الدراسات الاقتصادية والاجتماعية العلمية الصرفة فهو دور دنيوي لا غير. وأما الأمر الثاني فهو أن الغنى يترتب عليه مسؤوليات تفوق عدداً وثقلاً المسؤوليات التي يتحملها الإنسان المتوسط الحال أو الفقير؛ فالغني مفروض عليه الإحسان إلى أهل الحاجة ومد يد العون إليهم وهذا أمر ثقيل على النفس قد يحمل صاحبها على الشح والتقتير. وأيضاً، إن الأغذية المتنوعة والغالية تجلب على الميسورين أمراضاً اشتهرت بأمراض الأغنياء، لكن الأهم من هذا وذاك أن الغنى قد يبعث في نفس الإنسان الطمع وحب التسلط على الناس مما يولد في المجتمع الكثير من المفاسد، وتتفاقم المفاسد حينما يجتمع حول المتسلط أهل النوايا السيئة يتملقون ويبطشون في الناس بسلطانه فيرفعونه فوق رقاب الناس وهو ليس أهلاً للرفعة لولا ماله. وإذن، فليس الغنى خيراً مطلقاً، وليس بهدف غاية، وإنما هو هدف وسيلة، تحسن إذا استعملت في وجوه الإصلاح، وتقبح إذا استخدمت في وجوه الإفساد. ومن المؤسف أن اتخاذ المال وسيلة للإفساد هو الغالب على الناس، وفي هذا يقول السيد الشيرازي: (المترفون من طبيعتهم الكفر والجحود والانغماس في الملذات، و.. تأخذ الطبقة المستثمرة في استعمار سائر الطبقات واستثمارها مما يوجب إخلال التوازن في الاجتماع) (11)، وهكذا يتضح لنا الوجه في التحذير الوارد عن أئمة أهل البيت(ع): (من لقي غنياً فتواضع له لغناه ذهب ثلثا دينه).
وهكذا جرد الإسلام الثروة والملكية من الامتيازات المعنوية التي اغتصبتها على مر الحقب الطويلة، ووضعها في خدمة مفهوم العدالة الاجتماعية وهو مفهوم يستند إلى مفهوم خلافة الإنسان في أرض الله. فلما كان الإنسان خليفة في الأرض وليس برب لها، فقد استوى بنو نوعه جميعاً، في الحق في أخذ الفرص المتكافئة في تسخير هذه الأرض لحاجاته، وفي الحق في أن تعطى له تلك الحاجات إذا أعاقته الظروف الموضوعية عن نيلها بجهده الشخصي. وهذا الحق الأخير، أي حق المحرومين، لعوائق طبيعية كالإعاقات العقلية والبدنية، من نيل نصيب من ثروة المجتمع، ولو لم يساهموا في إنتاجها، يمكن الانتصار له استناداً إلى مبدأ العطف الموجود، بنسبة ما، في معظم البشر، وهو المبدأ الذي نافح عنه جان جاك روسو وأقام عليه صرح فلسفته الأخلاقية. فالبشر يميلون، أو أكثرهم، إلى العطف على ذوي الإعاقات أو النكبات القاهرة وإلى الإحسان إليهم. وهذا المبدأ الإنساني ينطوي ضمناً على ذم شريعة الغاب التي تقضي بأن يمحق القوي الضعيف بلا رأفة، وبأن للمرء أن يحارب خصمه بكل وسيلة يشاء، وأن يقيم في وجهه ما يشاء من العقبات. ولقد ترسخ هذا المبدأ في بعض صوره، حتى في تشريعات الأنظمة الرأسمالية القائمة أساساً على مبدأ المنافسة الحرة، وما مبدأ تحريم الاحتكار إلا صورة من تلك الصور.. وقد شهدنا في السنوات الأخيرة مثالاً صارخاً على هذا الأمر في قضية مايكروسوفت التي كادت أن تقسم إلى مجموعتين لمخالفتها قانون منع الاحتكار في الولايات المتحدة. فمبدأ تكافؤ الفرص مأخوذ بعين الاعتبار حتى في النظم القائمة على المنافسة القاسية التي لا ترحم، علماً أن حرية الحصول على فرصة في تلك النظم هي مسألة شكلية وليست بجوهرية، وكذلك مبدأ توزيع الثروة له شأن في تلك النظم، وإن المتابع لأخبار تلك الدول والانتخابات التي تجري فيها يلاحظ بسهولة أن صعود حزب إلى كرسي السلطة وسقوط آخر يكون في الغالب الأعم على أساس البرامج التي يطرحها على الناخبين والتي تتعلق بمسائل توزيع الثروة التي تجبيها الدولة في صورة ضرائب، توزيعاً يأخذ شكل الرعاية الصحية أو دعم التربية والتعليم وما شاكل ذلك. ونشدد هنا على دور الدولة في ضمان تكافؤ الفرص وتوزيع الثروة، ونفرّع عنه القول بأن مثل العولمة كمثل انسحاب الدولة ومؤسساتها من المجتمع، فالعولمة، وإن كثر الكلام حول تفاصيل مفهومها، تقوم قياماً أساسياً على (إلغاء الحدود والحواجز التشريعية والجمركية وخلافها أمام حركة تنقل السلع ورؤوس الأموال) (12)، على قول الدكتور محمد دياب الأستاذ في كلية العلوم الاقتصادية وإدارة الأعمال في الجامعة اللبنانية. ونحن نعلم أن زوال الرقابة التشريعية وسقوط القيود سيطلق العنان للجشع الكامن في أرباب الشركات المتعددة الجنسيات الذين هم وراء فكرة العولمة لأنها تخدم مصالحهم في تخفيض تكاليف الإنتاج وتعزيز القدرة التنافسية. وإن إطلاق عفريت الجشع من قيوده سيشعل حرباً لا هوادة فيها تدور رحاها في أرجاء الأرض كافة فتطحن الناس طحناً بما تدمره من فرص العمل وتأتي به من إلغاء منهجي لليد العاملة وزيادة حدة اللامساواة الاجتماعية. فالعولمة حرب يهدف فرسانها إلى أن يلغي بعضهم بعضاً، وليست نزالاً رياضياً تحكمه قوانين محددة يطبقها حكم محايد له سلطة منع أي تجاوز يقدم عليه أحد المتنافسين. ولقد أوردنا آنفاً مثال شركة مايكروسوفت الأمريكية التي تجاوزت حدود قوانين منع الاحتكار، فما كان من الحكومة إلا أن تدخلت لإصلاح أضرار ذلك التجاوز ولمنع استمراره. لكن حرب العولمة يغيب عن ساحتها القانون والحكم، ولقد شهدت الأيام القليلة الماضية مثالاً صارخاً على هذا الأمر؛ فقد تدخلت الحكومة الأمريكية لإصلاح الضرر الذي لحق بصناعة الفولاذ الأمريكية بعد منافسة الشركات الأجنبية الصانعة له، وفرضت قيوداً على تلك الشركات وهي في معظمها أوروبية ويابانية وروسية، فما الذي حدث؟ لقد رجع الأطراف المختلفون إلى منظمة التجارة العالمية، الموكلة بمعالجة قضايا كهذه، فما كان حكمها سوى إجازة أن تقوم الأطراف المتضررة من الإجراءات الأمريكية باتخاذ إجراءات اقتصادية بحق المصالح الأمريكية تكافئ تلك الإجراءات. واليابان ومن ذكرنا قادرون على الرد بالمثل، ولكن أين قدرة البلدان الأقل قوة ومقدرة من اليابان على الرد على الإجراءات الضارة بمصالحها؟! هذا، وإن القول بأنه لا يذم النزال إلا الضعيف منقوص من وجهين: الأول: إن ضعف بعض الدول ناشئ من ظروف موضوعية، ومثلها في ذلك مثل أصحاب الإعاقة بالولادة، فهؤلاء ليس من الإنسانية في شيء أن يحسبوا أطرافاً في نزال. الثاني: إن من البلدان ما ليس بضعيف، وهو سائر في طريق القوة والتقدم ولكن لم يبلغها بعد، والعولمة تفرض عليه نزالاً مع قوى غير مكافئة له وفي وقت ليس مناسباً له وإنما هو مناسب للخصم. ومهما يكن الأمر فالعولمة، كما قلنا، ليست نزالاً رياضياً بل حرب تكسر فيها العظام وتدق فيها الرقاب. وليس القول بأن واقع المجتمع الإنساني وتطوره يحتم سيادة هذا المفهوم، بالقول الذي يجب أن يقبل بالضرورة؛ فكم مرة كان الواقع مراً وحافلاً بالمفاهيم المذمومة، فجاهد البشر حتى غيروا من ذلك، وليكن كذا حال العولمة والحرب الاقتصادية. وتبقى في هذه المسألة نقطة أخيرة؛ فالعولمة ليست كالاختراعات، إن الاختراعات وسائل محايدة يفعل بها الخير ويفعل بها الشر، أما العولمة فهي وسيلة لإزالة العقبات جميعاً من طريق أرباب الجشع، وما المنافع المرفقة بها إلا منافع عرضية، علماً أن إيصال المنفعة إلى الناس جميعاً هو من الأهداف الكثيرة لعملية إنتاج الثروة، وليس الربح والإنتاج هو الغاية المطلقة. فالعولمة وما شاكلها هي من السبل المؤدية لسوء توزيع الثروة، وهي نقيصة تتعلق بعلم الاقتصاد، يعتبرها السيد الشيرازي (أول نقيصة تلحق المجتمعات) (13). والظاهر أن هذا الاختلال هو من أوضح مظاهر الانحراف في المجتمع البشري، على ما يفهم من قول أمير المؤمنين (ع) المأثور عنه: (ما رأيت نعمة موفورة إلا وإلى جانبها حق مضيع) (14)، فكأن الإمام يريد أن يقول إن للغنى حداً وضعه الشرع ليتيح للناس جميعاً نيل حقهم من الثروة، فكل زيادة تطرأ على ذلك الحد فهي دليل على تضييع أصاب بعض الحقوق الأخرى. إن الناظر في المصادر الإسلامية يجد أن الإسلام قد عمل على تحقيق التوزيع العادل للثروة من خلال سبيلين: أولهما الأمر بالإحسان والترغيب فيه والتحذير من تركه وفي هذا ورد عن الرسول (ص): (ما آمن بالله واليوم الآخر من بات شبعان وجاره جائع)، والآخر السلطات المتاحة للدولة حتى تضمن تأمين الفرص لجميع الناس ليعملوا، وحتى تضمن وصول النصيب العادل من الإنتاج إلى من يعجز عن الإسهام فيه، أو من يخفق، لأسباب موضوعية، في الانتفاع بفرصته انتفاعاً تاماً.
لكن كل الكلام الذي قلناه حتى الآن حول الغنى والعدالة يفترض وجود ثروة وإنتاج يوزع على الناس حتى يغنيهم ويحقق العدالة الاجتماعية. فما هو موقع إنتاج الثروة في الإسلام؟ والجواب على هذا السؤال يأتي من تناول مسألة إعمار الأرض التي ذكرها الله تعالى في قرآنه بقوله (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها) (هود: 61) ومن دراسة مفهوم خلافة الإنسان في الأرض. وفي هذا يورد الدكتور إياد موسى محمود بعد تحليل رؤية الإمام الشيرازي: (الإمام الشيرازي ينطلق من نظرة الإسلام إلى الإنسان بلا زيادة ولا نقصان، فالقرآن الكريم يحدد نظرته إلى الإنسان بموجب أن الإنسان قد خلق ليعمر الأرض.. وأن ذلك كان سبب الخلق) (15)، فالإنسان باعتباره خليفة لسيد الكون والأرض موجه إلى استنباط الإمكانات المختبئة في قلب موارد الطبيعة، وهكذا فعل؛ فقد ظلت تلك الموارد على حالها ملايين السنين حتى جاء الإنسان فتناول أخشابها وأحجارها وشيد منها أروع المباني، واستخرج معادنها وصنع وأبدع بها من الاختراعات ما أبهر العقل نفسه، وأنتج من مائها وفحمها ونفطها.. الخ، طاقة تسري في مرافق المجتمع البشري سريان الدم في عروق البدن، فتولد فيه الحياة. وإجمالاً، لقد أنشأ الإنسان من الأشياء فرصاً جديدة وسخرها لتحسين جودة حياته، وأكسب الأرض مفهوماً أعلى مما كان لها، لكنه أضرّ بها - في أثناء مسيرته تلك - إضراراً لا يستهان به، إلا أنه أخذ في المدة الأخيرة ينتبه إلى تلك الآثار السيئة لاستثمار موارد الأرض وراح يسعى للحفاظ على بيئتها صالحة لسكناه، هو وأبنائه. وهنا ننوه بما ورد عن الإمام علي (ع) منذ أكثر من ألف عام من التحذير من الضرر الذي يلحق بالبيئة، والذي لم يفطن الإنسان الحديث له إلا منذ عهد قريب، ونريد قوله (ع): (اتقوا الله في عباده وبلاده فإنكم مسؤولون حتى عن البهائم والبقاع) (16). فالمطلوب، إذن قيام توازن دقيق بين سلامة البيئة التي يعيش فيها الإنسان ويسخرها لمنفعته، وبين أوجه النشاطات الاقتصادية التي يقوم بها لأجل تحقيق هذه المنفعة، وقد تعاظمت الحاجة إلى إيلاء ذلك التوازن العناية الكبيرة نظراً إلى تشعب تلك النشاطات والأعمال المبذولة فيها، فلم يعد الأمر مقصوراً على الأعمال البدائية في الزراعة، والأعمال الأشد بدائية في الصناعة والتجارة التي تحمل على ظهور الدواب والسفن، بل لقد تعقدت تلك الميادين الإنتاجية واتسع نطاقها وانضم إليها الكثير من مجالات إنتاج الخدمات مما يطول شرحه وليس هذا موضعه إذا كان غرضنا تناول دور الذهنية البشرية في المبادئ المتصلة بالإنتاج والتوزيع، على ضوء أفكار السيد الشيرازي الذي تناول - على ضوء مبادئ الإسلام - طائفة واسعة من الميادين الاقتصادية كالزراعة والصناعة والتجارة والتمويل.. الخ، واستخرج منها جميعاً محوراً ينظمها جميعاً ألا وهو العمل.
فالعمل هو القلم الذي يرصف حروف موارد الطبيعة فيصوغ منها سِفْراً قيماً، وهو الريشة التي ترسم بأصباغ تلك الموارد لوحة رائعة. وهما (السفر واللوحة)، يشهدان بإتقانهما، على قيام الإنسان بوظائف خلافته في أرض الله. وهكذا، فليس مفاجئاً أن نجد في الفكر الشيرازي أن (العمل في حد ذاته قيمة ينبغي أن تتقدم كل القيم لأن العمل واجب وشرف وهو في ديننا الحنيف عبادة)(17)، وهذا الأمر ينسجم انسجاماً شديداً مع طائفة واسعة من الأحاديث الشريفة التي وردت في فضل العمل والذي رفعه بعضها إلى رتبة الجهاد وهو ما ورد عن الإمام موسى الكاظم (ع) من قوله: (من طلب هذا الرزق من حلّه ليعود به على نفسه وعياله كان كالمجاهد في سبيل الله.. ) (18). والسيد الشيرازي يورد - تقديراً لأهمية موضوع العمل - تفاصيل كثيرة تتصل به، فيحض على استغلال الوقت استغلالاً شاملاً لا يغادر ساعة ولا دقيقة يتاح العمل فيها، وعلى استثمار كل مادة تنفع في إنتاج شيء مفيد منها: (لابد من استغلال كل شيء، حتى أقل الأشياء وأحقرها، وحتى الزمان الترفيهي له الأثر في التقدم إذا تمكنا من استغلاله) (19). ويتكلم عن الإدارة القائمة على تخطيط العمل وتوجيهه والإشراف عليه، وعلى الوظائف الموكلة بها، ويضرب لها الأمثلة من التاريخ القديم والحديث، بل من سيرة هتلر والصهاينة، وينوّه بالمقارنة على ذلك بالأمثلة التي ضربها رسول الله (ص) والإمام علي (ع) حينما أسهما - على مشاغلهما - في إنتاج ثروة الأمة بالعمل الدؤوب وبالتوجيه السديد. وحينما يتكلم عن السواعد القائمة بالعمل والعقول المدبرة، يركز كلامه على الشباب وعلى المرأة، وينتقد الذين يقيدون المرأة ويحرمونها من الإسهام في تنمية المجتمع ويحرمون المجتمع من قدراتها، ويقول: (يجب أن يعمل الرجل وأن تعمل المرأة كلاهما، لأن المرأة تتصور أنها ربّة بيت وخلقت للاستهلاك وإنجاب الأولاد وتربيتهم فقط) (20). ويرى السيد الشيرازي أن قيام العاملين بعملهم على أكمل وجه يحتاج إلى حصولهم على التعليم المناسب ولهذا يحض على إتاحة العوامل المساعدة. في ذلك ويقول: (يجب أن تتوفر الحرية والمدارس لتعليم الشباب وإعدادهم الإعداد الكافي ليصبحوا علماء واختصاصيين في الطب والهندسة والزراعة وغير ذلك من فروع الاختصاص الأخرى التي يحتاج إليها الاجتماع) (21). العلم.. والانحطاط: والحق أن العلم وتعليمه يمثل، مع الذهنية التي توجه العامل، النقطة الجوهرية في موضوع العمل الذي هو أساس إنتاج الثروة وتكثيرها حتى توزع توزيعاً يغني الجميع ويحقق التنمية التي تناولناها في هذه السطور. فالعلم يحسّن من أداء العامل ويفتح له أبواباً واسعة نحو مهارات وتقنيات جديدة، لكن الأمر الذي لا يقل أهمية عن هذا هو التأثير المتبادل بينه وبين الذهنية؛ فالعلم قد يغير الذهنية تغييراً تاماً بما يضعه أمامها من حقائق، وكذلك الذهنية الموجهة توجيهاً معيناً قد تحمل صاحبها على السير سيراً حثيثاً على دروب العمل، وقد تقطعها عليه. إن هذا التأثير المتبادل لتتضح لنا وطأته حينما نتناول التراجع الذي أصاب الحضارة التي قامت منذ قرون في أرجاء العالم الإسلامي؛ فمن المسلم به أن العوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية كان لها دور كبير في وقوع ذلك التراجع. لكن توبي أ.هف، الأستاذ بقسم الأنثروبولوجيا بجامعة ماساشوستس الأمريكية، ينبه تنبيهاً شديداً إلى دور إخفاق العلم العربي في اتخاذ خطوة كان لابد منها لأجل تجاوز المرحلة القديمة في العلم، والوصول إلى الثورة العلمية الحديثة. ويلتمس أسباب ذلك الإخفاق في (التأثيرات المتبادلة والمتعارضة التي تمارسها المؤسسات الثقافية، على الاهتمامات والنشاطات العلمية) (22)، ويخرج بنتيجة تقول إن أرباب تلك المؤسسات الثقافية التي تشكل الذهنية التي أشرنا إليها سابقاً، قد (أنكروا العلية الطبيعية وقبلوا مذهب الاكتساب.. وبذا تكون آراؤهم مخالفة لما ندعوه بميتافيزيقيا العلم الحديث، أو تلك المسلمات التي لا يكون المرء عالماً دونها، بعبارة توماس كون) (23). ومن الجدير بالذكر هنا أن العلية التي يذكرها المؤلف، هي ركن من أركان المذهب العقلي لابن رشد، والذي اختلف عليه مع خصومه، واختلف خصومه معه عليه وحاربوه وكانت الغلبة لهم، فكان ذلك إيذاناً بأفول الحضارة في المنطقة الإسلامية، على ما يذهب إليه كثير من الدارسين. فابن رشد يقول: (العلم معرفة الأشياء بأسبابها) (24)، ويقول: (لو لم تكن ها هنا أسباب ضرورية في وجود الأمور المصنوعة لم تكن هنالك صناعة أصلاً ولا حكمة تنسب إلى الصانع) (25). وكذلك تحتل السببية موقعاً مهماً في فكر الشيعة الذين نهلوا من علوم أهل البيت (ع). فها هو السيد الشيرازي يؤكد أن الله تعالى (أبى أن يجري الأمور إلا بأسبابها) (26) وقبله قال الشهيد السيد محمد باقر الصدر: (إن من أوليات ما يدركه البشر في حياته الاعتيادية، مبدأ العلية القائل أن لكل شيء سبباً، وهو من المبادئ العقلية الضرورية) (27)، وأكد أنه بدون هذا المبدأ (يصبح من المتعذر تكوين نظرية علمية في أي حقل من الحقول) (28)، وقبلهما قال سليمان الأحمد، عضو مجمع اللغة العربية بدمشق، في بعض كتبه غير المنشورة: (فمنكرالأسباب لا يعلم من أصول الدين شيئاً.. ولولا معرفة الأسباب، بماذا كنا نستدل على الدعوة الحقة والباطلة). فتأمل أيها القارئ في هذه الأدلة على علمية مذهب شيعة أهل البيت (ع) وعقلانيته، وانظر في تهمة اللاعقلانية التي قذفه بها بعض الكتاب الجائرين وغير المنصفين، واحكم وأنصف. هل تنبت بذور الأمل؟: الحاصل؛ مهما تكن حركة الانعطاف المفجعة التي نكبت الحضارة في العالم الإسلامي قبل قرون كثيرة للأسف، فإنها ليست بداعية إلى القنوط واليأس، فالأمة تمتلك، مع الموارد الطبيعية والطاقات البشرية، عاملاً شديد الفعالية في إعادة بناء أركان الحضارة، ألا وهو عناصر الذهنية الحضارية. ولقد تبينا في الأسطر السابقة، وبما سلطناه من ضوء على بعض جوانب الفكر الشيرازي، قدراً ذا شأن كبير من تلك العناصر التي تختص بقضيتين أساسيتين من قضايا التنمية الحضارية: الإنتاج وما يتصل به من مسائل العمل والعلم، وتوزيع الإنتاج وما يتصل به من مسائل العدالة الاجتماعية، هذا، ومن المميز لتناول السيد الشيرازي لهذه العناصر أنه لم يكن مدفوعاً بدافع حب المعرفة وحده، بل كان وللغيرة على المسلمين قدر مهم من الأثر في ذلك، وهكذا جاءت بحوث السيد غنية بالنظر الثاقب، مشبوبة بالعاطفة الصادقة، مزدانة بجواهر هدي الله تعالى ورسوله (ص) وأئمة أهل البيت (ع).
الهوامش: (1) التنمية البشرية، تطور المفهوم ودلالاته: د.مهدي الحافظ، مجلة العربي، العدد (515)، تشرين الأول 2001، ص31. (2) الكافي: محمد بن يعقوب الكليني، دار الكتب الإسلامية - طهران، 1365هـ، ج2 ص128. (3) دراسات في فكر الإمام الشيرازي: د. إياد موسى، المسلم الحر - واشنطن، ط3/2001م، ص174. (4) نهج البلاغة: ضبط نصه د.صبحي الصالح، دار الكتاب اللبناني ومكتبة المدرسة، ط2/1982، ص478. (5) تحف العقول: أبو محمد بن شعبة الحراني،مؤسسة الأعلمي - بيروت، ط5/1974، ص153. (6) الاجتماع: السيد محمد الحسيني الشيرازي، دار العلوم - بيروت، ط7/1992 ج1 ص189. (7) دراسات: مصدر سابق، ص344. (8) نهج البلاغة: مصدر سابق، ص531. (9) The world in 2020, Hamish Mcrae, Harper Collins, London, 1995, P.265. (10) دراسات: مصدر سابق، ص221. (11) نفس المصدر: ص489. (12) عولمة الاقتصاد: د.محمد دياب، مجلة العربي، العدد 494، كانون الثاني 2000، ص39. (13) دراسات: مصدر سابق، ص208. (14) الاجتماع: مصدر سابق، ج1 ص188. (15) دراسات: مصدر سابق، ص208. (16) نهج البلاغة: مصدر سابق، ص242. (17) دراسات: مصدر سابق: ص462. (18) الكافي: مصدر سابق، ج5 ص93. (19) السبيل إلى إنهاض المسلمين: السيد الشيرازي، دار الفكر الإسلامي - بيروت، ط7/1994 ص191. (20) نفس المصدر: ص194. (21) دراسات: مصدر سابق، ص394. (22) فجر العلم الحديث: توبي أ.هف، ترجمة: د.محمد عصفور، المجلس الأعلى للثقافة والفنون والآداب - الكويت، العدد 260، آب 2000 ص80. (23) نفس المصدر: ص85-86. (24) الكشف عن مناهج الأدلة: ابن رشد، دار مكتبة التربية - بيروت، 1987 ص135. (25) نفس المصدر: ص56. (26) السبيل إلى إنهاض المسلمين: مصدر سابق ص184. (27) فلسفتنا، محمد باقر الصدر، دار التعارف - بيروت، ط13/1982، ص162. (28) نفس المصدر: ص263. |
||||||