ردك على هذا الموضوع

بحوث ودراسات

سير بنور النبوة وهدي الإمامة

                                                                                                                  محمد محسن العيد

 مركز الإمام الشيرازي للبحوث والدراسات

حين يصف الإمام علي (ع)، المتأسين برسول الله(ص)، تعرف أنه (ع)، يشير من بين الذين يشير إليهم - وأنت تتلو قوله - إلى أناس بعينهم قل في الناس أمثالهم؛ فهو (ع) يقول: (أحب العباد إلى الله المتأسي بنبيه، والمقتص لأثره، قضم الدنيا قضماً ولم يعرها طرفاً، أهضم أهل الدنيا كشحاً، وأخمصهم من الدنيا بطناً، عرضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها، وعلم أن الله أبغض شيئاً فأبغضه، وحقّر شيئاً فحقّره، وصغّر شيئاً فصغّره. ولو لم يكن فينا إلا حبنا، ما أبغض الله ورسوله.. وتعظيمنا ما صغّر الله ورسوله، لكفى به شقاقاً لله، ومحادة عن أمر الله.. ولقد كان (ص) يأكل على الأرض، ويجلس جلسة العبد، ويخصف بيده نعله، ويرقع بيده ثوبه، ويركب الحمار العاري، ويردف خلفه، ويكون الستر على الباب فتكون فيه التصاوير، فيقول يا فلانة - لإحدى زوجاته - غيبيه عني، فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها.. فأعرض عن الدنيا بقلبه، وأمات ذكرها في نفسه، وأحب أن تغيب زينتها عن عينه، لكيلا يتخذ منها رياشاً ولا يعتقدها قراراً، ولا يرجو فيها مقاماً فأخرجها من النفس وأشخصها من القلب وغيبها عن البصر.. وكذلك من أبغض شيئاً أبغض أن ينظر إليه وأن يذكر عنده) (تصنيف نهج البلاغة: لبيب بيضون - ص201).

وحين نكرم مراجعنا بذكر حال تأسيهم بالرسول الأعظم (ص) فإنما نذكر ونذكّر بعظيم السجايا التي يمكن للبشر أن يرقى إليها، ويشمخ بها نهجاً بنهج من هو على خلق عظيم - كما وصفه ربه العظيم سبحانه وتعالى.

الشخصية وفلسفة الدراسة المقارنة:

معرفة التأسي بالصالحين هي في الواقع دراسة للسلوك المقارن بين المؤثر والمتأثر، ففي مدى التاريخ البشري، يجد المتتبع المتفحص؛ أن دراسة الشخصية لأي إنسان من خلال سيرته، تظهر أنه إما كان مؤثراً والناس له تبع، وإما أنه كان متأثراً فهو تابع مقلد؛ وهو حال الغالب من بني البشر، ويجد أيضاً أن الذي يقتدي بمؤثره بدرجة كبيرة، يكون مؤثراً أيضاً ولكن بقدر يتناسب طردياً مع مقدار التصاقه بقدوته؛ أي إن الإنسان كلما اقترب من الكمال في تأسيه بالمؤثر، كلما اقترب من الكمال في التأثير بالآخرين.

ولكي نكون أقرب في فهم هذا الواقع التاريخي الحتمي، نذكر عاملين بديهيين يؤثران في الشخصية، هما: الوراثة أولاً، وهي ما يتجهز به الإنسان من استعدادات فطرية يمنحها له نسبه وبناؤه الخلقي.. وثانياً: العامل البيئي بما يعني من محيط اجتماعي وواقع ديني وعقائدي، وما يتعرض له المرء من بلاءات وتجارب على كل الصعد، تقابله في حياته.

فالوراثة والبيئة عاملان حاسمان في بناء الشخصية المتأثرة، ولكنها محدودة التأثير على الشخصية المؤثرة، إلا أن المتتبع يلحظ أن الشخصية المؤثرة أرقى هدفاً وأسلوباً في التعامل مع البيئة وأقل استجابة لها، بل إن الشخصية المؤثرة توظف عوامل البيئة لبرامجها وتسخر مقوماتها لخدمة خططها؛ وبهذا فهي تعلم المتأثرين بها أسلوباً في التأثير بالآخرين وعلى نفس النهج.

وعلى ضوء هذه الحقيقة، وبحساب كون الشخصية هي واحدة من صنفين، إما مؤثرة وإما متأثرة، نقدم مختصراً لدراسة مقارنة لتأسي الإمام محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره) بأجداده الأطهار المصطفى محمد وآله الكرام صلوات الله عليه وعليهم أجمعين.

فالشخصية المؤثرة هي المصطفى الهادي (ص) الذي غير التاريخ وصلح به المجتمع الفاسد، وارتفعت به معاني الإنسانية إلى مراتب الكمال، وسادت فضائل الخلق الكريم التي لم يعرف لها المجتمع آنذاك مثيلاً، أما الشخصية المتأثرة فهو الإمام الراحل محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره).

السيد الإمام الشيرازي (قدس سره) سليل أسرة عريقة في العلم والجهاد، فهو الابن الأكبر للسيد الميرزا مهدي الشيرازي (قدس سره)، الذي كان مرشحاً للمرجعية العليا بعد البروجردي (قدس سره)، والسيد مهدي هو ابن السيد حبيب الله الشيرازي (قدس سره)، ابن آغا بزرك الشيرازي، أخ المجدد محمد حسن الشيرازي الكبير (قدس سره).. وأم السيد محمد الحسيني الشيرازي، هي العلوية الفاضلة ابنة الميرزا عبد الصاحب بن الميرزا آغا بزرك الشيرازي ابن السيد أحمد المستوفي الأخ الأكبر للمجدد الشيرازي (قدس سره).

أمام هذه السلالة في الوراثة؛ اختار سيدنا (قدس سره)، الإطار الذي رسمته العائلة، من أدوار في العلم والمرجعية وقيادة الأمة في أحلك ظروفها، يعضده في ذلك، مواهب وقدرات منحها له تكوينه الذاتي وفطرته المحبة للعلم وذاكرته الحادة، مع إيمان عميق بلغه وبلغ به ما لم يبلغه غيره - كما سيأتي معنا -.

هذا عن العامل الأول في الشخصية، أما عن العمل الثاني (المحيط والظروف الطارئة)، فالواقع أن هذا العامل هو من معاني البلاء والابتلاء للناس عموماً، وهو من معاني الابتلاء للمؤمنين خصوصاً، ويأتي ضمن مؤثرات لا يفلت منها أحد، وهي دوماً كاشفة عن معدن الآدمي؛ فقد صح الحديث: (الناس معادن).

فالسيئ في جوهره عندما ترفعه طوارئ الظروف، تبدو مساوئه كعلم على سارية، أكثر مما لو أردته الظروف الطارئة لأنه عندها يبدو مظلوماً.. وقد تطغى مظلوميته على مساوئه، ولذا نجد أن من لطف الله سبحانه وتعالى ونواميس رحمته، ولإثبات الحجة على خلقه - نجد أن طوارئ الظروف تأتي لترفع الأخسّاء، وهذا من الواضحات على مر التاريخ، يعززه قوله تعالى: (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون، ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكئون، وزخرفاً وإن كل ذلك لمّا متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين) (الزخرف/33 - 35).

وعلى العكس فإن الظرف الطارئ إذا خدم الفاضل ورفعه، فإنه لا ينفع كثيراً في بيان معدنه وحسن جوهره، ثم إن الأجر على قدر المشقة؛ ولذا فإن الإملاء إلى الخسيسين من قبل الله تعالى شأنه؛ إنما هو تعيير واضح عن عدم حب الله عز وجل لهم. وفي ذلك بيان من قوله تعالى:

(ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خيرٌ لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما) (آل عمران/178).

فالفاضل الزكي، وإن خفضته الظروف الطارئة، وتكالبت عليه كل عوامل المحيط، فلا يبدو إلا كنجم شامخ متألق في علياء عز الله وحيث طاعته جل وعلا، فالالتصاق بالله تعالى علة في اجتياز البلاء، الذي به يتجلى المعدن الراقي للآدمي والذي لا تجلوه إلا طوارئ الظروف.

إن اختيار المرجعية والتصدي لقيادة الأمة في زمن الغيبة، إنما هو خيار العبادة الراقية، وهي إن وقعت ضمن شروطها ومؤهلاتها، فهي مهمة الأصفياء والأوصياء الذين اختارهم الله أمناء لأمره، واسترعاهم أمر خلقه، وإن دورهم في الناس، هو دور الأئمة؛ فهو دور عظيم، وخطره جسيم يحسن أداؤه بحسن التأسي بالرسول الأعظم وأهل بيته الأطهار (صلوات الله عليهم أجمعين).

كان الإمام الشيرازي (قدس سره) من المراجع العليا للشيعة الإمامية في العالم لمدة قاربت نصف قرن.. وهذا واقع له دلالته الكبيرة في معاني السلوك الراقي، لأن الشيعة في عامتهم وفي كل أصقاع الأرض وعلى مر دهورها، هم من خيار الخلق حتى بشهادة أعدائهم، إذا كان لهم حظ من الأنصاف؛ وخير شهادة للشيعة، هي ما جاء في وصف الإمام جعفر بن محمد الصادق(ع) لهم والذي يشهد له كل أئمة المسلمين بالأمانة والصدق. يقول (ع):

(إن أبي حدثني: إن شيعتنا أهل البيت كانوا خيار من كانوا منهم؛ إن كان فقيه كان منهم، وإن كان مؤذن كان منهم، وإن كان إمام كان منهم، وإن كان صاحب أمانة كان منهم، وإن كان صاحب وديعة كان منهم، وكذلك كونوا، حببونا إلى الناس، ولا تبغضونا إليهم).

كان الإمام الشيرازي (قدس سره) قرين هذه المعاني من خلال مرجعيته الطويلة العهد؛ حيث يروي جميع من عايشه، أو عاش معه - عائلته وأولاده وأصهاره وطلابه ومقلدوه وجلساؤه... بل حتى خصومه - إنه (قدس سره) كان شديد الحذر في مراقبة ذاته، منتبه جداً لما يبدر عنه، أو ما يحصل بحضرته - وإن كان يبدو أحياناً وكأنه غير مكترث -.

ووجدنا من واقع سيرة الإمام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره)، أنه رضوان الله عليه كان لا يهتم كثيراً لمطعمه ومشربه، بل كان يوصي المحيطين به أن لا يسرفوا كثيراً في إعداد الطعام... وأن أهله ومن عرفه عن قرب كانوا يرون أنه كان يتعمد الجوع ويتعمد عدم التلذذ بأنواع الأطعمة والأشربة، رغم وفرتها على الموائد في كثير من المناسبات.. ترى لماذا كان يتعمد الجوع؟.

ومما تحكي لنا سيرته أيضاً، أنه كان متواضعاً في ملبسه وكان يرفض مطلقاً كل ما يدل على الأبهة في كل شيء بما فيه الفراش والأثاث في بيته وديوانه حيث يستقبل الناس على مختلف مستوياتهم. والمفروض أن يكون على الأقل في ديوانه ما يليق بأمثاله من المراجع.. لكنه (رضوان الله عليه) كان يريد أن يكون قريباً من المساكين مظهراً وجوهراً.. ترى لماذا؟؟.

وكانت له (صاية) واحدة يلبسها دوماً ولا يستبدلها، مع أن الجميع يشاهد أنها تبدو مهلهلة خصوصاً من أكمامها.. كان همه الأكبر المساكين وذوي الحاجات، يواسي المحرومين حتى في أصعب الظروف وأحلكها، وكان يؤرقه أي ألم يصيب الناس، ويتسهد للمحن التي تصيب الأمة، فلا يغمض له طرف حتى يقدم للمبتلين بالمحنة ما يخفف عنهم في محنتهم.

وكان هذا كله نابعاً من إدراكه (قدس سره) لحقيقة العلاقة الربانية بين نور الحكمة الذي تعمر به النفوس إذا جاعت لله وفيه.. وكان هذا أيضاً إدراكاً لمعاني القرب من الله تعالى، الذي يساوي مقدار القرب من عيال الله (المساكين) من لدن الإمام الراحل (قدس سره)، وهي المعاني التي جسدها من قبل جده الرسول الأعظم (ص) في سيرته المقدسة، وأشار إليها في أحاديثه الشريفة، ووجه بها خاصته وأهل بيته(ع).

إن قاعدة البناء للشخصية الفذة للإمام الراحل (قدس سره) جاءت من حرصه الشديد على التماس التأسي بجده المصطفى (ص) بكل شيء فأدرك بذلك من جده (ص)؛ حقيقة معنى قوله (ص):

(نور الحكمة الجوع، والتباعد من الله الشبع، والقرب إلى الله حب المساكين والدنو منهم، ولا تشبعوا فيطفئ نور المعرفة من قلوبكم).

في هذا الحديث نكون قد أجبنا على ما تقدم من تساؤلاتنا عن معاني الجوع والدنو من المساكين ومواساة المحرومين عند الإمام الشيرازي (قدس سره).. فقد حقق الإمام ما لم يحققه غيره في مجال المعرفة ونور الحكمة حينما أتم تأليف حوالي ألف وثلاثمائة كتاب لو وزعت ساعات تأليفها على ساعات عمره الشريف لشعرت بأنه إنسان فذ. وهذا في واقع الناس نادر جداً، بل هو عمل أسطوري في تاريخ الإنسانية، حققه الإمام (قدس سره) لحسن تأسيه بجده الأكرم وأهل بيته الميامين صلوات الله عليهم أجمعين؛ فلم يحدثنا التاريخ عن أحد له مثل هذا الإنتاج العلمي الغزير وبمثل هذا الكم الهائل. وهذا ما لفت نظر أحد الكتاب والعلماء المعروفين في إيران(2) إذ جاء إلى مجلس الإمام (قدس سره)، وكان ممن لا يجالس الإمام - كما قال هو - ليسأل الإمام مجرد سؤال واحد، قال (موجهاً كلامه للإمام): كيف حظيت بكل هذا التوفيق من الله تعالى كي تحقق كل هذا الإنتاج الغزير من المؤلفات؟ وكان الرجل يتساءل لأنه هو وفريق عمله لم يستطع وخلال عمر أن ينجز إنجازاً واحداً مما حظي به الإمام (قدس سره) ولسبب ما، ما كان هذا الرجل ليحاول ولو لمرة واحدة أن يزور الإمام الراحل (قدس سره) قبل هذه الزيارة، وكان يصرح بأن هذا السؤال هو السبب الوحيد لزيارته هذه.

حاول الإمام (قدس سره) بدءاً أن لا يقول السبب الحقيقي - لا أدري لماذا؟ - لكن قد يكون خوفاً من الرياء... أو لعل القول بالسبب الحقيقي لا يبلغ الإدراك فلا جدوى منه... أو لعله (قدس سره) كان يرى أن التوفيق بأسبابه الطبيعية له مقدمات، والمقدمات طبع فطرة فلا ينفع معه قول لمن تطبع... والله أعلم.

أجابه الإمام (قدس سره) أولاً، أنه نتيجة جهد ومثابرة وحرص على الوقت.. لكن الرجل لم يقتنع بما أبداه الإمام، وجادل وألح في طلب السبب الحقيقي لهذا التوفيق..

عندها أجابه الإمام بأن السبب الحقيقي وراء كل توفيق يبلغه الإنسان في هذه الحياة الدنيا، هو مخالفة الهوى ومعارضة النفس فيما تشتهي.. وهنا نعود لقول المصطفى (ص):

(نور الحكمة الجوع.. لا تشبعوا فيطفئ نور الحكمة من قلوبكم).

حركية الإمام الشيرازي (قدس سره) تأسياً بالرسول الأعظم (ص):

مثلما أحاط الرسول الأعظم (ص) نفسه (برجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر) كذلك استطاع الإمام الشيرازي (قدس سره) أن يكون مقنعاً بنموذجيته القيادية، لثلة واعية من العلماء المجاهدين الصادقين، ليكونوا له عوناً في توجهاته الحركية العقائدية ونشاطاته في خدمة الإسلام، من أمثال: آية الله السيد أحمد الفالي وأبنائه، وآية الله عبد الرضا الشهرستاني، وآية الله السيد جعفر الرشتي، وآية الله الشيخ محمد الكلباني، وآية الله السيد حسن الشيرازي(أخوه)، وآية الله العظمى السيد صادق الشيرازي (أخوه)، وآية الله السيد محمد صادق القزويني، وحجة الإسلام عبد الزهرة الكعبي، وآية الله السيد مرتضى القزويني، وآية الله السيد كاظم القزويني.

ولقد بدأت الدعوة الإسلامية من لدن النبي الأعظم (ص)، سرية في فترة إعداد استمرت ثلاث سنوات. القصد من الإعداد التوعية بمهام الدين وتشريعاته ومقاصده ومباينه بما يؤدي إلى التلبس بعقيدته حتى تستوعب النفوس، وبعدها يصير الإنسان قادراً على حمل رسالة الإسلام بصدق وعزيمة.

وحتى بعد الجهر بالدعوة الإسلامية استمرت مسيرة التوعية من لدن الرسول الأعظم(ص) قوية صاعدة متناهية حتى في أحلك الظروف التي مر بها الإسلام، فكان الرسول الأعظم (ص) يقدم المثل الأعلى في الجهاد التوعوي.

وهكذا - نهجاً بنهج الرسول الأعظم (ص) - ابتدأت حركية الإمام الشيرازي (قدس سره) بالتوعية، وكانت تلك النشاطات التي قدمناها عن الإمام الشيرازي (قدس سره) تهدف للتوعية بما يستوعب كل شرائح الأمة ويصحيها ويقويها ويدفعها لرسالتها.

فقد توجهت كل الأجهزة والمؤسسات الشيرازية المعبرة عن جهاد الإمام الشيرازي (قدس سره) إلى التوعية أولاً، وهي مذكورة بالتفصيل في كتاب (الشجرة الطيبة) وفي كتاب (الشهيد آية الله السيد حسن الشيرازي)، وكتاب (حضارة في رجل).

وكانت المجالات الآنفة الذكر في نشاطات السيد الإمام (قدس سره)، تقض مضاجع الطغاة ابتداءً من حكومة نوري السعيد آنذاك، مما هدى بتلك الحكومة إلى منع بعض تلك المجالات الحركية.

وهناك وسيلة أخرى كانت أشد على الأنظمة الجائرة، مارسها الإمام (قدس سره)، من خلال زياراته للمسؤولين بهدف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فمثلاً؛ عندما جاء عبد الوهاب مرجان بديلاً عن نور السعيد في رئاسة الوزارة، وكان شيعياً، شكل السيد (قدس سره) وفداً للقائه بهدف التحدث معه حول (قانون العتبات المقدسة) الذي وضعه محمد الصدر إبان رئاسته للوزارة، لكنه لم ينفذ بعد تنحيته.. وقد قابله وفد الإمام الشيرازي (قدس سره)، وتحدث معه حول قانون العتبات وفكرة تطبيق الإسلام كنظام حياة.

وفي مواجهة مباشرة مع النظام الملكي، أصدرت الحكومة آنذاك أمراً باعتقال الإمام الشيرازي وأخيه السيد حسن الشيرازي (قدس سره)، وصدر مرسوم بذلك وقعه بهجت العطية مدير الأمن وقتها، إلا أن انقلاب تموز (1958) حال دون ذلك.

وإبان الفترة التي أعقبت انقضاء العهد الملكي واستشراء أمر الشيوعيين، هب الإمام (قدس سره) رافعاً صوته بالرفض، وانطلقت نشاطاته ومؤسساته التوعوية للمجابهة، وصدرت آنذاك للإمام (قدس سره) كتب منها:

- حوار حول تطبيق الإسلام.

- مباحثات مع الشيوعيين.

- ماركس ينهزم.

مضافاً إلى مجموعة من الكتب العقائدية الأخرى.

وعندما جاء العفالقة للحكم تصدى لهم وعرّى فكرهم وبدأ جهاداً مريراً ضد فساد الحرس القومي.. حتى حين عاد العفالقة للحكم في 1968م، هب السيد (قدس سره) يعضده علماء الحوزة في النجف وكربلاء والكاظمية لمقاومة العهد الطاغوتي الجديد، إلى أن اضطر للهجرة إلى الكويت.

وهكذا كان؛ فمثلما هاجر جده الأعظم (ص) من الحبيبة مكة خائفاً يترقب، هاجر الإمام(قدس سره) أيضاً من كربلاء الحبيبة خائفاً يترقب.

وفي الكويت حيث المال والترف ورغد العيش، اختار السيد (قدس سره) بيتاً من غرفتين لعائلة تتكون من (12) شخصاً.. وكان السيد مع أولاده ينام في غرفة ذات أسرّة من ثلاثة طوابق، والعائلة في الغرفة الثانية.

ولم تمض سنة واحدة عليه (قدس سره) في الكويت حتى أسس حوزة علمية عامرة بالطلبة من شتى بقاع الأرض، أسماها (مدرسة الرسول الأعظم (ص))، وهي ذات (60) غرفة، وعدد طلابها حوالي (150) طالباً.

وفي مضمار جهاده التوعوي، أسس حسينية أسماها حسينية الرسول الأعظم (ص) أيضاً، كان السيد يدرّس فيها، ليلياً ولمدة ثماني سنوات متتالية تفسير القرآن.

وللسيد الإمام (قدس سره) نشاطات لا زالت بارزة في الكويت، هي تأسيس مكتبة الرسول الأعظم(ص)، التي تحتوي على حوالي (3) آلاف كتاب، وأسس ديوانية للنوابغ مجاورة للمسجد الذي كان (قدس سره) يصلي فيه، وتستغل للمجالس الحسينية النسوية، ومراسم الدعاء، كما استطاع (قدس سره) تجديد ثلاثة مساجد خربة، وأصدر خمس مجلات هناك؛ هي الإيمان (لعامة الناس) والإسلام والحياة (للشباب)، والفتاة (للفتيات)، والبداية، والجهاد.

ونقلت كل النشاطات التي مارسها(قدس سره) في كربلاء المقدسة إلى الكويت، وكان يدعو الأهالي لتأسيس المكتبات الخاصة، حتى بلغ عددها حوالي مئتي مكتبة، وحرضهم على إقامة المجالس الحسينية في البيوت والحسينيات، وأسس لجان لتزويج العزاب، وطبع حوالي (60) كتاباً؛ منها كتاب (المراجعات) بعشرات الآلاف من النسخ.

ومن نشاطاته التي لا زالت دالة على جهاده (قدس سره)، أنه شكل مجلساً حسينياً هاماً في جامعة الكويت، ونشط في بث مجلس حسيني من الإذاعة والتلفزيون في يوم عاشوراء.. وكذا بيده وتحت إشرافه (قدس سره)، تم تأسيس مسجد وحسينية الجهراء، وامتدت همته (قدس سره) لتأسيس مؤسسات توعوية في دول الخليج، مثل المكتبات.

وهناك نشاطات لا زالت قائمة حتى الآن في الكويت والخليج، تدل على جهاد الإمام (قدس سره).

مرحلة أخرى من الهجرة إلى الله تعالى:

الهجرة فعل جهادي كان يمثل ولادة العقيدة في زمان ومكان آخرين، وأسلوب لحماية الثورة والثوار، إذا كان للثورة معنى التغيير الجذري للواقع، وكان الرسول الأعظم (ص)، أول من هاجر بهذا المعنى، وتبنى مسلكه الثوار والمجاهدون.

فقد غادر الإمام (قدس سره) الكويت، بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران إلى قم مودعاً بالدموع واللوعة في توديع حافل له دلالته على الأثر الذي تركه السيد (قدس سره) في نفوس أهل الكويت.

وفي إيران استقبل السيد الإمام (قدس سره) استقبالاً شعبياً كبيراً، وقد نقلت بعض المجلات اللبنانية صدى الاستقبال الرائع الذي قوبل به الإمام (قدس سره) عندما حل في إيران ثم جاء لزيارته في قم السيد الخميني ومراجع الدين ورجالات العلم، والجماهير المؤمنة ونشرت الصحف الإيرانية تفاصيل الزيارة وقتها.

وقد واصل الإمام (قدس سره) مسيرته الفكرية التي ابتدأها بالعراق، واستمرت في الكويت، بالتأليف وإقامة المؤسسات وتكوين اللجان في كل اتجاه توعوي وإسلامي وإنساني.

وفي مدينة قم مدينة العلم والجهاد، ازداد نشاطه بشكل ظاهر، حيث ألف حوالي ستين مجلداً آخر ضمها إلى موسوعته الفقهية بين الأعوام (1399هـ‍ - 1412هـ‍) والتي بلغت (125) مجلداً وقتذاك إلى جانب تأليفه للعشرات من الكتب والكتيبات التي تهدف للتثقيف والتوعية ومنها:

- (الوصائل إلى الوسائل) في عشرين مجلداً.

- (السبيل إلى إنهاض المسلمين).

- (الصياغة الجديدة).

- (ممارسة التغيير لإنقاذ المسلمين).

- أربعة عشر كتاباً عن المعصومين الأربعة عشر (صلوات الله عليهم) وغير ذلك كثير جداً.

ولم ينقطع طيلة وجوده في قم عن إلقاء المحاضرات وإلقاء الدروس منذ سنة 1399هـ حتى وافاه الأجل في الثاني من شوال 1422هـ. وكان يحضر درسه الخارج حوالي (500) عالم ومجتهد، بالرغم من أنه (قدس سره) كان يمر بظروف صعبة وقاسية، حتى في فترة حرب المدن، حيث هاجر (قدس سره) إلى مشهد، ومارس التدريس في مدرسة الإمام الرضا (ع) بعد أن شيدها وأتم بنائها، وكانت قاعتها الكبيرة تغص بالعلماء حين كان يلقي السيد الإمام (قدس سره) دروسه هناك.

ومن أهم ما يجب ذكره من نشاطات الإمام (قدس سره) أنه أدخل تجديدات مهمة على مناهج الحوزة من دروس وبحوث كانت حيوية ومصيرية مثل درس التدبر في القرآن الكريم، ونهج البلاغة، والصحيفة السجادية، وأدخل دروس السياسة والاقتصاد والاجتماع وغيرها.

حركيته السياسية (قدس سره)؛ تفاعله مع قضايا الأمة:

لم يكن انشغاله بالنشاطات الكثيرة الآنفة الذكر سبباً في عدم تفاعله مع قضايا الأمة في قطاعاتها الواسعة وأصقاعها الشاسعة فقد كان (قدس سره):

أولاً: يقدم الدعم للمجاهدين الفلسطينيين مادياً وبالفتاوى وبالإعلام:

فقد أفتى بوجوب تحرير القدس من أيدي اليهود، ودعم مادياً اللاجئين والمشردين من فلسطين عبر حملة واسعة لجمع التبرعات وإرسالها إليهم. كما أنه (قدس سره) ساند القضية الفلسطينية إعلامياً بصورة جادة وأصدر كتاباً تحت عنوان (هؤلاء اليهود) فضح فيه الصهيونية العالمية. وقد ترجم الكتاب إلى الفارسية وطبع حوالي خمس وعشرين طبعة باللغتين الفارسية والعربية، وكان للكتاب صدى في إيران، وقد منعه الشاه ولذا طبع تحت عناوين مختلفة.

ثانياً: دعم الأكراد في شمال العراق، وحين ضغط عليه النظام العراقي لإصدار فتوى بوجوب الجهاد ضدهم أفتى (قدس سره) بعكس ذلك، وحرم على مقلديه محاربة الأكراد لكونهم مسلمين، ثم أرسل وكلاء إلى المنطقة الكردية للقيام بخدمة الناس هناك، كما طبع كراسات باللغة الكردية أرسلت إلى المنطقة الشمالية.

ثالثاً: دعم (قدس سره) إعلامياً قضية المسلمين المضطهدين في الاتحاد السوفيتي سابقاً، وقد صدر كتاب مصور وموثق حول تلك القضية.

رابعاً: انتصر (قدس سره) لقضية المسلمين في أندونيسيا التي ثارت ثورة عارمة ضد الماركسية إبان حكم (سوهارتو). وقد قدم المسلمون هناك حوالي ثلاثة ملايين شهيد ضد الاستعمار الروسي والصيني. وبعد صعود سوهارتو إلى الحكم، بعث السيد الإمام الراحل (قدس سره) مذكرة مفصلة تتضمن خططاً مدروسة لتطبيق الإسلام في أندونيسيا تقع في (18) بنداً أساسياً حول كيفية إدارة البلاد وفق قوانين الشريعة الإسلامية الغراء.

خامساً: وفي لبنان كانت للإمام الراحل (قدس سره) مشاركة في محنة الجنوب اللبناني، والتقى السيد موسى الصدر أكثر من مرة، وكان (قدس سره) يرى ضرورة تشكيل تنظيم جماهيري قوي في عموم لبنان طالما أن إسرائيل والكتائب لهما تنظيمات قوية ومسنودة عالمياً.

وفي الكويت استقبل السيد (قدس سره) مبعوث الصدر وألقى المبعوث خطاباً ساخناً على الجمهور الذي احتشد في ديوانية الإمام الشيرازي ثم قدمت معونات مادية له لينقلها إلى المنكوبين والمشردين في الحرب الأهلية اللبنانية.

سادساً: أسس السيد (قدس سره) في لندن وأمريكا وكندا وأفريقيا وغيرها مراكز للعناية بشؤون الجاليات الإسلامية هناك، ولتستجيب لحاجاتهم وتجيب على تساؤلاتهم.

واستنكر (قدس سره) بشدة حملات التهجير التي شنها عيدي أمين في أوغندا ضد المسلمين (البهرة) حيث هجرهم من بلادهم إلى لندن، وساعد (قدس سره) الأفارقة على تأسيس حسينية في كربلاء المقدسة.

سابعاً: قضية العراق كانت قضيته (قدس سره).

فقد كان (رضوان الله عليه) يأن أنيناً على العراقيين وآلام العراقيين؛ يتتبع أخبارهم ابتداءً من قضية التهجير الأولى التي بدأت قصتها بعد هجرته (قدس سره) إلى الكويت؛ فلقد اتخذ موقف المستنكر والرافض لحملات التهجير.

وقد وجه الإمام (قدس سره) بياناً إلى المهجرين احتوى على عشرين بنداً تحت عنوان (النازحون من العراق) ضمنه إرشادات هامة حول إعادة ترتيب المهجرين لأوضاعهم التعليمية والاقتصادية وغيرها.

كما قام(قدس سره) بحملة واسعة جداً لإرسال المعونات إليهم من الكويت.. وكذا في قضية التهجير الثاني الذي حصل عام 1980.

وبأمر منه (قدس سره) تكفل وكلاء السيد (قدس سره) باثني عشر ألف مهجر، إذ أخرجوهم من مخيمات اللاجئين وساعدوا عوائلهم بمختلف أنواع المساعدة. وكان لحجة الإسلام علي الفالي دور كبير في ذلك، وكان من المقرر بناء مدينة لهم بكامل ما تتطلبه من مؤسسات وطرق مواصلات.. مدارس ومستشفيات وغير ذلك، إلا أن بعض العوائق الخارجية منعت من البدء بالمشروع الإنساني الضخم.

ثامناً: دعم القضية الآذربيجانية ضد الروس، حيث يسكن منطقة آذربيجان مسلمون مضطهدون، عانت منطقتهم من الاحتلال من قبل الجيش الأحمر في عهد لينين، وهي الآن تعاني من الانقطاع عن العالم الإسلامي.

وحين انتفض المسلمون هناك، بعث الإمام (قدس سره) بمختلف الكتب الإسلامية إليهم. وقام أيضاً بتوجيه قياداتهم ورموزهم، وعين له عدداً من الوكلاء، وأصدر كتاباً خاصاً باللغة التركية تحت عنوان (نامازي أحكام) بمعنى أحكام الصلاة، لأن أبناء المنطقة يجهلون تماماً أوليات الإسلام بسبب انقطاعهم عن المسلمين لحوالي سبعين سنة.

تاسعاً: اهتم الإمام (قدس سره) بالقضية الأفغانية اهتماماً خاصاً بسبب أن الشعب الأفغاني واجه احتلالاً عسكرياً سافراً، ثم واجه حركة وهابية قاهرة.

ومن نظرياته حول القضية الأفغانية: ضرورة طرح القضية الأفغانية في المجتمع الدولي وتحرك الثوار عالمياً لقضيتهم... وضرورة تأسيس إذاعات لإيصال صوت الثورة إلى العالم.

وقد ساند (قدس سره) الحركات الأفغانية والتقى قياداتها أكثر من مرة، والكثير منهم اليوم يرجعون في التقليد إليه، وقد رعاهم الإمام (قدس سره) على كافة الأصعدة، فهو يعطي الرواتب الشهرية لأربع وستين مدرسة وحوزة داخل أفغانستان، وينتشر داخل أفغانستان أكثر من مائة وكيل للإمام الراحل (قدس سره) كلهم من الثوار المجاهدين.

عاشراً: وفي كشمير حيث يرزح شعب مسلم تحت نير حكم وثني غاصب وجائر.. فقد توجه الإمام إليهم بالخطاب والكتابة والمساندة. وقام بما في وسعه في نصرتهم.

أحد عشر: توجه السيد (قدس سره) إلى سوريا بشكل إعلامي واسع جداً عبر تأسس المؤسسات التوعوية والثقافية ونشر الكتب، وتحرك وكلاؤه في مناطق عديدة منها.. وخدموا الشعب فيها وشيدوا المساجد والحسينيات. وغيروا معالم بعض المناطق، كمنطقة (المقاولة) التي غير اسمها إلى (الزهراء)، وقد عمل وكلاء السيد (قدس سره) ولا زالوا يعملون من خلال مؤسسات مهمة وعلى رأسها الآن ممثلية الإمام (قدس سره) التي صارت إلى ممثلية الإمام آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي (دام ظله).

الحفيد يقتفي أثر جده الإمام الصادق (ع):

كان حفيد الإمام الصادق (ع) الإمام الشيرازي(قدس سره) يجهد نفسه في توجيه الناس نحو الخير والسعادة واتباع الحق ليخلق مجتمعاً تتجسد فيه خصائص الإسلام الحق، وقد كان(قدس سره) له في كل مجال توجيه؛ في الفقه، والاقتصاد، والسياسة، والاجتماع، والزراعة، والطب... الخ.

وله طروحات في كل مشاكل الأمة وأوليات حاجاتها الملحة؛ فكتب في التعددية، والحرية، والشورى، واللاعنف... متضمنة رؤى سماحته من أجل مستقبل أفضل لأمة إسلامية موحدة تحمل رسالة عظيمة إلى العالم كله.

والحقيقة هي أنه لو لم يكن الإمام الشيرازي (قدس سره) بمستوى المؤهلات القيادية والعلمية، لما كان بمستوى هذا العطاء الكبير العظيم.

وقد قال أحد الشيوخ الأجلاء أنه (قدس سره) طلب منه أن يكتب، وعندما زاره مع عائلته طلب من بناته أن يكتبن...

كان (قدس سره) في ذلك يرفع الناس إلى مستوى مهامهم، فكان يطلب من العالم إذا كان مجتهداً أن يطبع رسالته العملية، ومن المختص أن يكتب في اختصاصه، ومن المرأة في شؤونها.. وحتى من الأطفال.. وكان ببركة الإمام (قدس سره) عدد كبير من المؤلفين، وهي بالواقع بركة التأسي بأهل البيت (صلوات الله عليهم).

فقد اتجه بهمة لا تلين إلى تأليف وتدوين أكثر من ألف وثلاثمائة كتاب وبادر إلى طروحات فكرية، هي بالحقيقة أعمدة لبناء سياسي مستقبلي رصين...

وفي نص نجد في كتب سيرة الإمام الصادق (ع):

(استطاع الإمام الصادق (ع) أن يكون أستاذاً لكل المفكرين الإسلاميين في عصره وما بعده، أستاذاً لهم بالتعليم المباشر، أو عبر السماع والرواية، ولذا استطاع (ع) أن يحتوي الجميع وأن يكون المنطلق لهم والمرجع، ولذا فإن هدوءه النفسي وبعد نظره الفكري قد أمنّا له أن يكون مؤسس حركة الفكر الإسلامي في قوة انطلاق وسعة وجود، بعيداً عن أية مذهبية كانت، فلم تجرفه تيارات الأحداث الآنية وإغراءاتها، لأنه أدرك كنه الحياة وحدد البعد العطائي فبقي بعيداً عن مهاوي الفعل السياسي المرحلي، وظل صموده في وجه مراكز القوى السياسية فعل معارضة سلبي، تحول إلى عمق إيجابي من خلال قوة وجوده، فأقض مضاجع أخصامه، ومهد لدور سياسي تمثل بصوت الضمير الصارخ في وجه الإعوجاجات.. ) (1).

هذا النص إنما يحكي واقع الإمام الشيرازي، وإن كان قد كتب ليحكي سيرة الإمام الصادق (ع)، كتحليل من لدن الكاتبة، وإن الذي عايش الإمام الشيرازي(قدس سره) عن قرب يجد في المقارنة بين الجد والحفيد تطابقاً، أما الذي لا يعرف الكثير عن الإمام الشيرازي فنورد له الرواية التالية والتي شهودها كلهم أحياء.

يقول صاحب الرواية:

(كنت أنا وجماعة من تلاميذ السيد رحمه الله عندما نسمع أن السيد الإمام (قدس سره) من المعارضة في إيران أو  محسوب عليها، كنا لا نقتنع بذلك بل كنا مقتنعين بضرورة مماشاة الدولة، وكنا عندها في طهران، فشكلنا لجنة كنت أحد أعضائها للذهاب إلى قم وإقناع السيد بعدم جدوى المعارضة وبضرورة الابتعاد عن مواقفها وإن مواقف المعارضة فيها إشكال.

وكان من الأعضاء في هذه اللجنة، الشيخ جمال بكوكيا، والشيخ غفوري والشيخ الرضوي الذي هو الآن في لندن، وقبل الالتقاء بالإمام (قدس سره) التقينا الشيخ الخاتمي، والسيد مرتضى القزويني والسيد المدرسي، والشيخ جعفر الهادي، وهؤلاء يعتبرون طبقة أعلى منا في مراحل الدراسة وأقرب للإمام الشيرازي (قدس سره)، وقد وافقونا الرأي في مفاتحة السيد الإمام (قدس سره) في هذا الأمر.

وجئنا إلى قم وبقينا فيها أياماً حتى نقنع السيد الإمام (قدس سره) بأن لا يصطف مع المعارضة، لأن المعارضة تثير مشاكل، وهناك أجواء ثورة تحرق الأخضر واليابس دون تدقيق كالأتون، والسيد يعارض هذه الأجواء.. وهذا كما كنا نرى غير صحيح!!.

ثم جلسنا مع الإمام الشيرازي (قدس سره) عدة جلسات ولعدة أيام كل مرة لمدة ساعتين، وتناولنا النقاط واحدة واحدة، مثلاً إشكالاته حول النظام لا مبرر لها لأنها تحتاج إلى وقت.. طروحاته في حرية التجارة وحرية الناس - كما نرى - ليست في وقتها، وكان في جعبتنا الكثير من الإشكالات من هذا النوع نثيرها عليه (قدس سره).

لكن الذي حصل من تكرار اجتماعاتنا معه (قدس سره) هو أننا جميعاً اقتنعنا برؤاه ووجهات نظره، وانقلبنا على أنفسنا لأنه (قدس سره) كان صاحب منطق صحيح ونظرة سليمة وأفق واسع ومدى بعيد وقد أثبت الزمن صحة هذه الرؤى وصدقها في واقعنا اليوم).

والواقع أن طروحات الإمام الشيرازي (قدس سره) هي استلهام لسيرة الإمام الصادق (ع) في التوجه للبناء الفكري الرصين للأمة قبل التفكير في الزعامة السياسية، حيث لا تعني شيئاً بدون وعي.

ولو لاحظ أحد تلك الطروحات، في اعتبارات الآخر ومخاطبته، وفي طروحاته للتعددية، والشورى والحريات، واللاعنف، وإن كانت كلها طروحات فكرية، إلا أنها أساساً تشكل بناءً قوياً للأمة.. إنها طروحات تبني الأمة البناء الرصين القابل للارتفاع والشموخ، وليس البناء الذي ينحني أو ينهد أمام أية ريح. ذلك هو ما نلمسه في سيرة الإمام الصادق (ع) حيث ورد: (... فكان الإمام الصادق (ع) بحق المفكر السياسي الاستراتيجي الرافض لتولي الزعامة السياسية).

مشروع الإمام الشيرازي (قدس سره) الحضاري هو مشروع الإسلام:

ابتلي العالم الإسلامي في غالبية شعوبه بالشعور بالدونية وهو الشعور بأننا أدنى من الغربيين في درجات الرقي الحضاري، والحقيقة هي أن الباعث على هذا الشعور هو حالة التخلف في المضمار التكنولوجي، بالإضافة إلى ظهور كثير من المفكرين من بين أبناء العالم الإسلامي يروجون للأفكار الاستعمارية ويدعون أنه لا يمكن بناء دولة حديثة إلا على أساس نظريات الغرب في الحكم والسياسة، وأعلنوا دونيتهم هذه بلا تحفظ، زاعمين أن النظريات والقوانين الغربية للحكم والأساليب الغربية للسياسة وقيام النظم الحاكمة هي النظريات الأفضل، وعلى أساس الاقتراب من تمام مطابقتها تتحدد أفضلية النظام الحاكم، وكذا فالبعد عن تمام المطابقة يعني القبح والرداءة لذلك النظام.

هذا وكأن عقل الإنسان قد دفن فلا أحد استطاع من قبل إيجاد نظام أفضل من نظم الغرب، ولا أحد يستطيع أن يوجد الآن نظاماً أفضل من هذا النظام!!.

فإذا ما ظهر مفكر حباه الله بالذكاء والإخلاص هاجمه أولئك الكتاب الدونيون، فما بالك إذا كان هناك فقيه يستطيع أن يرسم بفكره ورؤاه طريقاً يقود الفرد والمجتمع كله إلى سعادة الدنيا ونعيم الآخرة؟! فإنهم سيهاجمونه، لأن أي تقدم تحققه الأمة الإسلامية يضر بمصالح هؤلاء، وإن الدونية هذه دليل غياب العقدية أصلاً.

الإمام الشيرازي (قدس سره) ممن انبرى على كل الصعد لبناء العقدية في النفوس الخاوية؛ لإزالة الشعور بالدونية أولاً، وطرح البدائل المحمدية الإسلامية الهادفة، وفقاً لمذهب الإمامية، وخصوصاً توجيهات الإمام الصادق (ع) ثانياً.

وجاءت هذه البدائل متسقة متناسقة في أطروحاته الإسلامية الأصيلة التي تتضمن كل الحلول الجذرية لمشاكل الأمة. ويمكن اعتبار تلك الطروحات من أفضل ما يمثل هذه الحقيقة الكبرى، فقد وضع نظريات سياسية لبناء الدولة الإسلامية وطريقة عملها ومنهجها والطريق الذي يوصل إليها ضمن ما سماه بالتغيير وذلك من غير اشتراط لتبني نظرية غربية معينة.

(وبالطبع، فهناك من يرى ضرورة الاعتماد على وجهة نظر غربية محددة لا يحق لأي أحد أن يتجاوزها مهما كانت الظروف، فيختار نظرية ما بكل ما فيها من خلل واضطراب، ولعل أبرز الذين مثلوا هذا الاتجاه، هم الماركسيون بمختلف فصائلهم وتعدد آرائهم، ولكن تطورات العالم قد أثبت فشلهم، وخاصة بعد انهيار المجتمع الذي ضيع من عمره سبعين عاماً من أجل محاولة تطبيق الماركسية، ثم اضطر إلى الإعلان عن فشل نظريته في تحقيق الهدف المعلن عنه من وراء تطبيقها، مما تنبأ به الإمام الشيرازي (قدس سره) قبل أكثر من عشرين عاماً. فأيهما أحق بالاتباع أولئك الأدعياء، أم الرؤية السياسية الصائبة التي تنبأت بسقوطهم؟!) (2).

وقد نرى ما رآه الدكتور أياد موسى محمود، في كتابه (دراسات في فكر الإمام الشيرازي) عن العالم الاجتماعي (ف. بوريكو) بأنه أخذ معناه لعلم السياسة من فكر الإمام الشيرازي حين اعتبر علم السياسة: (كمجموعة من العمليات المتطورة يحقق المجتمع بواسطتها وحدته) (3).

ذلك أننا حين نربط معيار نجاح الفكر السياسي بتحقيق وحدة المجتمع برغم كل المعوقات، إنما نوفر إمكانية تطبيقية هائلة لاستنباط ملامح الفكر السياسي الشيرازي الذي يتبنى تلك الدعوة المتمثلة بإقامة دولة إسلامية واحدة، ويرى أن حال هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح به حالها أولاً عبر التجربة التاريخية.

والإمام في هذا يهيئ مهاداً للعمل التغييري باتجاه تكوين دولة الإسلام الواحدة في جميع أنحاء العالم، مما هو مدعاة لافتخار كل مسلم على وجه الأرض، فللسيد الإمام (قدس سره) في هذا الاتجاه أكثر من ألف كتاب تتداخل موضوعاتها بين الفقه والسياسة والاجتماع والاقتصاد والقانون... الخ.

وهمنا الآن يتركز بالأساس على المنهج الشيرازي في واقعيته مقارنة بالمنهج المحمدي والمذهب الجعفري، وفق أصول البحث الأكاديمي.

أطروحات الإمام الشيرازي (قدس سره) في مشروعه الحضاري.. الجذور والأهداف

* الحوار:

دأب الإمام الصادق (ع) على تكوين عقول أصحابه بإمكانات المحاجة والمناظرة ودفعهم إليها، إلا أنه اشترط في المحاور أن يكون (ممن يقع ثم يطير، أما من يقع فلا يطير فلا).

ودلالة هذا الشرط واضحة، وهي أن يكون المحاور راسخ العقيدة واثق الخطى سمحاً سلساً، فصيحاً، واضح القصد بيّن الهدف إلى الله تعالى، مستوفياً لمعاني ما يحاور به.

فهذان حمزة ومحمد ابنا حران يقولان: (اجتمعنا عند أبي عبد الله في جماعة من أجلّة مواليه، وفينا حمران بن أعين، فخضنا في المناظرة وحمران ساكت، فقال أبو عبد الله (ع): مالك لا تتكلم يا حمران؟.

فقال: يا سيدي آليت على نفسي أني لا أتكلم في مجلس تكون فيه.

فقال أبو عبد الله (ع): إني قد أذنت لك في الكلام فتكلم) (4).

وروي عن الإمام الصادق (ع) قوله لما سأله الطيار عن كراهة مناظرة الناس: (أما كلام مثلك فلا يكره، من إذا طار يحسن أن يقع، وإذا وقع يحسن أن يطير، فمن كان هكذا لا نكرهه) (5).

وللحوار مآخذ نهى عنها أهل البيت (ع)، مثل الجدال والمراء والخصومة، وقد أوصى الإمام علي (ع) كميلاً، فقال (ع):

(يا كميل في كل صنف قوم أرفع من قوم، فإياك ومناظرة الخسيس منهم، وإن أسمعوك فاحتمل، وكن من الذين وصفهم الله تعالى بقوله: (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما)) (6).

يقول الدكتور أياد موسى محمود عن أطروحة الإمام الشيرازي (قدس سره) في الحوار تحت عنوان (وجادلهم بالتي هي أحسن):

يذهب المركز الشرعي في الفكر السياسي الشيرازي إلى أن الحوار يجب أن يكون هو اللغة السائدة بين مختلف الأجناس والأعراق والشعوب، وذلك المركز الشرعي لا يقر بالحرب إلا إذا كانت دفاعية أو بالمصطلح السياسي العسكري حرباً وقائية(7).

ويقصد بالمركز الشرعي، بالمفهوم العصري، استراتيجية الإسلام، والتي هي معاني لمصدر واحد، فطروحات الإمام الشيرازي متوافقة بالهدي الرباني والسيرة النبوية، ويتوضح في قول الدكتور إياد:

(الفكر السياسي الشيرازي، أشار بوضوح إلى المخاطر الكامنة في ابتعاد الأمة عن إسلامها وقدم حلوله للمشكلة عن طريق الحوار والدعوة إلى إقامة نظام إسلامي يرتكز على إرادة الناس ويقوى بقوة الأمة، ووضع على عاتق العلماء مسؤولية شرعية في أبعاد الحكام الظالمين أولاً، لينفسح المجال أمام المخلصين من أجل التحاور والتشاور لما فيه عز الإسلام والمسلمين) (8).

* النظرية السياسية وفلسفة السياسة الشيرازية:

النظريات السياسية المطروحة الآن في الساحة كلها تقول بشكل أو بآخر: (السائس لا يتمكن من السياسة في غايتها وتمامها إلا إذا كان يعمل برأيه وبما يرى فيه صلاح ملكه وتمهيد أمره وتوطيد قاعدته سواء وافق الشريعة أم لم يوافقها.. ومتى لم يعمل في السياسة والتدبير بموجب هذا القول، فبعيد أن ينتظم أمره أو يستوثق حاله).

وفي هذه النظريات لا مجال لمعاني السياسة المنطبقة مع سيرة النبي (ص) وعترته الطاهرة؛ حتى زعم البعض أن علياً كان أعلم من معاوية ولكن معاوية كان أسيس منه. وصرح الرئيس أبو علي بن سينا بذلك في (الشفاء).

لكنّ الإمام علياً (ع) يقول: (والله ما معاوية بأدهى مني، ولكنه يغدر ويفجر).

وأمير المؤمنين (ع) كان مقيداً بقيود الشريعة وفضائل الخلق القويم... لا أدري لعل الناس من يومهم لم يروا السياسة إلا خبثاً ودهاء.. لكن نظرية الإمام الشيرازي في السياسة بيان لخطل المعنى العام للسياسة الذي يتعايش معه الناس كتعايشهم مع التدخين أو شرب المسكرات...

وفي رؤيا واضحة ترتقي فوق هذا التناقض في معنى السياسة، بين واقعها السيئ وبين ما يجب أن تكون عليه من خدمة للإنسان، أكد الفكر السياسي الشيرازي على ضرورة إيجاد منهج شامل تتكامل فيه أدوات البحث؛ نفسية وفلسفية وتاريخية واجتماعية وقانونية، للخروج بنظريات سياسية متكاملة بدورها، تتفاعل بصورة خلاقة مع الواقع، لتنتج علم سياسة أكثر دقة وشمولية وإلحاحاً في الإجابة على الأسئلة التي يثيرها التطور السياسي العالمي(9).

إن ما طرحه الإمام الشيرازي من إجراءات يهدف إلى جعل النظرية السياسية تتلائم مع التطور العلمي والرقي في وعي الناس لحقائق الكون والوجود، لأن في طروحاته (قدس سره) استجابة لواقع الناس حين يجدون أنهم بحاجة إلى نظرية سياسية منقذة من هذا الدهاء والخبث الذي يسمى سياسة.

(المنهج التكاملي الذي نجده مجسداً عند الإمام الشيرازي، بحيث يمكن أن نسميه (المنهج الشيرازي لتكامل العلم السياسي) يعيد للنظرية السياسية مكانة كادت تفقدها. ونجد مصداق هذا التحليل، وهذه الرؤية فيما شهد به عدد من علماء السياسة المعاصرين، حيث يصرح الدكتور جرمينو (D. Germino) بأن النظرية السياسية شرط أساسي في أي فكر سياسي، في المنطلق وفي النتائج، لأنها دراسة نقدية لأسس النظام الصحيح في الوجود الاجتماعي الإنساني. وهي - بهذا المعنى - ليست علماً سلوكياً، إنها تتحول إلى (علم) ولكنه ليس العلم الذي تحده فروض يمكن التحقق منها حسياً(10).

وينص نورمان جاكوبسون (Norman Jacobson) على أن الاهتمام الجوهري المركزي للدولة يجب أن يكون البحث عن الحكمة السياسية(11)) (12) .

وبالتالي فإن دراسة السياسة كعلم - بحسب منهج الإمام الشيرازي - يجب أن ترتكز على منهج متكامل جامع لشتات العلوم الإنسانية والتقنية، مضافاً إلى ذلك شيء أكثر من المهارة والتدريب؛ إنها تتطلب فكراً قادراً على التمييز، ومعرفة أكثر من معرفة الأساليب، وتتطلب الخبرة والقدرة على الحكم، وأكثر من كل ذلك التفرغ للموضوع بكل نزاهة وجد وإخلاص.


الهوامش:

(1) ن.م: ص/155.

(2) دراسات في فكر الإمام الشيرازي، أياد موسى محمود، ص/11.

(3) نفس المصدر السابق: ص/13.

(4) معاني الأخبار، ميزان الحكمة (13296).

(5) بحار الأنوار: 2/136/39، 38/415.

(6) بشارة المصطفى: ص36.

(7) دراسات في فكر الإمام الشيرازي: ص142.

(8) ن.م: ص143.

(9) نفس المصدر السابق: ط3/ ص64.

(10) D Germino, Neyond Ideo logy ص6.

(11) ن.م: ط3/ ص6.

(12) Norman Jacobson The unity of political theory: science Morals and Politics info laud young. Ed Approached to the study of politics 1958 pages (115 - 124).

 

الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

العــدد 69

إتصــلوا بـنـــا