ردك على هذا الموضوع

صور من الذاكرة

محطات من الذاكرة.. لله وللتاريخ

محمد تقي باقر - أمريكا

وددت الاجتماع بالإمام الشيرازي (قدس سره) في منزله في قم وهو قادم من جماران في ثاني زيارة والتي كانت الأخيرة، وكان ذلك سنة 1405 من الهجرة النبوية، إلا أن المرحوم السيد علي الفالي (رحمه الله) منعني من ذلك، وقال: الإمام مشغول في نفسه ولم يتكلم معنا منذ أن خرج من جماران (والطريق أكثر من أربع ساعات مع ملاحظة الزحمة)!.

سألته عن ذلك وقلت: هذا غريب منه -دام ظله- مع أخلاقه الرفيعة؟.

فأجاب السيد الفالي: لا أعلم  ماذا حصل هناك، إلا أنه عندما دخل كان يأمل الكثير وكان يحمل معه خطة مفصلة لوقف الحرب الإيرانية - العراقية، لكن لا أدري ماذا حصل.

وأضاف: عندما خرج واستقر في السيارة رفع عمامته وتأوه وتنفس الصعداء ووضع رأسه على المتكأ ودموعه تنزل، ولم يتكلم معنا حتى وصلنا إلى قم؟.

وكان هذا غريب أيضاً منه، فإنه رحمه الله كان مصراً على إيقاف الحرب وإنقاذ ما تبقى من وجود شيعي في المنطقة، وكان أيضاً حريصاً على حفظ إيران والثورة، ولذلك كان يبذل جل جهده لإصلاح الأخطاء الناتجة عن بعض التصرفات.

وفي اليوم الثاني طلبني (رحمه الله) وقال: اعطني دفتر أرقام هواتفك!.

فأعطيته وأنا مستغرب من كلامه.

فأخذ الدفتر ولم يعيده إلي حتى يومنا هذا.

وفي ذلك الوقت كنت أنا الوسيط مع الصحف ووسائل الإعلام وكذلك مع النواب في البرلمان الإيراني (مجلس الشورى).

وبعد يوم أو يومين سألته عن سفره إلى جماران واللقاء الذي حصل هناك وما يترتب عليه من آثار، فقال: علينا الدعاء ومنه سبحانه الإجابة.

وأضاف: على المرء أن يسعى بمقدار جهده وليس عليه أن يكون موفقاً.

فألححت عليه في السؤال فقال: تعاهدني على عدم التصريح به إلى وسائل الإعلام مهما كان حتى وفاتي؟.

فقلت: نعم مولاي.

فقال: وعلى الإسلام السلام!!

قلت له: أوضح سيدي روحي فداك.

فقال: بذلت جهدي طوال هذه السنوات لأفهمهم الخطر المحدق بهم، فإن إيران مشرفة على التقسيم من جوانب أربعة، سترونها وأنا لست فيكم.

فأهواز، سيتم تجزأتها وتسليمها إلى دولة عربية أو ستكون دولة جديدة على الخريطة.

ومقاطعة آذربيجان الإيرانية، سيقطعونها ويتم تسليمها إلى آذربيجان الاتحاد السوفييتي (السابق) بعد تقطيعه (أي الاتحاد) إلى دويلات. وكردستان، مصيرها كالأولى. وبلوجستان، لا تسلم أبداً.

ومنذ ذلك اليوم وأنا خائف مما سمعت منه -رحمه الله- وأقولها اليوم لله وللتاريخ: أما الدفتر، فأخذه مني ليقطعني عن الدولة الإيرانية والمسؤولين آنذاك، وكان كما أراد، ومنذ ذلك اليوم أيضاً كان يرفض اللقاء بالمسؤولين الإيرانيين. حتى إن الشيخ محمد يزدي (رئيس القضاء الإيراني السابق)، وكان يتردد على الإمام الراحل (قدس سره) ويجلس معه، لم يحظ بلقاء بعد ذلك. إلا أنه بلغه بعض كلام الإمام (رحمه الله) في موضوع إلغاء أحكام الإعدام في صفوف حزب مجاهدي خلق الإيراني.

وسقطت خرمشهر:

طرح اسم أبو الحسن بني صدر في إيران ليكون رئيسا للجمهورية كان متزامناً مع تدريس الإمام الشيرازي (رحمه الله) موضوع الاقتصاد في بحث الخارج، ولم يكن الموضوع مطروحاً للنقاش في الحوزة العلمية إلى ذلك اليوم على أنه موضوع فقهي، وكل من ناقش الموضوع من العلماء كان ينظر إليه على أساس أنه موضوع فكري بحت وليس موضوعاً فقهياً.

وكان الحضور في الدرس بشكل غريب ومكثف، لأن مناقشة الموضوع وفي هذا الوقت الحساس من زاوية الفقه، كان لأول مرة في تاريخ الشيعة أولاً، ومن ثم أنه يعتبر بحثاً سياسياً في ذلك الوقت بالذات، حيث إن الثورة في بداية نموها السياسي والفكري ثانياً، أضف إلى ذلك، أن انتخاب موضوع الاقتصاد من وجهة نظر الإمام الشيرازي (رحمه الله) في ذلك الوقت كان بمثابة دعم فكري للنظام وسد للثغرات الموجودة بعد الثورة إذ إن النظام الإيراني والحوزة العلمية كانا بحاجة ماسة إلى مناقشة مثل هذه المواضيع الفكرية الجديدة، فالمسؤولون كانوا منشغلين بإدارة الدولة وغير متفرغين لمناقشة المسائل الفكرية، وتركهم على هذا الحال كان بمثابة ضربة قوية وطعنة من الخلف للثورة، فإن الاستعمار والحركات الفكرية المنحرفة تنتهز مثل هذه الفرص لتطرح ما تريد. وبما أن الدولة والجيل الذي يريد الوصول إلى الحكم منشغل، ولا يتمكن من دراسة هذه الأفكار والرؤى، (والبرلمان في تقنينه)، والدولة في مجال التطبيق كانت بحاجة إلى ذلك، فترك مثل هذا الموضوع، كما كان مفيداً للنظام والحكم، فكذلك كان مضراً لمستغلي الفرص.

وكان (رحمه الله) قسم مباحث الاقتصاد إلى أربعة أقسام:

- الاقتصاد الرأسمالي (الغربي).

- الاقتصاد الشيوعي (الشرقي).

- الاقتصاد التوزيعي الالتقاطي (لم يناقش بهذا الاسم من قبل إلا أن الرئيس الليبي معمر القذافي ناقشه في الكتاب الأخضر ثم أضاف إليه بني صدر بعض الروايات وسماه الاقتصاد التوحيدي).

- والاقتصاد الإسلامي (كما هو رأي الإسلام).

وكان الشيوعيون آنذاك متسترين بستار الثورة، حتى إن حزب تودة (الشعب) الإيراني أعلن في صحفه الواسعة الانتشار آنذاك بخط ومانشيت عريض: (حزب توده درخط إمام) يعني: (حزب الشعب منصهر في نهج الإمام الخميني!! ).

لذلك اعتبر بعض الشباب من رجال الدين أن طرح مثل هذا الموضوع وقتذاك مضر بالثورة!! بينما لم يعترضوا على مناقشة آراء العلماء السابقين والأفكار الأخرى المطروحة على الإطلاق، مع أن مثل هذه العقلية يجب أن تقول: إن مناقشة هذه الأفكار تؤدي إلى التفرقة بين المسلمين!!.

وعلى أية حال، فقد طال مبحث الاقتصاد حتى وصل بني صدر إلى سدة الحكم عبر الانتخابات وحصل على تأييد السيد الخميني (رحمه الله) والذي يعتبر -حسب الدستور الإيراني- بمثابة منح شرعية للرئيس المنتخب من قبل الناس (إذ لا اعتبار لرأي الناس مهما كان العدد ما لم يصدق عليه القائد الأعلى في إيران).

وكان بني صدر محبوباً عند الشعب الإيراني كما هو اليوم بالنسبة للإصلاحيين وكان يبذل جهده لتطبيق الاقتصاد التوحيدي على أساس أنه الاقتصاد الإسلامي الحقيقي.

إلا أن الإمام الشيرازي (قدس سره) كان لا يرى فيه الصواب وناقش الأدلة والردود عليه في كتابه القيم (الفقه الاقتصاد) الذي يعتبر جزءاً  من الدورة الفقهية الكبرى ذات المئة والستين مجلداً.

وطوال تلك الفترة كنت أنا الرابط بين مكتب الإمام الشيرازي (رحمه الله) ووسائل الإعلام، وكذلك مع بعض نواب البرلمان الإيراني والمسؤولين من الدرجة المتوسطة طبعاً، وكانت الصحف الإيرانية المرتبطة بالنظام- وبأمر من المسؤولين أو المخابرات- لا تطبع بيانات الإمام الشيرازي (إلا ما خرج بالدليل!) إلا أن صحيفة (انقلاب إسلامي) التي أسسها السيد أبو الحسن بني صدر كانت تطبع البيانات على استحياء!!.

وكان مسؤول الصحيفة في قم والرابط بين بني صدر والحوزة ورجال الدين (وكذلك مؤسس إذاعة قم التي استحدثها بني صدر في ذلك الوقت) شاباً مثقفاً ونشطاً يدعى حاجي باشي وكان يتابع قضايا الحرب العراقية - الإيرانية وجديد الأخبار بجدية.

وفي يوم من الأيام طلبني الإمام الشيرازي (قدس سره) وقال: هل تعرف أحداً له علاقة مميزة مع بني صدر؟.

قلت: نعم، حسب معرفتي بالحاجي باشي فإنه مرتبط تماماً ويتمكن من أي شيء يطلب منه.

وكنت أعرف ارتباطه الوثيق بالرئيس الإيراني، وكان محباً للإمام الشيرازي (رحمه الله) ومعتقداً بأفكاره السياسية وتصوراته.

فكلفني الإمام (رحمه الله) بإحضار حاجي باشي في أقرب وقت. وجاء حاجي باشي مستغرباً إحضاره في هذا الوقت من الليل حيث تمكنت  من الاتصال به في ساعة متأخرة.

فقال له الإمام (رحمه الله): هل بإمكانك الذهاب إلى طهران واللقاء مع بني صدر وبسرية تامة؟.

قال: نعم.

فقال له الإمام: إن مدينة خرمشهر (وكما يسميها العرب المحمرة) في خطر وأتصور أن الجيش العراقي سوف يشن الهجوم من هناك، وإذا كان كذلك فإنه يعني قتل الأبرياء من الناس والدمار الكامل لهذه المدينة و..ويمكن تدارك الموقف بإرسال جيش قوي عدة وعدداً هذا إذا لم يكن قد فات الوقت!!.

ورأيت آثار الدهشة في وجه الحاجي باشي مع الشك في قبول الخبر، حيث أن السياسيين لم يتوقعوا اطلاع رجال الدين والمرجعية الشيعية بالقضايا السياسية، فكيف يفهمون اهتمامهم واطلاعهم بالقضايا العسكرية، وبما أن الموضوع كان في غاية الأهمية لذلك اهتم به الحاجي باشي وغادر قم في نفس الوقت ليلتقي بالرئيس بني صدر.

وبالطبع تمكن الحاجي بعد جهد كبير من الاتصال بالرئيس وأخذ منه الموعد على عجالة لخطورة الموضوع.

وفي اليوم التالي جاءني بهدوء وطلب مقابلة الإمام (رحمه الله) وقال له: الرئيس يسلم عليكم ويقول: الأخبار الواصلة إليكم غير دقيقة ومدينة خرمشهر آمنة ولا خوف عليها على الإطلاق!.

ورأيت الإمام (رحمه الله) وكأنه انصدم من الجواب صدمة قوية كادت تودي بحياته.

ولأول مرة في حياتي رأيت الإمام (رحمه الله) يودع زائراً ولم يقم احتراماً له، إذ كان (رحمه الله) يقوم لكل قادم ومودع، ولو كان طفلاً صغيراً، واليوم أراه مغيراً أسلوبه المميز.

وبعد أن غادر حاجي باشي منزل الإمام جئت إليه (رحمه الله) لإكمال الحديث فقال لي -والاضطراب ظاهر في وجهه الشريف-: إن حاجي باشي إما كاذب وإما أنه لم يذهب إلى بني صدر ولم ينقل الخبر إليه.

وأردف قائلاً: خرمشهر ستسقط لا محالة!.

وكان كما قال (رحمه الله) بعد يومين أو ثلاث!.

وسقطت خرمشهر والقتلى في كل مكان، حتى المناطق المقدسة كالمساجد لم تسلم من القصف والدمار وكذلك نسخ القرآن الكريم.

ورأيت كيف انقلبت الموازين على بني صدر وماذا حصل له، بعد تلك التأييدات التي حصل عليها من قبل السيد الخميني (رحمه الله) إلى أبعد الحدود.

ولا أنسى الحوار الذي دار بين الإمام الشيرازي (قدس سره) وأحد كبار الحوزة من المرتبطين بالدولة آنذاك، والتاركين العمل  السياسي اليوم.

فقد اعترض على الإمام (رحمه الله) وقال له: كيف تتعرض لبني صدر وهو مقرب من الإمام الخميني وهو اليوم رئيس الجمهورية و.. وهل بينكم وبينه شيء؟.

فأجابه (رحمه الله) بالقول: وهل بيننا وبين الشيخ الطوسي والشيخ المفيد (قدس الله أسرارهم) وغيرهما من الأعلام شيء عندما نناقش آراءهم وأفكارهم؟.

وأضاف: الحوزة العلمية تفتخر على طول الدهر باستقلاليتها وحريتها. وفي الحديث الشريف: (إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه وإلا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين).

وبعد فترة سألته (رحمه الله) عن مصدر الخبر في قضية خرمشهر، فقال: المتابع للإعلام يفهم ماذا سيحصل وفي أي بقعة من الأرض.

وقد حدث لي مرات عديدة أن سألته عن مثل هذه الاخبار، فأجابني بمثل ذلك الجواب، ولا أشك في كلامه، إذ ثبت لي وبالدلائل والبراهين صحة كلامه.

إلا أن ما يختلج في صدري ولم أحصل على جواب له كلام سمعته من المرحوم السيد محمد السبزواري نجل المرحوم المقدس السيد عبد الأعلى السبزواري (رحمهما الله وقدس سرهما) فور قدومه إلى إيران نقلاً عن والده: إن السيد محمد و.. (لا أذكر اسم الثاني ما دام حياً) عندهم من العلوم الغريبة والأذكار والدعوات قل نظيرها في العصر الحاضر.

ولذلك كان يقول (رحمه الله): إنه حجة.. اعرفوا قدره.

وسألت الأمم الشيرازي (قدس سره) عن كلام السيد السبزواري، فكان يتهرب من الجواب دائماً.

فسلام عليه يوم ولد ويوم مات مظلوماً (بما للكلمة من معنى) ويوم يبعث حياً.

 

الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

العــدد 69

إتصــلوا بـنـــا