مقالات |
قراءات في مبدأ اللاعنف عند الإمام الشيرازي (قدس سره) |
الدكتور علي محمد بن يحيى - اليمن |
تميز آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره) بنظرته الدقيقة تجاه معضلات العصر الكبرى والتحديات التي تواجه البشرية، فكانت أفكاره تأخذ مجرى يصبّ في خدمة الإنسان ومحيطه الكوني.. كان دائماً يقدم في معالجاته تلك المعضلات ما يؤكد على مبدأ اللاعنف في حلول كل الإشكاليات التي تخص الإنسان ومحيطه. ونحن نشاهد ونسمع اليوم الصرخات المسعورة من قبل مفكرين وكتاب ومؤسسات سياسية وإعلامية وعسكرية غربية تضع الإسلام والحضارة الإسلامية كعدو أساس في الساحة العالمية للمدنية الغربية، وبهذا فإن كل هذه المؤسسات تطالب بالحرب ضد الإسلام، كما يقول برنارد لويس حول حتمية الصراع بين الإسلام والغرب: (أمام طبول العنف التي تدق من هنا وهناك كان صوت قوي إسلامي ذا مستوى رفيع) هو رأي السيد الإمام الشيرازي (قدس سره) حول اللاعنف كنظرية مرجعية متجانسة تناول المنطقي والعملي. وقد عرّف الإمام الشيرازي (قدس سره) اللاعنف بقوله: (هو الطريقة التي يعالج بها الإنسان الأشياء سواء كان بناءاً أو هدماً بكل لين ورفق، حتى لا يتأذى أحد من العلاج) (1). إن دوافع العنف هي من خصائص الدوافع النفسية المرتبطة بمجريات الظروف الحياتية الاجتماعية. هذه الارتباطات تلتقي دائماً مع مظاهر التعصب. فالتعصب من الظواهر السيئة، كالتعصب الديني والعرقي والطائفي.. إلخ، فهو يمثل الخطر المحدق على أمن وسلامة المجتمع، ويؤدي إلى الإخلال بضوابط مسائل الأمن الاجتماعي. وبالمقابل فإن اللاعنف هو مبدأ يقوم على أساس احترام الإنسان، فالإمام الشيرازي (قدس سره) دائماً وباستمرار يدعو المثقفين إلى فهم نوعية الأزمات التي تدور في فلك المجتمع الإسلامي، ليتمكنوا من تزويده بالثقافات ذات الشمولية، فمن خلال الرأسمال المعرفي يتمكن المثقف من استخدام الآليات المعرفية لترشيد الفكرة التي ترفع من مستوى الاستقامة التي تقود المجتمع إلى التخلي عن العنف. وقد كرّس الإمام الشيرازي (قدس سره) جهده في رفض العنف وكل أشكال العسف والعدوان لحل مشكلات الحياة كافة، لأنها تقود إلى مضاعفات على المستوى الفردي وكذا الاجتماعي، فيقول (قدس سره): (إن السلام يصل بصاحبه إلى النتيجة الأحسن، والمسالمون يبقون سالمين مهما كان لهم من الأعداء)(2)، ويستطرد في شرح هذا المبدأ (اللاعنف) بإطلاق الحريات داخل المجتمعات فيقول (قدس سره): (نحن على يقين تام من أنه إذا رجع المسلمون إلى الحريات الإسلامية، انفضّ الناس من حول الغرب واتجهوا نحو الإسلام، لأنهم سيكتشفون عظمة الإسلام، وسيعرفون أن الحرية التي في الإسلام لا يحلم بها أي إنسان، لأن الأصل في الإنسان الحرية، ولأن المجتمع الفاسد يلزم هدمه من أصله، وبناء مجتمع جديد من الأساس. لأن المجتمع الذي تكثر فيه حالة الظلم، لابد وأن تكثر فيه الاضطرابات المختلفة). فالمتتبع لنتاج وفكر الإمام الشيرازي (قدس سره) عبر مسيرته التاريخية الفنية يلاحظ أن الإمام(قدس سره) يسير مع حركة التطور التاريخي لبناء مبدأ فكري يقود إلى تغير كبير وناجع في حركة المجتمع البشري في كل مجالات الحياة، ومن هذا المنطلق الفكري يعتبر الإمام الشيرازي (قدس سره) أحد المؤسسين في القرن العشرين والواحد والعشرين لمبدأ اللاعنف واستخدامه في حل المشكلات الأكثر تعقيداً في الحياة البشرية والكونية وتدفعه نحو آفاق الإبداع والتطور، وهو دائماً يؤكد على مبدأ اللاعنف كحقيقة قطعية بدون شك في الدين حيث يوضح ذلك بقوله: (إن الأصل في الإسلام السلم واللاعنف)(3)، ولن يثبت مبدأ اللاعنف إلا بإطلاق الحريات التي ترسخ قواعد النمو والازدهار والتطور، كما يقول الإمام علي (ع): (الله الله في القرآن لا يسبقنكم بالعمل به غيركم). نحن نتفق مع الرأي الذي يقترن بالشمولية والاستيعاب لجل متطلبات الحياة، ويدوّنها السيد الإمام الشيرازي (قدس سره) في هذه الكلمات: (الحرية التي منحها الله سبحانه وتعالى للإنسان وقررها الإسلام في غير المحرمات تقتضي وجود كل الأشكال المتقدمة للمؤسسات والمنشآت في الحياة العملية للتجمعات وقيامها بالأوجه المختلفة من النشاط، هذا بالإضافة إلى حاجة الإنسان إلى كل تلك الأشكال، مما يمكن أن يساهم في تقنين الحياة بمختلف الأبعاد)(4). فالحرية هي عدم شمول التضييق في أفق الإنسان والذي يسبب تضييقاً على الذات في الحياة، ويفقد الإنسان المجالات الرحبة للسير والتقدم. ويوضح السيد (قدس سره) بشكل دقيق مبدأ اللاعنف عندما يقول: (على الذين يريدون تطبيق الإسلام أن يتحلوا بملكة السلام واللاعنف)(5). وفي مداخلاته الفكرية الكثيرة ظل الإمام (قدس سره) على يقين تام من إصلاح الغرب. وأنسنة المدنية الغربية، من خلال مبدأ اللاعنف الذي سوف يكون له حضور فعّال في حياة المجتمع الغربي، حيث أوضح سماحة الإمام (قدس سره) ذلك بقوله: (الغرب ومن في فلكه أناس قابلون للهداية، فإنهم بشر والبشر بفطرته يحب الخير لنفسه ولغيره، ووجود ظواهر التعصب فيهم لا يدل على أنهم متعصبون.. ودليل عدم تعصبهم قبولهم للمسيحية مع أن المسيح (ع) كان شرقياً وليس غربياً)(6). وفي موضع آخر يقول السيد (قدس سره): (من اللازم على المنظمة العالمية التي تريد نجاة الغرب، عدم الاهتمام بالجانبيات والجزئيات، حتى بعض الانحرافات في داخل المسلمين، كما يلزم عدم الدخول في الصراعات السياسية والعقائدية والاقتصادية والحدودية، بعضها مع بعض، فإن الأمور الصغيرة تمنع تمكن الإنسان من الأمور الكبيرة)(7). والإصلاح الذي يهدف إليه السيد الشيرازي (قدس سره) هو ذات طبيعة شمولية تطال سائر مناحي الحياة، وإن حقيقة هذا الطريق صعب جداً وليست عملية سهلة، ولكنها ستأخذ دورتها الحياتية، كون العنف، كظاهرة على المستوى الفردي أو في أوساط المجتمع، ما هو إلا خلل داخل التكوينات نفسها، مما يقود إلى استخدام العنف. منطلقاً من أن هذا هو المسار والأسلوب الذي يحقق له أهدافه التي يرمي ويخطط لها. ومما وصل إليه التطور في الحياة داخل المجتمع الغربي، نجد المسؤولين في هذا المجتمع يصرحون بأن السبب في حجم المعوقات الموجودة يعود إلى سعة التطور المدني السريع وما يفرزه من مضاعفات كبيرة. ويلفت السيد الإمام (قدس سره) الانتباه إلى هذه النقطة بقوله: (المصلح يحتاج قبل كل شيء إلى صدر رحب، وإرادة قوية، وعزيمة صخرية، وذكاء ثاقب، وصدق لهجة، وحلم واسع، وعدم اليأس)(8). إن مبدأ اللاعنف وطرحه في المجتمعات الأخرى لا يفرض بالقوة المادية أو الإرهاب المعنوي، بل بإيجاد شكل ما انطباقي من ذوات متشابهة المصنفات المادية، ذات بعد إنساني في حركة ديناميكية متجسدة في شخصيات إنسانية ذات رجاحة عقل ووعي، من خلال بلورة الأفكار المناسبة، وإعطاء المساحة الكافية للحوار الحر بحيث تؤثر الأطراف بعضها في بعض، وتتفاعل به الأفكار التي لا تتناقص مع وجود التجمعات ذات الطابع الاجتماعي وحتى السياسي، والتي تتحمل الجميع، وتؤمن وتحفظ وسائل المعيشة. وللسيد الإمام الشيرازي (قدس سره) قول جميل في هذا السياق يعبر عن العمق الفكري فيقول: (إن الإنسان هو الذي يستخدم العنف منذ هابيل، والهدف هو تدمير ذاته، وحين تقمع وتقهر الآراء بواسطة أدوات القمع من أجل إلغاء وتغييب بعض الأفكار، تزدهر أساليب العنف في المجتمعات). ويلتبس على الكثير وخاصة في ما يجري اليوم من أحداث كبيرة على مستوى الساحة العالمية، وقد تغيب الفكرة الحقيقية حول ما يقصده الإمام الشيرازي (قدس سره) من مبدأ اللاعنف، وخاصة فيما يتعلق بالقضية المحورية للعرب والمسلمين (قضية فلسطين)، ولكن للسيد مواقف واضحة جداً حيال هذه القضايا مدوّنة في خطبه وكتاباته وفتاواه التي تؤكد معرفته التفصيلية الدقيقة بشأن قضية الصراع العربي الإسلامي مع الكيان العنصري الصهيوني الغاصب لأرض فلسطين. فالسيد الإمام المرجع الشيرازي (قدس سره) هو في طليعة المراجع الذين قدموا للقضية - قضية الصراع العربي الإسلامي مع العدو الصهيوني - مساهمات علمية وعملية تبين طبيعة خطورة هذا الاستعمار الصهيوني ومشروعه التوسعي في ديار الإسلام، كما أوضح سماحته السبل التي يجب على المسلمين اتخاذها للوقوف بوجه هذا المشروع الصهيوني- الغربي المعاصر، على النحو التالي: 1- الخروج من التخلف الحضاري. 2- التحرر من الاستبداد السياسي والظلم الاقتصادي الداخلي. 3- الانطلاق في مجال الإبداع وتحرر المسلمين كافة من مظاهر التبعية الاقتصادية والسياسية للنظام العالمي الاستعماري. ولقد كشف السيد الشيرازي (قدس سره) أطماع وأهداف هؤلاء المغتصبين لأرض فلسطين في كتابه القدير تحت عنوان (هؤلاء اليهود) إسهاماً منه في توضيح القضية بكامل أبعادها للمسلمين، وتبيان المآرب الاستعمارية المعاصرة في الوقت الراهن. وله الموقف الجليل (قدس سره) عبر إصدار فتواه الحاسمة التي تحرم (بيع أو شراء البضائع الإسرائيلية)، وعندما قامت إسرائيل بالاعتداء على جنوب لبنان أجاز (قدس سره) دفع نصف الحقوق الشرعية لأهالي هذه المنطقة. وأخيراً فإن تصفح سجل حياة واحد من قادة الرسالة الإسلامية في عصرنا هذا، وركن من أركان الدعوة لخلاص البشرية من العنف الذي يمارس ضدها، هو عملية معقدة خاصة وأنت مقيد بكم من الكلمات المحدودة، لتعالج نظرية كبيرة جداً في فكر السيد الإمام الشيرازي(قدس سره). هنا ندعو إلى المزيد من ممارسة مبدأ اللاعنف على كل مستويات الحياة!.
المصادر: (1) الإمام الشيرازي: إلى حكم الإسلام، طبعة دار القرآن - قم. (2) الإمام الشيرازي: السبيل إلى إنهاض المسلمين، مؤسسة الفكر الإسلامي - بيروت 1992. (3) الإمام الشيرازي: ثلاثة مليارات من الكتب، بيروت 1998. (4) الإمام الشيرازي: فقه الإدارة، ج1، بيروت 1998. (5) الإمام الشيرازي: حكم الإسلام بعد نجاة الغرب، بيروت 2001م. (6) الإمام الشيرازي: كيف نجاة الغرب، مركز الرسول الأعظم (ص) - بيروت 1999. (7) الإمام الشيرازي: مقالات، مؤسسة المجتبى - بيروت 2000. (8) الإمام الشيرازي: هل سيبقى الصلح بين العرب وإسرائيل، ط1/ بيروت 1997. |