صور من الذاكرة |
||||
كذلك كان.. وكذلك فلنكن |
||||
آية الله السيد مرتضى الشيرازي |
||||
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله الأمين وآله الطيبين الطاهرين.. قال الله العظيم: (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب) (يوسف: 111). وقال تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأنّ الله لا يضيع أجر المؤمنين) (آل عمران: 169-171).
قبل أن نبدأ.. لابد أن نتوقف قليلاً لنتسائل ولنتأمل: إذا كانت مجرد رحلة عادية من قطر لآخر تحتاج إلى إعداد واستعداد، وإذا كانت الرحلة إلى (كرة أخرى) تحتاج إلى استعدادات استثنائية هائلة.. فكيف إذا كانت الرحلة رحلة إلى منظومة أخرى؟!! بل وكيف إذا كانت الرحلة رحلة (بل قفزة ونقلة نوعية) من عالمٍ إلى عالمٍ آخر يختلف عن عالمنا بكل المقاييس؟!.. لابد أن تكون الاستعدادات استثنائية بكل المقاييس.. ولابد من مرشد ودليل وهاد وأسوة وقدوة.. ولقد كان الراحل العظيم المقدس المجدد الشيرازي (قدس سره) النموذج المتميز في الإعداد والاستعداد لهذا الانتقال النوعي ولذلك التحول الجوهري. بل لقد غطت هذه الاستعدادات مساحة عمره كلها، واستوعبت كافة محطات حياته، فكانت كل ساعات حياته - منذ طفولته وحتى وفاته - إعداداً واستعداداً لتلك الرحلة الأبدية. ولذلك كان (رضوان الله تعالى عليه) خير مرشد ودليل، وخير هادٍ لنا وللأجيال..
* كان لا يعرف مقياساً غير (الحق) و(رضى الرب).. وكان كلما عرض له أمران في أحدهما الشهرة أو الرئاسة أو القوة والمكنة، وفي الآخر رضى الرب، والوظيفة الشرعية، يضرب بالشهرة والرئاسة و.. عرض الحائط ولا يبالي. * كان متواضعاً للناس.. متواضعاً للعلم.. متواضعاً للعمل، بل كان فريداً في تواضعه للناس.. حتى عوتب، وفي تواضعه للعلم والعمل.. حتى أرهق ومرض أو جُهل وجُحد.. * كان كتلك (الأرض) السهلة الذلول السمحة لعامة الناس، لأصدقائه ولأعدائه الشخصيين على حدٍّ سواء. * وكان - في الوقت ذاته - (الصخرة الصماء) و(الجبل الراسخ) الذي حطم كبرياء الجبابرة وسخر من جبروت الطغاة.. كان يحادث المستضعف الفقير، ويفسح مجال النقاش والمشاركة حتى لمن يصنف من الدرجة الرابعة والخامسة من الناس، وكان يرفض في الوقت ذاته أن يزوره الطاغية!!. * كان ذلك (العابد المتبتل) طوال عمره، كما كان ذلك (الثائر المناضل) طوال حياته.. استهل حياته بالانطلاق إلى مسجد السهلة، وواصل رحلته في رحاب أهل البيت (ع) حيث قدّر له - بالقدر الذي وصل إلينا - التشرف ثلاث مرات بخدمة ولقاء سيد الكائنات صاحب العصر والزمان (ع).. وختم آخر صفحات سني حياته بالالتزام بعدد من الأذكار، كان منها ذكر لا إله إلا الله ألف مرة كل ليلة، ولمدة ست سنين.. وهكذا ترقى في سلم العبودية من حيث (الباب) التي أمر الله؛ فكان المجاهد الليث الهزبر الذي لا يلين ولا يكل ولا يمل، والذي لا تأخذه في الله لومة لائم.. حتى مماته.. * كان ذلك (الزاهد المتقشف) في ملذات الحياة.. فقد حرم على نفسه لذيذ الطعام، والشراب، والنوم، والنزهة، و.. ليقف كل ذاته لله ولدين الله ولآل الله. * كان ذلك المزيج الفريد من (تفجر العلم).. ومن (انتفاضة العمل).. كان هو (البحر من أي النواحي أتيته)، وكان هو (الكدود في ذات الله) في كل محطات حياته. شاهدته مراراً يستيقظ بعد نوم قصير جداً، ساعة أو أقل أو أكثر، ويستند إلى الجدار - من ضغط الحاجة إلى النوم - ليذهب إلى المتوضأ، ليتوضأ ثم يعود للكتابة والتفكير، وتتخلل ذلك عبادة، حتى الصباح.. * حطم العديد من الأرقام القياسية، وكانت تلك جريرته.. وكان ذلك أعظم ذنبه.. لقد قاسه الآخرون بأنفسهم.. فوجدوا تحطيم أحد تلك الأرقام ضرباً من المستحيل؛ فكيف بمجموعة منها؟! فكان أن نال منه البعض جهلاً، وكال له البعض الآخر التهم حسداً!. ولم يزده كل ذلك - الإنجاز العظيم والتجني السافر - إلا تواضعاً.. وإغضاءً وصفحاً.. وعزيمة ومواصلة. * كان (الأنموذج) في الخلق السامي، ولين الكلام، وسعة الصدر، والعفو عند المقدرة، والسخاء والبذل والعطاء. وكان يرى أن (الأخلاق) هي نتاج (العقل) و(الرشد الفكري) بقدر ما هي نتاج التربية.. وكما هي نتاج الدعاء والتضرع. فغذى (عقله) بالارتواء من كوثر الآيات والروايات وبالتدبر والاستبطان والسير في الأنفس.. وغذى (قلبه) بالرحمة والشفقة والحب لله ولعباد الله. واستمدّ لكل ذلك ولغير ذلك من معين اللطف الإلهي ومن شحنات هائلة ولدتها فترات الانقطاع إلى الله.. والدعوات.. والتوسلات بوسائط الفيض الربوبي: محمد وأهل بيته الأطهار(ع). فأتيح له، لكل ذلك، أن يصوغ (سلوكه)، كما أرشده عقله، وكما ساقه قلبه، وكما حباه به ربه. * أبدع في تفكيره.. كما أبدع في فقهه وأصوله، وأبدع في منهجه.. كما أبدع في سيرته.. فكان (المثال).. حلّق في تفكيره، ونوّع في فقهه، وثابر على منهجه، وتجلى في سيرته.. فكان (الإمام). * كان السبّاق في استنباط الحلول من (النصوص)، واستخراج الكنوز من (التراث).. ولقد أسعفته في ذلك: أ) حافظة جبارة اختزنت الألوف من الأحاديث الشريفة، إلى جوار القرآن الكريم، والكثير أو الغالب من نهج البلاغة والصحيفة السجادية. ب) ومطالعات عصرية مكثفة تجاوزت الستة آلاف كتاب في شتى الحقول (من فلسفة وأدب وتاريخ وسياسة واجتماع واقتصاد وحقوق و..). ج) واستشارات مكثفة أثارت دهشة من لا يعرف أن العلم لا يُنال إلا بالتواضع وأن (المؤمن الحكيم) كلما ازداد علماً ازداد تواضعاً.
وهذه مجرد إشارات عابرة التقطت على عجل من فيض أفكاره وبحار معارفه.. * تحدث عن (روح القانون)، وعن المعادلة الصعبة عند الدوران بين (شكل النص وقالبه) و(روح النص وجوهره)، وأبدع أيّما إبداع عندما اكتشف الطريق الثالث (السهل - الممتنع) بين التمسك الحرفي بالنص أو العدول القسري إلى الروح. * ووضع قاعدة تعد من أهم أسس الاقتصاد السليم عندما أبدع في طرح مسألة (الإكراه الأجوائي) فكان ذلك الدرع الواقي للعمال والكادحين إزاء شره أرباب العمل وطغيانهم (راجع الفقه: الاقتصاد). * كما أبدع عندما عمم (الشبهة) التي تُدرأ بها الحدود، إلى شبهة القاضي - شبهة المرجع - شبهة المتهم - شبهة الشاهد.. وفرّع على ذلك العشرات من النتائج. وكان من أبرز ما استنبطه على ضوء ذلك: عدم جريان حكم المرتد على المرتد الأجوائي، أو حالات الارتداد العام، كما في موجات الشيوعية وغيرها. كما أبدى ملاحظة على التفريق بين المرتد الفطري والمرتد الملّي، وحكم المشهور بعدم قبول توبة الأول أبداً، مستنداً إلى أدلة عديدة منها سيرة الرسول الأعظم (ص) والأمير(ع). * وتحدث عن حقوق السجين، كأعظم حقوقي إسلامي بل كأعظم حقوقي إنساني. وبلور القاعدة الفقهية المعروفة (الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم) إلى (الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم وحقوقهم) معتبراً أن السلطة على الحق تنتزع من الحديث الشريف (لا يتوى حق امرئ مسلم) كما أن السلطة على النفس انتزعت من قوله تعالى: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم). وذكر للسجين أكثر من أربعين حقاً، وكان من أروع ما ذكر: - للسجين الحق في أن يزاول كافة حقوقه (إذ هو سجين بجسده وليس سجيناً بحقوقه) فعلى الدولة أن توفر - من بيت المال - للسجين، إذا كان أستاذاً جامعياً أو عالماً، كافة ما يمكِّنه من مواصلة بحوثه ودراساته، وشتى مستلزمات تدريس طلابه (قاعة دراسية في السجن، أجهزة كومبيوتر.. إلخ) ولا يحق للدولة أن تحرمه وتحرم المجتمع من عطائه. وعلى الدولة أن توفر للسجين، إذا كان كاسباً أو تاجراً، كافة ما يمكّنه من ممارسة تجارته (أجهزة فاكس - تلفون - إيميل.. تردد زبائنه عليه في السجن.. إلخ) إذ هو سجينٌ بجسده، فلماذا يمنع من ممارسة سائر حقوقه؟ هذا فضلاً عن أن ذلك يعد عاملاً أساسياً في دوران عجلة الاقتصاد. وعلى الدولة أن تسمح لعائلة السجين بزيارته كل يوم وفي كل وقت، بل أن تمكث وتبيت عنده.. وذلك حقٌ له وحقٌ لهم. * كما عالج الكثير من المستجدات المعقدة المعاصرة في ظل تقلب الأسعار، وانهيار العملة، والخلافات الاقتصادية - الاجتماعية الناجمة عن كل ذلك. وكان من أبرز ما استنبط، مسائل كثيرة في أبواب (الدَّيْن) و(الخمس) و(النكاح: المهر نموذجاً)... فما هو الحكم - مثلاً - لو كان زيد مديناً لعمرو بألف دينار ثم - وفي مرحلة الوفاء - اكتشفا أن القيمة الشرائية للألف حالياً هي خمسمائة؟ وماذا لو وعد أحدهم امرأةً بمهر مؤجل قدره ألف، وقوته الشرائية دار، وعند التسديد كان للألف عشر القوة الشرائية السابقة؟ وماذا لو سقط النقد بالمرة أو عن أغلب قوته الشرائية؟ وماذا لو تضاءلت قيمته فقط وهل يختلف الحكم بدرجة ونسبة التضاؤل والسقوط؟ * ولم يكن المقدس الراحل - في معالجته للمستجدات من الزاوية الفقهية- ليهتم فقط بهذا الجيل بل اتسع نطاق اهتماماته ليفكر ولينظّر، وليخطط للأجيال القادمة، فكان أن كتب (الفقه المستقبل) و(الفقه المسائل المتجددة) والعديد من الكتب الأخرى، وكان من التفاتاته الرائعة أن تحدث في (الفقه المستقبل) عن ثلاثة آفاق مستقبلية، عن مستقبل البشرية في الأفق المنظور وغير المنظور في عالم ما قبل الظهور، وعن المستقبل الممتد على مدى مساحة الظهور، وعن المستقبل الماورائي في العالم الآخر، وعالج العديد من (العقد الفكرية) و(التساؤلات الفلسفية). ومن الزاوية الفقهية فإنه لم يغفل عن وضع الأطر، واقتناص وتخيل المفردات المحتملة، واستنباط الأحكام الشرعية لها.. وكان من أبرز مصاديق ذلك حديثه عن حقوق الأجيال القادمة حيث انطلق - فيما انطلق - من الزاوية الاقتصادية مستلهماً من قوله تعالى: (خلق لكم ما في الأرض جميعاً) العديد من أهم المسائل الاقتصادية التي تشغل بال علماء العصر، ومنها أن استهلاك الثروات الطبيعية - سواء من قبل الدولة أو الشعب - مؤطر بإطار ملاحظة مجموع حق هذا الجيل والأجيال الصاعدة والأكثر محرم نظراً لقوله تعالى (لكم) مع لحاظ أن الخطاب لكل الأجيال على مر الزمن. * كما أبدع أيَّ إبداع عندما عالج أهم قضيتين مصيريتين تعاني منهما المجتمعات الإسلامية، وهما قضية الحرية والشورية، حيث لاحظ أن الأصل في الإنسان، بعد أن اعتبره الإسلام مسلطاً على ذاته - ويعبر عنه بالأصل الثانوي في قبال عبودية الإنسان المطلقة لله - هو الحرية، وأن ما عداها استثناء، وأن موارد الشك يرجع فيها لهذا الأصل الثانوي.. وعالج معادلة التقليد وحكم الفقيه وسلطة الأمة بطريقة تنم عن أصالة متجذرة، وعن مقدرة جبارة على تحدي العقد واكتشاف الحلول.. حيث رأى أن أدلة الشورى (حاكمة) على (أدلة التقليد) في مساحة الشؤون العامة، وأن الأحوال الشخصية هي التي يرجع فيها كل مقلِّد إلى مقلَّده، كما رأى أن كل تصرف في شؤون الأمة سواء في أصل الجعل أو لوازمه وتوابعه يتوقف على رضى الأمة؛ كونه تصرفاً في أنفسهم أو أموالهم أو حقوقهم. (يراجع الشورى في الإسلام - الحرية في الإسلام). * وقد أبدع أيضاً عندما تطرق من الناحية الفقهية إلى المعادلة بين الشيعة والسنة في ظل حكومة إسلامية عالمية واحدة، أو على الأقل في إطار دولة إسلامية معينة. وكان من الأطر التي وضعها، مجلسان فقهيان لعلماء الشيعة والسنة، يحكم كل منهما بأكثرية الآراء في شؤون طائفته، ويكون المرجع فيما يرتبط بكلا الفريقين، أي بكل الأمة، كما في الحرب والسلم والمعاهدات الدولية وشبهها، هو أكثرية مجموع آراء كلا المجلسين، (يراجع: كيف نجمع شمل المسلمين وغيره). * كما كان له رأي مبتكر في القضاء والتمييز والاستئناف. * وتشهد له موسوعة الفقه خاصة (المجلدات التالية من الفقه): المسائل المتجددة، الآداب والسنن، الواجبات والمحرمات، العقل، السنة المطهرة، الإجماع، السياسة، الاقتصاد، الاجتماع، الحقوق، الدولة الإسلامية، القانون، الطب، البيئة، المستقبل، القواعد الفقهية... بالألوف من القواعد والفروع المستنبطة والمبتكرة.
ولشدّ ما أدهش الراحل العظيم العديد من الباحثين حيث وجدوه (أصولياً) كأشد ما يكون (الأصولي) و(أخبارياً) كأشد ما يكون الأخباري، في ذات الوقت! لقد كان بحق الأخباري - الأصولي، في تزاوج فريد حتى أضحى شخصياً (الرمز) لالتقاء الفريقين، وأضحى منهجه الكفيل بعقد الصلح بين المنهجين!!. ولقد كان الأصولي المدقق المتعمق بحق، فأبدع (الأصول).. وكان الأخباري المسلّم لأم الأئمة (ع) بصدق، فأبدع (من فقه الزهراء(ع)) و(الفقه: الآداب والسنن) و.. وكان أن اتخذ منهج (الولاء المطلق) لأهل البيت (ع)، وسلك مسلك الشيخ الطوسي والعلاّمة المجلسي في عدم التشكيك في مطلق ما روي عنهم (ع)، وأبدع في البحث عن (الوجه) و(المعنى الخفي) و(طرق الجمع) لكل رواية. وكان ذلك يقارب ما ارتآه الميرزا النائيني الكبير عندما ذهب إلى صحة كل ما ورد في الكتب الأربعة. لقد عرف أن الدنيا دار ممر: وأخيراً: لقد كانت كافة حلقات حياة الراحل العظيم سلسلة من الشواهد المشرقة على أنه وصل إلى مرحلة (علم اليقين) في معرفة أن الدنيا دار ممر وليست دار مقر، فعاش فيها حياة الزاهد الصادف عن ملذاتها، الكاره لشهواتها؛ وكان له لذلك أن ينجح في كل امتحان صعب مرّ به، وفي كل مفاضلة بين الرئاسة وبين الدين، بين الشهرة وبين الدين، بين الثروة وبين الدين، بين الرفاه والأمن وبين الدين.. وكم عايش الخوف من الظالمين؟! وكم عانى من التعتيم الإعلامي؟! وكم شاهد من صنوف الحرمان والنكران والجحود والهجران؟! لمجرد أنه لم يرض لنفسه أن تهبط من علياء تقواها إلى حضيض عرض الحياة الدنيا. لقد نجح الراحل العظيم (رضوان الله عليه) في امتحان الحياة؛ فربح مجد الأبد.. وخلود الذكر.. ودخل في سجل الخالدين.. وخلّف لنا ثروة من العظات والعبر.. وها نحن وامتحان الحياة الصعب.. فما نحن صانعون؟.. والأيام تمضي سراعاً.. والدقائق تفترس أعمارنا.. وأنفاسنا خطواتنا إلى آجالنا.. فأي طريق ننتخب، وأي مكان لأنفسنا نمهّد؟!! وإن غداً لناظره قريب.. والأمل بالله العظيم وبرسوله الكريم وآله الغر الميامين، بالتقوى والعمل الصالح.. و(إن الله لا يضيع أجر المحسنين). وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين. |
||||