ردك على هذا الموضوع

مقالات

خواطر من السودان.. في ذكرى فقيه الزمان

مكي المأمون - السودان

- توطئة -

حمل العيد قبل الماضي الفاجعة الكبرى للمؤمنين، وهي رحيل المرجع الكبير صاحب (السبيل إلى إنهاض المسلمين) و(إلى حكم الإسلام) الرجل الحسيني الكربلائي عَلَم القرن وحادي ركب الأمة السيد محمد مهدي الشيرازي.

فقبل عام وفي ارض قم المقدسة أرض المعصومة (ع) وملجأ العلماء والحوزات العلمية قبضت الروح الطاهرة بعد سنين طويلة من الجهاد والصبر على الأذى، اقتفى فيها خطى الأنبياء والأوصياء والمصلحين من عباد الله (الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم أيمانا وعلى ربهم يتوكلون)، سنين كان فيها أعظم مصاديق المصلحين؛ نظر فأبصر، وذكر فاستكثر، وارتوى من عذب فرات سهلت له موارده فشرب نهلاً، وسلك سبيلاً جدداً قد أبصر طريقه، وسلك سبيله، وعرف مناره، وقطع غماره، واستمسك من العرى بأوثقها، ومن الحبال بأمتنها؛ فكان من مفاتيح أبواب الهدى، ومغاليق أبواب الردى، مصباح ظلمات كشاف عشوات، مفتاح مبهمات، دفّاع معضلات، دليل فلوات، يقول فيفهم، قد أخلص لله فاستخلصه، قد أمكن الكتاب من زمامه فهو قائده وإمامه، يحل حيث حل ثقله، وينزل حيث كان منزله، وكيف لا يكون كذلك وقد ولد في أرض الأنبياء، وتربى ونشأ في حضن الحسين الشهيد (ع)، يتنسم مع كل صباح رائحة الكفاح، ويشم عبير النضال، يلتحف في شتائه جهاد الحسين (ع)، ويتوضأ بماء الصبر، ولكنه لا يمسح بالخرقة حد السيف، ولا يتعلل بالبرد وحر الصيف، بل يتحسس صلابة الإيمان في تلك البقعة الطاهرة التي شهدت مولده في بيت من البيوت التي (أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، يسبح له فيها بالغدو والآصال، رجال لا تلهيهم تجارة أو بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار)، رجال حملوا راية العلم والفقه الإسلامي، وتحدوا به أعتى الإمبراطوريات في أحلك الظروف التي مرت بها الأمة الإسلامية؛ فحفظوا لها هويتها، أمثال المجدد الشيرازي قائد ثورة التنباك، والميرزا الشيرازي قائد ثورة العشرين بالعراق، ووالده المرجع الراحل مهدي الشيرازي، وإخوانه العلماء الذين قاوموا المد الشيوعي..

في مثل هذه البيوت وُلد المرجع الراحل وفيها زُقّ العلم زقّاً، فصان مصونه، وفجر عيونه فسالت أودية بقدر، وجرت أنهار مداده على الصحائف تشق صحاري التخلف والتقوقع الذي أصاب الأمة الإسلامية؛ فكانت تلك الموسوعة الفقهية التي بلغت المائة وستين مجلداً في شتى مناحي الفقه الإسلامي.

ونحن تمر بنا ذكرى رحيله لابد لنا من الوقوف معها محاولين أن نتزود منها بما يعيننا على شق صحراء هذه الحياة، ونقتبس منها نوراً نستضيء به في ظلماتها؛ وذلك لأن العلماء هم القناديل التي تضيء للمؤمنين، وكما قال الإمام أمير المؤمنين (ع) في وصيته لكميل النخعي: (يا كميل! العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو على الإنفاق، يا كميل هلك خزّان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة) وكما قال أيضاً في نهج البلاغة واصفاً العلماء: (واعلموا أن عباد الله المستحفظين علمه يصونون مصونه ويفجرون عيونه.. يتواصلون بالولاية ويتلاقون بالمحبة ويتساقون بكأس روية ويصدرون برية لا تشوبهم الريبة ولا تسرع فيهم الغيبة. على ذلك عقد خلقهم وأخلاقهم فعليه يتحابون، وبه يتواصلون، فكانوا كتفاضل البذر ينتقى فيؤخذ منه ويلقى، قد ميزه التخليص، وهذبه التمحيص). 

وإذا بحثنا عن مصاديق لهذه الأحاديث في العصر الحالي وجدنا المرجع الراحل من أصدق مصاديقها. وهذا الكلام لا يطلق على عواهنه ولكن الدراسة لحياته وجهاده تقودنا لهذه النتيجة فحياته لو أردنا وصفها في كلمة واحدة لكانت هذه الكلمة هي العطاء، وهذه الكلمة بما تحمله من ظلال تعرفنا بحقيقته (رضوان الله عليه)، وكما جاء في الحديث الشريف: (الناس كلهم هالكون إلا العالمون، والعالمون هالكون إلاّ العاملون، والعاملون هالكون إلاّ المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم).

فكلمة العطاء هي العمل المخلص وهو العمل الذي ينمو وهو الذي يبقى وكما يقول سبحانه وتعالى: (فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال) ونتيجة هذا العطاء المتواصل كانت الصياغة الجديدة للعالم الإسلامي والتي نلمح معالمها في المفاهيم التي تجذرت في عقول الشباب المسلم في أنحاء العالم، مفاهيم الحرية والسلام والأخوة الإسلامية والأمة الإسلامية.

كيف ندرس حياة العلماء:

دراسة حياة العلماء تشمل جوانب كثيرة، فهي قد تهتم بدراسة نتاجهم الفكري أو جهادهم أو أخلاقهم وهذه كلها جوانب لاشك لها أهميتها في التعريف بالعلماء، ولكن يبدو لي أن أهم جانب من الدراسات هو الجانب الذي يهتم بتأثيرهم في واقع أمتهم؛ لأن ذلك التأثير هو في الواقع الثمرة العملية لكل الجوانب المذكورة آنفاً، فبقدر النتاج الفكري وبقدر الجهاد وبقدر سمو الأخلاق تكون النتيجة؛ فما قدر إسهام الإمام الراحل في هذا الجانب؟ وكيف يمكن أن نتعرف على مقدار إسهامه فيه؟.

هناك عدة طرق يمكن أن نتبعها في الدراسة حتى نتعرف على التأثير الكبير الذي تركه المرجع الراحل في حياة الأمة الإسلامية وفي طريقة تفكيرها وتعاملها مع الأحداث المستجدة في حياتها، والاتساع الذي خلقه في فضاء المرجعية، ولكن نختار هنا أن نقوم بدراسة نتائج أعماله عن طريق القراءة لبعض النصوص الأدبية التي رثاه بها بعض مريديه؛ وذلك لأنه من المعروف أن اللغة هي الوعاء الحقيقي لثقافة الشعوب وبالتالي هي المستودع الحقيقي للتعبير المتكامل عن مستوى الوعي والإدراك للواقع المحيط والناقل الأمين للمعاني التي يستبطنها الفرد تجاه الذات والآخرين، والشعر في اللغة العربية زبده المحض في جانب التعبير عن الاتجاه الحضاري للأمة.

هناك مجموعة من المقدمات يجب أن نقدمها بين يدي هذه القراءة، أولى هذه المقدمات هي الواقع التاريخي الذي بدأ فيه الفقيد الراحل (رضوان الله عليه) نشاطه، والثانية أسلوبه في العمل، والثالثة كيفية استخراج الشاهد من النصوص الأدبية على تأثير الإمام الراحل في صياغة أفراد الأمة من حيث التعبير الذي يستبطنه النص تجاهه.

بدأ الإمام الراحل (رضوان الله عليه) نشاطه الديني والأمة الإسلامية تخرج من مرحلة الاستعمار الغربي الذي حل بثقله على معظم الدول الإسلامية، وعند رحيل الاستعمار خلف تركة ثقيلة في نفوس الأمة تمثلت في التغريب الثقافي للأمة في جانب، والبدائل الكرتونية والوهمية التي خلقها الاستعمار، وحاول النفخ فيها لتبقى حية تخدم مصالحه في الجانب الآخر والتي عبرت عن نفسها في شكل الدعوة إلى القومية سواء كانت القومية العربية أو بقية القوميات التي يتكون منها العالم الإسلامي، والتي تمثل في مجملها دعوة لتقسيم العالم الإسلامي؛ لذلك نجد اتجاه السيد من خلال عمله الدعوي إلى تجذير مفهوم الأمة الإسلامية، والدعوة إلى شكل من العلاقة بين المسلمين مصبوغ بطابع الاخوة الإسلامية، وطرح الهموم الإسلامية كهم واحد عرضه بعرض تواجد المسلمين. ويكفي للاستدلال على اتجاهه ذلك بقراءة لعناوين كتبه مثل (السبيل إلى إنهاض المسلمين) و(إلى حكومة الألف مليون مسلم) و(إلى حكم الإسلام) أما عن المضامين الداخلية لهذه الكتب وغيرها من مؤلفاته فهي قاطعة في الدلالة على ما ذهبنا إليه.

أسلوبه ووسائله  في العمل:

التركيز الأساسي له (رضوان الله عليه) كان على تحمل أفراد الأمة الإسلامية لمسؤولياتهم وذلك عبر مؤلفاته ومحاضراته وعبر تربيته للخطباء وكان يركز على العمل؛ ذلك لأن العلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل، وكان (رضوان الله عليه) نموذج لتلاميذه وقرائه حيث كان يهتم بعامل الزمن اهتماماً كبيراً، وكما نقل عنه تلميذه وابن أخته المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي قال: قلت له: (سيدنا! عمّال المطبعة يشتكون من صعوبة قراءة خطك، فلو تزيده قليلاً أو تجعله أسمك من ذلك) فأجابه (رضوان الله عليه): (تصور معي لو مثلاً زدت الألف الذي أكتبه مليمتراً فكم من الزمن تكلفني هذه الزيادة، لو ضربت هذه الزيادة في عدد الكلمات التي أريد أن اكتبها ثم في عدد الكتب التي أريد أن أؤلفها) وعلى هذا يمكن أن تقيس مدى اهتمامه بعامل الزمن والوقت في حياته. ونتيجة ذلك ظهرت في العدد الكبير من المؤلفات والتي بلغت عناوينها فقط ألف عنوان.

وكما يقول الإمام أمير المؤمنين (ع): (من نصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه) وهكذا كان (رضوان الله عليه)، لذلك نجح في تربية أعداد كبيرة من التلاميذ اتخذوه قدوة لهم. ويمكن رصد أسلوبه في الخطوط التالية:

- الاهتمام بتوضيح القدوات الحقيقية للمسلمين والمتمثلة في أهل بيت العصمة صلوات الله وسلامه عليهم، وتجد في كتبه رصداً دقيقاً جداً لشؤون الدولة في حياة الرسول الأعظم (ص) وفي زمن الإمام علي (ع).

- الاهتمام بالتاريخ ورصد حركته وإظهار سننه.

- الاستدلال للأفكار التي يطرحها بالقرآن والسنة الشريفة وسيرة أهل البيت (ع) ونماذج من القصص التاريخية القديمة والحديثة.

- الاهتمام بالنماذج الإنسانية الإصلاحية والتي استفادت من ما يدعو له الإسلام وحققت به النجاح.

- البساطة في الطرح حتى لا تكون العلوم الإسلامية حكراً على طبقة معينة وبالتالي تحميل المسؤولية على كل المسلمين.

كيفية استخراج الشاهد على نتائج أعماله من النصوص الأدبية:

مما يرسخ في ذهني من الدراسات النقدية الأدبية ما درسناه في السودان في المدارس الثانوية وذلك من خلال دراستنا لكتاب شوقي ضيف عن أحمد شوقي وفي باب (الصناعة في شعر شوقي) فقد قال الأستاذ بعد أن ضرب مثالاً بقصيدة لشوقي يرثي فيها أباه: (إن هذه القصيدة من شاعر في حجم شوقي من المفترض أن تبكي كل من فقد أباه في هذا الفصل الدراسي..) ولكن واقع القصيدة على ما تسعفني به الذاكرة لم يحرك في الحاضرين ساكناً وذلك لأن القصيدة جاءت خالية من العاطفة، وعلل الأستاذ ذلك بأن شوقي في حقيقة الأمر لم يعايش أباه حتى تنشأ بينهم علاقة عاطفية. وهذا أثر بلا شك على قصيدته. هذه المقدمة تقودنا إلى أمور هامة في مجال استنطاق النصوص الأدبية في مواضيع الرثاء وهي:

1- لابد للراثي من علاقة مع المرثي، ومع قوة هذه العلاقة يزداد أثر القصيدة عند المتلقي.

2- معرفة الراثي الوثيقة بالمرثي.

3- نوعية العلاقة بينهما من حيث البساطة والتعقيد.

أثر السيد في حياة الأمة الإسلامية:

استطاع السيد (رضوان الله عليه) كما أسلفنا أن يترك أثراً كبيراً في حياة الأمة الإسلامية تمثل في الآتي:

بما أن الفترة التاريخية التي طرح فيها السيد أطروحته الفكرية جاءت بعد بدء رحيل الاستعمار المباشر من العالم الإسلامي، وظهور الأطروحات القومية، فقد ركز السيد على الجامعة بين العالم الإسلامي؛ لذلك سعى لترسيخ مفهوم الأمة الإسلامية وكان يتعامل مع العالم الإسلامي كوحدة واحدة. وكتطبيق عملي لهذه الأطروحة لم يملك (رضوان الله عليه) جنسية، كما كان سماحته موسوعة علمية في تاريخ وجغرافيا البلدان الإسلامية، وكان يدهش زواره بالمعلومات الدقيقة التي ينقلها لهم عن بلدانهم وأحداثها السياسية ورموزها التاريخية، وهو يعبر بذلك عن هم كبير يشغل حياته، واستطاع أن ينقل هذا الهم لكل من التقاه أو طالع مؤلفاته أو سمع محاضراته.

ونتيجة لهذا ظهر قطاع كبير من الأمة صاحب اتجاه أممي في تفكيره وانتشر في العالم الإسلامي عدد كبير من المؤسسات والمراكز مرتكزةً على هذا الفكر الأممي، وتحولت بذلك الشعارات إلى واقع عملي عاشه قطاع كبير من المؤمنين باتساع العالم الإسلامي من آسيا وأفريقيا وأوروبا وأمريكا.

ساعد على نجاح هذه المشاريع علاقة حب ومودة بين المؤمنين وقيادتهم، وكما قال أحد العلماء عن الحب (ليس الحب أن ينظر الحبيبان أحدهما إلى الآخر ولكن الحب أن ينظرا في اتجاه واحد) وهذا هو الحب الذي جمع بين الإمام الراحل ومقلديه، وهو الهدف المشترك والوجع الواحد، وكما قال أمير المؤمنين (ع): (إياكم والشكوى لمن لا يستمع نجواكم). ولذلك اتخذ المؤمنين الإمام الراحل قبلة لنجواهم، وليست هذه الصرخات التي ضج بها العالم الإسلامي لفراقه إلا أصدق دليل على ذلك.

لمَا الرحيل أسرعت للتابوت تنعانا وتترك صرحنا متعفراً

لمَا الرحيل وأنت خطوك قبضة من ترب حيدر كيف يقبضك الثرى

هذه الصرخة التي أطلقها عبد العزيز الحرز وجدت صداها في العالم الإسلامي وجاوبها المؤمنون بالدموع؛ لأن حالة من اليتم شعر بها المحبون. ولأن الإمام كان هو القائد المتأسي بأهل البيت(ع)؛ فهو كما يقول الشاعر:

لمَا الرحيل وأنت واعية الحسين فعد وخذ أرواحنا كي تنصر

لمَا الرحيل وأنت تصدع بالصلاة وكنت عنواناً لها

ولكن هل السيد شخص يرحل أو يفنى؟ يجيب الشاعر بفهمه العميق بأن السيد مشروع لا يمكن أن ينتهي فيقول:

 الموت لا يأتيك والكفن الذي زعموا يلفك واهم لمن افترى

القبر يملأونا وأنت الحي          فابكي الآن وحشتنا التي لن تقبرا

 

* أو كما قال شاعر آخر في رثائه (رضوان الله عليه):

فمن أعمل الروح لن ينتهي           وهل تنتهي رحلة السرمد

 

* أو كما يقول محمد أمين أبو المكارم:

فإذا رحلت فأنت صوت قلوبنا         لمّا يزل متجدداً تغريدا

وعلى هدى الرايات صوتك بيننا          حرٌ ووجهك لا يزال رشيدا

 

* وكما قال الشاعر الشيخ عبد الأمير النصراوي:

قولوا يعيش وإن يمضي به الزمن  

قـــولوا يـــعيش فــإن الموت غيبه

قـــــولوا يعيش لأن القلب مضجعه

قــــولوا يـعيش وإن غابت ملامحه

بــحـر تـــوارى عن الأنظار غامره

  نــــجـم الفـقاهة من تحيا بـه السنن 

لــكــن سيــبـقى وإن حفّت به الفتن

فــهــو المـــلاذ لــنـا منجى ومؤتمن

ذو الـمجد يبقى ومن في خلقه حسن

لــكنه الــقـطر قـــد عادت به المزن


* وكما قال الدكتور أحمد المطوع:

باقٍ على مر العصور مخلد        يسمو الزمان به ويعلو الفرقد  

ومنوّر الدنيا بوهج شعاعه             هيهات يخبو نوره المتوقد

هذه النماذج تظهر بوضوح تام أنه (رضوان الله عليه) كان يمثل مشروعاً للمؤمنين، ويقيناً أن الإسلام لن ينتهي وذلك لأنه يخلد علمائه الربانيين، ولكن الإمام الراحل كان نموذجاً متفرداً من حيث هذه الطفرة التي أحدثها في العلاقة بين المرجع ومقلديه. ويعبر عنه الشاعر معللاً سر بقائه بأنه خلق في الأمة هذا النموذج الذي تحدث بلسانه الشاعر:

لا ليس منا من يصول إذا خلا 

لا ليس مــنا مـن يعض بلحمه

لا لــيـس مـنا من يفرق جمعنا

لا لـيس مــنا مــن يذوب تكبراً

لا لــيس مــنا من يسير وخلفه

  ومــــع الأعـــادي خـائراً رعديدا

(ويبوس) كــفّــاً بــائساً وبـعــيـدا

طـمـعـاً وخــوفــاً ذلــة ومـــزيــدا

حـسـداً متى احترم الأنام حسودا

خــــفـــق الــنــعال مردداً تمجيدا

        

وهي صفات المرجع التي خلفها في أتباعه وشهد بها أعداؤه قبل أصدقائه؛ ولذلك كانت فاجعة فقده على المؤمنين كبيرة، واختلط فيها الفقد العام بفقد خاص، ونجد هذين الفقدين يتزاحمان في التعبير عن نفسيهما، وكل القصائد التي كتبت في رثائه (رضوان الله عليه) تجد هذا التمازج الذي يصعب عليك تفكيكه، وهذه العلاقة المعقدة هي التي أكسبت النصوص الأدبية الصدق الذي سيرسم لها بلا شك طريق الخلود، وكما أسلفنا فإنه كلما كانت العلاقة معقدة كلما أكسبت النص ثراءً؛ فالعلاقة الميكانيكية البسيطة تعبر عن نفسها بشكل تقليدي وتكون النتيجة اجتراراً لمعاني وكلمات استهلكت في الشعر العربي. ونتناول نموذجين من القصائد ولا اُدّعي أني قد أحطت بكل المرثيات، ولكن هاتين كافيتين في توضيح ما أردنا قوله في هذا الجانب:

ألا يــــا أيـــهـا العـملاق

ويـــا نــيــفــاً وســبعـيناً

ويــــا مـــن وقــع خافقه

كـــأنـي بـــعـــض أوردةٍ

عـــلى رؤياك ذبت هوىً

  فـــي فـــــكـر وفـي قلم

مـــن الآهـــات والألـم

عـــلى خـفـقـانه نـغمي

فــيــه ومن دمائه دمي

جــنــونـياً جــرى بفمي

      

هنا تبرز الفاجعة وكأنها هم خاص تفرد به الشاعر، ومناجاة مملوءة بالشجن، ولكن سرعان ما يتحول إلى حزن عام:

وكنت العين عين القلب            قلب الأمـــــــة المفعم

والتمازج العجيب بين الإمام الراحل والأمة يجعل الأبيات التي تنعاه هي عينها التي تنعى الأمة:

كــــيــف تـــنام والإسلا

نــعــم يـــا ســابـق الأيا

تــحــيـات الإلــــه عـليـ‍

أصــبــنــا إذ تـوقف منـ‍

  م يصرخ قد أريق دمــي

م والأقــــدار والــهـمــم

ـــــك أيــــهــا الأمـــمـي

ــــك نـبض القلب والقلم

 

وأما قصيدة ياسر الغريب (بكائية على سدرة الفرقد) فهي تمثل النموذج الأكمل في ما أردنا توضيحه حيث يظهر بوضوح التقاطع بين العام والخاص، خاصة وأن القصيدة تميزت بموسيقى خاصة ملأى بالشجن أنتجتها تلك العلاقة الخاصة التي ربطت المرجع الراحل بمقلديه ولأن الجامع بينه وبينهم كان مشروع يتخطى مساحة الدنيا الفانية ويسلب كيان المؤمن به، لأنه يخاطب الفطرة الإنسانية، وهو حب القائد الذي أسلم وجهه لله ولم تشغله توافه الأمور، قائد تأسى بمحمد وآل محمد (ص) والقصيدة تبدأ بصرخة جمعية يملؤها الحزن:

بــكى العــيـد في المنتدى الأسود

وأواه إذ نـلـتـقي هــــــــا هــنــــا 

ونـــســعــى مع الحزن في دورة

  نـــحيــباً عــلى سـدرة الـفرقد

نـضــاف إلــى عــتمة المشهد

ومـــا كـان بالأمس من موعد

 

 هنا لا تستطيع أن تفصل بين الحزن والأشخاص، ومن المعلوم أن الحزن والفرح عوارض على الإنسان، ولكن كأنما أراد الشاعر أن الجمع تحول إلى كتلة من الحزن، وأصبحا شيئاً واحداً.

والشاعر في قصيدته يبدو لك متجهاً إلى الحديث عن الفقد العام:

وفـــاء إلــيـك بصف القلوب 

ســنــبـقى كــمـوسوعة ثـرة  

وفــخــراً بيمناك يمنى النوال

طــمـأنــينــةً يــا أبا العاشقين

  إلـى صـــف أخـلاقك الخــرد

تـبـنـيـتها في ربـى العـسجـد

ورعــيـاً لــذكراك في معــبد

سـنـلقي عـلـيـك دمـوع الغد

 

ولكن فجأة ينزلق الشاعر في حزنه الخاص:

ويا توأم الذكريات التي              تجمعن في حضرة المورد

ويعود مرة أخرى إلى العام:

ولــن نـكـتـفي بـانفجار العيون   

ولـــكـن سـنـجـتاز درب الـيقين

كـــما شئت أن تستمر النفوس  

عــرفـنـاك سـرباً يجـيد الظهور

  وبــالـصب مــن نــهرنا الـمرفد

كــمـا عــلمت روحــك المقتدي

عـــلى هــيـئة الـطائر الأحمدي

عـلى صـيـغـة الــواحد الـمفرد

    

ويمضي الشاعر معبراً عن أحزان الأمة في فقد قائدها، والأبيات الثلاثة الآتية تبين بوضوح التمازج بين العام والخاص:

رحـــــــلـت وخـــلـفـتنا يــتـمـاً

وقفـت وجسمي استوى ناقصاً  

فـكم كـنـت يـــا ســيـدي رافعـاً

  أتـــتركـنا في المجال الردي

وكـــم يـجـتـويني افتقاد اليدِ

لواء الهدى الأبيض الأمجد

      

أرأيت كيف مزج الشاعر بين الفقد العام والخاص، فتحدث في البيت الأول عن الفقد كما حسه ذلك القطاع الرسالي الذي يعتبر الإمام قائداً له ولكنه لم يملك نفسه في البيت الذي يليه أن سال حزنه الخاص، ونفث الكلمات من صدر محزون واستبطن البيت محاولة للصمود والوقوف رغم المحنة. ولكن محاولة الوقوف هذه هي التي بينت فداحة الفقد الذي تحول إلى فقد مادي أجاد الشاعر في التعبير عنه. ثم بعد ذلك عاد إلى الصوت الجماعي وهو الذي يندب القائد ولكنه لا يلبث أن يرجع إلى الخاص:

فـــكم كــنـت تحمل ثقل الضنى

ويـــا ســيـدي إن روح الرثاء

تـــعـيش مع الـجـمر في وحدة

  وكــم كـنـت نقشاً على معضدي

هــي الآن في جــاحم الــمـوقـد

لـتـنعاك نــعي اللــظـى الأوحــد

 

هذه محاولة بسيطة من شخص غير متخصص، ولكن رأيت أن هذه النصوص الأدبية قد تكون أكبر معبّر عن الدور الذي أداه الإمام الراحل والذي ترك أثره في الأمة الإسلامية، وكما أن استشهاد الحسين (ع)، كان هو أكبر مفجر للشعر شهدته اللغة العربية واللغات الحية الأخرى في العالم الإسلامي، واصل السائرون على درب الحسين استخراج الدرر منه ويمكن أن نعتبر الإمام الراحل نموذجاً لهذا.

نسأل الله تعالى أن يجزي الإمام الراحل بقدر ما قدم لأمته من عطاء وأن يلحقه بأجداده محمد (ص) وآله الأطهار (ع) إنه قريب مجيب الدعاء، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

 

الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

العــدد 69

إتصــلوا بـنـــا