ردك على هذا الموضوع

لقاءات

حوارات في سيرة وفكر الإمام الشيرازي

ترتيب الأسماء حسب الحروف الأبجدية

تيمم بالصبر.. فعانقه الخلود

للرحيل طعم الخسارة.. وللدمع سكنٌ العيون..

منذ عام سكنت نبضات قلبه الكبير.. بعد أن توزعت على الآلاف حباً.. وتسامحاً.. وحناناً.. وكانت ابتسامته تشيّع المحبين رغم مدلهمات الخطوب التي تنحني لها هامات الرجال.. لكنه لم ينحنِ قط.. فأمام ناظريه تلوح تلك القباب والمآذن.. باركها الرحمن.. تعانق السماء.

عام مرّ فوق أهداب العين على رحيل الإمام محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره).. نمد أيدينا نحو الكتّاب والباحثين والمريدين في تلك المدرسة التي أسسها الإمام الراحل (قدس سره) طيلة سنوات حياته الشريفة، ونتساءل معهم عن تلك الدروس التي حضروها.. وخطوات التعليم الأول.. وعن تلك الصباحات التي حضروا فيها درسهم الأول.. وعن كل المساءات التي سامروا فيها سويعات الإمام الراحل(قدس سره)..

 

 ** لقد كانت حياة الإمام الشيرازي (قدس سره) حركة عطاء مستمرة علمياً وفكرياً وجهادياً... ما رأيكم بتأثيرات مدرسته على المرحلة التاريخية التي عايشها.. وتأثيراتها على الحاضر والمستقبل؟

- الشيخ عبد الرضا معاش(1): من الواضح أن مدرسة الإمام الراحل الفكرية والعملية لها امتدادت مترامية الأطراف عميقة التأثير، تربط في حركتها الشمولية كلاً من الماضي والحاضر والمستقبل كوحدة بناء حضارية لا تنفك أجزاؤها، والفكر الوضاء تجسد حقيقي لكل تلك المراحل التاريخية، ويضع عليها بصماته من خلال ما يقدمه من عطاء ثر غني يصدق عليه قول الله تعالى (كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين) فهو فكر خلاّق أصيل ينتمي في نسبه إلى القرآن الكريم والسنة النبوية المباركة وسيرة المعصومين(ع).

وأما حركته في الحياة فهي عنوان كبير لجملة من العاملين بإخلاص على عمارتها حسب المقتضى الإلهي، لذلك نجد هذا الفكر وهذه الحركة أثّرا حضارياً ليس في العالم الإسلامي وحده بل والوجود الإنساني برمته.

ولقد تجاوزت الرؤية الشيرازية كثيراً من الآراء والأفكار والنظريات في العصر الراهن، بما تقوم عليه من أسس وقواعد رصينة، فلم تكن وليدة حالة طارئة أو مجازفة نظرية، وإنما هي موقف عملي يبتني على دراسة موضوعية مقارنة تستوعب كل تناقضات الماضي والحاضر لتستشرف المستقبل بكل رصانة وثبات.

- الشيخ عبد الكريم الحائري(2): لاشك أن لكل عمل تأثيراته الخاصة وحيث كان العمل في سبيل الله تعالى فهو مشمول لقوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً) وتأثيرات العمل الصالح صالحة وطيبة ولكن قد لا تبدو للإنسان ظاهرة في حياته لأن ثمار الأشجار الطيبة قد تنمو ببطء وخصوصاً في ظل ظروف صعبة مليئة بالمشاكل فلذا قد يكون ظهورها بعد ذلك أكثر وهو المتوقع من ثمار الشجرة التي غرسها الإمام الراحل وسيكون مستقبلها أنمى من ماضيها رغم العطاء المتكاثر فعلاً.

- السيد عز الدين الفائزي(3): مدرسة الإمام الشيرازي (قدس سره) العلمية والفكرية والجهادية مدرسة رائدة متحركة تحمل الروح النابضة واليقظة فترفد الحياة بصورة مستمرة وفي مختلف المناحي بالخير والعطاء الدائم في جميع مجالاتها فكان تأثيرها واضحاً على المرحلة التي عايشها الإمام الراحل ففي الجانب العلمي كان مجدداً بارزاً ، فقد بحث المسائل العلمية بأسلوب عصري بديع خارجاً من قيود وأغلال التعقيد والغموض الذي كان يلف البحوث العلمية الماضية. ففي شرحه لكفاية أصول الشيخ الآخوند الخراساني يطرح الموضوع بشكل رائع حتى يرغب فيه جميع أساتذة الحوزة فيجعله مصدراً للمراجعة والمطالعة والاعتماد عليه في شرح غموض الكفاية، وفي رسائل الشيخ الأنصاري ومكاسبه يمارس سماحة الإمام الراحل نفس الأسلوب فيحببه لدى الجميع ويستفاد منه. وسوف يستمر هذا التأثير العلمي اليوم وفي المستقبل لأنه هو الأمثل.

وينطبق ذات الموضوع على فكر الإمام الذي يتجدد في كل يوم ويستنبط منه شيء جديد فهو حقاً مجدد القرن الذي عاشه.

وناهيك عن جهاده المستمر طيلة أكثر من نصف قرن في مختلف شؤون الحياة فمدرسته تشع كشمس مشرقة على ظلم الحياة. وتفيض كنبع صافٍ في مجاري الخير ، وتتجدد كروح تعيش الحاضر وترنو إلى المستقبل.     

- الشيخ فاضل الصفار(4): لاشك أن السيد أسس مدرسة خاصة به في الفكر والمنهج وفي أسلوب التعاطي مع الأمور، يظهر ذلك جلياً في أفكاره الحيوية كالشورى والتعددية واللاعنف والحركة الإصلاحية الشاملة على مختلف المجالات التي تجلت في المراكز والحسينيات والمساجد والصحف والمجلات والأحزاب والهيئات التي تتجاوز المئات والتي أسسها مباشرة أو بواسطة تلاميذه ومقلديه. وقد أثبت تاريخ السيد أنه عارض أكثر من خمسة أنظمة سياسية طلباً لإصلاحها، وعانى في هذا السبيل الكثير.. كما عانى الكثير ممن لم يتفهموا حركته ونهضته؛ فحاربوه دون هوادة وستنبئ الأيام حينما يزول حجاب المعاصرة عما قدمه السيد، وكم سيكون له من الأثر البالغ الذي ينقذ الأمة من مآسيها لو التزمت بنهجه واقتدت بسيرته.

- الشيخ فوزي آل سيف(5): يتصور البعض من الناس أن القوة هي التي تؤثر، أو أن الأوضاع السياسية هي التي تصنع المرحلة التاريخية، بينما المستقرئ لتاريخ الحضارات يرى أن الذي يصنع كل ذلك هو الفكر والمعرفة، وعلى ضوئه تتحرك الأمم وتنشأ الحضارات. والفكر وإن لم تُر آثاره المباشرة بسرعة في أوضاع الأمة - إذ التغيير الذي يحصل تدريجي - إلا أنه مع امتداد الزمان يصنع تأثيرا هائلا.

ونحن ننظر إلى فكر الإمام الشيرازي الراحل تغمده الله برحمته، من هذا المنطلق، فالثروة الفكرية الهائلة التي خلفها في الأمة، حقيقة بأن تصنع التأثير الحضاري المطلوب.

لقد رأينا تأثير أفكاره الرائدة في حاضرنا واضحا في الأماكن التي تفاعلت مع أفكاره وآرائه. وننتظر أن تتعرف باقي المناطق على هذا الفكر حتى يحصل التغيير على مستوى الأمة كلها.

- الأستاذ نضير الخزرجي(6): ليس من السهل بمكان حصر التأثيرات والتفاعلات التي تركها سماحة الفقيد الراحل في محيط العالم الإسلامي وخارجه، على المستوى الثقافي والفكري والسياسي والاجتماعي والنضالي، فقد وضع سماحته رحمه الله بصماته في كل بقعة من بقاع الأرض، فهو مشاريع متشظية حياً أو ميتاً تنتشر هنا وهناك عبر المؤسسات التي  أنشأها والرجال الذين رباهم على قيم الإسلام الذين لم يتخلفوا عنه ولا عن خطه  الإسلامي حتى آخر أيام حياته.

ولنا أن نعرف هذه التأثيرات بحسبة بسيطة، وهو من خلال إجراء مقارنة بين ما هو عليه اليوم مجتمعاتنا المسلمة وما قبل خمسين عاماً، خصوصاً في بلدان عربية وإسلامية من قبيل العراق وإيران ودول الخليج والشام، فقد ساهم (رحمه الله) عبر كتاباته ومشاريعه ورجاله في بث الروح في الجسد الإسلامي بعدما ما كادت تموت بفعل الموجات الفكرية الهابطة إلينا من شمال الكرة الأرضية.

وقد تمكن سماحته عبر الفكر الولائي الذي يحمله ويبشر به المجتمعات أن يزحف بالإسلام عبر مشاريعه وحملة الهم الإسلامي إلى أصقاع الأرض، مثل نيوزلندا والنرويج والسويد والدانمارك واستراليا وأمريكا وكندا فضلاً عن بلدان أوروبية قريبة مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا وهولندا، ويكفي دلالة أن من مشاريع سماحته في لندن كان تأسيس مركز إسلامي قبل أكثر من ربع قرن، في ذلك الوقت لم تكن أشهر المرجعيات الدينية قد وضعت أقدامها في بريطانيا بعد.

أما على الحاضر والمستقبل، فانه إلى جانب العامل الغيبي حيث يرفع الله من شأن عباده الصالحين والعاملين في سبيله، فإننا يمكننا قراءة الحاضر والمستقبل من نافذة المشاريع القائمة والمتولدة والمتجددة، فمن محاسن الفقيد الراحل وهي كثيرة أنه لم يترك أموالاً وأطياناً وعقارات يتوارثها الخلف، وإنما وجه أموال الأخماس والزكوات في مشاريع اجتماعية وصحية وإنسانية وعلمية وإعلامية وتربوية وسياسية تستهدف استنهاض الإنسان فكرياً وروحياً وقيمياً، وبالتالي فإنني أعتقد أن تأثير سماحته على الساحة الإسلامية وغير الإسلامية سيكون أكثر مما كان عليه، ولسبب بسيط جداً، وهو أن سماحة الفقيد الراحل كان يتأسى في حياته وعمله  ومشاريعه بسيرة جده محمد (ص).

- الشيخ ناصر الأسدي(7): حركته العلمية والجماهيرية صنعت جيلين من الأساتذة والمربين والخطباء والمفكرين.. فأسهمت بصورة كبيرة في الصحوة الإسلامية العالمية.. وخصوصاً في العراق وإيران والكويت والسعودية والبحرين فضلاً عن بلاد إسلامية أخرى.. ولكوادر هذين الجيلين وما يمارسونه من دور بارز حالياً في الحوزات العلمية وإدارة المؤسسات فإنهم يواصلون المسيرة بمعنوية أكبر لتحقيق الأهداف والطموحات التي كان يرنو إليها ذلك الفقيه المجاهد والمجدد.

 

** لقد كانت حياته (رحمه الله) مليئة بالمنعطفات الصعبة والأليمة.. فما هي رؤيتكم وتقييمكم لهذه المراحل من حياته؟

- الشيخ عبد الرضا معاش: هذه هي مسيرة العظماء، فلم نجد عظيماً وعبقرياً كانت الطرق مفروشة له بالزهور، ومعبدة له بالرياحين، فمسيرة الآلام والصعوبات كانت منذ البداية مع المجدد الشيرازي الثاني، وبما أن الاستعمار ومن اليوم الأول عرف الدور الكبير الذي تؤديه أسرة آل الشيرازي في صياغة رؤية حضارية للعالم الإسلامي، فمن اليوم الأول بدأ الاستعمار بمحاربة هذه الأسرة، ورموزها، عبر سلسلة كبيرة من الشائعات، والتهم، والتسقيط بشتى الوسائل، مستعيناً بأذنابه في الشرق والغرب.

وتعدى الأمر إلى تطاول الحوزة العلمية برموزها، على شخصية الإمام الراحل، والحيلولة دون انتشارها ولكن شاءت قدرة رب العالمين أن يسطع هذا النور في ميادين الفكر والعلم والثقافة والحضارة ليتأسف الشيخ يوسف القرضاوي حينما، يحصل على نسخة من كتاب: فقه البيئة، وهو يقول: كيف لم نتعرف على هذه الشخصية المعطاءة والزاخرة بالعلم والفضيلة من قبل؟ أحقاً عندنا عباقرة من هذا النوع؟.

نعم إن طريقه كان (ذات الشوكة)، ولكنه كان يتجاوز كل ما اعترضه من حسد الحاسدين، وكيد الظالمين، وبطش الطغاة، ليكون علماً ونبراساً يستضيء العالم بهداه.

- الشيخ عبد الكريم الحائري: لقد جسد الإمام الراحل ما كنا نسمعه ونقرأه عن الأنبياء والأئمة(ع) من جهاد متواصل وعطاء متكامل وصبر قل نظيره ولقد رأينا بعضاً من تطبيقات الآيات الشريفة مثل قوله تعالى: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون).

- السيد عز الدين الفائزي: حياة السيد الشيرازي رحمه الله كانت منذ اللحظة الأولى من حركته التاريخية المجيدة مليئة بالمنعطفات الخطيرة لأنه نهض بمسؤولية كبرى وضخمة بعد وفاة والده المقدس المرحوم السيد ميرزا مهدي الشيرازي وكان هذا التصدي لا يروق لمن عاصره من بعض العلماء ورجال الدين والحوزات العلمية والأحزاب الإسلامية وحتى الحكومات التي عاصرها الإمام لأنها كانت ترى في هذا المارد العملاق فناءها وابتلائها لذلك بدأت تحاربه منذ اللحظة الأولى لنهضته وحركته بالفتاوى حيناً والاتهامات حيناً آخر ، وأخذت تضع العراقيل في طريق حركته حتى تبعد الأمة عنه حتى قالت إن رسالته العملية هذه ليست له إنما هي إرث أبيه وصلت إليه. وقالت إن الكتاب الفلاني ليس له أو هو مسروق وما أشبه ذلك أو أنه غير مجتهد.

كل ذلك من أجل إيقافه عن زحفه العارم الذي بدأه في الأوساط وفعلاً تمكنت من تحجيمه وتحديده إلاّ أنه قاوم هذا التيار المعاكس بلطف الله وعنايته وإخلاصه في عمله وجهاده فاجتاز هذه المرحلة التاريخية الصعبة بكل عزة وإكبار وتمكن من الانتصار فيها ودفع عملية المرجعية المنظرة الفاعلة إلى التقدم والازدهار. وقد نجح في هذه المرحلة فهو رجل المهمات الصعبة ورجل الصمود والمقاومة خاصةً إذا عرفنا بأن الفتوى تقصم ظهر أكبر الرجال الأفذاذ فرؤيتنا وتقييمنا أنه اجتاز المراحل الصعبة التي عايشها بكل تعقل ورشد وحزم واستمر في عطائه وحركته.

- الشيخ فاضل الصفار: هذا قدر العظماء دائماً، خصوصاً من مثل السيد الراحل (أعلى الله مقامه) الذي كان يحمل هموماً إصلاحية كبرى، وسعى لتطهير الأرض من الفساد والظلم والاستبداد بإدارة حرة وبضمير حي، معتمداً على الله سبحانه وقوة أمته وإرادتها، بعيداً عن الأنظمة الحاكمة، ومتحدياً الدول الاستكبارية، فإنه من الطبيعي أن يواجه مخاطر ومنعطفات كبرى بعضها داخلية تنشأ تارةً من الذين لم يتفهموه ولم يثمنوا جهوده، وتارة أخرى من الذين يجدونه مُحرِجاً لهم في مواقفه وتحدياته، وبعضها خارجية ناشئة من المستبدين والظالمين الذين كانوا يرون السيد الشيرازي عقبة صعبة في طريقهم تهدم ما يبنونه لأطماعهم ونواياهم غير الحسنة.

- الشيخ فوزي آل سيف: كان من الطبيعي أن يكون في حياته (قدس سره) الكثير من المنعطفات الصعبة والأليمة، بل كان خلاف ذلك غير طبيعي، فالرجل الذي حمل على عاتقه هدف إنهاض الأمة ككل، وليس مدينة أو بلدا.. ولم يتخل عن هذا الهدف منذ شبابه إلى أن اختاره الله، كان طبيعيا أن تكون العقبات إمامه بقدر أهدافه العالية.

أذكر ذات مرة تشرفت بزيارته قبل انتقاله إلى الرحمة الإلهية، في منزله ولم يكن في الغرفة الصغيرة حينها أحد، فذكرت لسماحته أنه لو يتم تنظيم الأمر الكذائي بالنحو المعين، لكان أكثر إنتاجا.. فتبسم رحمه الله وقال: هل تذكر بيت الشعر المذكور في مغني اللبيب:

تعجبين من سقمي؟                 صحتي هي العجب!!

وكان في ذلك الاستشهاد إجابة على ما تم الحديث عنه، وعلى السؤال المذكور أعلاه يمكن أن يكون جواباً.

المهم هو نمط مواجهته لتلك المصاعب والمشاكل، حيث لم تنحت من جبل إصراره شيئا.

- الأٍستاذ نضير الخزرجي: لقد عايشت سماحة الفقيد حدثاً ولمّا أبلغ الحلم بحكم عامل الجيرة حيث كان سماحته (رحمه الله) يسكن في زقاقنا، وعايشته عبر كتاباته وتأليفاته ومشاركتي السابقة في إحدى مشاريعه السياسية ولاحقاً في بعض مشاريعه الثقافية والإعلامية وتأسيسي لبعضها.

في واقع الأمر عندما أقرأ حياة الإمام الشيرازي الراحل، إنما أقرأ تجارب الأنبياء السابقين، فهم قدوة وأسوة، فكان سماحته (رحمه الله) يحمل بين جنبيه الهم الإسلامي والهم الإنساني، ومن الطبيعي أن تتصدى جحافل الشيطان لقوافل الرحمن، وأن يضع الظلاميين عصيهم في عجلة النورانيين الذين يريدون هداية الناس، فقد وقفت على جانب من معاناته ومعاناة أهله والعاملين في سبيل الله وساهمت في رفع بعضها محتسبا أجري على الله، فما زادته المحن والمصاعب إلا ثباتاً ويقيناً على الخط الذي سلكه، وقد خرج من كل محنة أكثر صلابة وإيماناً وإنتاجاً، فهو مشاريع تلد أخرى.

- الشيخ ناصر الأسدي: المنعطفات الكبيرة زادته عزماً وحزماً ونضجاً في الفكر والإدارة وقوة في الإرادة والتصدي ولقد قال أحد الفقهاء الكبار والمعاصرين حين طرح عليه هذا السؤال: إن المقاومة الصامدة الكبيرة التي تمتع بها سماحته (ره) (في حياته (ره)) دلت على كفاءته القيادية ولياقته لأداء المسؤولية الكبرى الملقاة على عاتقه.

 

**  لعله لم يكن هناك ميدان من ميادين العلم لم يكن الإمام الراحل (رضوان الله عليه) قد خاض فيه ذلك الخوض الذي تمخض عن أكثر من 1200 مؤلف فما هو تقييمكم لهذه الحالة العلمية الموسوعية؟

- الشيخ عبد الرضا معاش: إن الذي يطلع على العطاء العلمي والثقافي والفكري لسلطان المؤلفين (قدس سره الشريف) يذعن أنه يمتلك قدرات، وطاقات، قل ما توجد في شخصيات علمية وثقافية، فهذه القدرة الموسوعية، وهذه الشمولية المعطاءة، إنما تدل على عبقرية منقطعة النظير انفرد بها الراحل الكبير.

فقد أثرى المكتبة الإسلامية بكتب شتى ومساحات واسعة من العطاء العلمي والفكري، وكان يشجع دائماً على الكتابة، فهو الذي يقول:

نحن لا نهتم بالثقافة والكتب كما ينبغي، مع أن الإمام الصادق عليه السلام يقول: اكتب وبث علمك في إخوانك، فإن مت فأورث كتبك بنيك، فإنه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه إلا بكتبهم نحن مقصرون جداً جداً ونتحمل المسؤولية إزاء عدم تعريف الآخرين بالإسلام.

اليوم الحوزات العلمية عليها أن تنتفض، وتزيل عنها غبار الماضي وتخطو نحو نشر الإسلام في العالم برؤية متكاملة نهضوية، بعيدة كل البعد عن التقليدية في الأسلوب والمنهج.

كان الإمام الراحل يعيش هموم الماضي والمستقبل كان عملاقاً في تفكيره، يقودك الحديث معه إلى عالم العطاء، ويلهمك النشاط والحافز في سبيل العمل.

- الشيخ عبد الكريم الحائري: لقد خاض رحمه الله علوم القرآن والحديث والفقه والأصول والعلوم التقليدية الحوزوية ثم إلى العلوم المعاصرة والحياتية وما يرتبط بالاقتصاد والسياسة والاجتماع والشورى وغيرها وقد كتب للحوزات في حل معضلات الدروس الحوزوية في شرح كتبهم التي يدرسونها حتى سهل لهم عسير العبارات وما يعسر فهمه بعبارات سهلة موجزة وهذا ما يشهد له الواقع الحوزوي وقد أثرى المكتبة الإسلامية بكتبه ومؤلفاته حتى حارت من تبحره، فلله درّه وعليه أجره.

- السيد عز الدين الفائزي: الإمام الراحل ليس موسوعة واحدة فقط وإنما هو موسوعات متعددة وفي الواقع ليست هنالك مبالغة في هذا التقييم وإنما هو الحق لأنه رضوان الله عليه حينما تحمل مسؤولية إنهاض الأمة ، وتوعيتها ، وخلاصها من أغلال الأفكار الدخيلة ، وسيطرة الأجنبي وقيود الاستعمار ، كان عليه أن يخوض غمار الحياة بكل أبعادها العلمية (الفقهية والأصولية) والفكرية (الثقافة والحضارة والتمدن) والسياسية (معرفة نظام الحكم والإدارة) والاجتماعية (معرفة الناس والمجتمع) والأخلاقية (التربية والسلوك) وغيرها فراح وراء هذا المشروع الكبير وخاض غمار الحياة من جميع جوانبها فتراه حينما يكتب في الفقه يُبدع وينتج هذه الموسوعة الضخمة التي تجاوزت (160) مجلداً وحينما يكتب في الأصول يُجدد فيخرج دورة الكفاية وشرح الرسائل وحينما ينظر في المجتمع يكتب فقه الاجتماع وحينما ينظر في مجالات الحياة الأخرى يطرح نظرية الإدارة والقانون والدولة والبيئة والعولمة وغيرها. فهذه الحالة الموسوعية كانت جزءاً من الهم العالي الذي حمله الإمام في حياته. فكان يستفيد من الزمن إلى آخر لحظة ممكنة منه فكل حياته عمل وجهاد قلّ نظيره ، بل انحصرت فيه هذه الحالة بما له من قلب واسع كبير ، وروح رحبة صافية وهمّة عالية ، وطموح مستقبلي عظيم كل هذه الصفات جعلته يخوض هذه الميادين الحيوية المختلفة من العلم والمعرفة ويقدم للأمة هذه المائدة المتنوعة من العلوم والآداب والحضارة والتمدن حتى يجعلها في مصاف بل أعلى من الأمم الأخرى.

- الشيخ فاضل الصفار: لاشك أنه كان فذاً في هذا المجال، وقد تفرد بامتيازات وخصائص لم يعرف الفقه والفقاهة لسابقيه ومعاصريه مثيلاً.

منها: جودة استنباطه والتي تعد عند جمع، بل وحتى المشهورين المتأخرين، أنها ملاك الأعلمية، وقد جمع السيد بين العلم الحديث والعلوم الشرعية ومزج بينهما بقدرة فائقة في تشخيص موضوعات الأحكام.

ومنها: أنه أسس أبواباً جديدة كثيرة في الفقه كانت تعد سابقاً غريبة عنه كالسياسة والاجتماع والاقتصاد والدولة والحقوق والحكم والإدارة والعولمة وغيرها. وقد مزج بهذا أيضاً بين الفقه والحياة.

ومنها: أنه أراد للعلم أن يكون القائد الحقيقي للإنسانية في كل المجالات ولم ينطلق فيه من المجتمع الإسلامي فقط، وإن كان ذلك من كبرى أهدافه، بل نظر لإصلاح العالم الإنساني أجمع كما يظهر في كتابه (الصياغة الجديدة) ثم العالم الغربي كما في كتابه (الغرب يتغير) كما أنه لم يقف في مواجهة التطورات العلمية، بل أقرّ بأن الحقيقة العلمية لا تقبل الرفض، بل ينبغي توجيهها لخدمة الإنسان فلم يحرّم الصناعة وغيرها من ملوثات البيئة والمهددة لحياة البشر بالدمار بل كتب (الفقه: البيئة) لتنظيمها، ولم يحرّم الأقمار الصناعية أو الاستنساخ بل كتب في كيفية تهذيبها وجعلها في خدمة الإنسان.. فكان بهذا وبغيره من نقاط قوة وعظمة كثيرة، مثال العالم الرباني الذي يجعل الإنسان وسعادته هدفه الأول والأخير.

- الشيخ فوزي آل سيف: أعتقد أن الله سبحانه وتعالى، ينعم - وهو المنعم الفياض - على البشر أحيانا بنماذج وقدوات عليا، من غير المعصومين، يؤدي وجودها غرضين:

- تقريب فكرة المعصوم: بحيث لو رأينا شخصا في هذا المستوى من الإحاطة العلمية (هو البحر من أي النواحي أتيته)، مع أنه لم يُعد لدور إلهي استثنائي، وإنما ضمن حدود الحالة البشرية من الاكتساب العلمي، والنشاط الذهني.. وهو بهذا المستوى العظيم. فكيف لو كان الله يريد دورا استثنائيا للشخص كما هو في حالة المعصوم. وكيف لو كان علمه من غير الطريق الاكتسابي العادي؟

- والغرض الآخر: أن يكون هؤلاء النماذج حجة على من عداهم من بني صنفهم، فإذا اعتذر الإنسان بعدم قدرته على التبليغ والإرشاد والتأليف، وعدم سماح الظروف له بذلك.. جيء له بأمثال هؤلاء الأطواد.

وسيدنا الراحل هو من تلك النماذج العالية التي يمكن الاحتجاج بها على القاعدين، والخاملين.

- الشيخ ناصر الأسدي: سألني أحد أساتذتي الفضلاء وأنا أحضر للدراسات العليا لماذا تكثر في مصادر بحثك من مؤلفات السيد الشيرازي؟، قلت له: لأن الموضوع الذي أبحث فيه حساس للغاية ولم أجد أحداً من مراجعنا الكرام من الماضين والذين يعيشون بين ظهرانينا قد كتب فيه بإسهاب واستيعاب وتناول مبانيه الفقهية والأصولية في مؤلفات مختلفة إلا سماحة السيد محمد الشيرازي.

هذه التجربة الشخصية تقدم لنا صورة عن الأفق الموسوعي الذي كان يحمله الفقيد الراحل، وفي تقديري أن سماحة الفقيد الراحل قد بزّ أقرانه من الماضين فضلاً عن الذين عاصرهم وعاصروه في العمل الموسوعي.

عمق شعوره بالمسؤولية.. وطموحه الكبير.. وصلابته في تحمل الصعاب، ونظرته العميقة إلى لزوم النهضة العلمية والثورة الثقافية الشاملة.. هي بواعثه (ره) في خوضه مختلف  العلوم الإنسانية وغيرها..

 

** ما رأيكم في الشمولية التي يتمتع بها الإمام الراحل في تناوله لموضوعاته؟

- الشيخ عبد الرضا معاش: الشمولية كانت منهجه ورؤاه، فكتبه التي تجاوزت الألف ومئتين هي خير دليل وبرهان على طرحه الشمولي في الحياة، فكان معطاءً غزيراً شاملاً، في كتاباته، وحتى في جلساته وحواراته، يجيب على كل سؤال يسأل، إذ انه يمتلك مخزوناً معلوماتياً واسعاً، مما يمنحه القدرة في التعاطي برؤية شمولية واسعة.

فكما كان فريداً في فكره وعطائه كان فريداً في شموليته في سائر المجالات.

فحينما تحدثت معه في الاقتصاد، يأخذك إلى الاقتصاد الإسلامي ابتداءً بعصر الرسول الأعظم ومن ثم عصر الإمام أمير المؤمنين (ع)، مستلهماً من تلك المرحلة كل رؤاه وأبعاده.

ثم يتحدث عن الاقتصاد الماركسي وعوامل الفشل فيه، ثم الاقتصاد الرأسمالي وضياع شعوب العالم من جزاءهما ثم يبين لك الحل الأفضل من بين كل النظريات، لتصل إلى الحل الناجع.

وهكذا في السياسة، والاجتماع، والفقه والأصول و... فكانت الشمولية منهجه ورؤيته البعيدة في الحياة.

- السيد عز الدين الفائزي: كما قلت في الإجابة على السؤال الثالث أنه رضوان الله تعالى عليه كان يتناول جميع شؤون الحياة من منطلق إسلامي قرآني وكان شمولياً بمعنى الكلمة وما نراه من كتابات ومؤسسات ومشاريع خير برهان على ذلك. فلقد كتب عن مذكراته منذ طفولته وحياته التي مر بها في مختصرات ومفصلات من قبيل (عشت في كربلاء) و(تلك الأيام) ولكن الفرق واضح بين الكتابين من حيث المحتوى والمضمون. وربما من هذه الشمولية التي تمتع بها الإمام الراحل حينما كتب عن فقه الحياة وعن فن الطبخ، انتقد حتى قيل أهو عالم أم هو فنان أم طباخ أو غيرها؟ وربما اعتقد البعض أن هذا النوع من الكتابة هو فضول لأنه يتمتع بصلاحية المرجع ورجل الدين ووظائف المرجع غير هذه التي يذهب إليها السيد الراحل ونسي في الواقع أن يقدر أن الإمام لم يترك شيئاً من الأمور الضرورية في مختلف العلوم إلا وكتب فيها، إنما يقال هذا لمن ترك الواجب وذهب إلى المستحب أما الإمام فقد أثرى في الواجبات وأصبح لديه وقت لأداء المندوبات هكذا يمكن أن يقال لمن استشكل عليه. كما انتقد البعض كتاباته بأن بعضها مجرد قصص ، أو سرد تاريخي بسيط ، أو مواضيع عادية جداً مثل كتب باكورة تأليفه مثل (المسلم)، و(كيف عرفت الله؟)، وسلسلة الشيعة فيجاب عليه بأن ليس كل الناس مستعدين أن يقرءوا المفصّلات والكتب الضخمة أما لقلة الوقت أو لعدم الإدراك أو لسبب آخر، فالإمام الراحل إنما كتب هذه المختصرات لهؤلاء. هذا بالإضافة إلى أن الكثير من الناس اهتدى واسترشد بهذه الكتب البسيطة. والحديث عن هذا الموضوع أكثر من هذا المختصر ولكن نكتفي بهذا المقدار راجين من الله القبول.

- الشيخ فوزي آل سيف: شمولية النظرة فرع وضوح البصيرة، فإذا كان العالم نافذ البصيرة عارفا وجدته ينظر في مواضيعه المختلفة بتلك النظرة الثاقبة. ولذا وجدناه رحمه الله كما يتناول المسألة الفقهية في موضوع الوضوء والصلاة، يتناول المسألة السياسية في أمر إنهاض الأمة وتغييرها.

- الأستاذ نضير الخزرجي: من الواضح أن الكتابات والمؤلفات هي نتاج تفكير الإنسان والمفاهيم التي يحملها ويبشّر بها، ويمكن فهم عقلية الإنسان من خلال منهجه في التأليف والمناحي التي يبحثها، فبالإمكان وصف المؤلف من مؤلفه فنقول هذا له اهتمام سياسي وذاك له اهتمام اقتصادي وذلك له اهتمام أدبي وثقافي، وهكذا.. فقليل من الكتاب والمؤلفين من يبرز في أكثر من مجال واحد، لكن هذه القاعدة لا تنطبق على سماحة الفقيد الراحل، فهو الاستثناء في هذه القاعدة، فعندما نجد مرجع تقليد يكتب في فقه المرور والسير أو فقه النظافة أو فقه الفضاء أو فقه الطب، إلى جانب فقه العبادات والمعاملات، فهذا يدل على استيعابه لمناحي الحياة المختلفة وقربه من حياة الإنسان نفسه والمشاكل التي تعترضه.

لقد استطاع الفقيد الراحل أن ينقل الفقه إلى الشارع والمجتمع وأن ينقل الشارع والمجتمع إلى الفقه، ليخلق حركة تواصل وتعاطي بين المجتمع والفقه الإسلامي.

قرأت لسماحة الفقيد الراحل وأنا في الصغر عندما كنا منخرطين في اللجان الثقافية والجمعيات الإسلامية المتوزعة في المساجد والحسينيات والمدارس الدينية في مدينة كربلاء المقدسة، وقرأت لسماحته في عمر الشباب وقرأت له ونحن نذرف بمناسبة أربعينية وفاته، فوجدت سماحته قد أعطاه الله قدرة مخاطبة جميع الأعمار ومختلف المستويات، فقد كتب للصغير وللكبير، للمتعلم وللذي على سبيل التعلم، لرجل السوق ولرجل الحوزة، للعامل وللدكتور، للرجل وللمرأة، فضلا عن تنوعه في الموضوعات من فقهية وأصولية وسياسية واجتماعية وطبية وعلمية.

في الواقع إن هذه الكتابات المختلفة المشارب ولكافة الأفهام والمستويات العلمية تعكس سعة أفق سماحة الفقيد الراحل وغزارة علمه، وسعيه الدؤوب في ملاحقة الموضوعات وتسليط الأضواء الفقهية عليها، وأعتقد أن سماحة الفقيد الراحل بالعمر الذي رزقه الله وبالمؤلفات التي تركها للبشرية إنما يمثل خير مصداق للأثر الشريف: (إعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً).

- الشيخ ناصر الأسدي: في الحديث: (ما من قضية إلا ولله فيها حكم..) فالأفق الواسع الذي تمتع به(ره) وإيمانه العميق بضرورة طرح تلك الأحكام مع فلسفتها الإيجابية.. مضافاً إلى  ذكائه الخارق وثقته الكبيرة بنفسه دفعته للتوسع وتناول مختلف الأفكار والبحوث والنظريات..

 

** لقد بحث السيد الراحل مجموعة من القضايا الفقهية وأسس مجموعة من الأحكام الجديدة وبعضها كان على أسس افتراضية عقلية فما هو رأيكم في التجديد العلمي والفكري في مدرسته الفقهية والأصولية؟

- الشيخ عبد الرضا معاش: ربما لا نعدو الحقيقة إذا قلنا إن السيد الإمام المقدس (رضوان الله عليه) يقف على رأس قائمة المجددين في الفقه الإسلامي، ويكفي لصحة إثبات هذا القول إلقاء نظرة سريعة في موسوعته الفقهية التي بلغت المائة وستين مجلداً، وطرق فيها أبواباً فقهية، لم تطرق من قبل، وعرض فيها وبحث في قضايا غاية في الأهمية لم يسبق للتعرض لها فقيه قبل اليوم، كما تطرق لمسائل مستجدة، وأتى بأحكام شرعية في أجزاء علمية ودقائق كانت مهملة هي الأخرى.

كل ذلك عن روح التجدد والإبداع التي تمتع بها سماحته، وهو ما يضيق المجال بشرحه.

- الشيخ عبد الكريم الحائري: من الواضح أن الفقيه المتضلع حينما يبحث القواعد الفقهية ويضع أسساً وقواعد جديدة لابد أن يكون لها مورد تطبيق لتوضيحها، فإما أن تكون تلك المصاديق واقعية وحالية وإما أن تكون افتراضية، فمسألة الافتراض لابد من وجودها لاحتمال تجدد العلوم ووصولها إلى حد فحينئذٍ إذا وصل العلم إلى حد ولم يكن للفقه حلول، فسيُدعى من قبل المغرضين والمتربصين بعدم إمكان تطبيق الإسلام وعدم وجود حلول حتى يتسنى لهم طرح الاتجاهات والمذاهب الأخرى كبديل عن الإسلام لكن إذا واجهوا مسألة من المسائل ووجدوا الإسلام قد وضع الحلول لها فسوف تسد أبواب الذرائع أمامهم.

- السيد عز الدين الفائزي: ذكرت جواب هذا السؤال مختصراً في السؤال الأول حول حركة الإمام العلمية. وعلى نحو الاختصار فإن كتاب المسائل المستحدثة الذي أبدعه السيد في الستينيات والذي موجود بين أيدينا اليوم هو مجموعة من  المسائل السابقة لأوانها منها الصلاة فوق القمر ومنها وظيفة الإنسان المسلم العبادية في بعض البلاد التي لا تغيب الشمس عنها كما في فنلندا أو نقل أعضاء الجسم الحي إلى آخر. كعملية نقل الكلية أو القلب أو غيره. أو مسائل التجميل وحتى تركيب رأس زيد على جسم خالد، حتى أصبحت أضحوكة ومسخرة من قبل البعض، ولكن مع تطور العلم الحديث أصبحت كل تلك الافتراضات قابلة للقبول خاصة اليوم على العموم إذا نظرنا إلى استفتاءات الإمام الحديثة في العبادات والمعاملات لرأينا التجديد فيها واضحاً وخاصةً في (القواعد الفقهية). وهكذا في مدرسته الفكرية عبر مختلف آثاره مثل (الصياغة والسبيل والاجتماع) وأما مدرسته الأصولية فبعد أن استشكل عليه في شرح الكفاية من البساطة والوضوح وأن كتب الأصول لابد أن يلفها الغموض فكتب لهم (الأصول العامة) فأوقعهم في متاهات حل الألغاز ووضع النقاط على الحروف. والتوسل بالمصادر لمعرفة اللفظ فضلاً عن المعنى. اكتفي بهذا المقدار لأن الحديث والشرح لهذا البند يطول.

- الأستاذ نضير الخزرجي: عندما كتب سماحته في الفقه قبل سنوات طويلة عن حكم نقل رأس إنسان إلى إنسان آخر، كانت مثل هذه المسألة ضرباً من الخيال العلمي، لكن العلم بدأ منذ سنوات قريبة يجعلها حقيقة وجربها على قطة، وحتى تكتمل أجزاء الحقيقة في الإنسان، ولا ندري متى والله العالم، عند ذاك ليس للفقهاء أن يحتاروا في التعامل فقهياً مع مثل هذه الحالة، لأن سماحته قد أفتى بها.

في الواقع لا يستطيع الإنسان أن يقف على كنه وحقيقة التجديد العلمي والفكري في مدرسته الفقهية والأصولية حتى يطلع أولاً على ما كتبه في موسوعته الفقهية، وما كتبه في مجموعات كتاباته الأصولية، وأعتقد أن المدارس العلمية بحاجة إلى سنوات أخرى حتى تعرف ولو جانباً مما أنجزه سماحته في الفقه والأصول.

- الشيخ ناصر الأسدي: عمقه العلمي وخبرته الاجتماعية الواسعة.. ومعلوماته الغزير في مختلف العلوم الأدبية والتاريخ والحديث.. والوعي العصري بقوانين الحضارة الحديثة والحضارات القديمة.. وغير ذلك من المقومات الفكرية.. أهلته للتجديد والتفريع والتأسيس لقواعد ومسائل لم تكن مطروحة من ذي قبل.. مثل قاعدة (القوة الشرائية) التي طرحها (ره) في (الفقه البيع) ومسألة زرع رأس حيوان على جسد حيوان آخر أو إنسان لم يطرحها قبل أن ينطق العلم الحديث فيها شيئاً وأخيراً - في العقد السابق - تمكن العلم من تحقيق ذلك ونشرت أخباره في وسائل الإعلام.

 

** ما هو رأيكم بالعقلية المرجعية الإدارية التي مارسها الإمام الشيرازي (رضوان الله عليه) تنظيراً ـ كتاب الإدارة ـ وتطبيقاً ـ المؤسسات المنتشرة التي أسسها في كل أنحاء العالم-؟

- السيد عز الدين الفائزي: لقد كان الإمام الراحل السيد الشيرازي رحمه الله عقلية مرجعية إدارية وفكرية ودينية ولكن الذي كان ينقصه في الواقع هي (اللجان المديرة والمدبرة) بهذه الحقول وإلا فلا يشك أحد بأنه كان عقلية نابغة في هذه الميادين ولكن الذي كان يعوز هذه المرجعية الكبيرة هي (لجان العمل) فالسيد رحمه الله هو الذي كان يوجه الفرد إلى عمل معين كتأسيس مدرسة ، أو مكتبة ، أو جامع ، أو روضة ، أو سائر المؤسسات الاجتماعية ، والدينية ، والثقافية. وكتابه (إلى وكلائنا في البلاد) على صغر حجمه إلا أنه مشحون ببرنامج عملي مكثف في:   

تأسيس الهيئات الاجتماعية ، إلى صناديق قرض الحسنة ، إلى المدارس ، إلى النوادي ، إلى مشاريع تزويج العزاب، إلى مختلف مناحي الحياة التي تتجاوز 90 بنداً.

وأما مؤسساته المنتشرة اليوم في العالم فهي عديدة ومختلفة الأبعاد. فالمدارس الحديثة ، والمراكز الثقافية ، والحسينيات ، والمساجد ، والمكتبات ، ومعاهد الصداقة ، ومراكز البرامج العلمية ، ودور التربية تعم أمريكا ، وأوربا ، وآسيا ، والعالم العربي كذلك.

والحق أن هذه المؤسسات لها المردود الإيجابي في التربية والتوجيه وإنقاذ الجيل الجديد من مفاسد الغرب وميوعته بل وجوانبه العقائدية والفكرية المنحرفة.

ولا زالت المشاريع مستمرة في عطائها وحركتها بعد وفاة الإمام، وتصدي سماحة آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي (دام ظله) للمرجعية الكبرى. ولا زالت هذه الصدقة الجارية يصل ثوابها وخيرها إلى روح المرجع الراحل إن شاء الله.

- الشيخ فاضل الصفار: لعلّ من أبرز سمات السيد الشيرازي في أسلوبه الإداري أنه كان يحترم الآخرين ويقدر طاقاتهم ولم يستهجن أحداً أو يحرمه من حق العمل بل كان يحرّض الصغير ليكبر والضعيف ليقوى والجاهل ليتعلم والكبير ليكبر أكثر، وهذه سمة عظيمة جداً لا توجد إلا في رجالات الله سبحانه الذين يخلصون للجميع ويصدقون معهم. هذا أولاً.

وثانياً: أنه كان يؤمن بالتنافس والتعددية إيماناً حقيقياً وصادقاً ولذا حينما يدخل الإنسان داره ويبصر معاونيه وأعضاء مكتبه ومؤسسته يجد تنوعاً كبيراً في القوميات واللغات والبلدان. وهذه سمة أخرى لم يجدها المتتبع في أجهزة أو مكاتب أخرى.. وليس هذا فقط بل كان يؤمن بالتنوع بالأجيال والشرائح المتنوعة فلذا اتسم جهازه الواسع المترامي الأطراف بوجود طاقات مختلفة في القدرات والأفكار والمشارب والأعمار وغيرها. وحتى الأطفال لهم عند السيد الشيرازي مجال وفرص كبيرة وقد أسس  لهم الكثير من المشاريع وكتب لهم الكثير من الكتب والتقى بهم الكثير من اللقاءات وكان يؤكد أنهم طاقات المستقبل.

وثالثاً: أنه لم يثبّط أحداً أو يحول دون رغبة يريد أن يعملها أو مشروع يريد القيام به، بل كان يشجع الجميع، وكان يدعو الجميع إلى تأسيس العمل على أساس المؤسسة أولاً ثم الشورى ثم العمل بأكثرية الآراء ثم جعل المشروع، مهما كان اتجاهه، على الجمع بين الفكر والعمل، وحتى على صعيد المشاريع الحسينية والإطعام في شهر رمضان أو محرم الحرام كان يدعو أهله لأن يوزعوا مع الطعام الكتاب، للمزج بين الغذائين في آن واحد. وهذه لفتة هامة جداً تدل على شمولية في الإدارة وهدفية كبرى ومحبة كبيرة لإصلاح الإنسان. هذه الأفكار وغيرها يجدها المتصفح لكتاب الإدارة بوضوح وسهولة.

- الشيخ فوزي آل سيف: لعل الحديث عن كتاب (إلى وكلائنا في البلاد) أولى فهو الأول من نوعه الذي يتضمن تلك التوجيهات الراقية، التي تسهل على الوكيل الإدارة الاجتماعية، وكيفية تأسيس المؤسسات، والنظر إلى الحاجات القائمة في المجتمع ونقاط الضعف فيه بغرض رفعها.

- الأستاذ نضير الخزرجي: قرأت فقه الإدارة، فوجدت نفسي كأنني أمام مدير خبر الحياة وخبرته ويقدم للناس تجربته الشخصية، وليس أمام عالم روحاني لم ير عتبة بابه لسنوات طوال، ولامست أسلوبه العملي في الإدارة، فوجدته رجل الإدارة اللامركزية المعتمدة على الشورى المناطقية، يولي الشخص ثقته، وعلى الشخص أن يقابل الثقة بعمل مخلص فيه لله رضاً وللناس الصلاح ولنفسه الخلاص من حساب يوم الحساب.

- الشيخ ناصر الأسدي: كان بارعاً، فذاً، ومبتكراً في ذلك.. ومن اطلع على كتاب (إلى الوكلاء في البلاد) و(الفقه الإدارة) و(المرجع والأمة) يعرف كيف أنه بحق كان (مجدداً) و(فريداً)..

 

** تعد مرجعية السيد الإمام الشيرازي (قدس سره) مرجعية ميدانية بحق، وقد تجلى ذلك في نزول سماحته إلى ميدان العمل إما بصورة مباشرة، أو بصورة غير مباشرة عن طريق وكلائه، دون أن يتأطر بإطار التنظير فحسب، فكيف تنظرون إلى هذه المرجعية؟

- الشيخ عبد الرضا معاش: الإمام الراحل تجاوز البروتوكول المرجعي -إن صح التعبير- فتصديه للواقع العملي، ومتابعته شخصياً للكثير من البرامج، والمعروف أنه قدس سره كان يتابع الكثير من المشاريع بنفسه، فلو أوكل لشخص تأسيس مؤسسة إسلامية مثلاً وصاحب المشروع لم ينفذه، كان (قدس سره) يتابعه أكثر من مرة، وإذا رأى أنه لا باع له في هذا المجال ولا قناعة بالمشروع، فكان يبحث عن الثاني والثالث والرابع.. إلى أن كان يجعل من المشروع واقعاً عملياً.

وكانت البنى الأساسية لأفكاره إنما تنبع من تجاربه العملية خلال عشرات السنوات التي مرت عليه.

- السيد عز الدين الفائزي: مرجعية الإمام الشيرازي فاعلة ومتميزة بلا شك، وهو أمر واضح لكل منصف يريد تقييمها وقد تجلت في مختلف المشاريع الحيوية التي وضع سماحة الإمام الراحل لبناتها الأولى واعتقد أنها فريدة كذلك بأبعادها المختلفة فقد امتدت إلى مختلف الآفاق وبعناوين متعددة ونشاطات متميزة كما ذكرنا في بعض الأجوبة المارة. وإن دلّ هذا الأمر على شيء فإنه يدل على نظرة الإسلام إلى العمل الميداني في الحياة وهي سيرة رسول الله (ص) وسيرة الأئمة المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

وفي تصوري لا بد أن تكون المرجعية ميدانية حتى تأخذ بمجامع القلوب والأفئدة وإلا فإنها سوف تبقى جامدة بلا حراك إذ لابد للمرجع أن يتواصل مع أبنائه، مع طلبته، مع الناس، ومع مختلف الطبقات والفئات كما هي سيرة الأئمة (ع) كما قلت دون حدود وعوائق وعراقيل.

- الشيخ فاضل الصفار: قد لا يجازف من يقول إن ما خرجته مرجعية السيد الشيرازي من وكلاء وعاملين كان أكثر من غيرها بكثير، بل إن الكم الكبير من الوكلاء والتنوع الحقيقي والكثير في المستويات والاتجاهات يتجاوز أجهزة بعض الدول والحكومات، ولو قدرت  له الظروف إدارة أكثر من دولة، لكان في ذلك متمكناً. وهذا يدل على مقدرة عالية على الاستيعاب والاحتواء للآخرين أولاً، وعلى قدرة عالية على التربية ثانياً، وعلى تطلعات كبيرة لا تحيطها الأمكنة أو الأزمنة. وهذه سمة أخرى من سمات المصلحين العظام الذين أرادهم الله سبحانه أن يكونوا هداة لجميع البشر وليس لقومهم أو بلدهم فقط.

- الشيخ فوزي آل سيف: لو أراد الباحث أن يتأمل في هذه الجهة لوجد عدة جهات مؤثرة في كون مرجعيته بذلك النحو:

الأولى: أنه عليه الرحمة كان دائم التشجيع والحث على العمل المؤسساتي، وكان يرى كل شخص مسؤولا عن القيام بجهد ما في هذا السبيل، وأي شخص كان يزوره يجد عنده هذه التعبئة في اتجاه العمل.سواء كان طالب علم أو كان موظفا، بل حتى لو كان طالب الثانوية.. وكم أثار في نفوس هؤلاء الحماس، والاحساس بالذات واقتحم بذلك نقاط الضعف النفسي والتردد عندهم، وأزال الحواجز الداخلية التي تعيقهم عن العمل، وكم من شخص قد ذكر أنه قام بالعمل الفلاني على أثر تلك الكلمات التي سمعها في مجلسه.

الثانية: أنه كان دائم المتابعة، بنحو يتعجب منه المرء، فقد يزوره شخص بعد عدة سنوات، فيعيد عليه ما كان قد طرحه عليه سابقا، ويسأله عما إذا كان قد أنتج شيئا في هذه المدة. ويقترح عليه اقتراحات جديدة لتطوير عمله لو كان قد عمل شيئا.

الثالثة: يظهر من طريقة عمله رحمه الله أنه كان يؤمن بالمثل القائل دع ألف زهرة تتفتح، وهذه الطريقة وإن كان البعض يرى فيها بعدا عن التركيز، وبالتالي قلة الانتاج، وأن من المفروض أن يركز القائد في عمله على جهة أو جهات محددة حتى يحصل على نتائج واضحة.

إلا أنه (رحمه الله) - ولعله لما يراه من الحاجة الشاملة الموجودة في الأمة، سواء في جانبها الثقافي، أو الاجتماعي أو السياسي، ولما يراه من أن بعض الطاقات في الأمة تستطيع الإنتاج في جانب دون غيره - كان ينشر الحماس والاندفاع عند الجميع.. كل بحسب ما يستطيع وفي المجال الذي يحتمل سماحته أن السامع قادر على الإنتاج فيه.

- الأستاذ نضير الخزرجي: أشير إلى حادثتين فقط، من خلالهما تتجلى الإجابة؛ الأولى سمعتها من صاحبها والثانية سمعتها من ناقلها.

الحادثة الأولى: إن المرحوم رشيد أبو دكة وهو من تجار كربلاء المقدسة وكان يتاجر مع سكان الصحراء العراقية (البدو)، قال في مجلس خاص كنت فيه أصغرهم، وذلك بعد فترة قصيرة من مغادرة سماحة الفقيد الراحل للعراق وسكناه في الكويت، إن سماحته أعطاه وكالة خاصة (وقد رأيتها بعيني) تجيز له البت في تعاملات سكان البدو من زواج وطلاق والفصل في مشاكلهما الفقهية وأمثال ذلك، وكان المرحوم أبو دكة يرجع إلى الفقيد الراحل بما يشكل عليه من مسائل.

أما الحادثة الثانية فقد سمعتها من سماحة السيد محسن الخاتمي، فقد قال في محضر خاص في إحدى زياراته للعاصمة البريطانية لندن، أن سماحة الفقيد الراحل في شبابه عرض على أحد مراجع التقليد (رحمه الله) أن يجلب نحو خمسة آلاف من أبناء العشائر العراقية للدراسة في الحوزة من أجل خلق تواصل بين الحوزة العلمية والعشائر العراقية، فاعتذر مرجع التقليد عن ذلك لقلة ذات اليد، فاقترح الفقيد الراحل أن يتم استقراض مبلغ من المال من بعض التجار لرعاية هؤلاء الطلبة لعدة سنوات على أن يقوم هؤلاء الطلبة بعد أعوام الدراسة بالنزول إلى عشائرهم ليكونوا مصداق قوله تعالى: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون)، وهؤلاء الطلبة سيكونون خير معين لسداد الدين وتوفير أموال أخرى لمشاريع علمية واجتماعية وغير ذلك، لكن  مرجع التقليد اعتذر عن ذلك. وبعد عودة الفقيد الراحل من تلك الزيارة، كان سماحته أول من طبّق ذلك الاقتراح بالاقتراض من بعض التجار.

هاتان الحادثتان تدلان على مدى التصاق الفقيد الراحل بالمجتمع العراقي بكافة أصنافه. وهذا الأسلوب مارسه في الكويت وفي إيران، وأرجو أن يسير الخلف على نهج السلف.

- الشيخ ناصر الأسدي: رغم ما أحاط بمرجعيته من محن ومؤامرات استعمارية ومنعطفات صعبة، وهجرات.. إلا أنه استطاع أن يدير دفة هذه المرجعية بكفاءة..

 

** حدد الإمام (رضوان الله عليه) مشكلة الاستبداد وآثارها وطرح مبدأ شورى الفقهاء كضمان احترازي ضد آفة الديكتاتورية فما هو رأيكم بهذا المبدأ؟

- الشيخ عبد الرضا معاش: مبدأ الشورى هو مبدأ أساسي سواء في نظام الحكم أو حياتياً واجتماعياً، الأمة اليوم تعاني من تشتت في أهدافها ومنهجياتها، مما جعلها تعيش في تخبط دائم. وبما أن للامة علماء وقادة فهم من يخطط ويبرمج ويرسم المنهج الشرعي والحياتي لها.

جاء الإمام الراحل ومنذ اكثر من عشرين عاماً فتحدث عن نظرية (شورى الفقهاء) باعتبارها هي مركز لصيانة الأمة من الضياع والتشتت.

واليوم تعاني الأمة الإسلامية في سائر البلاد الإسلامية من حالة الديكتاتورية والظلم والقهر والتعامل بالحديد والنار في عالم يدعو إلى الانفتاح والديمقراطية واحترام الرأي الآخر.

- السيد عز الدين الفائزي: الاستبداد مرض خطير  في السياسة والاجتماع وكل مجالات الحياة ولقد كتب الوطنيون في ذلك أمثال عبد الرحمن الكواكبي محارباً الاستعمار الذي كان يمثل في تاريخه وحتى اليوم أجلى مصاديق الاستبداد. وهكذا الحكومة غير الدستورية كنظام صدام مثلاً. وسائر الأنظمة في العالم كنظام بينوشيه الذي سبب عزله وتنحيته وغيره. ومبدأ الاستشارة ومشاركة الآخرين في الرأي والرؤية هو من مبادئ الإسلام الكريم وقد أكد القرآن ذلك في آياته منها (وأمرهم شورى بينهم) وفي حديث النبي (ص):

(ما خاب من استشار وما ندم من استخار) وأحاديث الشورى كثيرة في تراث أهل البيت(ع). كما أن النبي استشار أصحابه حينما أراد الذهاب إلى معركة أحد.

والشورى تعتبر خير صمام أمان ، وضماناً للوقوف ضد الاستبداد وهو أمر معلوم، ومبدأ شورى الفقهاء لو يطبق فهو أعلى درجات كماله.

- الشيخ فاضل الصفار: لا رأي بعد تضافر الأدلة على وجوبه في الآيات والروايات والعقل والسيرة العقلائية.. وهل لأحد أن يختار الظلم على العدل والاحتكار على الإيثار والذل على الكرامة والخوف على الأمن والعبودية على الحرية؟!.

- الشيخ فوزي آل سيف: مما سبق به الإمام الراحل عليه الرحمة والرضوان، كان مجموعة من الأفكار التي خرجت عن السياق العام في جهتيه التقليدية والثورية. ففي الاتجاه التقليدي للمرجعية الدينية عند الشيعة كان التعرض للفكر السياسي، يعد أمرا غير مألوف، بالرغم من وجود فقهاء في تاريخ الشيعة كان لهم أدوار سياسية، وفكر سياسي متميز إلا أنه كان يشكل الاتجاه غير المعتاد.

والنمط الفكري الذي كان يملكه السيد الشيرازي تغمده الله بالرحمة، كان بهذا المعنى خارجا على المألوف المعتاد، إذ أنه في نفس الوقت الذي يتحدث فيه ويكتب في المواضيع التخصصية الحوزوية، بل المغرقة في ذلك (كشرح المنظومة) وأمثالها كان يكتب ويتحدث في مواضيع مثل تطبيق الإسلام والدولة الإسلامية (قبل أن تتبلور فكرة الدعوة إليها بعشرات السنين) ومثل مسألة اللاعنف في التغيير في الوقت الذي كانت تتبنى فيه الحركات الإسلامية، بل والشيعية، منهج الكفاح المسلح وتراه طريقا - وحيداً أحياناً - للتغيير السياسي، وكان السيد في ذلك الوقت يرى خلاف هذا المنهج ويصر على اللاعنف.. في وقت كان التفوه بهذا المبدأ يحتاج إلى شجاعة فائقة.

وهكذا الحال بالنسبة إلى الأمة الواحدة، مع أن التوجهات الولائية والشيعية للإمام الراحل كانت في أعلى درجاتها، لكنه مع ذلك كان يدعو إلى وحدة الأمة الإسلامية وينظّر على هذا الأساس.

كما أن أفكاره في مسألة التعددية الحزبية، والتنظيم تعتبر أكثر من (جريئة) لا سيما مع النظر إلى الأوضاع السائدة في تلك الفترة في عالمنا الإسلامي.

ومثل ذلك الحديث عن شورى الفقهاء كطريقة متميزة للإدارة المرجعية لشؤون المسلمين، وطرح جديد لـ‍ (ولاية الفقيه والحاكم الشرعي).

هذا في الوقت الذي كان اتجاه شيعي ثوري، يرى (ولاية الفقيه) بالصورة المعروفة حالياً..

وكان الإمام الراحل بأفكاره تلك قد سبق عصره في أصل الدعوة إليها، واختلف مع التيارين في آثار تلك الأفكار، وكان يحتاج في ذلك إلى شجاعة كبيرة ليصر على الدعوة إليها ويستمر عليها.

- الأستاذ نضير الخزرجي: في حقيقة الأمر إن الاستبداد صورة من صور النقص والجهل يحاول المستبد أن يتمم بالاستبداد ما شانه من أخلاق ذميمة ونقص في نفسه وقلة معرفة بحقيقة الحياة، ولما تعرف الأشياء بأضدادها فإن الشورى هي صورة من صور الكمال والعلم والمعرفة، ولا أعتقد أن عاقلاً يرفض الكمال إلا المستبد والدكتاتور.

- الشيخ ناصر الأسدي: بحثنا ذلك مفصلاً في كتابين مستقلين هما: (شورى الفقهاء والمراجع.. دراسة تحليلية في القيادة والمرجعية) و(شورى الفقهاء: مقارنة بين نظريتين مرجعيتين).

وبكلمة: لا تقوم قائمة لأمتنا بدون هذه الشورى.. وأشكك في من يطرح الإشكالات غير العلمية بأنه لم يستوعب النظرية كاملة، وسماحته (ره) هو الذي رفع لواء هذه النظرية وكافح في سبيلها طويلاً.. وأغناها بمختلف البحوث والتحليلات المقنعة الجميلة..

 

** يعد الإمام من الداعين إلى اعتماد مبدأ اللاعنف في كافة ميادين الحياة، كما دعا إلى اعتماده من قبل الفلسطينيين، فما هو رأيكم بهذا الطرح خاصة وإن هذا الطرح بات يلاقي رواجاً ودعوات داخل الساحة الفلسطينية نفسها؟

- الشيخ عبد الرضا معاش: حينما  دعا الإمام الراحل إلى مبدأ اللاعنف فقد وضع أسسه وركائزه، وذلك بسبب الإساءة التي تعرض لها الإسلام من جراء حكم بني أمية وبني العباس والقتل والتشريد الذي كان في البلاد الإسلامية، ثم سياسة التكفير التي نعاني منها في جاهلية العصر، والذين يكفرون المسلمين لحساب أنفسهم إذ جعلوا من أنفسهم شعب الله المختار، مما أساءوا إلى سمعة الإسلام والمسلمين، وما الإحداث الأخيرة التي تجري في العالم إلا دليلاً على أن أعداء الإسلام حاولوا الاستفادة من حالة الإرهاب لتشويه سمعة الإسلام.

والإمام الراحل حينما يدعو إلى اللاعنف يدعو في نفس الوقت للوقوف بوجه الظالم، وطرد المعتدي المحتل بكل الوسائل،والتصدي للعدوان بكل أشكال المقاومة.

فسماحته حينما يدعو إلى اللاعنف لا يقصد الاستسلام للمعتدي، وإنما الأساس هو السلم كما كان الأمر في عهد رسول الله(ص)، فالرسول لم تكن له حرب هجومية واحدة إنما كلها دفاعية، والمقدس الراحل اقتبس الفكر من الرسول فالرسول الأعظم حينما كان يواجه اعتداء كان يواجهه بالمثل.

ونحن بحاجة إلى قراءة جديدة لفكر الإمام الراحل سيما ونحن نمر بمرحلة عصيبة ولا نفسح المجال لمن يتصيد في الماء العكر.

- السيد عز الدين الفائزي: مبدأ اللاعنف هو مبدأ إسلامي بلا شك يقول القرآن الكريم (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) فهو يدعو إلى السلم والمسالمة والسلام. والله أحد أسمائه السلام كما في القرآن الكريم (هو السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر) وممارسات النبي (ص) قائمة على أساس السلام والعفو والتسامح ولقد قال (ص): (جئت بالشريعة السمحاء) وعفا عن أعدائه في فتح مكة. وهذه هي سيرة الأئمة سيما الإمام أمير المؤمنين (ع) مع أعدائه. وإذا دعا السيد الشيرازي إلى مبدأ اللاعنف فهو يدعو إلى الإسلام. ولكن يبقى شيء واحد وهو أن مبدأ اللاعنف   لا ينفع دائماً خصوصاً مع الطغاة والمستكبرين والديكتاتوريين كما هو معروف فيحتاج إلى إظهار القوة والحزم والشدة حتى يتوقفوا عند حدهم وإلا فإنهم سوف يحرقون الأخضر واليابس كما في المثل. ومن هنا أكد الإسلام الجهاد ومقاومة الكفار والمشركين وخاض المسلمون إلى جنب الرسول(ص) وسلم حروباً عديدة ضدهم وحتى في بعضها كان تحرشاً كما في معركة بدر.

فللاعنف حدود؛ أما إذا تطلب الأمر المواجهة فهي لابد منها، وقد تكون في الكلام العنيف تارة إذا لم ينفع الكلام الطيب، وفي الموقف تارة أخرى وفي المقاطعة حيناً آخر، وأخيراً في المواجهة. وفي التاريخ الإسلامي توجد ممارسات لهذه الصور المتعددة.

وأما بالنسبة للساحة الفلسطينية فالأمر بالعكس حيث أخذ العنف أشد صوره خاصة في العمليات الاستشهادية بمختلف أشكالها وأساليبها من التفجيرات إلى الاغتيالات إلى المواجهة الفردية والجماعية وغيرها وإنني أستغرب من قولكم (بات يلاقي رواجاً ودعوات داخل الساحة الفلسطينية نفسها) إذ كل الفصائل الفلسطينية في فتح وقوات الأقصى إلى حماس إلى الجهاد إلى الجهات الأخرى كلها باتت تمارس العنف ضد إسرائيل إذ إنها لا ينفعها إلا العنف في الواقع وهي وفق بروتوكولات حكماء صهيون مصممة على مسح هذا الوجود العربي والإسلامي في المنطقة. وممارسات حكوماتها في تاريخها خير دليل على ذلك. وهم الذين عبّر القرآن عنهم، بقوله: (ولتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا).

فهم بذاتهم يحملون العداوة للمؤمنين وبفطرتهم محاربون فكيف يجوز التسامح معهم إلا ما شذ وندر؟.

- الشيخ فاضل الصفار: مبدأ اللاعنف ذكره القرآن قبل غيره ومارسه رسول الله (ص) ومولانا أمير المؤمنين (ع) في سياستهما العادلة حينما حكّموا في الأرض خير ممارسة، وكان هذا الأسلوب خير أسلوب لجذب الأمم والقبائل إلى الإسلام. قال سبحانه (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) ومقابلة الرحمة بالفضاضة في الآية دليل واضح على معرفة وجه الفرق؛ ومن هنا قال سبحانه: (يدخلون في دين الله أفواجاً) إذ لا أحد يحب الخشونة والعنف خصوصاً وأن العنف يعود على الإنسان نفسه بالخسران لأنه لا يتوقف عنده فربما يبدأ من الأعداء ثم ينتهي إلى الأصدقاء ثم يعيق الإنسان نفسه. ويكفينا شاهداً على فشله هو أنفسنا فهل يحب الإنسان الرحماء اللينين وأصحاب الصدور الواسعة أم القساة وأصحاب الفضاضة في الخلق والصدور الضيقة؟ وهل يحب الإنسان أن يتعامل مع المتعصبين والسبابين والقتالين؟

لا أظن أحداً يرجح ذلك على الطيب النقي اللطيف؛ ومن هنا نقول: إن اللاعنف هو أسلوب الأنبياء ولو أراد المجاهد أو العامل أو السياسي أو الاجتماعي الوصول إلى غاياته فلا بد من اتخاذه طريقاً وأسلوباً في التفكير وفي الممارسة لأنه بذلك يصون نفسه من الأخطاء ويكسب لنفسه الأصدقاء ويحيّد الأعداء.. والكلام في هذا طويل لا يسعني تفصيله.

- الأستاذ نضير الخزرجي: سؤالكم هذا يذكرني بلقاء صحفي أجريته مع فضيلة الشيخ محمد تقي ذاكري لمجلة الرأي الآخر وهي المجلة التي كان لي شرف تأسيسها ورئاسة تحريرها عام 1996 في لندن وهي واحدة من ثمار مرجعية الفقيد الراحل حيث سألته نفس سؤالكم عن الطائل من العمليات العسكرية وخاصة في العراق ورأي سماحة السيد الشيرازي بها، وقال فضيلته صراحة إن سماحة الفقيد الشيرازي لا يرى جدوى من العمليات العسكرية وهي تضر بالقضية العراقية ولا تنفعها.

تصور أنه وبعد صدور العدد، تلقيت جملة من الاتهامات والتعريضات، فبعضهم اعتبر عدد الرأي الآخر هو أتفه عدد حسب رأيه، وبعضهم ألّب عليّ وزايد وتآمر لأن من عادته التآمر، وبعضهم اتهمني باستلام أموال من الحكومة العراقية، وبعضهم أجرى اتصالات هنا وهناك للنيل مني بعدما أن كان من قبل قد وضعني (في رسالة خطية خاصة احتفظ بها)  في خانة أصحاب السعير والمحاربين للإمام المهدي (ع)، وربما ساهم هذا النص من اللقاء في حملي مكرهاً على إغلاقي لمجلة الرأي الآخر بعد خمسة أعوام من الصدور المنتظم.

أقول إن هذا النهج القويم في العمل السياسي السلمي غير المعمد بالدماء لم يستطع البعض ممن يحسب على خط الفقيد الراحل هضمه واستيعابه، فما بالك بالآخرين.

إن المشكلة القائمة، أن بعض الحركات الإسلامية وخاصة العراقية كانت ولا زالت تغذي أفرادها بأدبيات الحركات اليسارية الثورية المسلحة مما جعل الحديث عن معارضة سلمية ضرباً من اللاواقعية، والمشكلة إن البعض حتى يومنا هذا لا يريد أن يستوعب الدرس، لأنه امتهن العمل المسلح.

- الشيخ ناصر الأسدي: اللاعنف؛ التعامل العقلي والإنساني مع الطرف الآخر.. وصراعنا الاستراتيجي هو صراع حضاري يتجلى في الغزو الفكري والصناعي لبلادنا.. وليس صراع التسلح والمواجهة الساخنة مع الطرف الآخر.. وإسرائيل المحتلة (ونفوسها حوالي خمسة ملايين) تواجه أمتنا حضارياً على صعيد الفكر والإعلام والتنظيم والتحالفات الدولية والقدرة الاقتصادية الهائلة في العالم، فهي متقدمة حضارياً أولاً.. ثم تمكنت من الاحتلال والتحدي والعدوان.. فيلزم معالجة جذور الأزمة.. ولا تعالج إلا سلمياً وبخطة لا عنفية شاملة..

 

** يدعو الإمام الشيرازي إلى ضرورة ممارسة المرأة لدورها الاجتماعي إضافة لوظائفها العائلية فما هو رأيكم بذلك؟

- الشيخ فوزي آل سيف: مع أن الناظر بنظرة عابرة، قد يرى السيد الشيرازي رحمه الله ذا منهج تقليدي في النظر للمرأة، من خلال ملاحظته لجوانب الاحتياط التي يفتي بها في أمر الحجاب والغطاء للوجه، وسائر المسائل، إلا أن المتأمل بعمق في فكره يرى أنه قد أعطى لها دورا أساسيا في مجالات الخدمة للمجتمع، والأدوار السياسية والعامة الأخرى، سواء على الصعيد النظري في كتبه، أو من خلال رعايته العامة للنشاطات النسائية سواء تلك التي كانت في الكويت أيام إقامته فيها، أو تلك التي كانت في إيران، ومما يكشف عن ذلك أن آخر ساعاته كان له لقاء مع إدارة الهيئات النسائية في إيران، وبعدها ألمّ به ذلك العارض الصحي الممض.

- الشيخ عبد الرضا معاش: تبقى المرأة هي الكيان المتكامل الذي خلقه الله تعالى من أجل استمرارية الحياة. فالمرأة مع دورها الأسري والتربوي الذي يعد عاملاً رئيسياً في بناء الأجيال واليوم برزت هذه الحقيقة بصورة أجلى سيما في هذه المرحلة العصيبة ونحن نعيش مواجهة شرسة مع الإعلام الغربي المضلل الذي غزى الكثير من البيوت، وتحول إلى خطر كبير يهدد الأسرة بالتشتت.

ولكن تبقى المرأة تؤدي هذا الدور الرسالي الجبار من خلال التربية والتوجيه.

ولكن دورها الآخر وهو التصدي إلى الواقع الحياتي والاجتماعي يبقى ضرورة أخرى؛ فالزهراء(ع) هي المثل الأعلى التي كانت تهتم برعاية أبنائها ولكن في نفس الوقت كانت تقف مع الإمامة المتمثلة بالإمام أمير المؤمنين في التصدي للانحراف.

وهكذا أيضاً كان لبطلة الطف الحوراء زينب (ع)، الدور البارز في نشر رسالة الطف المقدسة، فالجمع بين الدورين هو ما كان يؤكد عليه المقدس الراحل.

- الشيخ عبد الكريم الحائري: المرأة كالرجل في حدود حقوقها الشرعية فلها ممارسة أعمالها ما لم تخل بوظائفها الأخرى والإمام الراحل (قدس سره)  أشار إلى ذلك مع ذكر التوجيهات في كتب له (توجيهات شرعية - أسئلة وأجوبة شرعية - تزويج العازبات) مضافاً إلى غيرها من الكتب.

- السيد عز الدين الفائزي: ينطلق الإمام (رحمه الله) من منطلق إسلامي في تعيين وظيفة المرأة المسلمة في الحياة فالمؤمنة كفء المؤمن كما في الحديث ، كما أن الإسلام أمر الرجل والمرأة سوية بأداء الواجبات الدينية والاجتماعية وغيرها باستثناء بعض الفروق بينهما مثل سقوط الجهاد عن المرأة أو الجماعة والجمعة أو سقوط الفرائض أيام دورتها وما شاكل وإلا فالآية الكريمة تقول:

(إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات..).

تؤكد أن للمرأة نفس الصفات الإيمانية والأعمال الدينية التي يقوم بها الرجل.

أما تاريخياً فقد شاركت المرأة في جميع مجالات الحياة حتى الحرب منها فكانت نسيبة المازنية تضمد الجرحى في أحد والأخرى تقدم أولادها للحرب والزهراء سلام الله عليها تخطب في المسلمين من أجل الدفاع عن الحق وزينب تخزي بني أميه في خطبها النارية في الكوفة والشام. فالمرأة في التاريخ الإسلامي لها دور كبير في دفع عجلة الحياة إلى الأمام، وهو تفوق المرأة الغربية في توجيهها وصلابتها وقوتها وعفتها وجميع صفاتها الوجدانية والإيمانية.

وأما بالنسبة للشأن العائلي فهي الوظيفة الواضحة؛ فبما أنها زوجة وأم فلابد أن تقوم بدور بناء الأسرة الصالحة الكريمة من تربية الأبناء والاعتناء بالزوج ونظافة منزلها وأولادها واستقبال ضيوفها وما شاكل.

فالدور الاجتماعي جزء من حياة المرأة المسلمة فهي تعلم الأخوات القرآن والأحكام وتدير المؤسسات والمدارس ، وتربي النشء في رياض الأطفال ، وتخيط الملابس ، وتطرز الأقمشة ، وتقف خلف الجبهة لتشجع الرجال لمواجهة الأعداء كما في حرب صفين ضد معاوية حيث كانت المرأة المؤمنة تشجع الشباب ضد الوالي الطاغي في بلاد الشام.

والإمام الراحل كانت له جلسات خاصة مع الأخوات المؤمنات في توجيههن وإرشادهن إلى مختلف شؤون المرأة في الحياة. وكان آخر لقاء له مع (هيئة النساء) اللاتي جئن من أصفهان في ليلة عيد الفطر السعيد عام 1422 تلك الليلة التي ودع فيها الإمام الراحل الحياة الفانية إلى دنيا الخلود والبقاء إلى الجنان العالية إلى لقاء ربه وأجداده محمد وعلي والحسين، إلى الوفود على أمه الزهراء سلام الله عليهم، نعم كان اهتمام الإمام بالعنصر النسوي وتوجيهه كما هو مع الرجال ولكن بفارق القدرة والوقت.

- الشيخ فاضل الصفار: لا رأي بعد تضافر السيرة الشريفة لسيدتنا فاطمة الزهراء(ع) وابنتها زينب الكبرى(ع)، في مشاركتهن في أكبر قضيتين في تاريخ الإسلام.

- الأستاذ نضير الخزرجي: لمست مثل هذا الاهتمام بالمرأة لدى سماحته من أيام كربلاء، عندما كانت هذه المدينة الوادعة تحتضن أول مدرسة إسلامية خاصة بالنساء ضمن سلسلة مدارس تحفيظ القرآن الحكيم التي قام الفقيد الراحل بـتأسيسها، وعدد لا بأس من طالبات هذه المدارس انخرطن في العمل الاجتماعي والسياسي، فالفقيد الراحل طبق دعوته المرأة  لممارسة دورها الفاعل في المجتمع إلى جانب البيت على أرض الواقع.

- الشيخ ناصر الأسدي: من تأمل في كتاب الله العزيز وسنة الرسول (ص) وسيرة أئمة أهل البيت يرى بوضوح أن الحركة الإسلامية الأولى رفعت شأن المرأة واعتبرتها عنصراً أساسياً في نهوض الأمة، والإمام الراحل (ره) عرف ذلك وتحرك له بجد، ولقد أمرنا (ره) بتأسيس حوزة علمية نسائية.. ونحن امتثلنا أمره.. كما أوصى بفتح مكتب مرجعي.. ومؤسسات نسوية فكانت رؤيته ثاقبة وواعية..

 

** لم يعتبر السيد الإمام الشيرازي الغرب عدواً له وإنما دعا في أكثر من مؤلف ومناسبة إلى ضرورة التواصل مع الغرب.. فماذا تقولون في هذا الشأن؟

- الشيخ عبد الرضا معاش: فعلاً هذا هو منهج الرسول الأعظم في التعامل مع الروم. فالرسول بعث المسلمين لتعلم صنع السلاح من الروم وما أشبه ذلك.

فالغرب يمتلك قابليات جبارة، وقدرات عظيمة، فالمهم الاستفادة منها لنشر الإسلام ولجعله نظاماً عالمياً متكاملاً.

واليوم لم يتمكن الشرقيون من نشر الإسلام بالصورة المطلوبة، ولو تم نشر الإسلام عن طريق الغربيين لتغيرت كثير من التوجيهات نحو الإسلام.

الغرب فيه الكثير من النفوس التي تسعى للوصول إلى الحقيقة. وبما أن الكنيسة في الماضي شوهت سمعة الإسلام عبر تعاملها مع العلم والعلماء بالحديد والنار فقد انتشر من هناك صدى العلمانية.

فالإمام الشيرازي من خلاله كتبه ومحاضراته كان يؤكد كثيراً على نشر الإسلام في الغرب لأن فيه القابليات التي لو تحولت إلى الإسلام لأوجدت تحولاً كبيراً في العالم الإسلامي.

- الشيخ عبد الكريم الحائري: كل عالم رباني يرى الناس عيالاً وأبناءً فلا يرى فيهم العداء ويرى من وظيفته أن يهديهم إلى الصواب وإلى طريق الرشد. ومن هذا المنطلق تكلم الإمام الراحل حول الغرب لدعوتهم إلى التغير في كتابه (الغرب يتغير) ودعاهم على أساس من كتاب الله عز وجل (وادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة).

- السيد عز الدين الفائزي: الغرب في الواقع هو أعدى أعداء المسلمين والشرق ، ما في ذلك شك، وهو حينما يعمل للشرق الإسلامي شيئاً من مشروع أو غيره إنما ينظر إلى الربح المادي الوفير منه وهذه المسألة مسلّمة في تاريخ البلاد الإسلامية والعربية وأمثلتها كثيرة فهو (استعمار) بمعنى الاستغلال والسرقة والنهب وليس استعماراً بالمعنى اللغوي: أي الذي يعمر البلاد ويبنيها فهو يحاول قدر الإمكان سرقة خيرات ومنابع بلادنا، سلب ثرواتنا إلى آخر قرش. مضافاً إلى جعله تابعاً لهم، وسماحة السيد الإمام كتب ذلك في مؤلفاته ومحاضراته وتصريحاته محذراً من سياساتهم في بلادنا.

أما دعوة الإمام إلى الهجرة إلى بلاد الغرب والتواصل معهم، ففي الواقع كانت كحل لما يواجهه الإنسان المسلم من القمع والإرهاب في بلاده ومصادرة حرياته ولكثرة الضغوط السياسية والدولية عليه ، وإلا لو كانت البلاد العربية والإسلامية تنحو المنحى الديموقراطي والقانوني كما في الغرب لما دعا الإمام إلى الهجرة والذهاب إلى الغرب. ذلك لأن مفاسد الغرب وميوعته وابتذاله مما لا يعوزه توضيح ومن هنا فنحن نعتقد أن الإمام في دعوته هذه للتواجد في الغرب إنما هي من أجل العمل للقضايا الإسلامية في بلادنا في إيصال صوت المظلومين والمحرومين عالمياً عبر وسائل الإعلام والمؤسسات والأنظمة العالمية كحقوق الإنسان والأمم المتحدة ومجلس الأمن وجمعيات الاصلاح وغيرها وكان تأكيد الإمام دائماً على هذا الشأن، وإلا فليست هناك علاقة خاصة بين الإمام والغرب فليس الغرب عمه ولا خاله حتى يريد الصلة معه وعدم قطيعته خوف العقاب الإلهي.

فالذي نعتقده أن الإمام يريد أن يستفيد من الحياة الديموقراطية والبرلمانية والحزبية الموجودة هنا. لتسخيرها في دعم حركة الدفاع عن الإنسان المظلوم في العراق وفلسطين وكشمير وأفغانستان وسائر البلاد الإسلامية الأخرى.

- الشيخ فاضل الصفار: هذه حقيقة تفرضها الحياة الإنسانية الداعية إلى التكامل والتكافل.. نعم الهيمنة والاستغلال والاستعمار وغيرها من المفاهيم السلبية خطأ فاحش بل ظلم وفساد وهما محرمان في الشريعة الإسلامية.

فإن الإسلام لا يرفض العلاقات بين الدول والشعوب، إذا كانت قائمة على العدل وحفظ الحقوق، كما قال سبحانه: (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم).

كما أنه ليس من الإنصاف ولا من المنطق أن ننسب الغرب إلى السلبية المطلقة فنتخذ منه موقفاً سلبياً، كما ليس من الصحيح أن نتصور أنه إيجابي بنحو كامل بل للغرب كما لغيره من الدول سلبيات وإيجابيات، والعقل والشرع يدعوان إلى اجتناب السلبي والأخذ بالإيجابي. وعلى هذه الضابطة تطورت الأمم والشعوب وقامت الحضارات. وهذا هو الذي دعا إليه الإمام الشيرازي ورسخ مفاهيمه في كتبه ومحاضراته.

- الأستاذ نضير الخزرجي: أعتقد أن الإجابة ستكون سهلة للغاية إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أن سماحة الفقيد الراحل كان خلقه الإسلام، وأسوته رسول الله وأهل بيته الكرام، ورسالة الإسلام كانت للبشرية كافة وليس لطائفة من الناس، وبالتالي فمن الطبيعي أن ينطلق سماحته في كتاباته ومؤلفاته من أرضية الإسلام الشمولية، فالإسلام يريد الخير للبشرية جمعاء والغرب منهم.

- الشيخ ناصر الأسدي: عقلاء الغرب ليسوا حاقدين كأسلافهم الصليبيين..

وأهل حلهم وعقدهم انصدموا بواقع البلاد الإسلامية المتخلف وقرأوا تاريخ بني أمية وبني العباس وبني عثمان..وهو عبارة عن صفحات يندى لها جبين الإنسانية.. خزياً وعاراً وشناراً.. فلو تمكن المسلمون أن يكشفوا الحقائق الإسلامية الإنسانية والمنطقية للغربيين ويعرفوهم تاريخ الرسول وعلي وأهل البيت(ع) كما هو.. فإنهم على الأغلب يحترمون هذا الدين.. ويشجعون لاعتناقه..

 

** تتنازع الساحة الإسلامية نظريتان بالنسبة لقيادة الدولة، الأولى تتلخص بولاية الفقيه المطلقة والأخرى تتمثل بشورى الفقهاء وهي النظرية التي يدعو إليها الإمام الشيرازي (رضوان الله عليه) فما هي وجهة نظركم حول هذا الموضوع؟

-  السيد عز الدين الفائزي: ولاية الفقيه مسألة طويلة وعريضة في كتب الفقه والفقهاء كلهم يؤمنون بهذه الولاية بما فيهم الإمام الشيرازي. غاية ما هناك أن دائرتها تتوسع وتتضيق لديهم فبعضهم يرى دائرتها في المسائل الدينية والاجتماعية والإصلاحية كما هو رأي السيد الخوئي.  وبعضهم يرى دائرته في السياسة والنظام والحكم كما هو رأي السيد الخميني.

وبعضهم يرى دائرته في السياسة والحكم والاجتماع والإصلاح وغيرها من مناحي الحياة كما هو رأي السيد الشيرازي، والسيد الشيرازي كما هو معلوم من كتاباته مثل (الحكم في الإسلام) و(الحكومة الإسلامية) و (حكومة المليار مسلم) وأمثالها، يمارس الولاية والحاكمية على أحسن أنواعها لكن الإمام الشيرازي رحمه الله لم يحظ بدولة حتى يمارس وظيفة الحاكمية. وعقيدة الإمام الشيرازي كما هو الحق أن الإسلام جاء إلى التطبيق في الحياة ، ولم يأت إلى الوضع على الرفوف، وأن القرآن أنزل من أجل تحكيمه في المجتمع لا من أجل وضعه في المكتبات وبالتالي فمعنى الولاية موجود في الحياة أساساً فضلاً عن المرجع فهناك ولاية للوالد على ولده والسيد على مملوكه والرئيس على شعبه والقائد على جنوده فكيف تخفى هذه الولاية للحاكم الشرعي على مقلديه وتابعيه أو عموم شيعة أهل البيت(ع) بل المسلمين جميعا؟‍!.

هذه الولاية موجودة قطعاً ولكن كما قلت تضيق وتتوسع دائرتها حسب مفهومها لدى المراجع.

وإذا أضيف إلى هذه الولاية التفاهم في الرأي والاستيناس فيما بين المراجع فهو نور على نور وهو مبدأ شورى الفقهاء لأن الرأي بعد المشورة قد يكون أقوى وأفضل من الانفراد وفي سيرة النبي (ص) بعض الشواهد على ذلك:

(فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهو وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله).

انظر أن الله سبحانه، في ذيل الآية، يعطي الرأي الفصل والقاطع للنبي بعد المشورة والاستيناس بآراء المسلمين (فإذا عزمت فتوكل على الله) إذ إن رأي الجماعة قد لا يكون على صواب، هنا يمارس النبي (ص) دوره ورأيه لأنه معصوم ومؤيد من قبل السماء.

إلى هنا نكتفي والبحث طويل موكول إلى مصادره. 

- الشيخ فاضل الصفار: لا يوجد هناك فارق كبير من حيث المبدأ بين النظريتين.. لقيامهما على النيابة العامة التي جعلها الإمام المعصوم (ع) للفقيه الجامع للشرائط وإنما يظهر الاختلاف في ممارسة النيابة في الحكم وإدارة نظام الحكم لو أريد من الولاية المطلقة الفردية في الحكم والاستبداد بالحكومة. ولا إشكال في أن الاستبداد قبيح عقلاً وحرام شرعاً، وتكفينا أوضاع العالم الإسلامي المأساوية في كل أبعادها دليلاً على فظاعة التفرد والاستبداد، في الأمور. وعلى عكس ذلك تماماً نظام الشورى والحكومة التشاركية، والظاهر أن هذه هي النتيجة التي ستتوصل إليها الأمة بعد زمان لتوفر الدواعي والمقتضيات العقلية والشرعية فيها، وإنما لم تطبق إلى الآن بسبب وجود الموانع ومن أبرز هذه الموانع هو عدم الوعي وضعف السلطات الحاكمة فإن الجاهل والضعيف هو الذي يخاف من الآخرين ويتهيب من مشاركتهم له في الرأي أو القرار أو العمل.

- الأستاذ نضير الخزرجي: لا أعتقد أن من الصحيح أن ينال الفقيه ويمارس ما لم يمارسه المعصوم رغم قيمومة ولايته على البشر، والمنطق والعقل ونفس الإنسان فضلاً عن النصوص تميل إلى الشورى.

وبخصوص شورى الفقهاء في مجال الحكم فإن عقل الإنسان يحكم بها قبل النصوص، إذ لا يمكن أن يكون الفقيه فوق القانون، حتى مجلس الفقهاء أو شورى الفقهاء إنما يعمل بالقانون لا فوقه وإلا أصبح هو الآخر مستبداً بصورة جمعية.

- الشيخ ناصر الأسدي: إن الشورى تفسح المجال لكل أو أغلب الفقهاء لممارسة حقهم الشرعي في إدارة الأمة.. وهذا التوجه يتطابق مع قوله تعالى: (وأمرهم شورى بينهم).. إلا أن ذلك يتطلب التأهيل والإعداد وتجاوز العقبات.. لكي تقع الأمة في طريق النهوض.. وتكون أبعد قطعاً عن الفردية والاستبداد..

 

** يدعو الإمام الراحل إلى التنظيم والعمل المؤسساتي بقوة فما ترون بهذه الدعوة؟

- السيد عز الدين الفائزي: التنظيم أهم عامل لتقدم العمل في الحياة وللإبداع في المجالات الحيوية والتفوق ، فلقد أكد الإسلام على العمل التنظيمي سواء للفرد أو المجتمع. يقول الإمام أمير المؤمنين (ع) في وصيته لولديه الحسن والحسين (ع) وهي آخر وصية يودع بعدها الإمام الدنيا الفانية:

يقول (ع): (أوصيكما بتقوى الله ونظم أمركم). انظر إلى النص وصيغة طرح الوصية من قبله (ع).

نعم الإسلام يدعو إلى التنظيم لأن فيه سرعة الإنتاج وحسنه وهكذا العمل المؤسساتي المقابل للعمل الفردي لأن الفرد يتعب ويستهلك في فترة قصيرة بينما العمل المؤسساتي الجماعي يحمل سمات القوة والتنوع والإبداع لأنه يجمع كل العقول والطاقات والإمكانات في المؤسسة فيدفعها إلى الأمام وينجحها وهذا ما كان يراه الإمام الراحل رضوان الله تعالى عليه لذا كان يدعو إلى:

تأسيس هيئات مكونة من مجموعة أفراد لمشروع معين مثل مشفى خيري – أو مؤسسة للنشر والتوزيع أو بنوك قرض الحسنة وأمثال ذلك مما لا يمكن أن يقوم به فرد. طبعاً هذا لا يعني إلغاء دور الفرد إذ إن المجتمع يتكون من أفراد والمؤسسة كذلك وهكذا الهيئات ولكن المنظور أن حياة المؤسسة تنمو أكثر وأسرع من العمل الفردي.

ولقد لاقت هذه الدعوة تقبلاً جيداً من قبل العاملين في الساحة وخاصة المنتمين إلى مرجعية الإمام الراحل فكانت المؤسسات المختلفة في كل بقاع العالم اليوم من المعاهد والمدارس والمراكز الثقافية والهيئات الاجتماعية وأعمال البر والإحسان والإنفاق في سبيل الله إلى المشاريع السياسية للتحرير الوطني الإسلامي من ربقة الأنظمة المستوردة ، وحكام الجور ، وتطبيق النظام الإسلامي الذي كان يدعو إليه الإمام وبقوة في مختلف كتبه.. فالعمل المؤسساتي إذن هو خطوة متقدمة في المشاريع العملية المختلفة في الحياة.

والتعددية الحزبية تعني احترام آراء الآخرين وهذا ما يدعو إليه الإسلام لقوله: (لا إكراه في الدين) (لكم دينكم ولي دين).

فتعددية الأحزاب والمنظمات تعني تعدد الآراء وهذا ما يحترمه الإسلام هذا من جانب ومن جانب آخر فإن في التعددية إعطاء الحريات لبني الإنسان في ممارسة أعمالهم ونشاطاتهم وهذا ما أباحه الإسلام إذ لم يجبر أصحاب الأديان الأخرى على ترك أديانهم والاعتقاد بالإسلام بالقوة. وإنما دعا بالحكمة والموعظة الحسنة (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر).

مضافاً إلى هذا فإن في التعددية زيادة في الآراء والاقتراحات في الأمور مما يستدعي اختيار الأصلح والأحسن منها خلافاً للرأي الواحد الذي قد يكون مصيباً وقد لا يكون كذلك.

وفي التعددية تتبلور الأفكار العلمية المطروحة، وعبر المناقشة والحوار يتم اختيار الأمثل منها للعمل.

وأخيراً فالتعددية تعني احترام الإنسان والقيم والمبادئ فيظهر الحسن منها ، ويطرح الرديء من الآراء. (أما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).

والحياة الإسلامية التي نعيشها تعددية بالقهر فالمرجعية الدينية والحوزات العلمية ، والمؤسسات والنشاطات الثقافية وغيرها كلها تحمل طابع التعددية وإلا ما معنى أن أحدهم يقلد السيد الشيرازي والآخر يقلد السيد الخميني وثالث يقلد السيد الخوئي وهكذا. أليست هذه تعددية دينية. وتتأكد هذه التعددية في المذاهب الإسلامية. وقس على ذلك جميع الشؤون الحيوية الأخرى.

فدعوة الإمام الراحل إلى هذه التعددية هي فكرة الإسلام التي يطرحها القرآن والسنة والتاريخ الإسلامي، وهي من البديهيات. أما النظرة الديكتاتورية في التعامل فهي نظرية شوفينية ، ونزعة أنانية يرفضها العقل والفطرة السليمة والروح الشفافة.

- الشيخ فاضل الصفار: وهل ترون نجاحاً لشعب أو أمة بغير نظم وانتظام؟ وهل يمكن أن تستمر الحياة آمنة مستقرة بغير ذلك؟ نعم ينبغي أن يكون النظم في الأبعاد السياسية والاجتماعية ضمن جماعات وتكتلات حتى يحقق أهدافه لأن اليد الواحدة في هذين البعدين لا تصفق بل تخسر الكثير، ومن الواضح أن الأعمال التي ينجزها الإنسان قد تنتظم ضمن العمل الفردي وقد تنتظم ضمن العمل الجماعي وربما يتمكن الإنسان من تحقيق بعض طموحاته في أعماله، ولكنه لا يمكن أن يحكم عليه بالنجاح الحقيقي ما لم ينتظم ضمن المؤسسات، مهما كان نوع العمل ومستوى الفرد، وقد فصّلت ذلك سابقاً في البحوث التي نشرتها مجلتكم الموقرة في أكثر من ثلاثين عدداً، وقد طبعت أخيراً في كتاب مستقل تحت عنوان (إدارة المؤسسات.. من التأهيل إلى القيادة) الذي تولت طباعته دار العلوم الموقرة.

- الأستاذ نضير الخزرجي: عندما عزمت على الهجرة إلى بريطانيا جلست مع سماحته في غرفته المتواضعة في مدينة قم المقدسة، وكان على علم بسفري، فكتب لي قصاصة وقال اعمل بها، وكان من ضمن وصاياه التنظيم السياسي والعمل المؤسساتي ونشر مفاهيم الحرية والشورى. ومن المفروغ منه أن الإنسان ميال إلى التنظيم رغم اللامبالاة التي يبديها في ممارساته اليومية، كما أن النفس البشرية ميالة إلى العمل المؤسساتي رغم نوازع التفرد التي يظهرها الإنسان في معاملاته الخارجية، والتنظيم هي وصية مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع): (الله الله في نظم أمركم).

- الشيخ ناصر الأسدي: إن العمل المؤسساتي شرط أساسي لنهضة الأمة وتطورها وتقدمها على مختلف الأصعدة.. وبدون المؤسسات تموت الأنشطة مع غياب قائدها.. كما أن الديمقراطية المشروعة والحرية الواقعية لا يمكن حمايتها إلا بالمؤسسات الدستورية.

 

** مما تميز به إمامنا الراحل، دعوته للتعددية الحزبية، فما هو رأيكم بهذه الدعوة؟

- الشيخ فاضل الصفار: إن التنظيم والتعددية والشورى منظومة فكرية واحدة تصب الواحدة منها في الأخرى في سلسلة متناسقة، ولا إشكال في أن التعددية هي التي تتمكن من أن تحفظ الحرية والحقوق في الأبعاد المختلفة لأن خلافها معناه استيلاء الحزب الواحد والحاكم الواحد وهما الوجه الآخر للاستبداد والتفرد.

- الأستاذ نضير الخزرجي: تعتبر التعددية والتنوع من المسائل الذاتية المتأصلة في كل جزئية من جزئيات الكون التي لا يمكن الفكاك عنها وهي جوهر الكون، فكل ما في الكون متعدد ومتنوع إلا خالق الكون المتفرد في وحدانيته الذي لا يشاكله شريك ولا يشاركه شبيه.

والعمل السياسي واحد من مصاديق قوله تعالى: (قل كل يعمل على شاكلته)، فالشاكلة لها اوجه كثيرة منها الرغبة في العمل السياسي والحزبي، فالفرد ميال إلى العمل الجمعي، والعمل الحزبي من مفردات العمل الجمعي، وكل مجموعة تعمل على شاكلتها، على أن لا تتعارض الشاكلة مع المفاهيم الإسلامية والقيم الإنسانية.

- الشيخ ناصر الأسدي: فقدان التعددية يعني الفردية دوماً والمعتمدة على الاستبداد ومصادرة الحقوق.. ولا يمكن أن تتقدم أية مؤسسة أو بلد أو أمة إلا بالتعددية العقلائية، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون..

 

** حظيت المرأة بمكانة وعناية خاصة في فكر الإمام الراحل فهو يحث المرأة لولوج ميدان العمل الفكري الإسلامي مع عدم الإخلال بواجبات الأسرة فماذا تقولون في ذلك؟

- الشيخ ناصر الأسدي: من الواجب الشرعي ذلك وهو مصداق لقوله تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر..) فالمرأة مدعوة للانتساب إلى الحوزات العلمية والجامعات (مع مراعاة الحشمة) والتسلح بالفكر وممارسة دورها عبر وسائل الإعلام والخطابة والكتابة والفن.. مع مراعاة أصول الشرع والاحتشام..

 

** إن المنظومة الحضارية الإسلامية العالمية للسيد الإمام الراحل (رضوان الله عليه) قد لاقت أصداءً واسعة، وحظيت بمراكز ومؤسسات متنوعة على مستوى العالم، فكيف تقدرون الكم والكيف المنجز على هذا الصعيد، وما هي آفاق التطوير من وجهة نظركم؟

- السيد عز الدين الفائزي: منظومة الأمام الشيرازي الحضارية بلا شك فريدة من نوعها ولم يكتب أحد من علمائنا مثلها لحد الآن أما المستقبل فعلمه عند ربي، هل يقيض الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة من يسد هذا الفراغ أم لا، فهو أعلم أما أنها لاقت أصداءً في عالم الفكر والثقافة والوعي على المستوى العالمي فهو أمر بديهي، يبقى أنه كلما تمكن العاملون في هذه المدرسة والمؤمنون بها من تفعيلها وتطبيقها في الحياة العملية فهو وإلا فستبقى نظريات كغيرها من النظريات في التاريخ وكتباً تتوج المكتبات في العالم ليس ألا.

وهذا الكم المنجز في الواقع هو ضخم وكبير جداً قلنا ليس إنتاجاً فردياً إنما هو بحق إنتاج مؤسسات ولكن السيد الشيرازي رحمه الله بهمته العالية التي كانت تناطح الجبال وتعلو على السحاب تمكن أن ينجز هذا الكم الهائل من هذا التراث الإسلامي الكبير العظيم وإذا ما أريد تطوير وتفعيل هذا الإنجاز المتنوع فلابد من تشكيل لجان متعددة في الاجتماع ، والسياسة ،والاقتصاد، والحضارة، والقانون، والثقافة حتى تراجع من جديد هذا الموروث العميق من الآراء والأفكار والاطروحات وبلورة بعضها، وتنسيق وإكمال البعض الآخر ، وإعادة طباعة بعضها الآخر، وأخيراً تنظيم الموضوعات المختلفة من هذه الكتب وفق فهارس حديثة منظمة حتى يسهل تناولها مطالعتها، ودراستها،  والاستفادة منها وأعني في ذلك هو تبويب وتنظيم الكتب غير المبوبة منها وأعني من اللجان هي اللجان المشرفة على كل آثار الإمام فتطرح المكرر منها وتجمع الباقي. في أبوابه المتعددة حتى تسهل المراجعة والمتابعة للباحث والكاتب الذي يريد الاستفادة منها ومنه نستمد العزم والقوة لإنجاز هذا المشروع والله ولي التوفيق.                

- الشيخ عبد الكريم الحائري: من خلال ما هو ملاحظ في الواقع الحالي أن كتب السيد الراحل (قدس سره) وصلت إلى سائر أرجاء المعمورة ولاقت توجهاً خاصاً من جميع الطبقات، وقد تأثر بها الكثير من الناس ولا يمكن إحصاء مدى هذا التأثير؛ إذ هو أمرٌ خارج عن قدراتنا العادية.

- الأستاذ نضير الخزرجي: لقد قدم الفقيد الراحل ما أمكنه تقديمه للبشرية من موسوعة فقهية ومؤلفات أصولية وكتابات مختلفة ومن مؤسسات علمية واجتماعية وطبية وإعلامية وتربوية، وكان يطمح في تقديم المزيد رغم آلامه المزمنة والمصاعب والمحن التي ألمت به خصوصاً في  أواخر عمره الشريف، وأعتقد أن من أهم سبل التطوير هو الاهتمام أولاً وقبل كل شيء بحَمَلة هذا الفكر وهذا الهم وعدم التفريط بهم، لأن الأهم هو عمران النفوس قبل حمل الفؤوس لدق حجر الأساس لكل مؤسسة.

- الشيخ ناصر الأسدي: الكم والكيف كلاهما دون طموح سماحته (ره) بالرغم من أنها إنجازات كبرى تبناها الإمام(ره) في ظروف حرجة بدأها من الصغر مادياً ومعنوياً.. ويمكن تطويرها بتأسيس مؤسسة عالمية خاصة بهذا الشأن.. وعبر المؤتمرات المحلية والعالمية.. فإنها من أهم أساليب التطوير وإنقاذ الأمم.

 

** ما هي الخصوصيات التي تميز بها الإمام الشيرازي الراحل (رضوان الله عليه)، من خلال ما لمسته ورأيته فيه؟

- الشيخ عبد الكريم الحائري: امتاز السيد الراحل كما هو شأن العلماء الربانيين بعلو الأخلاق حتى عبر عنه أعداؤه ومناوؤه بأنه (آية في الأخلاق) وجسد الآية الشريفة بما يمكن أن يجسدها غير المعصوم (وإنك لعلى خلق عظيم) مضافاً إلى ما امتاز به من الموسوعية في العلوم المختلفة ومضافاً إلى اطلاعه وتضلعه فيها، إنه كتب فيها أيضاً، والواقع العملي المعاصر يشهد بذلك، وكل من رآه يشهد له بذلك أيضاً.

- السيد عز الدين الفائزي: في الإجابة على السؤال (18) حول خصوصيات العَلَم الراحل (قدس سره) يقف اليراع عاجزاً عن تحديدها وعدها لأنها كثيرة وكثيرة جداً وذلك بسبب أن كل واحد ممن عاصر سماحته عرف وحدد خصوصيات قد تختلف عن الآخر وهكذا. ومن هنا تتعدد الخصوصيات حتى تصل إلى الكثرة. لأن الكثيرين الذين عاصروا الإمام ومن مختلف الشرائح الاجتماعية. من رجال الدين ، والمثقفين ، والإداريين والسياسيين والصحافيين ، والتجار ، والكسبة ، من الرجال ، والنساء ، من الشباب والأولاد. من العرب والعجم وكثير من الأجانب. ومن مختلف الألوان والقوميات والأجناس ولكل واحد من هؤلاء ذكريات يحفظها عنه رضوان الله عليه. لذلك كما قلت تتعدد هذه الخصوصيات.

ولكن ما يمكن طرحه هنا على عجالة في الإجابة على السؤال ومن خلال علاقتنا القريبة بالسيد الراحل حيناً وبعدها حيناً آخر بسبب الأزمات التي مر بها الإمام من هجرته من مدينة الحسين (ع) إلى الكويت ومن الكويت إلى إيران بعد أن قضى عقداً من الزمان في لؤلؤة الخليج. حصل بعض البعد بيننا بسبب هذه الفترات. فعلى العموم يمكن أن نعد خصوصياته(قدس سره) على النحو التالي:

أولاً: الخصوصية النفسية:

كان يحمل بين جوانبه نفساً عالية ، وهمة كبيرة وروحاً جريئة، يقول الحق ولا تأخذه في الله لومة لائم. يقول الحق ولو على نفسه، كما في الحديث الشريف، وله في مقابلاته ومواقفه مع الرؤساء هذه الجرأة في كل كلماته. تقرأها في مذكراته (تلك الأيام) والتي جرت على مختلف الأنظمة والحكومات في العراق من العهد الملكي ، وحكومة نوري السعيد الذي - كما يقول الإمام - أصدر ضده حكم إلقاء القبض، بعد أن طرح الإمام من الأمور ما يعارض سياسة حكومته. وللإمام لقاءات كثيرة مع أغلب الوزراء في العهد الملكي؛ من اللقاء بوزير الشؤون الاجتماعية. والداخلية القزاز والجلبي وزير الأشغال. ووزراء المعارف، على التوالي:

الشيخ محمد رضا الشيبي ، خليل كبه ، والدكتور عبد الحميد كاظم واللقاء مع رؤوساء الوزارات المتعددة كالسيد محمد الصدر وعبد الرحمن البزاز على مختلف العهود، ورئاسة الجمهورية كعبد الكريم قاسم. والمحافظين:

كعبد الرسول الخالص، وفؤاد عارف وغيرهم.. وسائر المسؤولين في الدولة وفي مختلف القطاعات وكان في كلها جريئاً في طرحه وأسلوبه ومقابلته إذ كانت طلباته كلها من الأنظمة آنذاك تدور حول الإصلاح الاجتماعي والسياسي والتربوي والاقتصادي. مما كان يكلف الدولة ويبهضها في طلبه فكان البعض يستثقل من ذلك ويقول للسيد: ليس هذا. بإمكاننا، فكان جواب السيد: إذن تنحوا عن الوزارة أو الإدارة ، أو النظام، إذا لم يكن بإمكانكم إدارة البلاد كما حصل مع وزير التربية خليل كبه. والرئيس عبد الكريم قاسم، وغيرهم.

ومن يقرأ مذكراته في (تلك الأيام) يعرف ما أقوله جيداً. وفي الجانب الفقهي جرأته وشجاعته في طرح المسائل الفقهية المستحدثة التي صارت سبب استغراب البعض منها كما قلنا في جواب مسائل مضت.

وقل عن جرأته في خوض غمار الحياة، من التصدي للمرجعية في سن مبكرة. طبعاً هذا التصدي أصبح حراماً عليه هو فقط وإلا ففي التاريخ كثير من علمائنا الذي تصدوا في سن مبكرة ولم يعترض عليهم أحد، كما مذكور في قصص العلماء للشيخ التنكابني.

فجرأته وقوته النفسية وشجاعته تعم جميع مراحل حياته خاصة في مواجهته للأنظمة الحاكمة في العراق و مختلف الأدوار من تاريخ العراق الحديث خلال نصف قرن.

وأخيراً طرحه الأفكار الجديدة، من التعددية المرجعية ونظريته في تعدد الأحزاب ، والشورى والحريات والحقوق وغيرها، مما يدل على الانفتاح الذي كان لدى الإمام (قدس سره).

ثانياً: الخصوصية البدنية – أو هيئته وصفاته.

كان الإمام رحمه الله متوسط القامة، جميل المحيا، أدعج العينين، كث اللحية ، عريض الجبهة ، أسود الشعر ، أقنى الأنف وسيماً، أبيضاً مشرأباً بحمرة. كان رحمه الله يتصف بصفات والده المرحوم السيد ميرزا مهدي الشيرازي إلا أنه كان أطول منه فكان في شبابه له جمال وبهاء واضح وفي كبره وقار وجلال خاص، وكانت رؤيته تذكر بالله سبحانه وتعالى كما في الحديث فهو من العلماء الأبرار الأخيار الزاهدين في الدنيا وكانت له هيبة تعلوه ، ونظرات ثاقبة تبدو عليه. ولكنه كان متواضعاً آخذاً من صفات جده أمير المؤمنين (ع)، إذ يقول أحد أصحاب الإمام علي (ع) ما معناه فكان مع هيبته ووقاره كأحدنا نجلس إليه ونتحدث معه. ومع كل تلك الصفات كان النور ينتشر من غرة جبينه ، وسيماء الصالحين تتوج جبهته، ولا غرو في ذلك لمن أدام صلاة الليل منذ أول بلوغه وتكلفيه واستمر عليه طيلة حياته. وبهذا الصدد نقل لي سماحة آية الله العلامة المفكر الإسلامي السيد محمد تقي المدرسي. وقال: في ليلة من ليالي الصيف كنت نائماً إلى جوار خالي سماحة المرحوم الإمام الشيرازي على سطح داره؛ أحسست به وقد انتفض بسرعة يلتفت إلى السماء ليعرف الوقت وكان إلى جنبه إبريق ماء فأخذ يتوضأ ليؤدي صلاة الليل. الشاهد في قول سماحة السيد المدرسي، أنه (قدس سره) قام مذهولاً من فراشه لئلا تفوته صلاة الليل. فمن كان هذه صفته فلا غرو أن يعلو محياه نور الإيمان وسيماء المتهجدين والصالحين فهنيئاً له وطاب حياً وميتاً.

ثالثاً: خصوصياته الروحية.

ومن الخصوصيات الروحية للإمام الراحل، مواظبته على الأوراد اليومية، من الأدعية ، والاستغفار ، وقراءة القرآن ، وزيارة الأئمة، والصلوات وخاصة صلاة الليل التي هي شرف الإنسان المؤمن كما ورد في الحديث عن رسول الله (ص): (صلاة الليل شرف المؤمن) فكان (رضوان الله عليه) لا يفوته برنامجه الروحي اليومي كما لا يفوته برنامجه العلمي والتنظيمي والعملي في الحياة. فكل شيء عنده منظم، من مطالعاته، إلى تدريسه، إلى مقابلاته ، إلى علاقته بأهله ، إلى الالتزام بالنظام وتنظيم الوقت، وإذا ما اعتذر أحد إليه لعدم إنجاز العمل كان يقول نظموا الوقت فسيكون عندكم الكثير منه لإنجاز أعمالكم.

إلى جانب هذا كله كانت روحه شفافة عذبة تشعر به حينما يتكلم ويتحدث معك تعلوه السماحة ويشعّ من وجهه البشر، وترتسم على قسماته الابتسامة. فكانت روحه صافية مشعة فانعكست على حياته اليومية الطيبة كما هو واضح لمن عاشره ولو لفترة قصيرة.

رابعاً: خصوصياته الأخلاقية.

هذا البعد من جوانب حياة الإمام عميق جداً ولا يسعنا في هذا الموجز استعراضه كله إذ لا يدري الإنسان من أي جانب من جوانب حياته يبدأ، أمن تواضعه الشديد الذي هو تواضع الأنبياء ، أم من سماحة نفسه التي هي صفة الأولياء ، أم من كرمه وسخائه الذي هو صفة الأجاود والكرام أم من شجاعته أم طيب كلامه ، أم صبره على الشدائد والمكارة والمحن ، أم ماذا؟ إن هذا الجانب من حياة الإمام بعيد جداً لا يغوصه غواص. ولقد شهد بحقه الجميع بلا استثناء البعيد والقريب فكانت بعض جمل المدح والثناء على لسان من زاره. لقد غمرنا سماحة السيد بأخلاقه ، وقال البعض إنها أخلاق الأنبياء وقال الآخر إنها أخلاق الأئمة والصالحين. ومشاهد الإمام الأخلاقية كثيرة في الواقع يقف الإنسان عاجزاً عن وصفها يكفيك أنه يقوم لكل داخل عليه حتى الشباب والصغار فضلاً عن الآباء والكبار ، وأما أهل الفضل والعلم فلهم مكانه خاصة باعتبار علمهم وعملهم وجهادهم. يستقبل زائريه برحابة صدر ثم يبدأ بالسؤال، من أين؟ ويسأل عن أسمائهم، عن أعمالهم، هل متزوجون أم لا، ثم يبدأ بتحديد وظائفهم من التعلم والدرس والتدريس والتزويج لمن لم يتزوج كما حصل لولدنا السيد عمّار حينما التقى بالإمام عام 1421 أي بشهور قبل وفاته (رضوان الله عليه) فأمره بالزواج وقال: قل للوالد إنك متأخر 6 سنوات مما أخجلني وأذابني عرقاً، واغرورقت عيني بدموع الفرح حينما كتب لي بخطه الشريف نص الرسالة الجوابية على رسالتنا إليه بإعلامه ببعض نشاطات أو أعمال دار التبليغ الإسلامي:

* سيدنا العلامة عز الدين (دام عزه)..

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أشكر لطفكم وأرجو دعاءكم

مشروعكم التبليغي خير مشروع ونسأله سبحانه أن يمن عليكم بكل ما يمن على الصالحين وأن يديمكم في خير وعافية وسلام ورفاه. أرجو دعاءكم. دام بقاءكم

محمد الشيرازي

وعفوه عمن تجاوز عليه أو أساء إليه كثير، بل أحسن إليهم فقال أحدهم: سيدنا أن فلان يقول لقد تكلمت على السيد في وقت مضى وأنا خجل من رؤيته فقال سماحة السيد (قدس سره): لقد عفوت عنه.

وهكذا في إحسانه إلى الآخرين وحبه لهم ، وتقديره إياهم. كان يدعو المسافرين إليه إلى مأدبة الغداء ويجلس هو بنفسه معهم يلاطفهم ويؤاكلهم ولقد حصل لي شرف ذلك أكثر من مرة، منها في الكويت أيام هجرتنا إليها وإقامتنا فيها حيث دعانا إلى الغداء ظهراً في تلك الغرفة الصغيرة التي لم تتجاوز (9) أمتار، في ذلك البيت الصغير الذي لم يكن مكان يكتب فيه إلا السقيفة الصغيرة فكانت محل كتابته حتى كتب بعض دورة الفقه في ذلك المكان الصغير، منها كتاب الصوم وبحث الخارج الذي قرره السيد الراحل في مدرسة الرسول الأعظم في الكويت، وكنت أشهد الحاضرين في درسه وكان منهم سماحة آية الله السيد مرتضى القزويني وسماحة حجة الإسلام السيد عباس المدرسي وسماحة آية الله السيد محمد رضا وسماحة الخطيب الحسيني الشيخ علي حيدر وسماحة الخطيب السيد جبرائيل وسماحة الخطيب المرحوم السيد راضي الحكيم.

ولا أنسى زيارته لنا في اليوم الثاني من وصولنا إلى الكويت عام 1973م حيث انتظر (رضوان الله عليه) استراحتنا وبعدها زارنا. وكانت هذه أخلاقه، زيارة الأصدقاء وعيادتهم، كما علمنا رسول الله (ص) وسلم في الأثر، أنه (ص) وسلم:

كان يعود المريض، ويزور العائد من السفر، ويسأل عنهم: (كان إذا مرض أحدهم عاده ، وإذا عاد من سفر زاره وإذا غاب سأل عنه). وكان السيد (قدس سره) يستجيب دعوة الداعي إذا دعاه إلى مأدبة أو إلى إجراء صيغة عقد ، أو إلى صلاة الميت ، أو إلى حل أية مشكلة أو أية حاجة اجتماعية أو إنسانية. كانت تلك بعض أخلاقه (قدس سره). واستمرت هذه العلاقة من حب الإمام لنا وتقديره إيانا حتى كانت أياديه البيضاء وضيافاته الطيبة تغمرنا أيام كان في قم المشرفة ونحن في طهران وفي زيارتنا له أيام كان في مشهد الإمام الرضا (ع)، في مدة سفره إلى خراسان ، وفي مواطن أخرى.

وكان (رضوان الله عليه) ينصح الأصدقاء دائماً بالعمل والجهاد والعلم وخدمة الناس وهدايتهم وإقامة المشاريع، ويعلمهم الكلمة الطيبة ، والأخلاق الفاضلة ، والسيرة الحسنة. ويستند في ذلك كله إلى آيات القرآن الكريم ، وأحاديث النبي (ص) وأهل بيته (ع)، كقول رسول الله (ص): (يا بني عبد المطلب إن لم تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم).

أو خطاب الله سبحانه وتعالى لرسوله (ص):  (وإنك لعلى خلق عظيم) أو (فبما رحمة من الله لنت لهم).

هكذا كان يعلمهم ويرشدهم كأب روحي كبير لهم. في الختام يحتاج هذا العنوان إلى كتاب خاص نرجو أن نوفق لإظهاره في حينه والله ولي التوفيق.

خامساً: الخصوصية العلمية:

خصوصية الإمام الراحل العلمية هي أشهر من نار على علم، وآثاره تملأ الآفاق ولقد تجلت هذه الآثار في مختلف المحال والمراكز العلمية ، والجامعية ، والحوزوية – في المكتبات والمعاهد والمدارس ، ودور العلم.

وأصبحت في متناول أيدي العلماء والفقهاء والأصوليين وأرباب الكلام والعرفان، سيما كتب الفقه، والأصول، والعقائد.

وقيّمها جماعة من الباحثين والدارسين والمحققين فأبدوا إعجابهم بها وانجذابهم إليها، سيما كتب الاجتماع والقانون والسياسة والإدارة.

كما اهتم المفكرون والمثقفون بجملة أخرى من كتبه التي تهتم بشأن المسلمين المثقفين الحضاريين والمفكرين، منها: الصياغة والسبيل وممارسة التغيير وأمثالها.

وأعتقد أن موضوع الخصوصية العلمية للإمام الراحل يحتاج إلى كتاب خاص يتكفل البحث فيه. نكتفي بهذا الإيجاز ونرجو التوفيق للتفصيل والله الموفق المستعان. 

سادساً: الخصوصية الجهادية.

كان الجهاد مفردة من مفردات حياة الإمام الراحل منذ نعومة أظفاره، فانكبابه على متابعة الدروس والمواصلة عليها ليل نهار من دون تعب أو كلل لهو أفضل عمل جهادي لأن الكثير بدأ بدروس متعددة ثم تركها مكتفياً ببعضها ، وهناك الكثير ممن ترك الدرس فيما بعد. ولكن أن يبقى الإنسان مواظباً عليها حتى آخر عمره وبهذا الشكل الدائب المستمر حتى ينال المرجعية الكبرى فهو أمر غير ميسور لكل أحد ومن وُفق في هذا الطريق ونال الرتب السامية فهو ممن ظل مجاهداً طيلة حياته كما هو معروف عن علمائنا الأجلاء الكبار رحم الله الماضين منهم وحفظ الباقين.

وجهاده في التأسيس والبناء أكثر من المتوقع فسواء كان مباشرة أو بالواسطة. فهو كثير جداً عبر مختلف المشاريع من بناء المساجد إلى الحسينيات إلى المكتبات إلى المراكز الثقافية ، والمعاهد الدينية، من المستوصفات والمشافي، إلى نوادي الشباب إلى مدارس لحفظ القرآن الكريم، إلى تأسيس إذاعة للتوجيه الديني، وإلى الاهتمام بشؤون المرأة وتربيتها وتعليمها، إلى نشر وتوزيع مئات الألوف من الكتب، إلى تأسيس دور الطباعة، إلى الإعلام وإخراج صحيفة ومجلات مثل:

الثقافة الإسلامية، القرآن يهدي ، نداء الإسلام ، مبادئ الإسلام (باللغة الإنكليزية)، إلى ذكريات المعصومين وأعلام الشيعة وأمثال ذلك.

وجهاده في مقاومة الأنظمة الجائرة المستوردة من خارج البلاد الإسلامية ودعوته إلى إقامة حكومة إسلامية عادلة كان منذ تصديه للعمل المرجعي في العراق. ولقد سعى إلى ذلك وكتب (حكومة المليار مسلم) و(إلى حكم الإسلام). و(بين الفساد والجريمة) و(عدم القانون في بلاد المسلمين) وكتب شعراً عذباً يعرّي به ما يجري في بلاد المسلمين وتدهور أوضاعهم وهو بعنوان: (في بلادي) فجهاد الكلمة أعلى الجهاد، كما يقول الحديث النبوي الشريف: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) وقد قالها الإمام في أكثر من موقف. وهكذا يأخذ جهاد الإمام الشيرازي وأعماله الطابع الإصلاحي عبر التوجيه والهداية والتربية ثم الطابع العملي في إرساء قواعد الإصلاح الاجتماعي أو السياسي أو الإداري أي ممارسة العمل في تطبيق المبادئ. وأخيراً ما عساني أقول في أكثر من نصف قرن قضاه الإمام الراحل في عمل وجهاد وتضحية من أجل الإسلام ومبادئه ومن أجل إرساء قواعده ونشر معالمه في العالم.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يبني لفقيدنا الراحل بكل لبنة وضعها أو خطوة خطاها في سبيل الإصلاح والخدمة بيتاً في الجنة إنه الكريم الوهاب.

ونسأله أن يوفقنا للسير على خطاه في خدمة المجتمع والناس إنه ولي التوفيق.

- الشيخ فوزي آل سيف: مما ينقل من شعر أبي العلاء المعري، في حق الشريف المرتضى أنه قال:

لو جئته لرأيت الناس في رجل    والدهر في ساعة والأرض في دار

والذي عرف الإمام الراحل، يرى في ذلك الشعر انطباقا عليه.

- الأستاذ نضير الخزرجي: تذكرنا سيماه بالأوائل من المسلمين الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، وتذكرنا أخلاقه بخلق الانبياء، كان ابا للجميع، يقوم للصغير والكبير، يتواضع للصغير ويوقر الكبير، لا تفارق البسمة محياه، لا يقوم الزائر من مقامه إلا وفي جعبته مشروع عمل، لا يرد السائل ولو بالقليل، وقد رأيت بأم عيني كيف انه كان يستقرض من جاره عندما لا يجد ما يعطيه للفقراء الذين يطرقون بابه كل يوم.

- الشيخ ناصر الأسدي: خصوصياته الأساسية: طموحه الكبير، وشموليته الفكرية والعملية، زهده في بهارج الدنيا، اهتمامه الشديد باستثمار الوقت، همته العالية، احترام الآخرين، المشورة في مختلف الأمور، الجهاد الذي لا يعرف الكلل والملل.

 

** كيف تنظرون إلى مستقبل مدرسة الإمام الشيرازي الراحل (رضوان الله عليه)؟

- الشيخ عبد الرضا معاش: بما أن مدرسة الإمام الشيرازي الفكرية والعملية استقت أفكارها من الكتاب والعترة، فسيبقى لها الاستمرار والدوام، وذلك لأنها تستقي منهجها من المنهج المستمر والمستقيم.

فما قدمه الإمام المقدس إنما هو عنوان حضاري وعصري لما في كتاب الله المنزل ولما ورد عن الرسول الأكرم (ص).

وقد أسلفنا القول في جواب سابق أن الإمام الشيرازي بفكره المشرق قد جعل من الماضي والحاضر والمستقبل وحدة بناء حضاري مستمر ومتواصل تحقيقاً للمبدأ الإلهي في ممارسة الإنسان لدور الخليفة الذي يعمر الأرض بالعلم والعمل الجاد والنافع.

- السيد عز الدين الفائزي: مدرسة الإمام الشيرازي متكاملة من جميع أبعادها وبقاؤها رهن بمواصلة المتصدين حمل رسالة هذه المدرسة، فهم لو يستمرون ببذل الجهد وإعمال الفكر، والتصدي الحقيقي بإخلاص ووعي فإن هذه المدرسة الرائعة تبقى وتستمر، ولكن لو تحول الأمر إلى مجرد شعار في الحفاظ عليها فليس لا تستمر ولا تبقى فقط بل تنسى تدريجياً وتضمحل وهذا أمر طبيعي لأن الحياة قائمة على أساس العمل والجهاد وإلا فهناك حضارات كثيرة في التاريخ سادت ثم بادت والقرآن الكريم يؤكد هذا المفهوم.  وهذا الأمر لا يتعلق بمدرسة الإمام الشيرازي، فكل المبادئ والأفكار بل المذاهب والأديان والرسالات لو لم يكن لها حملة يبعثونها ويجددونها وينشرونها لماتت، فكم من مذهب في التاريخ اندرست قواعده وأصبح اليوم في خبر كان.

فالسيد الشيرازي (رحمه الله) كان بمفرده مدرسة بل كان أمة كجده إبراهيم الخليل (ع) حيث يعبر القرآن عنه بقوله:

(كان إبراهيم أمة) فالحفاظ على هذه الأمة يستدعي الجهاد المستمر وإلا فستصبح في خبر كان كغيرها شئنا أم أبينا.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

- الشيخ فوزي آل سيف: كما ذكرت سابقاً الأفكار الناضجة هي التي تصنع التغيير إذا تفاعلت معها الأمة، ونحن نعتقد أن هذه المدرسة الرائدة بفكرها قادرة على خدمة الأمة، بل ونعتقد أن المستقبل سيوفر لها فرصا أفضل لتقوم بدورها.. فإن الأمة وهي تتطور في ثقافتها سوف تبحث عن الأفضل من الأفكار. ومن جهة أخرى فإن كثيرا من الحواجز التي كانت سائدة في الماضي، وكانت تمنع عن الاستفادة من أفكاره الرائدة قد زالت، أو ضعفت.

وبكلمة كان الإمام الراحل مرجع جماعة، ورأس طليعة.. ويمكن أن يكون فكره برنامج أمة.

نسأل الله سبحانه أن يوفق أمتنا لما فيه الخير والصلاح. وأن يتغمد الفقيد الراحل برحمته وأن يحشره مع أجداده في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

- الأستاذ نضير الخزرجي: من خلف لم يمت، وكيف إذا كان الراحل قد ترك للأمة علماً وعلماء، ستظل الأجيال تقرأ الشيرازي بإذن الله كما نقرأ اليوم المفيد والكافي والأنصاري رغم تقادم القرون.

- الشيخ ناصر الأسدي: أرى أنها في تطور وتقدم.. خصوصاً وأن المرجعية التي حملت اللواء.. تصدت بكفاءة للمواصلة الفكرية والقيادية.. وإن مؤسساته في تطور.. وكوادره في نمو.. والعقبات تذلل يوماً بعد آخر.. ومنافسو هذا الخط وخصومه المصادرون له قد فهموه أكثر.. فالمستقبل في تألق مطّرد.

 


(1) خطيب بارز، ومسؤول موقع المعصومين الأربعة عشر (ع) 14masom.com.

(2) من علماء ومدرسي الحوزة العلمية الزينبية في سوريا.

(3) خطيب بارز، مسؤول ومؤسس دار التبليغ الإسلامي في سوريا.

(4) من علماء ومدرسي الحوزة العلمية الزينبية في سوريا.

(5) من العلماء والخطباء البارزين في المنطقة الشرقية في السعودية.

(6) باحث وكاتب، رئيس تحرير مجلة الرأي الآخر.

(7) من علماء ومدرسي الحوزة العلمية الزينبية في سوريا.

 

الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

العــدد 69

إتصــلوا بـنـــا