حصاد الأفكار منتخبات مما ينشر في الصحف والمجلات من رؤى وأفكار تسهم في عملية تفعيل الوعي الإنساني |
||
أعدها وكتب المقدمة: حيدر الجراح |
||
ما الفرق بين زمن وآخر؟ وكل زمن راحل أو قادم أو حتى الآن فهو مؤلف من أصغر وحدة زمنية إلى أكبر وحدة.. وكل زمن معجون بآهاتنا وآلامنا وآمالنا وأفراحنا وأحزاننا.. نستودع الدقيقة أو الساعة الراحلة.. نبض قلوبنا ونوافذ آمالنا المغلقة.. ونستقبل كل ساعة قادمة بمزيد من الأمل ونفتح نوافذ أخرى جديدة تستقبل شمس الصباحات وتسامر آلاف المساءات والليالي.. نمضغ الألم في ساعة راحلة ويدير لنا خد الأمل في ساعة قادمة.. والزمن هو هو لا يتوقف.. إنه أبداً في حركة متميزة إلى أمام لا يكاد يلتفت إلى شيء خلفه.. ولكنه بالنسبة للإنسان، الذي يشيد حياته بنياناً وطموحات لا يملك إلا أن يؤسس ذاك البنيان وتلك الطموحات في أحضان الزمن بساعاته وأيامه وشهوره وسنينه.. لهذا فهو يتوقف مع ذكريات أيامه الراحلة أحزاناً ومسرات.. يلتفت إليها.. يستعيدها.. يجعلها تستوطن ذاكرته وتسكن الشغاف من قلبه.. فهي أعز ما يملك.. والموت.. هذا الزائر المفاجئ يستوطن هو الآخر في حضن الزمن.. يباغت الثابت والمستقر من حياتنا.. ويعيد تأسيس الأشياء والعلاقات ويحيلنا إلى ركام من الأحزان والمخاوف.. حزن الرحيل.. وخوف المجيء القادم.. والزمن هو نفسه الذي ننكفئ عليه، نواسي أحزاننا ونكفكف دموعنا من خلال جريانه في أنهر حياتنا، حاضراً ومستقبلاً، وهو نفسه حافظ إنجازاتنا والملاحق لآثارنا التي نخطها على صفحات الحياة.. يغدو الزمن أحياناً آسراً لذواتنا وحرياتنا، وأحياناً أخرى هو محطم هذا الإسار، وهو المطلق لكوامن الإبداع في نفوسنا، وفي الحالتين لا نملك إلا أن نتعامل معه كما ينبغي من وجودنا في هذه الأرض، خلفاء لله سبحانه وتعالى، للبناء والإعمار. وعى الإمام الشيرازي الراحل (قدس سره) حقيقة الزمن، باعتباره هذا القيد الذي يحيط بنا كالسوار في المعصم، وثار عليه مكسراً قيوده التي حاول نسجها حوله، وعى حقيقته الأخرى كمطلق لكوامن الإبداع فصافحه وسار معه في دروب الحياة، فاحصاً ومنقياً ومسجلاً لتفاصيلها.. كان زمنه (قدس سره) يضيق أحياناً فتتحول مفردة كاليوم في حياته إلى ساعة واحدة أو ثانية واحدة، ويتسع أحياناً أخرى وكأن كل ثانية تتطاول لتصبح يوماً كاملاً.. وما بين هذين الزمنين، لم يعرف (قدس سره) ما تصالح عليه البشر، من راحة الجسد أو سكون العقل، بل أسس زمناً ثالثاً بين هذين الزمنين، هو زمن العطاء والبناء فقط، أما الراحة التي ينشدها الآخرون في أزمانهم فلم تجد لها مكاناً بين مفردات قاموسه الحياتي.. في هذا الزمن الثالث، ومنذ وعى حقيقة ما تعانيه أمته الإسلامية، حمل معاول الهدم والبناء على كتفيه، حطم كثيراً من الرتابة والجمود الذي أحاط بهذا الواقع الذي تعيشه الأمة، وبنى أساسات أخرى أكثر صلابة وقوة ثم أخذ يشيد عليها في كل لحظة من زمنه حجراً جديداً وزاوية جديدة، وهو في كل هذا يتطاول مع بنيانه ويتقازم الآخرون في ظل ما بناه.. وإذا كان زمن الإمام الراحل (قدس سره) لم يتسع يوماً لما تعارف عليه البشر من راحة وسكون فإنه لم يتسع أيضاً للهامش من أمور الحياة والناس، بمعناه السلبي، فلم يلتفت إلى السهام التي تطلق خلفه أو من أمامه ولم يأبه لألسنة الشتائم والتجريح، ولم يكترث للغة التهديد والوعيد، بل مضى يشق طريقه بعزم وصلابة، رائده الحق، وميزانه العدالة، ووكيله الله جل جلاله.. عاش الإمام الراحل زمن سنواته السبعون ونيف وكأنه استدان زماناً آخر.. وأحسب أنه حين مات (قدس سره) فإنه كان مديناً للزمن بحياة أخرى وعمر آخر.. عماد الحضارة البشرية، في الحفاظ على منجزها الفكري والثقافي هو الكتاب والحجارة.. الكتاب سجل لحياة الشعوب وجميع ما مرت به في حياتها، من انتصارات وانتكاسات، والحجارة شاهد آخر على هذا المنجز، ولكنه شاهد يحتاج إلى من يستنطقه وهو بحاجة أخرى للتخاطب معه، غير لغة التخاطب مع الكتاب. أدرك الإمام الراحل (قدس سره) هذه الحقيقة وعمل على تسييج منجزه الفكري والثقافي من خلال هاتين المفردتين وهما الكتاب والحجارة.. ومفردة الحجارة تحتاج إلى توضيح صغير، وأعني بها هنا المؤسسات الدينية التي أسسها وساهم في بنائها الإمام الراحل (قدس سره) وهي شواهد على منجزه الفكري والثقافي.. فيما يتعلق بالمفردة الأولى، لا يستطيع أحد أن يجادل بحجم جهده الدؤوب في هذا المجال، فهو كان السبّاق في كل مضمار من فنون الكتابة والإبداع، وما تركه من ثروة إنسانية في مجال التأليف خير شاهد على ما نقول.. من خلال إطلاعه الواسع والعميق على تاريخ الآخرين وتراثهم، ومن خلال تبحره بالسيرة النبوية وجد (قدس سره) أن أول تكليف تلقاه خاتم الأنبياء محمد (ص) من رب العزة هو القراءة، وأول كلمة ألقيت في أذنه الشريفة في غار حراء هي: (اقرأ باسم ربك الذي خلق..) إنها نقطة البدء والانطلاق نحو كل عمل عظيم وغرض جليل.. لقد وعى الإمام الراحل (قدس سره) تلك الحقيقة وهي أن (الكتب هي ثروة العالم المخزونة للأجيال والأمم) على حد تعبير هنري دايفيد ثورو و(الكتب هي الآثار الأكثر بقاءً على مر الزمن) على حد تعبير رالف امرسون واضع الدستور الأمريكي. ولقد تعامل مع هذه الحقيقة بكل جدية واحترام وشعور بالمسؤولية.. فهو (قدس سره) يدعو إلى إنشاء المكتبات الإسلامية في كل مكان؛ في المسجد والحسينية والمدرسة والدار والدكان والنادي وحتى المواصلات وغيرها.. فإنها زينة، وتوجب نشر الثقافة، وتشجع المؤلفين ووسائل التثقيف، كالمطابع وما إليها.. فإن المكتبات الكثيرة تستقطب الكتب، فالمؤلف يجد المجال مفتوحاً لديه في التأليف وهكذا.. مدخل حمل الإمام الشيرازي على عاتقه مسؤولية إنهاض الأمة من سباتها، وإنقاذها من براثن الجهل والتخلف والفقر. وهذا ما جعله رائداً من رواد الإصلاح والتجديد بهدف بعث روح النهضة والإحياء والتقدم في المجتمع والأمة. ولأن التجديد والإصلاح بحاجة إلى ثقة بالنفس، وصلابة في الموقف، وشجاعة في الجهر بالرأي ولو كان مخالفاً للمشهور أو السائد في الأوساط العلمية أو في الأعراف الاجتماعية، ولأن الإمام الشيرازي كان يتميز بمثل هذه المواصفات. فقد كان واحداً من أبرز دعاة الإصلاح والتجديد في الفقه والأصول، كما في الأفكار والآراء، كما كان مجدداً في الحوزات العلمية، والمرجعية الدينية. فالإمام الشيرازي يرى أن من مهمة الفقيه المجتهد (التعرض لأحكام المستحدثات من الأمور، والمتطور من الأوضاع ببيان حكم الإسلام فيها، كبيان حكم الإسلام بالنسبة إلى وسائل الإعلام، والمواصلات، والكشوف الجديدة، والآفاق المكتشفة، والتطور الحاصل في الزراعة والتجارة والصناعة والاقتصاد والطب، ومنهاج الحكم بأقسامه المختلفة، إلى غيرها). فالاجتهاد -عند الإمام الشيرازي- يمثل بالإضافة إلى مسائل الفقه الفردي ما يرتبط بفقه الحياة، وفقه المجتمع، وفقه البيئة، وفقه القانون، وفقه الدولة. وهذا ما جعله -بحق- مجتهداً مجدداً ومبدعاً ومتميزاً ومبتكراً. وقد كان الإمام الشيرازي ملماً إلماماً واسعاً بمتغيرات الزمان والمكان. وأكبر دليل على ذلك موسوعته الفقهية التي اشتملت على الكثير من (الحوادث الواقعة). وبعبارة أخرى: لقد عالج الإمام الشيرازي في موسوعته الفقهية قضايا العصر، ومستجدات المسائل الحديثة. كما عالج في كتبه ومؤلفاته الكثيرة العديد من القضايا المعاصرة مما يعكس إلمام الإمام الشيرازي بمتغيرات الزمان والمكان للعصر الذي عاش فيه، وتفاعل معه، ونظّر من أجل حل مشاكله وقضاياه. ولذلك يدعو الإمام الشيرازي إلى ضرورة تجديد التطبيق للسنة على عصرنا نظراً لتغير القضايا والموضوعات من عصر إلى آخر إذ يقول ما نصه: (إن كليات السنة وملاكاتها قابلة الانطباق على كل مصر وعصر، وذلك ما فعله فقهاؤنا في عصورهم السابقة، فمثلاً شيخ الطائفة طبق عصره على السنّة، والعلامة في القواعد فعل ذلك، وهكذا الأمر حتى إلى صاحب الجواهر. ولكن حيث تغير العصر في هذا القرن احتاج الأمر إلى تجديد التطبيق). وقد كان الإمام الشيرازي مثالاً بارزاً للفقيه المجتهد المطلع على قضايا عصره، والمتابع لأخباره وتطوراته، فقد كان الإمام الشيرازي يستمع كل يوم إلى الأخبار، ويتابع الأحداث بدقة، ويسأل كل من يزوره عن أوضاع بلاده، مع العلم أنه كان أكثر إطلاعاً - في كثير من الأوقات - من المسؤول!. لقد عاش الإمام الشيرازي متفاعلاً مع قضايا عصره، ومنظّراً حاذقاً لمشكلات زمانه، وموجهاً قديراً لحل قضايا أمته. إنه نموذج متميز لما يجب أن يكون عليه الفقيه المجتهد. وهذا ما يجب أن يكون عليه كل فقيه مجتهد لكي يتمكن من إدارة المجتمع وقيادة الأمة، ويملك القدرة على التعاطي مع قضايا العصر ومستجداته. لقد واكب الإمام الشيرازي قضايا العصر، ومشكلات الحاضر، وتحديات المستقبل، وهذا ما جعله يعالج في موسوعته الفقهية حتى القضايا الافتراضية في جميع أبواب الفقه، والتي تحول بعضها من مجرد افتراضات إلى حقائق علمية. إن الموسوعة الفقهية للإمام الشيرازي تعتبر بحق أكبر قفزة نوعية في علم الفقه في القرن العشرين. وأعتقد جازماً أن الاهتمام بالموسوعة الفقهية سيزداد مع مرور الأيام والسنين؛ إذ عادة ما يُهتم -في عالمنا الإسلامي- بتراث أي فقيه أو عالم أو مفكر بعد مماته أكثر بكثير منه في حياته!!. إن ما يميز الإمام الشيرازي -شأنه في ذلك شأن سائر المصلحين والمجددين- أنه كان يحمل هموم الأمة بقوة، ويسعى من أجل استنهاضها وإحياء حضارتها. وكان همه الأكبر استعادة الإسلام إلى الحياة، وتوحيد الأمة الإسلامية في كيان واحد. ومن أجل تحقيق ذلك الهدف قدم للامة منظومة فكرية متكاملة. وعندما تقرأ أفكار الإمام الشيرازي ترى شدة تمسكه بالأصالة حتى لتظن للوهلة الأولى أنه أبعد ما يكون عن المعاصرة والحداثة، ولكن عندما تتمعن في أفكاره بصورة أكثر عمقاً ترى أنه مع تمسكه الشديد بالأصالة، إلا أنه مدرك لقضايا العصر ومشكلاته لدرجة تشعر انه مشغول بإصلاح هذا العالم -كل العالم- وتغيير واقعه نحو الأفضل والأحسن والأكمل. لقد شغل فكر الشيرازي منذ نصف قرن مسألة التخلف العميق في الأمة. وكان همه الأساسي: كيف يمكن إنهاض المسلمين؟ ولقد استخلص من جميع ما قرأ من نهضات الأمم، ومما جرب شخصياً في شتى الظروف أن الحرية أساس التقدم في الأمم، وأن الدكتاتورية والاستبداد سر البلاء المبرم، ولهذا السبب فإن الشيرازي دافع عن الحرية بأوسع معانيها، وحارب الديكتاتورية بشتى أشكالها، وتبريراتها، وتفريعاتها. حتى نظريته -في شورى المراجع- كانت تنبع من هذا الأصل الأساسي والذي كان يستند فيها إلى جملة كبيرة من النصوص الدينية، والى العقل والمنطق، وتجارب الأمم. ثم إنه كان يركز -في جميع كتبه ومؤلفاته- حول (الأمة الإسلامية الواحدة) وكان يرى أن الظلم والعدوان الداخلي الناشئ من النعرات القومية والإقليمية كان دائماً أشد من الظلم والعدوان الخارجي، وأن لا خلاص للمسلمين إلا بالعودة إلى حصن الأمة الواحدة التي بناها رسول الله (ص) وإلغاء الفوارق القومية واللغوية..الخ. معتبراً أن ذلك ليس فقط سبباً للضعف الدنيوي بل وموجباً للسخط الإلهي. ولهذا السبب ركز الإمام الشيرازي على ضرورة بعث الأخوة الإسلامية في روح الأمة ووجدانها، وسن الدساتير والأنظمة والقوانين على أساسها، وإلغاء الحدود،والهويات، والجنسيات، والجوازات الخاصة بكل قبيلة وفئة وطائفة، وكان يقول: ماذا يعني أن جبلاً واحداً أو سهلاً واحداً يعيش فوقه جمع من البشر يحمل كل جزء منهم جوازاً خاصاً وكلهم مسلمون؟!. على ضوء تلك المنطلقات بنى الإمام الشيرازي نظريته في (شورى الفقهاء المراجع) و(التعددية الحزبية في ظل النظام الإسلامي) و(الاقتصاد الحر) و(الدعوة السلمية إلى الإسلام) و(اللاعنف). الخ. وفي العقود الأخيرة من القرن العشرين برز الإمام الشيرازي كواحد من ألمع وأبرز أولئك المجددين المتنورين الذين دعوا إلى التجديد في الحوزات العلمية وتطويرها وتنظيمها على أسس حديثة، كي تستطيع مواكبة متغيرات العصر، وتمتلك القدرة على مواجهة التحديات والمخاطر، وتتمكن من التأثير والتغيير الاجتماعي. وقد قدم لنا الإمام الشيرازي رؤية متكاملة حول نظرته إلى ما يجب أن تكون عليه الحوزات العلمية، وإلى ما يجب أن يكون عليه طلاب الحوزات العلمية، وقد كتب في هذا المجال العديد من الكتب مثل: 1- إلى الحوزات العلمية. 2- إلى طلاب العلوم الدينية. 3- هل رجال الدين مقصرون؟. 4- الحاجة إلى علماء الدين. 5- نظام الحوزات العلمية في العراق. 6- رسالة أهل العلم. 7- كيف ينبغي أن تكون قم المقدسة؟. وفي هذه الكتب القيمة يقدم لنا الإمام الشيرازي رؤية جديدة لما يجب أن تكون عليه الحوزات العلمية، داعياً إلى ضرورة إعادة ترتيب وتنظيم وتطوير الحوزات العلمية بما يؤدي إلى القيام بواجباتها على أحسن وجه، كما يوضح دور علماء الدين ورسالتهم في الحياة ومسؤولياتهم تجاه الدين والمجتمع والأمة. ويرى الإمام الشيرازي أنه من أجل ازدهار الحوزات العلمية وتطويرها لابد من توافر ما يلي: 1- الحريات العامة: مثل تشكيل الأحزاب الحرة، والتعددية السياسية، والحرية الفكرية. بحيث يمنع الاستبداد السياسي في المجتمع. 2- شورى المراجع: وفي هذا المجال يقترح أن يجتمع المراجع بأنفسهم أو بوكلائهم كل عام مرة أو مرتين ليقرروا المسير والمصير، كما تجتمع كبار الهيئات الدولية مثل الأمم المتحدة، والمؤتمر الإسلامي، وجامعة الدول العربية، ومنظمة الوحدة الأفريقية.. والأمثلة تضرب ولا تقاس. 3- الوعي المتناسب، إذ بدون الوعي لا يعرف الإنسان كيف الطريق. 4- المحافظة على استقلالية الحوزات العلمية حتى تعرض أفكارها بحرية وبدون قيود، وتعبر عن آراء الإسلام كما هو حقاً لا كما ترغب الحكومات حسب مصالحها وأهوائها. ومما لا شك فيه أن توافرا لحريات العامة، واجتماع المراجع دورياً، وتنامي الوعي العام، والمحافظة على استقلالية الحوزات العلمية يؤدي إلى ازدهار عظيم وتطور متميز في الحوزات العلمية حسب تعبير الإمام الشيرازي. ويعد الإمام الشيرازي واحداً من أبرز الفقهاء الكبار الذين حملوا راية التجديد والتطوير في مؤسسة المرجعية الدينية، وذلك انطلاقاً من معرفة سماحته بالمخاطر والتحديات التي تواجه الإسلام والمسلمين، واحتكاكه الدائم بالواقع الخارجي، وقربه من الناس، ومعرفته بآلامهم وآمالهم. ولذلك يرى سماحته أنه لا يمكن للمرجعية الدينية أن تؤدي وظائفها وتقوم بواجباتها بنفس الأساليب والأدوات المتبعة في الماضي، بل لابد لها أن تطور من أساليبها وأدواتها، وأن توسع من أهدافها وصلاحياتها. فالمرجعية بما أنها القائد للأمة والموجه لها والمرشد لمسيرتها يجب أن تتطور بما يمكنها من القيام بمسؤولياتها وواجباتها. وقد كتب الإمام الشيرازي أكثر من كتاب عن المرجعية الدينية أوضح فيها رؤيته حول وظائف المرجعية وواجباتها، وواجبات الأمة تجاهها، وأهمية التواصل والتفاعل بين المرجعية والأمة. فالإمام الشيرازي لا يحصر مسؤولية المرجع في الإفتاء والقضاء كما ذهب إلى ذلك جماعة من الفقهاء، بل يرى بالإضافة إلى ذلك مسؤوليات ثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية تقع على عاتق المرجع الديني. فالمرجعية -بنظر الإمام الشيرازي- هي القائد للأمة، وبالتالي تتحمل مسؤوليات ضخمة في إدارة المسلمين، ونشر الإسلام، والعمل على استعادة دوره في الحياة العامة. لقد كانت مرجعية الإمام الشيرازي مرجعية فاعلة وناشطة وهذا ما مكنها من التأثير الاجتماعي، بالرغم مما مرت به هذه المرجعية الرائدة من إشكاليات واستفهامات وضغوط مختلفة ومتنوعة، إلا أن نشاط ومؤهلات الإمام الشيرازي العلمية والعملية قد جعلته يتجاوز مختلف الحملات والضغوط التي تعرض ويتعرض لها -عادة- كل مصلح ومجدد. ولم يقتصر الأمر على تجاوز الأفعال السلبية التي كانت موجهة ضد مرجعية السيد الشيرازي، بل استطاعت هذه المرجعية أن تقوم بصنع الأفعال بدلاً من التركيز على ردود الأفعال، لأنها كانت تمتلك رؤية متكاملة لما يجب أن تكون عليه (المرجعية الدينية) في هذا العصر. أضف إلى ذلك أن شخصية الإمام الشيرازي لم تكن شخصية عادية، بل كانت شخصية متميزة ومبدعة بكل المقاييس، وربما هذا يفسر لنا أيضاً أنها كانت على الدوام شخصية مثيرة للجدل!. ويمكننا أن نلخص أهم سمات المشروع العملي الذي سار عليه الإمام الشيرازي في العمل المرجعي بالعناصر التالية: 1- مأسسة الأعمال: يؤمن الإمام الشيرازي بضرورة مأسسة الأعمال كي تستطيع القيام بدورها وخصوصاً في هذا العصر، عصر المؤسسات الكبرى، والتجمعات القوية، والتكتلات العملاقة. أضف إلى ذلك ضخامة التحديات التي تواجه المجتمعات المسلمة، مما يستدعي إحداث نقلة نوعية في الجهاز المرجعي، وتحويله من أعمال فردية محدودة إلى أعمال ترتكز على العمل المؤسسي المنظم. وهذا بالضبط ما قام به الإمام الشيرازي، حيث انتقل بجهاز ومؤسسة (المرجعية الدينية) من القيام بأعمال محددة ويغلب عليها الطابع الفردي، إلى القيام بأعمال كبيرة ترتكز على العمل المؤسسي المنظم والحديث. 2- تنوع المشاريع: يلاحظ أن مشاريع الإمام الشيرازي ومؤسساته تتسم بالتنوع والكثرة، فهي لم تقتصر على جانب واحد بل شملت مختلف الجوانب، وينبع هذا التنوع من طبيعة تنوع الحياة، فإذا أردنا استيعاب جميع جوانب الحياة لابد من مشاريع ومؤسسات تغطي المساحة الواسعة من صور الحياة المختلفة. 3- الانتشار والتركيز: كان الإمام الشيرازي يعمل على إنشاء المشروع الأم، ويرعاه بما يحتاج إليه من رعاية من أجل أن يصبح هذا المشروع مولداً لمشاريع أخرى. وهكذا كان المشروع الواحد يولد مشاريع كثيرة، ليس في المنطقة التي قام فيها المشروع الأول، بل يمتد إلى مناطق أخرى من العالم الإسلامي. 4- استقطاب الكفاءات: لم يحصر الإمام الشيرازي نفسه بمجموعة معينة من الناس، فقد كان رأيه أن يستفيد من كل صاحب قدرة على العمل مهما كان انتماؤه المرجعي أو السياسي أو حتى المذهبي، إذْ كان يدعو كوادره إلى التعاون مع الجميع. وهذا منتهى الحكمة في منهج الإمام الشيرازي فلو كان قد استغنى عن الآخرين، لما كان بمقدوره أن يقوم بتلك الإنجازات الكبيرة في حياته، ولما كانت له هذه الامتدادت الكبيرة في البلاد الإسلامية والبلدان الغربية. وقد تميز الإمام الشيرازي بقدرة فائقة على استقطاب الكفاءات وبالخصوص كفاءات الشباب والشرائح المثقفة، ولذلك تميزت مرجعية الإمام الشيرازي بأن أكثر أتباعها من الشباب والمثقفين، وذلك لأن الإمام الشيرازي كان يفهم كيف يتعامل مع الشباب، كما مع المثقفين، ولديه من الأخلاقيات الراقية والأفق العلمي الواسع ما جعله قادراً على استقطاب الطاقات والكفاءات العلمية. 5- تطوير وسائل العمل: لم يقتصر الإمام الشيرازي على الوسائل القديمة المتبعة في العمل الديني، بل ابتكر وسائل جديدة، وأفكاراً جديدة كي يتمكن من التأثير على الشرائح الاجتماعية المختلفة وبالخصوص الشباب والمثقفين. وقد ابتكر الإمام الشيرازي الكثير من الوسائل الجديدة في العمل الديني كالاهتمام بنشر الكتيبات وبمختلف اللغات، وإنتاج الأفلام الدينية وعرضها، وتأسيس الكشافة الإسلامية، والنادي الإسلامي، وفرق للأناشيد الإسلامية. كما ابتكر طريقة التبليغ السيار اليومي، والمسرح الإسلامي، وإقامة المهرجانات والاحتفالات الكبرى. كما أسس العديد من المكتبات الخاصة والعامة، وكذلك أسس الكثير من المدارس المختلفة. وغير ذلك كثير. عبد الله اليوسف مجلة الكلمة، العدد 34، بيروت، السنة التاسعة، شتاء2002
التعريف بالكتاب لابد للحياة من تجديد، فالحياة من دون تجديد ظلام قاتم ومن دون مجددين جمود قاتل. ولا يعني التجديد إلا تجديد الإنسان الذي لا يفكر إلا بالجديد المؤسس لبناء الإنسان والحياة وعمارة الأرض.. وما دمار البشرية وارتباك نظامها واضطراب حياتها إلا بسبب الفكر القديم الذي يحدو الإنسان ويقود المجتمع ويبني الحياة، ذلك الذي يدل على حاكمية إنسان المدنية الزائفة بفكرها وليس الحضارة الإلهية الرائدة. ولذلك استلزمت الحياة وجود المجددين المجاهدين من أجل تجديد فكر الإنسان وفهمه وثقافته ليتمكن من إعادة صياغة المجتمع وبناء الأمة وتحقيق السعادة وعمارة الأرض وبالتالي بناء الآخرة. فمن معالم التجديد في مناهج الفكر: فقد أحدث سيدنا المجدد الشيرازي الثاني تجديداً كبيراً في الحياة، وفتحاً مبينا للإسلام والمسلمين، حتى كان له رضوان الله تعالى عليه تجديد عظيم في الثقافة والفكر، في الفقه والأصول، في السياسة والاقتصاد، في النفس والاجتماع، في الحكومة ونظام الحكم، في إلا صلاح والإصلاح الاجتماعي، في التغيير الحضاري وسبله، وفي كافة مجالات الحياة. فحينما يفكر الإنسان بمناهج معكوسة، ينعكس منطق الحياة وتتنكر معالمها، فيصبح الخير شراً والإصلاح إفساداً، والمصلح الناصح عدواً لدوداً. من هنا فقد فكر الإمام الشيرازي رضوان الله عليه في تجديد المباني الأساسية للفكر وسبل التفكير، وإرسائها على قواعدها السليمة الموزونة بموازين الشريعة والدين، فكان له تجديد في مناهج الفكر والتفكير، تلك المناهج التي لم تكن في قاموس المسلم عموما، فضلاً عن كونها مشوشة في ذهن المفكر الإسلامي إذا فكر بأمر، أو أقدم على مشروع. أما في الفقه: فقد أدرك الإمام الشيرازي رضوان الله عليه، أن الدين هو دين الحياة، فاحتاج التدين بالإسلام إلى الفقه والتفقه، وبذلك لم يكن الفقه عند الإمام الشيرازي حكراً على العبادات، ولا وقفاً على المعاملات والإيقاعات، فهو فقه للحياة بكل ما تحمل كلمة الحياة من معان، وهذا من التجديد الذي أحدثه الإمام المجدد في الفقه. ولأن الله تبارك وتعالى قد بنى الحياة على أساس تحقيق السعادة للبشر، فقد أدرك رضوان الله عليه وجود مشاكل تعمل على قلب موازين الحياة وتغير منطق العمل والتعامل فيها. فمن هنا نجد الإمام المجدد قد بحث فقه مشاكل الحياة وطرق علاجها وسبل مكافحتها، فكانت الحياة عنده ساحة طاهرة كما أرادها الله تعالى، والإنسان رمزاً لها، والدين هو فقه الطهارة من كل ما يدنس الحياة ويلوثها. وهذا من التجديد الفقهي، بل من التجديد الواضح في الفقه. ومن معالم التجديد في عالم السياسة: فهو تأسيسه الفكر السياسي على مبان فقهية وأسس دينية وموازين شرعية، فكانت للسياسة في فكر الإمام المجدد قواعد، ولمشروع السياسة أصول، وللنظرية السياسية معالم؛ وعليه فقد كان العمل السياسي الفردي عنده من المحرمات القطعية ما لم يقم على موازين الشريعة، بحاكمية قوانينها فيه. وعلى هذا فقد فصّل قدس الله سرّه، في هذا الميدان ما كان جديداً في عالم السياسة عموماً والسياسة الإسلامية خصوصاً. وهذا من بعض التجديد الذي أحدثه الإمام المجدد في مشاريعه. أما عن مشروع الحكم في الإسلام: فقد أغرق الإمام الشيرازي البحث فيه بالأدلة العقلية والنقلية والشواهد التاريخية،ليس من أجل إثبات موضوع الحكم في الإسلام فحسب، بل من أجل إقامته على أسس وقواعد ومناهج مربية وضابطة لعقل الإنسان الحاكم والمحكوم، وفكر الراعي والرعية. فكان كل ما جاء به الإمام الشيرازي رضوان الله عليه، في هذا المجال جديداً ومميزاً، من حيث النظرية والتطبيق، حتى كان له من التجديد ما يربي العقل والفكر على التجديد والتأصيل والإبداع في عالم السياسة. وفي القيادة والعمل المرجعي: كان له (قدس الله سره)، مشروع تجديدي يستهدف تجديد النفس، وينمي العقل، ويشذّب التفكير على سبيل المفهوم النظري والمشروع العملي عن المرجعية الدينية والقيادة الإسلامية في التشيع خصوصاً والإسلام عموماً. أما على صعيد الإصلاح والإصلاح الاجتماعي، والتغيير الحضاري، فقد كان للإمام المجدد جديد مميز وتجديد مبرّز. ولما كان المشروع التجديدي في الفكر الإسلامي عند الإمام الشيرازي قائماً على أسس وضوابط وأصول، فقد أصبح لفكره أبجديات تغطي الحياة من الألف إلى الياء، فلا تترك مجالاً إلا وقد مرت عليه بدقة ووضعت العلاج الشافي له. فصار لمشروعه الإصلاحي من المناهج ما يعالج بها الفساد في المجتمع بأوسع ما يمكن تصوره؛ فلم يكتف الإمام الشيرازي (قدس سره) بعلاج مشكلة الإنسان المسلم فحسب، بل ربط مشروعه الإصلاحي بين تغيير الإنسان وبناء المجتمع، وصياغة الأمة، وتغيير العالم الحاكم على عالمنا الإسلامي المحروم من شكر نعمة المجددين وتقدير ظاهرة الإصلاح، حتى ارتبط مشروعه الإصلاحي بإصلاح الغرب، وتعديل مفاهيم المفكرين الغربيين عن الإسلام والمسلمين. وبذلك نجد أنفسنا أمام مشروع إصلاحي كبير يشمل مفردات الحياة برمتها، وهذا من التجديد في العمل والتغيير والمشروع الإصلاحي الذي أحدثه الإمام المجدد رضوان الله تعالى عليه. ولهذا وغيره من المشاريع التجديدية، كانت هذه الدراسة التي اهتمت بالكشف عن الجوانب التي جدد فيها المجدد الشيرازي الثاني أعلى الله تعالى مقامه. محمد سعيد المخزومي: المجدد الشيرازي الثاني تحول في التاريخ الإسلامي
- المعالم الأربعة - ما هي معالم مرجعية الإمام الشيرازي حتى تستهوي شريحة كبيرة من شباب القطيف والخليج وأقطار العالم الإسلامي وتشكل أحد تيارات الفكر والعمل الاجتماعي في عصرها الذي دخلته قريب القرن الرابع عشر من الهجرة النبوية؟. الْمَعْلَمُ الأول: مرجعية النزول تمتاز مرجعية الإمام الشيرازي بكونها مرجعية نزول، ومرجعية العمل الـمُبادئ، أي القيام بالمبادرات وتحريك الواقع نحو أهدافها وذلك على عكس نمط آخر من السلوك المرجعي الذي يمكن تسميته بمرجعية الثبوت والصعود حيث نجد الفقيه يلتزم بحالة من السكون الفكري والعملي تجاه القضايا المعاصرة ولا يتدخل فيها إلا بمقدار رجوع الناس إليه في الشؤون التي تهمهم عندما يطلبون منه تحديد الموقف الشرعي، كحالة صعود منهم إليه. إن المرجعية المصطلح عليها باسم (مرجعية نزول) لها نظرة إيجابية تجاه الجماهير، فهي تعشق الناس وتقترب منهم وتتفاءل بهم وتنظر لهم نظرة كلها إيجابية وذلك على عكس ما كان سائدا في ثقافتنا التي تقسم الناس إلى خواص يتميزون بكل الحسنات وعوام تكال لهم النكاية ويتهمون باتهامات الجهل والدونية. ومن سمات مرجعية النزول أنها لا تركز على شخص القائد وتلغي الآخرين بل تشجع دوما على إنهاض الكفاءات وشحذ الهمم وتخريج الأجيال من العلماء والمثقفين والمفكرين، وتعتبر ذلك ضرورة دينية لأن أي دين وأي مجتمع لا يستغنيان عن الأتباع المخلصين. ومن هنا تدخل الإمام الشيرازي الراحل (قدس سره) في وضع مواصفات الإنسان المؤمن العامل ودعا إلى التفريق بين الجماعات المؤمنة والجماعات المنحرفة وتحدث كثيراً في كتبه عن أخلاقيات الدعوة والعمل الإسلامي وشروط الداعية الملتزم. وهذا الْمَعْلَم قد انعكس على مقلديه بوضوح فقد عرف عن هذا الاتجاه كونه اتجاهاً جماهيرياً ينزل للساحة ولا ينتظرها، ويحركها ولا تحركه فقط، ويعمل معها دوماً مرشداً ومعيناً ومبرمجاً ولا يتركها لتعيش معسول الكلام كأسهل عمل يقوم به داعية الكلام أو من له تأمل في احتياجات الناس بل أنشأ عدداً من الأعمال الخيرية والتنظيمية والتوعوية. الْمَعْلَمُ الثاني: المثقف الديني وهذا المعلم واضح أشد الوضوح فقد عرف مجتمعنا مشيخة العبادات والعقائد، أولئك الذين لا يعرفون من ثقافة الحياة إلا شرح هذين الفصلين من فصول المعرفة بالطرق التقليدية والخطاب التقليدي الذي يقوم على استحضار ثقافة العصور القديمة وهمومها ومشكلاتها الخاصة. وقليل من مشيخة البلاد قبل ثلاثين سنة ، أي قريب 1390هـ ، من كان يدعو إلى نشر الثقافة بين الناس على عكس نهضة بعض علماء النصف الأول من القرن الرابع الهجري، بل جاءته الثقافة العصرية من أبواب غير أبواب الدعوات المحلية حتى إذا ما عرف الناس مرجعية الإمام الشيرازي بدأ يدب في حياة المشيخة من الشبيبة جيل مثقف انفتح على حياة الناس وهمومهم الفكرية والمسلكية بوعي الحاضر الذي تقوده رؤية دينية عصرية تفسر الحياة الإنسانية بحضور ديني مشرق. وفي كتابه (السبيل إلى إنهاض المسلمين) تحدث عن الثقافة كثيراً باعتبارها طريقاً ضرورياً لنهضة المسلمين، يقول الإمام الشيرازي: (الثقافة هي التي ترسم للأجيال مسيرتها، وهي التي تحدد طريقة تعامل الأمة مع الأحداث والوقائع وهي التي تعين مستقبل الأمة. فالثقافة الإسلامية تجعل الأمة تسير سيراً متميزاً في الحياة فكرياً وعملياً ونظرياً وسلوكياً، والمسلمون في الصدر الأول تحلوا بهذه الثقافة فحرروا نصف الكرة الأرضية بعد أقل من ثلث قرن من بداية جهادهم المقدس في السنة الأولى للهجرة)(1). وهكذا نجد هذا الفقيه المثقف يلقي بظلاله على مقلديه فنرى مشيختها تتحدث ضمن مشروعها الديني والاجتماعي عن هموم الناس في الحياة والطفولة وأخلاقيات العمل الإسلامي ومشكلات المرأة ومشكلات التخلف الحضاري. وينشغلون ضمن مشاغلهم بقضايا كانت أشبه بالمحرمة تتناول أسس الحكم والإدارة، وحقوق الإنسان الإنسانية ـ الشرعية، ونمط العلاقة الصالحة بين الحاكم والمحكوم وفئات المجتمع المذهبية والمناطقية. مشيخة يتحدثون عن الوحدة الإسلامية وهموم الأمة الإسلامية الكبرى ، رجال على صلة بالأحداث العالمية يحملون هموم السلام والحرب ، وهموم الحقوق للشعوب ويسعون لمعالجة مشكلة التغيير الثقافي، وغيرها من القضايا والاهتمامات. الْمَعْلَمُ الثالث: العمل الإسلامي ليس غريباً أن يكون لعنوان (العمل الإسلامي) مكانته في أدبيات الحركة الإسلامية التي تأثرت بمرجعية الإمام الشيرازي ذلك أن رجلا كمثله كثير الحديث عن العمل وضروراته لا بد أن يترك بصمات الاتجاه نحو العمل في أتباعه ومريديه، بل ويحبب لهم الاسم حتى يجعلوه شعاراً وعنواناً. والعمل عنده لم يكن مجرد عمل فردي يتسم بتقديم صدقة أو أداء صلاة مستحبة. كلا، لم يكن الأمر كذلك، مع أنه كان يرى من صفات الإنسان الرسالي العامل الالتزام الشرعي بالدين واجباته ومستحباته. أما العمل الإسلامي الذي كان يعنيه وينظّر له فقد كان ذلك العمل الذي يتصل بالمشروع الإسلامي الشامل لجميع نواحي وجوانب الحياة بدون استثناء لأي منها. الْمَعْلَمُ الرابع: الشورى والوحدة وهو المعلم الرابع ضمن كليات تأثير مرجعية الإمام الشيرازي في القطيف كما نريده كوضع خاص بنا نتدارسه لعل مجتمعنا الذي نريد له أن يتطور كيفيا يتفهم أفضل أساليب إدارة شؤونه وأزماته. والحديث عن الشورى والوحدة حديث يتصل بثلاثة مستويات: بمستوى وضوح الرؤية الإسلامية لمفهومي الشورى والوحدة وتطبيقاتهما الحياتية. بمستوى الوعي العقلي المتنور في ثقافة المجتمعات ووجود ثقافة متحركة تطالب بالشورى والوحدة. وبمستوى نضوج الرؤية التي تتحكم بعلاقة الجماهير بقيادتها وعلاقتها ببعضها البعض عند التطبيق وممارسة الفعل الشوروي والوحدوي. ولعل ما يثير الاهتمام بهذين الموضوعين في ثقافة مجتمعنا القطيفي وممارساته هو أن الاهتمام بهما لا ينبع من وجود خطاب جماعي متفق عليه وراسخ وله قبول واسع الانتشار في ثقافة المجتمع في ظل طغيان التقليدية التي تقوم على الطاعة العرفية بين القيادات والأتباع، وإحالة موضوع الوحدة والاختلاف إلى منبهات الإحساس الفطري الذي يحبذ نبذ الاختلاف بين أبناء الجماعة الواحدة، أما أن يكون هناك تنظير لمستوى التعامل بالشورى والوحدة العملية كشرط من شروط إدارة المجتمع ومشاركة الفاعلين فيه، ودراسة كيفية تحقيقهما على مستوى شرعية فكرية أو اجتماعية أو وطنية أو إسلامية أو غيرها فتلك مسألة أخرى لم ينشغل بها بال الفكر الديني التقليدي. ولأن من سمات مرجعيته التي ذكرناها كونها مرجعية نزول لا تقتصر على نفسها في الساحة ولا تحتكرها لتتفرد بها لأن ساحة العمل تستفيد من كل الطاقات لذا نراه ينظر لنظرية (شورى الفقهاء) والقيادة المرجعية الجماعية باعتبارها مساحة لقاء وعمل تجمع بين ذوي الاهتمام الواحد وفي أعلى المستويات الدينية ولها شرعية دينية استدلالية. يقول في ذلك: (جعل الإسلام موازينه السياسية (الشورى) حين لم تكن ديمقراطية في أي من بلدان العالم حيث قال سبحانه ( وأمرهم شورى بينهم) (الشورى: 38)..)(2). جهاد الخنيزي: معالم مرجعية الإمام الشيرازي في القطيف
(*) إلى نهضة ثقافية إسلامية.. (1) الشيرازي: السبيل إلى إنهاض المسلمين ص 26. (2) السيد محمد الشيرازي: الصياغة الجديدة، ص326. |
||