لقاءات |
|||||
لقاء لمجلة
النبأ مع
النائب الكويتي صالح عاشور
الإمام الشيرازي وقضايا الشيعة في دولة الكويت |
|||||
|
|||||
من الثابت، أن الإمام الشيرازي الراحل – قدس سره – في هجرته الأولى إلى دولة الكويت، قد رسم معالم مشروع نهضوي شامل في هذا البلد، قد باشر بنفسه وضع لبناته الأساسية، وبناء وإحكام دعائمه، ورسم خطوطه العريضة، وتثبيت أعلامه الكاشفة لسبل وكيفية التحرك المستقبلي، وصولاً إلى الأهداف الكبرى المتمثلة بتنضيج الوعي الإسلامي المسؤول ورداعتبار هذه الأمة، وإعادتها إلى سابق عهدها كأمة واحدة، شاهدة على بقية الأمم، وحاملة لرسالة الإسلام العظيم، التي تنطق بقيم الخير والمحبة والرحمة والسؤدد للإنسانية جمعاء. هذا، والبصمات التي تركها المرجع الديني الأعلى الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره – على البنية الاجتماعية والثقافية والسياسية للمجتمع الكويتي واضحة وماثلة للعيان. ولأجل تتبع تلك الآثار والبصمات للمشروع الحضاري الإسلامي العالمي للإمام الشيرازي – قدس سره – والذي باشره منذ الأيام الأولى لتواجده على أرض الكويت، كان لنا هذا اللقاء مع فضيلة الأستاذ النائب صالح عاشور عضو مجلس الأمة الكويتي، وفيما يأتي تفاصيل ما دار في هذا اللقاء: س1 بداية نرحب بكم ونود أن توضحوا – بناءً على معرفتكم الشخصية بالإمام الراحل – تأثيراته الذاتية عليكم... س2 كيف كانت إنطلاقة الإمام الراحل، في الكويت، من جهة عمله وبرنامجه ومشروعه؟ س3 ماذا عن دور الإمام الراحل – قدس سره – في إنضاج الوعي الديني والسياسي للشيعة في الكويت؟ س4 ما هي الآثار الإيجابية التي خلّفها الإمام الشيرازي على البنية الاجتماعية الكويتية، من ناحية تحقيق التماسك الاجتماعي وخلق الأجواء الاجتماعية المنفتحة، وما إلى ذلك؟ س5 امتاز الإمام الشيرازي بالنضج والحكمة والحنكة في المجال السياسي، فهل كانت له أنشطة سياسية معينة، وما هي تأثيراته على صعيد الحياة السياسية في الكويت؟ س6 كيف تعامل السيد الإمام الشيرازي مع المذاهب والاتجاهات الأخرى في المجتمع الكويتي؟ س7 سماحة السيد الإمام يملك مجموعة من الآراء والنظريات المتميزة حول: اللاعنف، والشورى، والديمقراطية، والتعددية، والحريات، و....إلخ، فما مدى تأثير تلك الآراء والنظريات على الكويت بوجه خاص، وغير الكويت بوجه عام؟.
س8 باعتباركم أحد أبناء مدرسة الإمام
الراحل (قدس سره)، كيف ترون مستقبل هذه المدرسة؟ في البداية نرحب بكم ونشكركم على إتاحة الفرصة لنا بأن نتكلم حول شخصية عالمية إسلامية مثل شخصية الإمام الشيرازي، فهو – فضلاً عن كونه شخصية دينية ومرجع تقليد – قد تميز من بين المراجع بحمله مشروع إنهاض للأمة. السيد كان يدرك من خلال أفكاره ومن خلال كتبه ومن خلال خطبه أن الأمة الإسلامية تعيش مرحلة من التخلف في كثير من أبعاد الحياة السياسية والاقتصادية؛ يعني نوعاً من التخلف الحضاري - إن صح التعبير - بالتالي قد تحمل مسؤولية تغيير واقع الأمة الإسلامية إلى واقع آخر؛ لذلك كانت مرجعيته مرجعية غير تقليدية، بل كانت مرجعية نهضة، مرجعية تغيير أمة؛ وأهمية السيد الشيرازي – قدس سره - هي من هذا الباب، هذا أكبر من المرجعية؛ إذ كيف أن شخصاً واحداً يفكر في أمة ومصيرها؟، وكيف يحول واقع الأمة لواقع آخر؟ والسيد من خلال أفكاره ومن خلال نظرياته وأطروحاته كان ينشد التغيير في الأمة إلى أفضل من الوضع الذي نحن نعيشه راهناً؛ ولذلك كان (قده) يتصدى لمشروع، ولتحقيق هذا المشروع قام بإنشاء مؤسسات، وتربية كوادر، قام وتأليف كتب، وقام بنشر هذه الكتب.. وبالتالي أخذ يؤثر على المحيط الاجتماعي الذي يعيش فيه. وهذا هو السر في بروز السيد الإمام الشيرازي؛ فمن الواضح أنه كان صاحب مشروع، صاحب نظرية، فيجب أن يستهدف تطوير هذا المشروع. ومن هذا الباب كانت ذكرياتنا مع السيد ذكريات متنوعة ومختلفة وفي مجالات متعددة.فمن ذلك أن السيد المرجع لما جاء إلى الكويت، في السبعينات قبل الصحوة الحديثة للتيارات الإسلامية والتوجه الإسلامي، على مستوى منطقة الخليج بصورة عامة. كانت حالة انتقالية من حالة الحياة المعيشية الصعبة السابقة إلى حياة أخرى جديدة؛ فالناس والشباب في الخليج لم يكونوا حاملين همّ مشروع أو هدف في حياتهم، -لما جاء السيد المرجع حدثت هناك نقلة جديدة ونوعية في واقع كثير من الشباب، فجعلنا نحمل مشروعاً، وجعلنا نفكر في وضع أهداف لحياتنا؛ لذلك كان عندما يوجهنا يحاول أن يجعلنا نتحلى ببعد نظر، كأن يقول، يفترض أن تكون مسؤولاً، رئيس دولة، صاحب مؤسسة، يفترض أن تربي جيلاً، وتؤلف كتاباً؛ فهذا يحملنا المسؤولية، ويجعل لنا هدفية في حياتنا لنفكر دائماً كيف نستفيد من أوقاتنا للمصلحة العامة، وحتى للمصلحة الشخصية. هذا هو التأثير الأول وهو أن يحس الإنسان أنه يتحمل مسؤولية اجتماعية ودينية فتكون له هدفية في الحياة. والشيء الآخر هو أن السيد شجعنا على تبني شيء؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر أثّر عليّ وشجعني على الخطابة في المناسبات الدينية وفي مواليد الأئمة (ع)، وفي بدايات حياتي جعلني أتجه إلى تأليف كتاب فألفت ولله الحمد أول كتاب عن الإمام علي (ع) سميته: (الإمام علي ربيب الوحي) وبالتالي فإن له بصمات واضحة على شخصيتنا من هذه الناحية.
السيد لم يكن مجرد عالم، بل كان صاحب مشروع نهضوي وحضاري، وعنده هدفية في الحياة، ولم يكن رجل دين تقليدي، كما تعودنا في السابق في الكويت، لقد عمل السيد عدة أشياء في الكويت كان لها تأثير كبير؛ فقد جعل الناس يلتفون حوله. وحاول توحيد الجهود، وتوثيق العلاقات الاجتماعية في الكويت إذ الشيعة ينتمون إلى طوائف مختلفة كالبحارنة والحساوية... إلخ. في السابق كان هناك تحفظ على التزاور بين العلماء وبين الجماعات، السيد أزال هذا التحفظ؛ فكان يزور العلماء، وكذلك فعل الميرزا جمال الدين وبقية العلماء. هذا بحد ذاته ذوّب الكثير من الخلافات بين الشيعة. وفي السابق أيضاً لم يكن مألوفاً أن يخطب إمام الجماعة، حتى جاء السيد فكسر هذا الحاجز، فكان يخطب في يوم الجمعة.. وهذا جزء يسير من الأمور التي أنجزها السيد. إلى ذلك، فقد كان الشيعة الحساوية في الكويت يدفنون موتاهم في مقبرة، والبحارنة يدفنون موتاهم في مقبرة أخرى، ومنذ اليوم الذي أنشأوا فيه المقبرة الجديدة قام السيد من خلال علاقاته بإزالة السور، فليس هناك بعد اليوم حساوية أو بحرانية، فالسيد استطاع بتوجيهاته أن يجعل من تلك المقبرة مقبرة واحدة. وهذا خلق حالة من الانفتاح بين الجماعات الشيعية في الكويت، وكان هذا دليل قوة. وعلى صعيد الخطابة، لم يكن هناك خطبة في يوم الجمعة، فشجع السيد المرجع الراحل أئمة المساجد على الخطابة في الجمعة. وبالنسبة للنساء لم نكن نفكر بأن تحضر النساء صلاة الجماعة أو الجمعة، أما الآن فكل المساجد، بلا استثناء، لديها أماكن للنساء، وأول من قام بهذا هو السيد – قدس سره - رغم أنه تعرض للكثير من الضغوط والقيل والقال، والآن فإن الناس الذين انتقدوه قاموا بنفس الشيء في مساجدهم. وفي السابق لم نكن نعرف الهيئات؛ أي أن يجتمع الشباب ويكون لهم مرشد يعلمهم القرآن والجهاد وأصول الدين ومبادئ الإسلام، وسيرة الأئمة(ع).. هذه القضايا لم تكن مألوفة من قبل، ومع زيارة السيد للكويت، فإنه صنع حالة وتوجهاً إسلامياً تمثل بتحكيم الالتزام الديني، والالتفاف حول العلماء والخطباء. ومما ساعد سماحة السيد ليقوم بدوره، هو كونه اجتماعياً، فكان – قدس سره - يزور الجيران كلهم في بيوتهم. وهذا أمر غير مألوف من عالم دين، فصنع علاقة مميزة بينه وبين كل جيرانه، الذين أحبوه، وصار هنالك تواصل معه حتى نهاية عمره الشريف في قم المقدسة وإلى الآن ما تزال هذه العلاقة والمحبة راسخة في نفوس الجميع، بل وحتى أولاد الجيران؛ فقد انفتح السيد على المجتمع ودخل قلوب الناس، والمجتمع بدوره أحبه من هذا الجانب..
من الخدمات التي قدمها الإمام الراحل لحركة النهضة الحضارية الإسلامية في الكويت، تحويله بيته إلى مدرسة أطلق عليها اسم مدرسة الرسول الأعظم، مكتفياً بغرفة أو غرفتين، ضارباً مثلاً فريداً في الإيثار، بل وانتقل إلى مكان آخر وجعل منزله برمته مدرسة، وهذه الأمور لا تأتي من أشخاص عاديين، بل أشخاص مميزين؛ فالإسلام لم يحقق أهدافه إلا من خلال هذه النماذج، السيد جسد الواقع العملي لحركة الأنبياء والأئمة (ع). إن الإمام الراحل جسّد بعمله، وبقوله، وبأسلوب معيشته، الإسلام الحقيقي؛ فكثيرون لم يكونوا يعرفون ما هو الإسلام، وما هو رجل الدين، والسيد جسّد المعنى العملي لرجل الدين. وهذه نقطة مهمة أن تعرف حقيقة رجل الدين. الشيء الآخر هو أنه شجع بناء المؤسسات، وجعل الطرف الآخر يتجه إلى نفس الأسلوب -إما تنافساً أو حسداً-؛ فقد أنشأ مدرسة الرسول الأعظم، مما جعل بعض الأطراف الأخرى تبادر لتأسيس حوزة، حيث أننا نعتقد أن مثل هذه الأمور لم تكن خالصة لله تعالى، فربما لم تحصل حوزة مثل حوزة الرسول الأعظم، لكن السيد – قدس سره - على الأقل شجع هذا الأمر. النقطة الإيجابية الأخرى هي أن سماحته ركز على الشباب، وهذا قلما تستطيع تلمسه لدى بقية المراجع ورجال الدين، فقد أسس مكتبة الرسول الأعظم للشباب، وأقام فيها أنشطة، وشجع الشباب على التفاعل مع مجتمعهم، وعلى التأليف فألفوا كتيبات ونشرات ومجلات كـ(الإسلام والحياة) و(الفتاة التقدمية). أما على صعيد التعليم فقد شجع الشباب في الجامعة، لأول مرة، أن يشكلوا قائمة إسلامية حرة لخوض الانتخابات الطلابية، بالإضافة إلى إصدار المجلات. فالتركيز على الشباب سواء بالتأليف أو الكتابة أو دخول الانتخابات، خلق حالة إيجابية وتموجاً في أوساط الشباب، ومما يذكر أيضاً أنه خلق حالة من التعاون والانفتاح على الآخرين، حتى أثر على الحالة السياسية؛ فقد جرت انتخابات فصار هناك توجه إلى التنسيق وتوحيد الجهود بين الجماعات فتحقق اتفاق على مجموعة منهم، ولأول مرة في التاريخ السياسي للكويت فاز عشرة نواب شيعة في الانتخابات، وهذه نسبة كبيرة، وهكذا شجع سماحته على التعاون والتنسيق والترشيح للانتخابات، فكثيرون في ذلك الوقت لم يكونوا يتجاوبون مع مثل هذه الأمور. ومن آثاره الأخرى أنه أعطى اهتماماً لرجل الدين، فليس هناك ولا رجل دين كويتي من بعد السيد حل على الكويت ضيفاً شوَّق الشباب للتعلم والتخصص في مجال علوم الدين، الآن عندنا عددٌ من رجال الدين من كل الجهات والتيارات والمستويات. عندما تخلق الأجواء والأرضية الصالحة لهذا الشيء، ترى كل الشرائح تستفيد منه فمثلاً النادي لا يقتصر عليك ولكن الكل يستفيد منه، وعندما تؤلف كتاباً، فإن هذا الكتاب يصير ملك الجميع يستفيدون منه، مثل هذه التوجهات ولّدت آثاراً إيجابية كثير في مجتمعنا. أثر الفكر الشيرازي في البنية الاجتماعية الكويتية: التأثيرات الاجتماعية هي امتداد لتأثيرات أخرى، السيد ركز على شرائح المجتمع المتعددة خصوصاً الشباب والمرأة. والمجتمعات الخليجية عموماً مجتمعات شابة، فلما ركز عليهم قدم لهم مشاريع عمل، ولذلك قام بالتأثير على الحالة الاجتماعية، فمثلاً شجع السيد على الزواج المبكر، وهذا الأمر كان قليلاً ما يحصل في الكويت فقد جرت العادة سابقاً أن ينتظر الشباب ليتخرجوا من الجامعة، ويعملوا ويبنوا أنفسهم قبل أن يقدموا على الزواج. أما التأثير الثاني فهو الانفتاح على الآخرين؛ فنحن مجتمع صغير، ولولا علاقات الصداقة والأخوة لأصبح مجتمعنا متفككاً فعندما قام هو عملياً بالانفتاح على الآخرين وزيارة المراجع من مختلف التوجهات، وزيارة العلماء والمؤسسات.. هذا كله أعطى انعكاساً إيجابياً في المجتمع، وولّد فيه أجواءً إيجابية، فمثلاً قام بتشكيل صندوق للزواج، وشكل صندوق القرض الحسن، وشكل لجنة الكتاب، فكل شهر يطبع كتاب، وشكل لجنة المساعدات. وهذه طبعاً كلها لها آثار اجتماعية وامتدادات خلقت جواً إيجابياً في عموم المجتمع الكويتي. والأهم بالنسبة للحالة الاجتماعية هو أنه حاول جذب الشباب لأعمال إيجابية فبدل التسكع واللهو وجههم إلى استغلال الوقت في قراءة الكتب والتثقف والمساعدة والدخول في لجان مختلفة، فكانت ديوانية السيد - رحمة الله عليه - مركزاً للحركة والانطلاقة، فتجده إما خطيباً وإما موجهاً. في الكويت، قبل مجيء السيد، لم تكن هناك دورات صيفية، ولا يخفى على أحد أن الكثير من المناهج التدريسية موضوعة بحسب الفقه السني، فكان الكويتيون الملتزمون بمذهب أهل البيت (ع) يحصلون على التثقيف غالباً من المجالس الحسينية، وخصوصاً في المناسبات فكان الوقت قليلاً للتثقيف الديني فقام السيد بتنظيم دورات صيفية، وهذا كان أمراً جديداً سواء في المدرسة أو المكتبة أو المسجد، فكان سماحته يعطي في كل ليلة دروساً في تفسير القرآن، وعصر كل يوم خميس كان له درس تثقيفي عام عن واقع الأمة، وعن أسباب تقدم الغرب وتخلف المسلمين، وكيفية مواجهة الصعاب والمشاكل.. وكان سماحته يستشهد بنماذج وشواهد عملية لهذه الدروس، كقضية فلسطين، وقضية الهند وباكستان وكشمير.. هذه الأمور خلقت حالة من الوعي، وكان لها أثر اجتماعي جيد؛ فالمجتمع يرقى وينمو ويكون على قدر كبير من وعي المسؤولية حيال الأشياء التي عملها، كما شجع الكثيرين على كتابة مقالات في الصحافة وكان يشجع بعض الأخوان ذوي الأقلام للعمل في الصحافة، فصاروا أصحاب خبرة في هذا المجال، فما دام عندك مشروع للأمة، سواء في الإعلام أو التلفزيون أو الإذاعة أو الجمعيات، فهذه الأمور تخلق حالة من التموج، إذ إن الفرد يتحرك مع الواقع الذي يعيشه في المجتمع، وبالتالي يكون الفرد على قدر من المسؤولية مع الأحداث التي تعتري هذا المجتمع، بل وأكثر من هذا أتذكر أن السيد شجعنا على الاحتفال بالعيد الوطني للكويت، والمساهمة فيه، كصنع لافتات احتفاءً بالعيد الوطني، وقد اختار السيد بنفسه الكثير من البيانات والنصوص بهذه المناسبة. وفي يوم العيد الوطني بثّوا هذه الإعلانات والبيانات عبر التلفزيون الكويتي وأشاروا إلى هذا بقولهم: (بالمشاركة مع الشباب... الوطني الواعي والمحب لوطنه). وهكذا فقد تعودنا على مثل هذا النشاط الاجتماعي والشعبي من خلال القيام بأنشطة لم تكن موجودة في السابق.. فهذه آثار اجتماعية وذكريات جميلة.
في الدول العربية والإسلامية فإن قضايا الحريات، والديمقراطية والمشاركة الشعبية هي قضايا محظورة إلا في الكويت ولبنان، حيث تطبق بصورة نسبية ومقيدة بالقوانين والضوابط الدستورية. فالدخول في العمل السياسي، في بلادنا لغير الكويتيين هو بحد ذاته يحتاج إلى ذكاء سياسي، أما الجانب الآخر المهم فهو أنه لم يكن مقبولاً أن يتدخل رجال الدين في السياسة، وهذه العقلية ورثناها منذ القديم أن رجل الدين لا يتدخل بالسياسة (ما لله لله وما لقيصر لقيصر) هذا شيء موجود في المجتمع ويجب مراعاة الأعراف الاجتماعية أي إنك لا تستطيع أن تكسرها دفعة واحدة. السيد دخل في هذا الميدان، فقام بخطوات سياسية مدروسة؛ فمثلاً: قام بزيارة المسؤولين ومنهم أمير البلاد، فهذا عمل سياسي. صحيح أنه خلق بعداً اجتماعياً ودينياً جديداً، حيث إن الأمير يستقبل رجل دين غير كويتي، ولكنه (الإمام) بالتالي أعطى جانب العمل السياسي بعداً مهماً هو الانفتاح على الآخرين، فقام به من الناحية العملية. كما قام بعض المسؤولين، من وزراء وأعضاء في مجلس الأمة، بزيارته فكانت زيارات متبادلة، حتى أتذكر أن بعض أفراد الأسرة الحاكمة، منهم رئيس الأركان، زاره في ديوانيته... وهكذا أعطى سماحته درساً في المجال السياسي وهو أنه يجب أن تنفتح على الآخرين، فهذا عمل سياسي، ولكنه لم يتدخل بالسياسة الكويتية وفي نفس الوقت فقد أتاح له ذلك أن ينقل للمسؤولين هموم الناس ومشاكلهم واحتياجاتهم. وهذا جزء من العمل السياسي أن تتصدى وتتحمل مسؤوليتك السياسية. كما شجع التعاون والتنسيق والانفتاح على الآخرين في الانتخابات؛ مما أدى إلى فوز عشرة من الشيعة في انتخابات مجلس الأمة الكويتي. وهذا بحد ذاته يعتبر نجاحاً سياسياً. من الأشياء الأخرى البيانات التي كان يصدرها في المناسبات، سواء أكانت دينية أم سياسية، كقضايا فلسطين، والغزو السوفيتي السابق لأفغانستان، وتشجيع مساعدة المهاجرين، لأنه كانت هناك حملة لتهجير الشيعة من العراق في ذلك الوقت. هذه كلها أمور سياسية، لكنه تصدى لها عملياً من خلال جمع المساعدات، والتبرعات لهم، وعرض قضاياهم عبر وسائل الإعلام.. هذه الأمور تعلمك كيف تستفيد من الظروف والأحداث السياسية لتدخل في العمل السياسي. ولا ننسى موقفه الشجاع حين غزا الجيش العراقي الكويت، فتصدى لذلك سياسياً من خلال البيانات، وأتذكر أن بياناته كانت مهمة جداً، ولاقت صدىً جيداً في المجتمع الكويتي، ولدى المسؤولين الكويتيين، وكان له بعد نظر، حيث تكهن بأن هذا الغزو لن يطول أكثر من ستة شهور، وقد زرته شخصياً في قم، فقال لي: إن شاء الله في رمضان القادم ستعودون إلى الكويت.. وصدق تكهنه. وقبل غزو الكويت أتذكر دوره، بالنسبة لأصداء الثورة الإيرانية، ففي الكويت كانت هناك نسبة من الناس من أصول إيرانية وكانت الحالة القومية الفارسية مؤثرة عليهم، والكثير منهم كانوا يفتقرون للوعي وكانوا يؤيدون النظام السابق المتمثل في شخص شاه إيران، فكان عند السيد جرأة لمهاجمة ذلك النظام، وأن يبين أهمية التغيير للمصلحة العامة، وأهمية الحرية واحترام حقوق الإنسان، وأهمية مواجهة الظلم والدكتاتورية. وهذا بيَّنه في خطبه وبياناته ومن خلال جمع مساعدات؛ مما أدى إلى أن يأخذ البعض موقفاً منه.. فهذه دروس في حياة السيد السياسية جديره بأن نتعلمها ونتمثلها.. وفضلاً عما تقدم، كان السيد يشجع على الطموح والعمل الذي فيه مصلحة عامة، وعلّمنا أن باستطاعة النواب إفادة الناس من النواحي الاجتماعية والسياسية و... إلخ، وقد شجع كثيرين غيري - بعضهم دخل الانتخابات ولم يكونوا موفقين - هو شخصياً شجعنا على دخول الانتخابات رغم أننا لم ننجح في انتخابات سنة 1996م. في إحدى زياراتنا جلسنا معه مطولاً وبيّن لنا أهمية عدم اليأس، وضرورة خوض الانتخابات، وحيازة الوسائل والإمكانيات لتحقيق النجاح، وكان يقول: إذا دخلت الانتخابات فأنت تحقق شيئاً، كأن تصبح عضواً في البرلمان وتدخل في العمل السياسي، وحتى إن لم تنجح فإنك ستصبح ذا شأن في المجتمع. وفي الحقيقة، كان سماحة السيد يبدي لنا آراء وأفكاراً جديدة دائماً، ففي كل مرة نزوره فيها كان يطرح علينا آراء ويعطينا أفكاراً ويشجعنا على تبني الكثير من الأمور، وأهم شيء يصر عليه هو أن لا يحصر الإنسان نفسه في حدود إقليمه بل كان يطلب منا إقامة علاقات مع البرلمانيين في الخارج، وزيارة الدول الأخرى، وتقوية العلاقات معها ومحاولة الاستفادة منها لصالح الدين ولصالح مذهب أهل البيت (ع) فقد شجعنا كثيراً على مثل هذه الأمور ونحن ندين له في هذا الجانب.
السيد كان صاحب مشروع يهدف إلى تقدم الإسلام والأمة ونجاتها من حالة التخلف التي تعيشها. والواضح أن جميع مجتمعاتنا وخصوصاً المجتمعات الخليجية كانت جزءاً من هذا الهدف، فكان لا بد من الانفتاح على الآخرين وفتح الحوار معهم، والسيد نجح كثيراً في إقامة علاقات مع الآخر، وكانت له زيارات لإخواننا السنة، كالسيد يوسف الرفاعي وكان وجهاً إسلامياً بارزاً في ذلك الوقت، فأقام معه علاقات جيدة، وقد أثر السيد في هذا الشخص، حتى أنه شارك في أربعينية السيد، وألقى خطابه حول دور السيد وعلاقاته وأفكاره. أتذكر قصة لطيفة عن كيفية متابعة السيد للأمور، فكان سماحته يعمل على تقوية الوحدة في الإطار العام، أتذكر أنه تصادف احتفال منظمة التحرير الفلسطينية، في إحدى السنين مع ذكرى يوم عاشوراء، فشكل السيد مباشرة لجنة وقال لأعضائها: عليكم أن تذهبوا إليهم وتبينوا لهم أنهم يحتفلون في يوم حزن المسلمين وحزن الشيعة، وأنتم لكم تواجد في لبنان التي فيها نسبة كبيرة من الشيعة، وهذا سيؤثر على علاقاتكم معهم، فعليكم الاحتفال بيوم آخر. ذهب إخواننا وطرحوا الموضوع عليهم فكان ردّهم إيجابياً جداً وشكروا السيد لأنهم لم يكونوا منتبهين لهذه النقطة وهم لا يريدون خلق عداوات في المجتمع. هذا البعد في التفكير والنظرة إلى الوحدة والانفتاح على الآخرين، يصب في خدمة المصلحة العامة، والسيد لم يطرح مجرد أفكار فقط بل طبقها عملياً. وهذه القصة دليل على هذا التعاون الإيجابي والعملي في نفس الوقت. السيد انفتح أيضاً على المسيحيين، لكن ليس عندي معلومات دقيقة في هذا الشأن، إلا أنه عندما كنّا في الكويت وجه دعوة للكاتب المسيحي جورج جرداق عندما كتب كتاباً عن الإمام علي (ع) (الإمام علي صوت العدالة الإنسانية) ولما زار الكويت استقبله السيد في ديوانيته وأقام له حفل تقدير. كما أتذكر أن أحد القساوسة لما زار الكويت لأجل التعرف على النشاط المسيحي هناك، قام سماحة السيد بزيارة المدارس التي ترعاها الكنيسة وأجرى محادثات حول نشاطات هذه المدارس ومشاريعها وعرف الكنائس، في حين لم نعرف نحن أهل البلد الكثير عن النشاط الكنسي. هذا تشويق للمسلمين للمنافسة في الأنشطة والميادين المختلفة، وهو حافز لنا لكي نتعرف على الواقع الذي نعيشه في المجتمع. أثر مبادئ وأفكار المدرسة الشيرازية: الأفكار التي يحملها السيد هي أفكار صاحب مشروع حضاري؛ فاللاعنف والشورى والتعددية هي من الأوجه الرئيسية لحل مشاكل المسلمين، كقضية شورى المراجع، فعندما يطرح قضية شورى المراجع فهذا يعني من جملة ما يعني انعكاس لواقع آخر أي كيف تحل مشاكلك من خلال إشراك الآخرين بالرأي معك ما يعني الانفتاح عليهم. فشورى المراجع ما هي إلا طريقة لجمع المراجع أو وكلاء المراجع حول مواقف وآراء مطروحة في الساحة والخروج برأي نهائي. وهذا الرأي الذي ينتج من اجتماع شورى المراجع معناه أنه رأي متفق عليه من قبل جميع مراجع الأمة، ويؤكد أهميته أن معظم المواطنين ينتمون بالتقليد لمثل هؤلاء المراجع، بالتالي فإن السيد عندما يقدم هذه الأطروحة، فإنه يرى فيها معالجات للواقع الذي نعيشه، ونفس القضية هي قضية اللاعنف التي صحيح أنها مستمدة من أفكار الأئمة عليهم السلام، ولكن اللاعنف حتى اليوم مثبت فقط في مواثيق الأمم المتحدة وفي قراراتها بلوائح جمعيات أو منظمات حقوق الإنسان. وهذه طبعاً تدعو إلى السلم واللاعنف وحل المشاكل بين الدول واحترام الرأي الآخر والتعددية، هذه الأمور هي جانب من حلول عملية واقعية لمشاكلنا ولكن بإطار جديد من خلال نظريات إسلامية لها قبول أو أشكال مشابهة حتى في الغرب، فإذا استطعنا تقبل هذه الأفكار واستيعابها وتطبيقها من خلال ممارسات عملية؛ فإنها ستصنع حالة من التموج في الأمة وبين الشعوب، ومن خلالها نستطيع تقديم حلول عملية ناجحة لكثير من مشاكلنا.
إن مرجعية السيد الشيرازي كما أسلفنا هي مرجعية إنهاض أمة، مرجعية تحمل مشروعاً، وحيث أنها تحمل مشروعاً، فهي لا تعتمد على أشخاص بل تعتمد على أفكار، وهذه الأفكار نعكسها بالواقع العملي، من خلال المؤسسات؛ لذلك نقول إن السيد الشيرازي ومن خلال مؤسساته وهي في مشاريعه، وأفكاره وهي في كتبه، ومن خلال جيل من الشباب الذين رباهم على هذا المنهج... هذه المدرسة المتصدية لتحمل مسؤولية إسلامية رسالية في خلق حالة جديدة في الأمة، يجب أن لا تتوقف، بل يجب أن ندعمها، ويجب أن تنمو وتكبر بحيث تؤثر في الآخرين، أعتقد أن هذه المدرسة لا تموت لوجود أفكارها ولوجود إناس يحملون هذا الفكر، واليوم نشاهد بكل فخر أن كل واحد من تلامذة السيد الشيرازي عبارة عن مشروع متنقل؛ يعني أن الجيل الذي ربّاه السيد الشيرازي وبعث فيه روح الصمود والتحدي والتغيير، في أي دولة كانوا، فإنهم ينشؤون مؤسسات، ويخلقون حالة من التغيير والتأثير على المجتمع؛ فبالتالي أن هذه المؤسسات والأفكار ما هي إلا امتداد لتلك المدرسة التي أعتقد أنها ستنمو وتزدهر أكثر فأكثر. وإذا كان هناك على عهد السيد (رحمة الله عليه) الكثيرين ممن كانوا معادين له لأسباب كثيرة، إما حسداً أو حقداً.. أو لأسباب لا نستوعبها ولا نعرفها، فكانوا سداً أمام هذه الأفكار وأمام هذه المدرسة، ولكن الآن بعد رحيل السيد أعتقد أن الساحة انفتحت على أفكاره فالآخرون صاروا يتعاطون مع هذه الأفكار، وبالتالي فإن فكر السيد سيؤثر وينتشر في المجتمع أكثر في المستقبل. ندعو الشباب أن يوثقوا هذه المرحلة الهامة في تاريخ الكويت من خلال الكتب لأنها تتضمن مواقف وقضايا مهمة جداً. وجدير ذكره أنه عندما أنشأنا لجنة أهل البيت كان سماحته يشجعنا على الانطلاق، دون أن نكتفي بمشروع أو اثنين، بل كان (قدس سره) يحثنا على النهوض بعدة مشاريع، وهكذا فمن خلال تشجيعه انطلقنا إلى تنزانيا وآذربيجان وإلى جمهوريات إسلامية أخرى، حيث استطعنا – فضلاً عن إقامة بعض المشاريع - أن نتعرف إلى واقع المسلمين في هذه الدول. |
|||||