ردك على هذا الموضوع

مقالات

الإمام الشيرازي مدرسة المستقبل

سيلتحق بها الآخرون.. قريباً(**)

نزار حيدر(*)

لقد عاصر الإمام الشيرازي (قدس سره) مراحل تاريخية مهمة على مستويين:

الأول مستوى الواقع السياسي الذي كانت تعيشه الأمة الإسلامية بشكل عام والعراق الذي ولد وترعرع ونمى فيه وانطلق منه بمشروعه الحضاري التغييري بشكل خاص. ومستوى المرجعية الدينية والعمل الإسلامي.

على المستوى الأول، كانت الأمة تعيش مخاضات سياسية خطيرة، أسست واقعاً مريراً دام حتى الآن أكثر من نصف قرن، فمن جانب شهدت الأمة انتكاسات وهزائم متعددة أمام الكيان الصهيوني، ومن جانب آخر شهد العراق بالذات تغيير النظام السياسي من الملكية إلى الجمهورية وما تبع ذلك من انقلابات عسكرية دموية متتالية انتهت إلى ما نراه اليوم. كما كانت الأمة تعيش مخاضات التغيير في العديد من الدول والأنظمة ومنها إيران والباكستان ومصر ودول الشمال الأفريقي ودول بلاد الشام والخليج وغيرها، فضلاً عن المتغيرات السياسية التي عاشتها الدول الإسلامية والعربية التي انتهت إلى إحكام الأنظمة الشمولية المستبدة والدكتاتورية لقبضتها الحديدية على الشعوب وبدعم وتأييد من قوى الاستكبار العالمي وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا.

 على المستوى الثاني، كانت المرجعية الدينية تمرّ بمخاض عسير تتجاذبها القوى والمؤثرات، بين أن تظل ملتزمة بوثيقة فصل الدين عن السياسة التي أقرّها ووقّعها السلف إبان ثورة العشرين وما رافقها من أحداث ومنعطفات مصيرية، فنكتفي بالانكباب على البحث والتدريس وإدارة شؤون الحوزة العلمية دون الالتفات إلى قضايا الأمة الحيوية، أو أن تنفض عنها غبار الماضي وتكسر قيوده لتنطلق من القمقم وتتحرر من سجنها العتيد وتهبط من برجها العاجي وتعود كما كانت، حاضرة في كل قضايا الأمة، لا يفرض عليها موقف ولا تمنعها سلطة من أداء واجبها ودورها الحقيقي، خاصة في القضايا الساخنة، ولا تكتفي بمهامها الروتينية.

هنا بالضبط تجلى حضور الفقيد الإمام الشيرازي (قدس سره) الذي تحول بنشاطه الفريد وحركته الدائبة ووعيه المتميز ورؤيته المستقبلية وتفكيره الاستراتيجي، إلى حركة نهضة مجددة ومتجددة ومبدعة، إن على المستوى العلمي والفكري والثقافي، وعلى المستوى العملي والجهادي، وبفترة زمنية قياسية قل نظيرها تحول إلى مدرسة متكاملة، أثرت بشكل ملفت للنظر في المستويين المذكورين، وتركت بصماتها واضحة على كل القضايا التي خاض غمارها.

لقد فرضت مدرسة الفقيد حركة ونشاطاً على شريحة واسعة من المعنيين، ولولاها لما فكرت بالتحرك، ربما من منطلق التنافس ومحاولة إثبات الوجود، وهذا يعني أن الشيرازي كان الدينمو المحرك للكثير من المساحات الاجتماعية الهامة، خاصة على صعيد الحوزة والمرجعية والطبقة المثقفة التي كانت تكتفي بالعلم دون العمل، وكانت تشغل نفسها بالتحرك في مساحاتها الضيقة دون الانطلاق إلى الرحاب الواسعة، فكانت بسبب ذلك تعيش المشاكل الذاتية والتنافس الذاتي الذي أنهك قواها وذهب بريحها وفرّط بقدراتها وأضعف كيانها، وكأن العالم الرحب تلخص في هذه المدينة أو تلك الحوزة أو عند ذاك المرجع.

وللتدليل على ما نذهب إليه، نسوق الأمثلة الأربعة التالية، وما تركته مدرسة الفقيد من أثر واضح عليها:

المثال الأول: موضوع فصل الدين عن السياسة، ونظرية اكتفاء المرجعية والحوزة بإدارة شؤونها بعيداً عن قضايا المجتمع، فبالرغم من قوة التيار الذي كان يتبنى هذه النظرية وتجذره في الوسط الحوزوي وتبنيه من قبل عدد لا بأس به من كبار المراجع والفقهاء والعلماء، إلا أن الإمام الشيرازي نجح في فرض تيار جديد يدعو إلى رفض هذه النظرية وتبني نظرية التصدي والعمل والحضور المرجعي والحوزوي في كل القضايا الاجتماعية، بما فيها السياسة، فكتب ونظَّر وتحرك بهذا الاتجاه، برؤية واضحة وبصيرة ثاقبة ونشاط دؤوب، نجح من خلاله في تثبيت وتأصيل هذه المدرسة لدرجة أنها تحولت إلى تيار قوي ليس في صفوف الحوزة والمرجعية وإنما في صفوف الأمة بشكل عام.

لقد ابتلي الفقيد آنئذ بأناس لا يعملون ولا يتحركون، وفي ذات الوقت يرفضون أن يتحرك الآخرون، أناس تكلسوا في قوالبهم القديمة وعلى كل المستويات، وفي نفس الوقت يعيبون على من يتحرك ويأخذون على الناشط أخطاءه ويعدّون عليه هفواته، بل ذهبوا في بعض الأحيان إلى أكثر من ذلك، عندما سخروا الفتوى لتحطيم ناشطين أو إسقاط شخوصهم واغتيال فكرهم وشخصيتهم المعنوية وما يمثلونه من فكر ومنهج ومدرسة، أو على الأقل إيقافهم عند حدهم.

كما ابتلي الفقيد بشرائح حزبية ضيقة الأفق، ولا تفكر إلا في مصالحها الحزبية الضيقة، همها أن تسجل أي إنجاز تشهده الساحة باسمها واسمها فقط، فكانت على استعداد كامل لأن تحطم كل من يخالفها الرأي والأسلوب، والوسيلة والطريقة، لدرجة أنها توسلت بكل وسيلة وطريقة لتحطيم ناشطين ليس إلا لأنهم رفضوا مثلاً الانضمام إلى صفوفهم أو امتنعوا عن مسايرة نهجهم وتبني منهجيتهم، فأطلقوا الشائعات والدعايات السوداء والتهم الرخيصة لتحطيم جهود رسالية جبارة، وكان شعارهم (من ليس معنا فهو ضدنا) وكانت استراتيجيتهم مبنية على نظرية (حطم الآخرين أو ألغي أثرهم أو صادر إنجازاتهم من أجل بث الروح في صفوف قومك ورفع معنويات أصحابك)، ولأنهم لم يتورعوا ولم يتقوا الله طرفة عين أبداً، تعاونوا حتى مع أعداء الأمة اللدودين والاستراتيجيين (اليمينيون) من أجل ضرب الآخرين وتحطيمهم.

في هذه الأجواء المريضة، قرر الفقيد أن يسبح ضد التيار، فينفض عن نفسه وعمن يعتقد بمنهجيته على الأقل غبار الكسل والخوف والرتابة، لينطلق في الفضاء الأرحب راسماً معالم مدرسة جديدة متجددة بكل معنى الكلمة.

وبالرغم من كل الضغوط والتهديدات التي مورست ضده وتكالب الأصدقاء قبل الأعداء عليه، وحشد السهام التي تلقاها حتى من أقرب الشرائح المحسوبة على الدين والمذهب والحوزة والمرجعية، إلا أن الفقيد صبر على الأذى في جنب الله وتحمل المشاق وظلّ يضحي بكل شيء حتى نجح أخيراً في حفر مسار واضح المعالم، متميز في كل شيء، وفي وسط الأمة، لم ولن يستطيع الزمن مهما طال أن يمحو أثره، أو يلغي ما أنجزه على مدى نصف قرن من الزمان.

المثال الثاني: المخاض الذي كانت تعيشه إيران آنئذٍ والأحداث الدامية التي شهدتها العديد من المدن الإيرانية، وموقف السلطة الدموي من المرجعية والحوزة العلمية وحركة الشارع الإيراني، ففي موقف مبدئي وشجاع تصدى الإمام الشيرازي لهذه القضية التي اعتبرها قضية هامة من قضايا الإسلام، بالرغم من قوة التيار المضاد لهذه الحركة الإسلامية وأمثالها والذي كان يعيش في الوسط الحوزوي والمرجعي، وبحركة ذكية وسريعة نجح في صناعة موقف إيجابي أولاً ثم متبني ومؤيد وداعم لها ساهمت في احتضان الحدث والوقوف إلى جانب حركة العلماء والفقهاء والمراجع وسياسات السلطة، ولولا موقف الإمام الشيرازي هذا والجهد الرسالي الذي بذله، لوقفت المرجعية والحوزة العلمية إلى جانب السلطة في طهران ضد حركة الشارع الإيراني، أو على الأقل لاتخذت موقف المتفرج الذي لا يعنيه الأمر من قريب أو بعيد.

المثال الثالث: موضوع العمل الإسلامي في العراق آنذاك، فبعد أن ساهمت مدرسة الفقيد بصناعة تيار قوي لصالح مبدأ العمل والتصدي والانطلاق، تجاذبت الساحة نظريتان، الأولى تدعو إلى العمل الحزبي بعيداً عن المرجعية الدينية، والثانية تعتبر أن المرجعية الدينية المتصدية الواعية الرشيدة هي المسؤول المباشر عن اتجاهات العمل الإسلامي الذي لا يجوز أن يؤطر بأطر ضيقة ويدار بقيادة حزبية مجهولة، لما لذلك من مخاطر على مستقبل العمل والعاملين وبالتالي على الإسلام، وهي التي تصدى الفقيد لبلورتها والتنظير لها على شكل ما عرف بعدئذٍ بالحركة المرجعية.

وما كان يعقّد من مهمة الفقيد هو تغلغل التيار السني في الحوزة العلمية وتأثيراته الفكرية والتاريخية والثقافية، والذي كان لا يكتفي بالتنظير لأسلوب العمل الإسلامي وإنما تجاوز حدوده إلى تفسير التاريخ ساعياً للتأثير على مفاهيم الناس ووعيهم التاريخي والتشكيك بثوابتهم وولاءاتهم الدينية والمذهبية، بما ينسجم وطروحاته الرامية إلى تزوير التاريخ والتقليل من أهمية أحداثه الساخنة، خاصة تلك التي حفظت الدين.

وبالرغم من شدة التجاذب بين النظريتين، وتبني علماء وفقهاء للنظرية الأولى في بادئ الأمر، إلا أن قوة منطق الفقيد ومتانة محاججاته وتماسك نظريته وصحة الأدلة التي كان يسوقها لإثبات صحتها، أقنعت الساحة بصواب اتجاهها، حتى أن العديد من أنصار النظرية الأولى تركوها وتبنوا الحركة المرجعية بما فيهم علماء وفقهاء بل وبعض المراجع.

إن عودة منصفة إلى واقع الساحة قبل نصف قرن وما بعده، وبقراءة متأنية علمية بعيدة عن المواقف المتشنجة والأحكام المسبقة والروح الحزبية الضيقة، لواقع الحال آنئذٍ، نلحظ وبشكل جلي أن الإمام الشيرازي، وبقوة شخصيته ومتانة طرحه ونشاطه الدؤوب وأسلوبه المقنع وأخلاقه الرفيعة، نجح في فرض وجوده حتى في داخل الدرع الحصينة التي كانت تنظر إليه نظرة المنافس اللدود، فنجح مثلاً في الحضور الفاعل والمؤثر في الحوزة العلمية في النجف الأشرف، وعند كبار المرجعيات، تارة من خلال زياراته واتصالاته الشخصية وأخرى بالوفود التي كان يرسلها إلى هناك، إما لاستثارة الهمم أو تقديم مشروع أو مقترح ينقذ موقف أو يتجاوز مرحلة خطيرة أو ما إلى ذلك.

لقد جاء العطاء الفكري للإمام الشيرازي استراتيجياً في زمن كانت تعيش فيه الأمة ذاتها، الهزيمة واليأس والإحباط بسبب هول الأحداث السياسية التي مرّت بها وعليها، لذلك كان من الصعب جداً وأحياناً من المستحيل على الساحة أن تتفهم رؤاه بسرعة، فكانت إما أن ترفضها متهمة إياه بالتسرع والتهور ومحاولته توريط حصون الأمة المنيعة (الحوزة العلمية) بما لا تقدر على إنجازه، وبما هو خارج مجال طاقتها وقدرتها الفعلية، أو أن تتعاطف معها من دون أن ترتب على هذا التعاطف أي أثر متلفعة بحجة أنها تنظير مثالي لا يمكن ترجمته إلى مشروع عمل على أرض الواقع.

ولكل ذلك فإن عطاء الفقيد الفكري وحركته الجهادية ظلت في الكثير من فصولها حركة مستقبلية ومدرسة فكرية للمستقبل، كما قال المرجع الراحل السيد المرعشي النجفي (قدس سره) في أكثر من مرة زار فيها الفقيد (إن الأمة الإسلامية سوف لا تعرف قدر هذا الرجل إلا بعد مرور قرنين من الزمن)، ويقصد قدر العطاء الفكري الذي سطره الفقيد رضوان الله تعالى عليه.

إن مشكلة الأمة على مرّ التاريخ، هي أنها تناصب العداء لكل ما لا تفهمه أو تستوعبه، ولكل ما لا ينسجم مع الواقع القائم، ولكل من يحاول أن يجدد من رتابتها وحياتها الروتينية، سواء على صعيد الفكر والثقافة والنظرية أو على صعيد العمل والممارسة، فتحارب الجديد وتقاتل التطور وتقاطع الإبداع وتحاصر المجدد، حتى إذا سقط الفارس من على صهوة جواده هبت كرجل واحد تشيع نعشه إلى قبره ثم تسارع لإصدار البيانات وتدبيج أبيات المديح والثناء والنثر الأدبي الرفيع وكأنها ترثي حالها وتعتذر للفارس القتيل وتندم على ما فرطت في الأيام الخوالي ولكن (ولات حين مندم) وهذا هو بالضبط حال الإمام الشيرازي على مدى نصف قرن وحتى وفاته في 2 شوال 1422هـ‍ الماضي.

 أما المثال الرابع: فهو قضية العراق المعقدة التي شهدت أخطر المنعطفات خلال نصف القرن الأخير فكان للإمام الشيرازي الرؤية الأمثل والموقف الأصوب والنظرة الأثقب منها.

فلم أعهد مرجعاً دينياً معاصراً اهتم بقضية العراق كاهتمامه (قدس سره) بها، فهو لم يأل جهداً في التفكير بأسبابها والمخاطر المحدقة بها والتحذير من بداياتها ودعمها ونصرتها وترشيدها ثقافياً وسياسياً وحركياً، لأن قضية العراق كانت بالنسبة له هي قضية الإسلام، فهما توأمان حمل همهما في وقت مبكر جداً فضلاً عن أنه حاول أن يستغل كل فرصة أو مناسبة للتعبير عن رأيه بالقضية وبالمرحلة المحددة التي تمر بها وموقفه من المشكلة التي يعاني منها العراق والحلول المناسبة، وذلك برؤية عصرية منفتحة على الواقع ومن منظور ديني متمسك بالثوابت والأصول التي يحاول أن يستنبط منها ما يحقق المصلحة العليا للشعب العراقي بشكل عام.

إن من أبرز مميزات آراء الإمام الراحل بشأن هذه القضية الهامة والحساسة، هي أنه (شرعن) الحلول العصرية في إطارها الإسلامي من دون تجاوز الواقع، باعتباره مرجعاً دينياً وفقيهاً مجتهداً جمع بين الثوابت والمتغيرات، وبين الأصول والعصرنة، وبين التراث والتجديد بأسلوب علمي مميز ورزين.

ففي رأي الفقيد مثلاً، إن الاستبداد والطائفية السياسية وانتهاك حقوق الإنسان، هي القواعد الثلاث التي يستند عليها الحكم في العراق، فكان يرى أن البديل عن ذلك ومن أجل تحقيق تغيير جذري، هو التعددية السياسية والاجتماعية لأن في العراق تركيبة سياسية واجتماعية متنوعة يلزم الاعتراف بها والتعامل مع الواقع على هذا الأساس وعدم تجاوزها، لأن ليّ ذراع الحقيقة بهذا الصدد ينتج الاستبداد والدكتاتورية والطائفية السياسية، ومن ثم التجاوز على التنوع السياسي والاجتماعي، وسعيه الدائم لفرض لون واحد لدرجة أنه يجبر مثلاً المواطن الكردي أو التركماني أو حتى الآشوري على تسجيل اسمه في ديوان النفوس العام بصفته عربي في إطار قانون ما يسمى بـ(تصحيح القومية!!) ظناً منه أنه سينجح في تغيير الحقائق، ومن ثم في تغيير ديموغرافية العراق المتجذرة في الواقع والممتدة في عمق التاريخ آلاف السنين.

وقد حدد الفقيد ثلاث مبادئ أساسية لتحقيق التعددية السياسية والاجتماعية:

المبدأ الأول: حكم الأكثرية، وهو مبدأ عقلي يقره الشرع ويعترف به الإنسان مهما كانت هويته، إذ لا يعقل أن نحقق الحرية والأمن والسلام لشعب من الشعوب وأقليته هي الحاكمة رغماً عن أنف الأكثرية، وبعيداً عن صناديق الاقتراع، وهو ما يعني عدم حصول السلطة على رأي واعتراف ودعم الأغلبية، وبالتالي اضطرارها للتوسل بالإرهاب بالأحكام وسيطرتها الحديدية على الحكم.

المبدأ الثاني: الشورى الذي يعني ممارسة جميع المواطنين ومن دون استثناء لحق الانتخاب وإبداء الرأي في القضايا التي تهم البلاد والمشاركة في الحياة العامة وعلى مختلف الأصعدة.

كما تعني الشورى من جانب آخر، حق الشعب في مسائلة الحاكم وواجب الأخير في الإصغاء إلى ما يقوله الآخر من دون توتر أو تردد أو عنف، وبكلمة جامعة فإن الشورى تعني مسؤولية الرأي والرأي الآخر بين الحاكم والمحكوم.

المبدأ الثالث: احترام حقوق الآخرين سواء اتفقوا معي في الرأي واختلفوا، لأن مشاكل أية جماعة تبدأ عادة عندما يقفز الحاكم على حقوق المحكوم، والقوي على حقوق الضعيف، والكبير على حقوق الصغير.

إن المطلوب هو احترام الحقوق على مختلف الأصعدة الاجتماعية والدينية والمذهبية والقومية والسياسية والاقتصادية، الجماعية منها والفردية، وغيرها.. في إطار الوطن الواحد المتحد يشعر كل الشعب بأنه شريك في هذا البلد وليس غريباً عنه وإن حقوقه مصانة لا يعتدي عليها الحاكم.

وإن من أبرز الحقوق التي يجب أن تحترم وتصان هي حقوق الأقليات سواء كانت الأقليات السياسية (المعارضة) أو الأقليات الاجتماعية (القومية والدينية) ليشعر الجميع بقدرتهم على ممارسة حقوقهم وواجباتهم بشكل طبيعي سواء كانوا في السلطة أو خارجها، وبذلك ستسقط كل مبررات ودوافع التفكير في الظلام وتدبير الأمور بالليل وسياسة التآمر والتوسل بالقوة ولعبة الانقلابات العسكرية للوصول إلى السلطة، لأن من يحس أنه قادر على الوصول إليها في يوم من الأيام وبالطرق السلمية والسليمة والصحيحة، لا يفكر باغتصابها أبداً، كما هو الشأن في الدول المتقدمة، أما الذي يرى أن بينه وبينها سداً منيعاً تحرسه الدبابة، فهو الآخر سيحدث نفسه في يوم من الأيام بالسيطرة على الدبابة ويتسوّر السد المنيع ويصل بنفسه وجماعته إلى القصر الجمهوري ولو كان ذلك على حساب جماجم ودماء الأبرياء وحرية الشعب وحقوقه واستقراره وأمنه.

إضافة إلى أن الأقلية مهما كان نوعها، التي تشعر بأن حقوقها مصانة، وليس في طول البلاد وعرضها من يفكر في إلغائها أو تجاوزها، سوف تطمئن إلى الحكم سواء كانت جزءاً منه أو خارجاً عنه.

من جانب آخر، فإن السعي لإقامة نظام ديمقراطي يتطلب التفكير الجدي والحثيث لتشييد المؤسسات الدستورية، فهي كما يرى الإمام الشيرازي، الضمان الحقيقي والواقعي للبناء الديمقراطي، والفردية وسلطة الواحد تنتهي بلا شك إلى الاستبداد والديكتاتورية والإرهاب.

وتشمل المؤسسات الدستورية في رأي الفقيد السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية، المستقلة عن بعضها من دون أن يتدخل في شؤونها حاكم مستبد أو حزب حاكم أو قوة متنفذة أو رؤوس أموال أو إعلام مملوك، خاصة السلطة القضائية التي يجب أن تكون مستقلة استقلالاً تاماً لتتمكن من تحقيق العدالة وإجرائها على الجميع وللجميع، وإعطاء كل ذي حق حقه حاكماً كان أو محكوماً، في السلطة كان أم في المعارضة، إما أن يكون الزعيم الأوحد هو الرئيس وهو المشرع وهو القاضي والمدعي فهذا يعني انعدام الاستقرار وإلغاء الديمقراطية والانتهاك المستمر لحقوق الشعب والتجاوز عليها.

وكان الإمام الراحل يرى أن السبيل الأمثل لتشييد المؤسسات الدستورية الحقيقية غير المزيفة، هو منح الحرية للأحزاب والتكتلات والتيارات والشخصيات التي ستأخذ على عاتقها مسؤولية السعي الجدي لتقديم برامجها الصالحة ثم التنافس الحر الشريف فيما بينها والبعيد عن العنف والإرهاب والتزييف والدعاية المجّة والسطوة غير المشروعة على اتجاهات الرأي العام، من أجل المساهمة الإيجابية في تشييد صروح المؤسسات الدستورية التي ستكون والحال هذه، قاعدة صالحة وصلبة لبنية الدولة الديمقراطية التي لا يتحكم فيها فرد ولا تتحكم فيها أهواء جماعة أو مصالح شخصية أو ذاتية، إذ سيكون فيها اتخاذ القرار معقداً في إطار المساءلة الشعبية الصارمة والرقابة الحزبية الدقيقة، فتقل القرارات الخاطئة والمتهورة وغير المدروسة لأن كل طرف - حزباً كان أم تكتلاً أم شخصاً - سيفكر أكثر من مرة وبصوت عال قبل أن يقدم على اتخاذ أي قرار ذي شأن عام أو إبداء رأيه بأي أمر وموضوع.

ويأتي هذا الفهم المتقدم جداً للقضية العراقية من قبل الفقيد (قدس سره) بعد تجربة شخصية طويلة مع العديد من القضايا المصيرية التي مرّت على العراق، من جانب، ولمتابعته دراسته وأحياناً معايشته لتجارب عراقية تاريخية وحديثة وتجارب إنسانية لعدد من شعوب العالم، رسمت في ذهنه الحل الأمثل للمأساة التي يعيشها العراق، وبالرغم من الصدود الذي يلاقيه الإمام الراحل عندما كان يتقدم بطروحاته المتميزة هذه في كل منعطف من منعطفات القضية العراقية، إما جهلاً من الآخرين أو حسداً أو قصوراً في الوعي والفهم، إنه ظل يلح في بلورتها وطرحها والتدليل عليها بكل الأشكال حتى أضحت اليوم والحمد لله من المبتنيات الأساسية والثوابت الاستراتيجية غير القابلة للتغيير عند شريحة كبيرة من العراقيين إن لم نقل كلهم، يطالب بها ويسعى لتحقيقها الجميع، وإن دلّ ذلك على شيء فإنما يدل على مدى التأثير الفكري والثقافي والعملي والجهادي الذي تركته سيرة ومدرسة ومنهجية الإمام الشيرازي على الأحداث، والبصمات التي تركتها على الساحة.

من خلال ما تقدم نستنتج أن الإمام الشيرازي (قدس سره) لم يكن يستعجل النتائج أو تستهويه ظاهرة تسجيل الإنجازات باسمه ليفتخر بها أمام الآخرين، إنما كان همه مرضاة الله تعالى أولاً ونجاح أعماله ومشاريعه في خدمة الدين والإنسان ثانياً وأخيراً، ولذلك كانت مشاريعه وخططه استراتيجية، وكان يرفض دائماً الانجرار وراء ملايين التكلسات التي أتخمت الساحة العراقية ولم تقدم حلاً واحداً للمأساة، لمعرفته التامة بأن استراتيجية واحدة خير من ألف تكتيك، إن على مستوى الإنجاز أو على مستوى الزمن المطلوب والتضحيات المطلوبة، ولذلك أصرّ على استراتيجياته، حتى نجح في صناعة تيار واسع في الساحة، فيما انشغل كثيرون بتكتيكاتهم فخسروا الزمن والتضحيات.. والساحة.

كان الفقيد ينظر إلى أبعد من موطئ قدميه، وكان يفكر بطريقة استراتيجية، لأنه كان عالي الهمة، بعيد النظر، مصمم، صابر وثابت، ذا عزيمة لا تلين على اقتحام الصعاب والتحديات والممنوعات ومناطق الفراغ لملأها، لا تأخذه في الله لومة اللائمين ولا يفل من عضده تثبيط المرجفين، ولا يتردد في تنفيذ ما يقتنع به بعد تفكير ومشورة وحزم فكان في عمله مصداق بارز لقول الله عز وجل: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله)، فكان الرسول (ص) القدوة في هذا المجال، فإذا عزم على أمر توكل على الحي القيوم مستمداً منه القدرة والقوة والسداد والتوفيق، هو مع كل الشهرة التي جاءته تزحف أمام قدميه، ظل ذلك الإنسان البسيط في ملبسه ومأكله، المتواضع في مشيته ومجلسه، الدمث في أخلاقه، وكان أحرص على الاستماع إلى محدثه من الكلام إليه، فلا يقاطعه حتى ينهي حديثه، وكأنه يريد أن يعلمه فن الإصغاء وفن الحوار في آن واحد، لا يستصغر أحداً، ولا يستحقر سائلاً، ولا يرد طالب حاجة.

فسلام على الفقيد السعيد يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حياً في مقعد صدق عند مليك مقتدر، والحمد لله رب العالمين.

 


(*) باحث وناشط سياسي عراقي (واشنطن)

(**) في الذكرى السنوية الأولى لرحيل المرجع الديني الأعلى آية الله العظمى الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره) توجهت مجلة (النبأ) بعدد من الأسئلة إلى نزار حيدر فأجاب عليها مشكوراً بهذا البحث..

 

الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

العــدد 69

إتصــلوا بـنـــا