صور من الذاكرة |
الإمام الشيرازي فقيه الزمان وسلطان المفكرين الأتقياء |
أنطون بارا (*) |
مهما تحدثنا وأعدنا فإننا سنكون مقصرين في حق إمامنا الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي أعلى الله مقامه، ومقصرين في أن نفيه حقه بمقدار معشار مما قدمه في حياته وخلال خمسين عاماً من جهاده الفكري والفقهي ليصحح لنا المسار ويجمل أمامنا دروب الحق الوعرة لنمضي عليها غير آبهين ولا وجلين تاركين لرب العزة والجلال أن يكلأ خطواتنا بالصواب والسداد والتوفيق. وبعد رحيله عنا شعرنا أي خسارة خسرنا، فحينما كان بيننا كالدرة الثمينة وكانت أفكاره المنيرة تغمرنا بسناها غمرة شعاع الشمس في رابعة النهار لم نكن نقدّر هذه النعمة الإلهية التي خصنا بها الله تعالى بوجود فقيه الزمان وسلطان المفكرين الأتقياء بين ظهرانينا. نراه كل يوم ونستمع إلى حكمه وتفسيراته وفتاويه دون أن نعمل بها كما أراد لنا أن نعمل، ونحملها في أعناقنا قلادات فلاح كما كان يرغب في تحميلها لنا. وإمامنا الراحل أعلى الله مقامه كان ضمن منظومة العلماء ورثة الأنبياء، ألم يتحمل النكران والجحود حتى من المقربين إليه؟ إذن فليس غريباً ألا نعمل في حياته بما كان يتوجب علينا فعله بما يرضيه ولا نقدّر عطاءه إلا بعد رحيله فقد فعلنا ذلك من قبل ولم نعرف محمداً وعلياً وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام إلا بعد غيابهم، ساعتها أدركنا مدى فداحة ما خسرنا وأحسسنا بما كانوا يمثلونه من عظمة وشموخ وسمو وشمائل، فإذا كان هذا حال الأنبياء والمصلحين فلا غرو أن يصيب الراحل ما أصابه من جحود فهذا بحد ذاته دلالة على صلاحه وتقواه وتميزه، ولن نكون مغالين لو قلنا أن الجهاد الفكري الذي قام به الراحل كان فوق احتمال البشر، فألف كتاب ونيف ليست نزهة فكرية على مدى خمسين عاماً بل معاناة متصلة في الصحو والمنام، فمن لا يعرف صعوبة الكتابة والتأليف لا يعرف حجم ما عاشه الإمام الراحل من مكابدة، فلو جمعنا خمسين مؤلفاً وطلبنا منهم أن يؤلفوا نصف هذه الكتب خلال خمسين سنة لعجزوا عنها فكيف استطاع العقل الملهم للسيد الشيرازي أن يحيط بكل هذه العلوم والأحكام... أليست هذه العلامة تشير إلى جوهر فكره وروحه الخلاقة التي أخلصت للروحانيات وارتفعت عن مطامع الدنيا فتمكنت بما نفحه الله تعالى من صفاء رؤية وجلاء نظرة أن تصل إلى ما وصلت إليه من إنجاز فكري قل نظيره لا في عصرنا فحسب بل في كل العصور. ولا شك أن معظمكم سمع بالكاتب اللبناني الذي عاش في مصر (جورجي زيدان) والذي اشتهر بغزارة إنتاجه في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، والذي حول التاريخ الإسلامي من مادة تسجيلية إلى روايات تحت مسمى (روايات تاريخ التمدن الإسلامي) حيث بلغت هذه السلسلة تسعين رواية اشتملت على كافة أحداث التاريخ الإسلامي حتى القرن السابع عشر، ومنها رواية (فتاة قريش) و(شجرة الدر) آنذاك شكك الكثيرون أن يكون زيدان مؤلف هذه السلسلة وحده إذ رأوا أن مثل هذه المواضيع الحساسة المتصلة بالتاريخ يصعب على فرد واحد التصدي لها بهذا الشمول والغزارة واتهموا الكاتب بأن جماعة تساعده في إنتاجه الكتب، فماذا لو سمعوا بما كتب السيد الراحل وفي أي مجال في مجال الفقه والأحكام والشريعة والسيرة والشروحات والتفاسير والتحليل، وهي لو تعلمون مجالات خطرة كثيرة المزالق تكتنفها الحساسيات من جهاتها الأربعة، فهي ليست رواية أو قصة يسرح بها الخيال كيفما اتفق وأراد له صاحبه أن يسرح، بل هي محدودة بقوانين شرعية. وهنا تكمن عظمة ما فعله الشيرازي منذ بدأ الكتابة في سنه الخامسة والعشرين وصار لزاماً علينا أن نكرس له لقب سلطان المؤلفين في المحافل الفكرية العالمية ونعمل جاهدين على إيصال فكره لمن لم يصلهم وهذا أقل واجب نقوم به حيال ضخامة ما قدمه للفكر الإنساني من جليل الكلم وقدسية الحروف. لقد قال (أعلى الله مقامه) في إحدى تجلياته القلمية: لو عدم المصلح الاحترام في حال حياته فإنه لا يعدم الارتياح بصحة عمله، وإن أهانه الناس وهو بين أظهرهم فسيعظموه إذا فر من عالم الأحياء إلى عالم الأموات يوماً ما، ولو قالوا عنه أنه خائن فالزمان كفيل بأن يزدحموا على تعاليمه ليتلقوا عنه دروس الوفاء والأمانة. قليل أن يجتمع للرجل عز العظمة وعز الاحترام والتجلة فهو إما عظيم لا يحترم، أو يحترم وهو حقير.. شمعة الفكر احترقت لتضيء ملايين العقول البعيدة والقريبة، فقدرة الله وحكمته قد تفصل بين المرء وقلبه ليفلت السلطان على النفس من يد صاحبه على الفئة السلبية فهي التي تنقل الحق وتضطهد حملة لوائه تفرح بحيلتها في إخفاء سطوعها وبشائره وهذه الفئة ليست بمفازة من العذاب والله تعالى يرفع درجات من يشاء بحكمة وعلم، وخير الأمم أمم هديت إلى الحق فهدت به ومن المؤمنين خير الخليقة ومما خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون. فإذا كان مقياس الأمم قبول الحق فما هو جزاء من يبلوره ويحبب فيه أليس الخلود وحسن الذكر هي النتيجة الحتمية؟ فمن يعوضنا عن خسارة السيد الشيرازي ومن أين لمسيرة العلم والفكر من نظير لفريد عصره وزمانه وسلطان التأليف وألمعية القلم؟ ومن أين للمشاريع الخيرية التي نفذت أعدادها أعداد كتبه من شبيه لصاحب الهمة والاهتمام ليزيده عدداً وتنوعاً وهو القائل على كل هذه الصنائع والأفضال، إنني لم أصنع شيئاً. وتظل لنا صورة في آخر أيامه بشيبته الوقورة ولفتاته الأبوية زاداً في أيامناً تذكرنا به فوق ما تذكرنا به نبضات قلوبنا ومراجع لقاءاتنا الغابرة في (بنيد القار) وفي كل مكان وما وقر في أعماقنا من صوته المؤثر الحنون... سلاماً لروحه الطاهرة في جنة الخلد وأعلى الله مقامه وعوضنا جميعاً في خلفه المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي كل خير ويكمل حمل شعلته ويتابع مسيرته المجللة بالعز والفخار.
(*) كلمة ألقاها الكاتب المعروف انطوان بارا في المهرجان التأبيني الذي أقامته الحسينية الكربلائية في الكويت. |