ردك على هذا الموضوع

صور من الذاكرة

وللشمس صورة أخرى

الشيخ علي عبد الرضا

إذا غيب الموت جسده الشريف فإن الإمام الشيرازي بفكره.. وعطائه.. ومؤسساته.. وامتداده بأخوته وأبنائه.. والسائرين على خطه.. كان وسيكون مركزاً للإشعاع الفكري والتطلع الحضاري، وشمساً ساطعة في سماء المجد والخلود..

بعد انتهاء البرنامج الخاص بذكرى مرور أربعين يوماً على رحيل المجدد الثاني الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره)، وقبل الجلوس على مائدة الطعام جاءني أحد السادة وقال لي: شيخنا العزيز أراك وغيرك ممن تكلموا بهذه المناسبة، وبعض المواقع الانترنيتية المنتمية إلى هذا الخط، قد ركزتم على الشمس وشبهتم الإمام الراحل (طيب الله ثراه) بها، واعتبرتموه باقياً بقاء الشمس، وأن الشمس لن تغادر الحياة، فلماذا هذا التشبيه بالذات، أليست هناك تشبيهات أخرى ربما تكون أجمل وأليق بشخصيته وبمكانته المرجعية؟.  قلت له: هناك صفات وأخلاق وأفعال وممارسات قد لمسناها وشاهدناها في هذه الشخصية الفريدة والنادرة، هي بلا شك باقية خالدة، بقاء فكره.. بقاء خطه.. بقاء تلامذته.. بقاء مؤسساته.. بقاء مشاريعه.. بقاء امتداده ومسيرته في أخوته وأبنائه. وهذه بمجموعها تشكل أنموذجاً متكاملاً من جميع الجوانب والاتجاهات؛ فلا يمكن تشبيهه بأشياء وصور بسيطة لا تحمل أي بعد من الأبعاد الإنسانية والشمولية التي تغطي المحيط الذي نعيشه لتمتد نحو الآفاق البعيدة والمجالات المتنوعة. وإذا أردنا أن نبحث في هذا الكون الواسع فلا نرى تشبيهاً قد يقترب من الكيان العلمي والفكري والإنساني والموسوعي والأخلاقي والمرجعي للإمام الشيرازي (أعلى الله مقامه) إلا الشمس، لما لها من الخصائص والامتيازات الفريدة التي ارتقت بها على باقي الموجودات وجعلتها محوراً لجميع الكواكب والنجوم، ومن أهمها:

الشمولية..

فإذا كانت الشمس تغطي بأشعتها كل أرجاء المعمورة، ولا تعترف بالفوارق والحواجز والفواصل والحدود بين بني البشر، أو الأرض التي يتواجدون عليها؛ فخيوطها تمتد إلى الكل وعلى الكل، شعارها الخير للجميع، والهداية للجميع، وإن بعدت الأوطان واختلفت الأزمان، فعطاؤها شامل عميم لا يميز بين الأشخاص، ولا تمنعه الحدود الجغرافية أو السياسية أو...

فإن الإمام الشيرازي (طيب الله ثراه) يعيش الشمولية بكل معانيها؛ في تفكيره.. في عطائه.. في مؤسساته.. في بعد نظره، كيف لا وهو الخبير في التعامل مع مختلف الحواجز والعراقيل، والبارع في إيصال الفكرة والمشروع إلى أقصى مدى ممكن. ربما يستغرب البعض من هذه الكلمات التي أراها لا تستوفي كل المطالب ولاتعطي المعاني الكاملة لهذه الشخصية الربانية.

ماذا أقول في رجل استوعب الدنيا وحملها بما فيها من المشاكل، ولكنها لم تستوعبه ولم تستفد منه وتهيئ له الظروف الملائمة؟ وليتها اكتفت عند هذا الحد، وإنما وصلت معه إلى مرحلة (كسر العظم) كمحاولة لتحجيمه وغلق منافذ الانطلاق في وجهه. وكلما عادت بي الذاكرة قليلاً إلى الوراء تراني أقف إجلالاً وإكباراً لهذا الوجود الفريد وهذا الصرح الشامخ والمواقف النادرة التي وقفها (عطر الله ثراه) وهو يمر في ظروف قاهرة وغريبة قد لا يصدقها البعض. ولعل هذه القصة توضح جانباً من عظمة هذا العملاق، والروح التي يتمتع بها، والهمة العالية التي لم تتراجع يوماً ما.

أقدمت السلطات الإيرانية، وعبر وسيط معروف، وكمحاولة أخيرة ويائسة – بعد أن أفرغت كل ما في جعبتها من وسائل ضغط ومضايقة – على التهديد بإعدام السيد المرتضى – النجل الثاني للإمام الراحل (قدس سره)– وبعض وكلائه وأعضاء مكتبه إذا لم يذعن إليها ويوافق على مطاليبها!!، فقد نقل الوسيط في ساعة متأخرة من إحدى الليالي رسالة السلطة التي تقول بأن الإعدام سيطال السيد المرتضى وبعض الذين اعتقلوا معه بعد ساعات، إذا لم يوافق السيد على المطالب الموجودة في الرسالة. يومها بقينا جالسين حتى الصباح نتداول الموضوع ونتدارس كل السبل للخروج من هذا الضغط.

في اليوم الثاني وفي تمام الساعة الثامنة صباحاً، وعندما كنت جالساً في الغرفة المجاورة لاستقبال الضيوف، جاءني أحد أعضاء المكتب وقال لي بأن سماحته(قدس سره)  يريدك في غرفته، قمت مسرعاً ودخلت عليه مسلّماً، وبعد أن رحّب بي، سلمني ورقة فيها بعض الأسماء من أعضاء المكتب وآخرون ممن يعملون في الحقل الثقافي والسياسي وطلب مني إخبارهم بالحضور عند الساعة الرابعة عصراً، فقلت لسماحته: إنشاء الله سيكون الجميع حاضراً في الزمن المحدد. عندها خرجت من الغرفة وأنا أفكر بالأمر الهام الذي يريد سماحته بحثه معنا وهو يمر بهذه الأزمة الشديدة، وكلما راجعت أفكاري لم أجد موضوعاً يستحق البحث والتداول إلا موضوع الأخوة السجناء، لأنه موضوع الساعة والشاغل الأول لأفكار البيت والمكتب؛ لذلك اختليت مع نفسي ساعة تقريباً في إحدى غرف المكتب أفكر بالموضوع وفي الوسائل الجديدة للضغط على السلطة للإفراج عنهم.

 في الوقت المعين وعند حضور الجميع، خاطبنا الإمام الراحل (قدس سره)  قائلاً: أمامكم عدة أمور يجب التفكير بها وبحثها بجدية ومسؤولية، قبل أن تصل الأمور إلى مرحلة الكارثة:

الأمر الأول: المجاعة والفساد في الدول الإسلامية المستقلة حديثاً عن الاتحاد السوفيتي؛ فالأخبار التي وصلتني عن طريق بعض الوكلاء والزوار تشير إلى وجود مجاعة حقيقية وفساد أخلاقي جعل الكثير من النساء المسلمات يعرضن أجسادهن للمتعة مقابل مال زهيد أو وجبة طعام متواضعة، وهناك شبكات عالمية تقوم حالياً بشراء الفتيات والصبايا الصغار لبيعهن إلى عوائل أوروبية ثرية أو تدريبهن على أعمال الرذيلة والسرقة، والمنفذ لكل هذه الأعمال هو الفقر المسيطر على أغلب قطاعات هذا الشعب. ومسؤوليتنا نحن أن نوصل أكبر قدر ممكن من المساعدات إلى هؤلاء مع ترغيب أصحاب الأموال لاستثمار أموالهم هناك، وتركيز التجارة مع هذه الدول، على أن يسبق ذلك حملة كثيفة للتوعية، وشرح وافٍ لما تعانيه هذه الدول، عبر مختلف وسائل الإعلام العالمية.

الأمر الثاني: إننا قد نختلف مع العلويين في بعض المسائل، ولكن هذا لا يمنع من الوقوف معهم والدفاع عنهم عندما يواجههم خطر ما، واليوم هم بأمس الحاجة إلى وقفة نوعية من مختلف المذاهب للدفاع عنهم، حيث يواجهون حملات علمانية منظمة تريد النيل منهم وتغيير هويتهم الإسلامية وبالتالي محو أي اثر للإسلام في هذا البلد، وتقوم الدولة حالياً مع بعض الشركات بتكثيف موجات البث التلفزيوني الخليعة والفاسدة على مناطق تواجد العلويين في محاولة لإفساد الجيل الصاعد منهم، المسؤولية كبيرة وقسم منها بلا شك يقع علينا، نحن الذين نملك المعلومة ونحمل الهم الأممي.

الأمر الثالث: تصلني يومياً مختلف المجلات والصحف والكتب التي تصدر هنا وهناك، غير أن الذي شد انتباهي وصول أعداد جديدة من المبشرين إلى القارة الأفريقية وهم يأملون بالسيطرة على هذه القارة وتحويلها إلى المسيحية في غضون سنوات قليلة، يساعدهم في ذلك مجلس الكنائس العالمي وبعض الدول الأوروبية والأفريقية. الخطر الآن يهدد المسلمين هناك، فالفقر والمرض والجهل ثالوث خطر يمنع الإنسان من التفكير ويجعله مقيداً وموجهاً للبحث عن لقمة العيش فقط، أما المسائل الأخرى فلا يعير لها أية أهمية، والاحتمال غير بعيد بتحول أعداد كبيرة من المسلمين إلى النصرانية، ونحن هنا في هذه الغرفة نتحمل قسطاً كبيراً من المسؤولية، لأننا أدخلنا هؤلاء إلى الإسلام وتركناهم لقمة سائغة لموجات التنصير والمجاعة والجهل.

الأمر الرابع: أظنكم سمعتم بدخول أكثر من 40 ألف امرأة بريطانية إلى الإسلام في عام واحد، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدلّ على أن الإسلام دين المستقبل، دين الفطرة، دين الحياة الواقعية والأماني الحقيقية، دين الاحترام والتقديس للمرأة والطفل والرجل، دين الحقوق المحفوظة والقيم الخالدة التي تحفظ الكرامة البشرية لترتقي بها إلى أعلى القمم. وللعلم دخول النساء البريطانيات إلى الإسلام لم يكن مخططاً له بعناية ودقة وإلا لسمعنا بأرقام تفوق التي عرفناها،بعضهن دخلن في الإسلام نتيجة معاناة وتعدي حصل لهن من الأزواج والأقرباء وعدم مبالاة من قبل الكنيسة، وهذا يعني أن البعض جاء كرد فعل على ما يواجهونه وليس لوجود برنامج متكامل يعرض واقع الإسلام ويبين إنسانيته الرائدة.

الأمر الخامس: علينا العمل بجد ومثابرة على إيجاد منظمة عالمية قوية تأخذ على عاتقها حماية حقوق الجاليات المسلمة في مختلف بقاع العالم، وإيصال أصواتهم إلى مسامع أصحاب النفوذ والقدرة والقرار الفاعل، والعمل على تقويتهم وإدخالهم في المؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية. والدور الأكثر أهمية لهذه المنظمة هو حماية الشعوب الإسلامية المقهورة والمضطهدة من قبل الحكام الظلمة، واستغلال المؤسسات الحقوقية والانسانية العالمية للدفاع عن المسلمين المظلومين أينما كانوا.

عند هذه النقطة انتهى الإمام الراحل من كلامه، غير أن الأفكار أخذت تدور برأسي، فتذكرت معركة الخندق وكيف كان الجميع يفكر بالحصار في حين كان رسول الله (ص) يرى غير ما يرون فينقل المسلمين من واقع اللحظة والضيق إلى عالم الوسعة والشمولية في كل شرارة منطلقة من تلاقي معاولهم مع الصخرة؛ لذلك لم استطع الصبر والانتظار، بقيت جالساً حتى خروج الجميع من الغرفة، فتوجهت إلى سماحته وقلت له: سيدنا كل الحاضرين بمن فيهم أنا كنا نتصور أن موضوعكم سوف لا يخرج عن المشكلة التي نحن فيها وهذا ما جعلنا نفكر في كيفية مواجهتها قبل أن نحضر إلى هنا، ولكنكم بهذه الأمور الخمسة نقلتمونا إلى العالمية والمسؤوليات الكبرى الملقاة علينا، وعملكم هذا قد أفسد كل الخطط التي يحيكها أعداؤكم لتحجيمكم وحصركم في زاوية مجهولة تمنع انطلاقتكم وتقيد تحرككم الشمولي.

فقال لي سماحته: لا تفكر بهذه الأمور أكثر من اللازم، هذه هوامش لا يجب أن نعطيها حجماً أكبر منها، عليك أن تفكر بما هو أكبر من ذلك، بما ينفع الصالح العام ويقوي شوكة المسلمين في العالم أجمع.

التحمل ..

وإذا كانت الشمس لا تعتني بما يوضع أمامها من الحجب والستائر، في محاولات يائسة لإخفاء نورها وأشعتها وطمس آثارها، بل تشرق وتشرق غير ملتفتة إلى ما يعمله الآخرون، وكأنها تقول لهم في كل مرة تمد خيوطها الذهبية على رؤوس الجميع، مهما عملتم معي سأبقى أباً رؤوفاً لكم وسأظل أمدكم بالعطاء، فأنتم مازلتم صغاراً تحتاجون إلى الرعاية والعناية وإن بدر منكم ما بدر.

فإن الإمام الشيرازي (أعلى الله درجاته) ومنذ تسنمه زمام المرجعية واجه حملات منظمة ومركزة من بعض الحكومات والجهات المختلفة التي ما برحت تعمل – والى اليوم – على إخفاء فضله، وستر علمه، وطمس آثاره، وإماتة اسمه، والقضاء على كل ما يمت إليه بصلة، لماذا؟ لأنه الوحيد الذي ظل يشرق.. ويعطي.. ويؤسس.. ويتقدم.. ويتحمل.. ويعفو ويصفح.. ولم يرد على أحد منهم ولا مرة واحدة، وكأنه يقول لكل الذين ناصبوه العداء وافتروا عليه وباهتوه، كما قال هابيل لأخيه: (لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا باسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين).

فعندما زعموا أن الكتب ليست له وأنها لوالده، ردّ عليهم بتأليف عدة كتب جديدة لم تكن مطروحة في زمان والده، أمثال الحقوق والاقتصاد والسياسة والحكومة الإسلامية و.. الخ.

وعندما قالوا إن كتبه بسيطة وضحلة، كتب لهم أخرى عميقة معقدة لم يستطع البعض إلى الآن فهمها أو دركها أمثال كتب الأصول والبيع والوصائل.. إنه (قدس سره) كتب للجميع؛ للطفل.. للفتيان، للشباب، للمرأة، للرجل، للطالب، للمثقف، للجامعي، للحوزة، للخطيب، للأستاذ، للمجتهد.. لهذا التبست الأمور عند البعض.

وعندما زعموا.. وزعموا.. أجابهم بطريقته الخاصة بدون أدنى إثارة أو تهريج ليرتقي بذلك سلم العظمة والكمال ويدخل التاريخ من أوسع أبوابه ويحوز على وسام التحمل وامتياز الأخلاق وشرف التسامح ومنزلة العفو ودرجات الحلم..

يقول أحد المطلعين على شؤون المرجعيات الدينية والحوزات العلمية: إني عايشت عشرات المرجعيات الدينية عن قرب فلم أر مرجعاً وجهت إليه التهم والأباطيل والافتراءات من مختلف الجهات وصمد أمامها وتحملها بصدر رحب واستطاع أن يجتازها بعز وافتخار، مثل ما شاهدته ولمسته في مرجعية آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (أعلى الله مقامه)، وفي كل مرة يتكالب عليه مبغضوه وحساده أقول سوف ينهار أو يتراجع أو يستسلم للواقع أو الشروط التي تريدها بعض الحكومات، ولكنه في كل مرة يخرج مرفوع الرأس عالي الهمة وكأن شيئا لم يكن، وإنني أجزم بأن الذي واجهه الإمام الشيرازي طوال حياته، لو وجه قسم منه إلى الكثير من مرجعياتنا المعروفة والمرموقة لانهارت في أول الطريق ولرفعت لواء الاستسلام للسلطات الحاكمة.

إشراقة الأمل..

وإذا كانت الشمس بشروقها اليومي تبدد الظلام، وتزرع الأمل، وتعلمنا الحياة، وترشدنا نحو الخير والمحبة والسلام، باعتبارها منطلق النور، ومركز الإشعاع، ونبع الحياة، فإن الإمام الشيرازي (أعلى الله درجاته) بدد الكثير من الظلمات، بفكره وكتبه وخطبه ولقاءاته ومؤسساته؛ فقد كشف الستار عن الكثير من المذاهب والفرق والنظريات وعرّاها بأساليب وطرق بسيطة مكّنت الكل من الاطلاع عليها ومعرفتها أمثال: هؤلاء اليهود، ماذا في كتب النصارى، الصابئة في عقيدتهم وشريعتهم، بين الإسلام ودارون، الإنسان والقرد، وقفة مع الوجوديين، مباحثات مع الشيوعيين، ماركس ينهزم، نقد نظريات فرويد، نقد المادية الديالكتيكية، القوميات في خمسين سنة، مائة سؤال حول الثالوث، كيف ولماذا أسلموا؟ البابية والبهائية..

كما بدد وكشف الكثير من ألاعيب الحكومات الجائرة والسلطات الظالمة؛ فهو عندما يكتب: (أول حكومة إسلامية في المدينة المنورة أو الشورى في الإسلام أو الحرية الإسلامية أو حكومة الرسول (ص) أو الحكومة الإسلامية في عهد أمير المؤمنين (ع) أو نريدها حكومة إسلامية، أو كتابه القيم (الفقه: الدولة الإسلامية) فإنما يريد بذلك أن يقول للجميع إن الإسلام الواقعي المطلوب تطبيقه والسير على نهجه وهديه هو هذا الإسلام وغير ذلك ما هو إلا آراء شخصية وأفكار مستوردة لا يمكنها أن تعطي الصورة الحقيقية عن الإسلام المحمدي الأصيل، وإن تلبّس القائمون عليها بأشكال وألوان مختلفة.

أما زرعه للأمل في نفوس زائريه وقرائه وسامعيه، فقد يكون فريداً من نوعه، فقد كان (قدس سره) يتحرى الفرص ويستغل كل المواقف لحث الآخرين وشحذ هممهم وتوجيه طاقاتهم نحو العمل والتحرك. يقول أحد الخطباء الطهرانيين المرموقين: كنت دائم التردد إلى مدينة قم المقدسة لزيارة السيدة المعصومة (سلام الله عليها) وزيارة الإمام الشيرازي (قدس سره)، وفي إحدى زياراتي لسماحته قال لي: لماذا تصر على زيارتي في كل مرة تأتي إلى قم؟، فقلت له: حضرة آية الله لا أخفي عليك سراً فأنا منذ سنوات تنتابني حالة من الانعزال واليأس والقنوط قد تستمر معي عدة أيام، ولم تنفع معي الأدوية للتخلص من هذه الحالة إلا بعد أن جئت إليك في المرة الأولى، حيث شجعتني على كتابة مذكراتي وخطبي حتى أجمع بين البيان والكتابة وذكرت لي مجموعة كبيرة من القصص المحفزة والمشجعة على العمل والتحرك، يومها رجعت إلى بيتي وأنا كلي طاقة للكتابة والعمل، ومنذ ذلك اليوم قررت أن أقوم بزيارتكم عندما أزور السيدة المعصومة (سلام الله عليها) لأتزود من روحكم العظيمة وهمتكم العالية.

ولا أبالغ إذا قلت إن كل الكتّاب الذين ينتمون إلى هذا الخط والذين بلغت تأليفاتهم حوالي (10000) مطبوع ومخطوط، قد شُجعوا وحُرضوا بصورة وبأخرى من قبل الإمام الراحل (قدس سره)، وأنا شخصياً قد شُجعت من قبله (رضوان الله تعالى عليه)، وحصلت على هدية ثمينة بعد نزول كتبي إلى الأسواق، وربما يتذكر من كان في قم المقدسة عام 1995، دعوة الإمام الشيرازي لطلبة العلوم الدينية للكتابة حول الآيات المنسية – وكان يقصد بها آية (إن هذه أمتكم أمة واحدة) وآية (إنما المؤمنون أخوة) وآية (يضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) – والشورى، والاكتفاء الذاتي، حيث خصص (قدس سره) جوائز وهدايا قيمة للكتاب بالإضافة إلى طبع الكتب على نفقته، واستطعنا خلال فترة وجيزة الحصول على 36 نتاجاً قيماً من بعض المؤلفين.

وأما علاقته بالمجتمع فحدث عنها ولا حرج؛ فهو معلم الأخلاق وصاحب السجايا الحميدة والخصال النبيلة والمثل العليا بلا منازع، شهد له بذلك الأعداء قبل الأصدقاء، معترفين متواضعين لما يحمل من خلق سامي وقيم مثلى، ظل ملتزماً بها طوال حياته الشريفة، ولم يحد عنها قيد أنملة رغم تكالب الأعداء عليه.

فكان حقاً خير مرشد بأخلاقه، وأجلّ ناصح بسجاياه، وأفضل معلم بخصاله، وأسمى قدوة بمثله والتزاماته. يكفيك أنه طوال عمره الشريف لم يطلّق امرأة واحدة من زوجها، كان همّه الإصلاح والوئام، وقد شكل لذلك غرفة أسماها (غرفة الطوارئ) مهمتها حل الخلافات الزوجية وإذابة الخلافات الأسرية، وعندما أوصل إليه أحد القضاة كراساً خاصاً فيه بعض الإحصاءات والأرقام فيما يتعلق بارتفاع نسبة الطلاق في طهران، حيث حصل في ثلاثة أشهر أكثر من 200 ألف حالة طلاق في العاصمة طهران وحدها، قال (قدس سره): إننا استطعنا خلال عامين فقط أن نسيطر على مختلف حالات الاختلاف والخلاف بين الأزواج والأسر في كربلاء المقدسة ولم يفلت منا إلا طلاقان وقعا بسرعة وأسفنا على حصولهما.

نعم كان القمة في كل شيء، لهذا لم يجاره أحد، وانحنى أمامه الجميع معترفين بفضله وعلمه وأخلاقه وورعه وأفكاره التي ظل يحملها طوال سني عمره الشريف. وليس عجيباً أن تشاهد بين حين وآخر أن يأتي إليه البعض ممن آذوه وناصبوه العداء ملتمسين منه الصفح والتسامح، ولا أنسى ذلك الشيخ (...) الذي دخل غرفة الإمام عصراً مع الزائرين وأصرّ على تقبيل قدمه وهو يردد (سيدنا سامحني بحق جدك الحسين) فقال له الإمام: تفضل بالجلوس ولا داعي لهذا العمل – يقصد تقبيل قدمه – فقال الشيخ: سيدنا ذنبي كبير ولا أظنه يزال بتلك السهولة، فليس لي مهرب إلا إليك، فقال الإمام: إن تبت تاب الله عليك وإني مسامحك على كل ما بدر منك، فقال الشيخ: لا سيدنا لم تعلم بعد ماذا عملت لك وكيف زرعت العراقيل أمامك في العراق والكويت وإيران، فقد اتهمتك بشتى التهم وسببتك بأبشع السباب، وأنا على يقين بأنك طاهر وفوق تلك الشبهات والأقاويل، وأضاف: أنا مقدم على السفر للتبليغ يوم غد وسفرتي طويلة وبعيدة، لذلك كنت قلقاً قبل نومي يوم أمس، فشاهدت في عالم الرؤيا أن سيداً عظيماً جاءني في المنام وقال لي: تريد أن تسافر بعد غد، ماذا لو مت في سفرتك هذه وجاءك رسول الله (ص) ووبخك على الاتهامات والافتراءات التي قذفت بها السيد محمد، يالسواد وجهك أمام رسول الله، فانتبهت خائفاً فزعاً من تلك الرؤيا ولم استطع بعدها النوم، لذلك ذهبت واغتسلت غسل التوبة وجئت إلى سماحتكم مسرعاً علني أحظى بعفوكم وصفحكم.

قال له الإمام: بارك الله لك في سفرك، وعجّل لتبليغ رسالة الأنبياء ، ومن طرفي كن مطمئناً، ثم قال له: هل تحتاج إلى شيء في سفرك يمكن أن نخدمك به؟، فدمعت عينا الشيخ وقال: سيدنا الجليل لي حاجة وأظنها صعبة المنال، قال له الإمام: قل فأنا في خدمتك، فقال الشيخ: أريد من جنابكم وكالة شرعية قد احتاجها هناك إذا التقيت بمقلديكم، فقال له الإمام: هذه بسيطة، وأشار على أحد العاملين في المكتب بكتابة الوكالة، فقدمت له بعد برهة من الزمن وخرج مودعاً من قبل الإمام بعد أن قرأ في أذنيه دعاء الحفظ في السفر.

بعد توضيح هذه الأمور وسرد بعض القصص - وهناك قصص أخرى لا يسع المجال لذكرها - خاطبني السيد الذي أشكل على تشبيه الإمام الراحل بالشمس، فقال: قد أتفق معك في النقطة الثانية والثالثة – التحمل وإشراقة الأمل – غير أني أختلف معك في النقطة الأولى – الشمولية – فالمعروف عنه (قدس سره) أن توجهاته كانت منحصرة في العراق، وما تكلمت فيه ربما يحسب من النوادر.

فقلت له: كنت أحسبك على علم ودراية بأوضاع هذا العملاق وخصوصاً كتاباته المميزة التي تخطت 1065 مؤلفاً، لو راجعتها بدقة للمست الشمولية بأزهى صورها، بالله عليك ماذا تسمي الذي كتب: الغرب يتغير، كيف يمكن نجاة الغرب، حول التبليغ في الغرب؟ وماذا تسمي من كتب حول الصلح بين العرب واسرائيل، وكيفية المحافظة على أفغانستان، والى أخواني في الهند وباكستان؟ وهل كتب مثل: السبيل إلى إنهاض المسلمين، ممارسة التغيير لإنقاذ المسلمين، كلمات حول نهضة المسلمين، كيف نجمع شمل المسلمين، لماذا تأخر المسلمون.. تختص بالعراق؟.

ثم إذا كنت أنت تعتبر مسألة العراق قطرية ضيقة، فإن الإمام الراحل يعتبرها من أمهات المسائل الأممية، نظراً لما يتمتع به العراق من مركزية مؤثرة على مختلف القضايا العالمية، لاعتبارات تاريخية وجغرافية ودينية وتبليغية ومستقبلية ترتبط بوجود القيادة الإسلامية، ولهذه الاعتبارات وغيرها، كحب الوطن وزيارة مراقد أئمة أهل البيت، جعل الإمام الشيرازي بعض الثقل للمسألة العراقية.

فقال لي: لا تظلمني فأنا مؤمن بما قلت، غير أنني أحببت أن أسمعك بعض ما سمعت، لتكون جاهزاً للرد على من يشكل عليكم، وما الآثار التي تركها لنا الإمام المظلوم إلا دليلاً على وجود الشمس ولكن بصورة أخرى.

 

الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

العــدد 69

إتصــلوا بـنـــا