ردك على هذا الموضوع

مقالات

الإمام الشيرازي الكوكب الزاهر في سماء العلم والفضيلة

عباس محمد

لربما تمرّ قرون كثيرة قبل أن تشهد الدنيا شخصية عملاقة أخرى كالإمام الشيرازي‏ الذي كان نادرة من نوادر التاريخ في شتى الميادين؛ فقد كان رجلاً استثنائياً في ميادين الإيمان، والتقوى، والعلم، والمرجعية، والتأليف، والورع، والزهد، والجهاد، والأخلاق، والعمل، والقادة، والتأسيس، والتربية، إلى غير ذلك من الأبعاد التي يصعب اجتماعها في رجل واحد!.

ففي بعد الإيمان: تجلّى ارتباطه الشديد بالله تعالى وبالأئمة الطاهرين (ع) لكل من عاشره وعاصره. وكان ذكره لله عز وجل وللنبي وآله (ع) غير منحصر في محراب صلاته وساعات دعائه ، وإنما كان متداخلا مع حياته الجهادية والعملية والواقعية؛ فعندما كان يُقال له: (إن تنفيذ هذا المشروع أو الطموح صعب)، كان يرد بكل ثقة: (على الله ليس بصعب!). ولمّا كانت السبل تنقطع أمامه كان يردد بعزيمة راسخة : (على الله في كل الأمور توكلي، وبالخمس أصحاب الكساء توسلي)! وعندما كانت الأزمات تحلّ بساحته كان يقول برباطة جأش عجيبة: (إن تنصروا الله ينصركم ويثبّت أقدامكم)!

وفي بعد التقوى: كانت دموعه تجري على وجنتيه في الأسحار خوفاً ورهبة من الجليل الأعلى، وعندما كان يتلو آيات من القرآن أو يتمتم بفقرات من الدعاء، كانت مظاهر التقوى العميقة ترتسم على نفسه وحتى على نبرة صوته! وكانت (التقوى) وصيته الأولى لكل من وصل بخدمته، في وقت كانت فيه حصنه الذي يتحصّن به أمام كل الترغيبات والترهيبات التي جاءته من الذين أرادوا إبعاده عن مسيرته!.

وفي بعد المرجعية: كانت مرجعيته تمثل نموذجاً نادراً في تاريخ المرجعيات؛ فإلى جوار أنها كانت مرجعية علمية فقهية أصولية، فإنها كانت مرجعية حضارية جهادية ثورية متطورة غير منعزلة في النطاق التقليدي ، وإنما مثّلت مدّاً حضارياً أعاد صياغة مفاهيم الأمة وأحيا قيمها وتعاليمها الأصيلة مع استباقٍ للزمن ومعالجةٍ لما يعانيه أهل هذا العصر من مشكلات وقضايا ومحن. وقد كانت هذه المرجعية مرجعية التجديد والإنقاذ والإنهاض التي أشرقت بهمة (الإمام المجدد) رغم ما لاقته من حروب ومواجهات من جهات لا يُستهان بقوتها، حتى إن الاستعمار وظّف للقضاء عليها قدراته ثأرا منه لما حلّ به من جذورها في الماضي القريب.. ولكنه في النهاية فشل وخاب وظلّت هذه المرجعية كالطود الشامخ وستظل!

وفي بعد العلم: لم يقتصر علمه على الفقه والأصول، بل تجاوز ذلك إلى علوم:‏ التفسير، والحديث، والأخلاق، والفلك، والحساب، والنحو، والصرف، والبلاغة، والمنطق، والكلام. كما شمل علمه مجالات العلم المعاصرة كالسياسة، والاقتصاد، والاجتماع، والتاريخ، والطب، والبيئة، إى غير ذلك من‏ العلوم الحضارية التي أبهر الإمام الراحل من وقف على رؤاه ونظرياته فيها.وفي بعد التأليف: وصل عدد مؤلفاته إلى نحو ألف وثلاثمئة كتاب وكتيب وكراس، شكّلت ثروة فقهية وعلمية وحضارية إسلامية نادرة. وقد تجاوزت موسوعته الفقهية وحدها مئة وخمسين مجلداً، تناولت العبادات‏ والمعاملات والأحكام، كما تناولت كثيراً من الأبواب المستحدثة في الفق الإسلامي كالحقوق والقانون والدولة الإسلامية والمرور والأسرة والمستقبل والعولمة وغير ذلك. وهو – إذ تجاوزت مؤلفاته هذا الكم النوعي الهائل الذي لا نظير له – حاز بجدارة لقب (سلطان المؤلفين) .

وفي بعد الورع: يكفي أن يُعرَف أنه كان معروفاً بالاحتياط حتى في عود الثقاب الواحد!

وفي بعد الزهد: لم يخلف لورثته شيئاً، بل إنه مات مديوناً، مع أن المليارات‏ كانت تجري - في حياته - بين يديه.وفي بعد الجهاد: بدأ في جهاده قبل بلوغه العشرين، وظل مجاهداً حتى بعد أن‏ قبضه اللَّه تعالى إليه! فقد بقي جثمانه الطاهر يقاوم - بعد وفاته - الظلم‏ والظالمين، ومازال يقاوم حتى الآن رغم موته أو استشهاده. وخلال هذه الفترة - التي تجاوزت خمسة وخمسين عاماً - قاوالحكومات‏ الجائرة، ورفض كل الإغراءات التي توالت عليه، وتحمل مع ذلك جميع صنوف‏ الأذى والاضطهاد التي مورست ضدهوفي بعد الأخلاق: كان مضرب المثل، وكان يقابل من يتجرأ عليه بحسن الذكر، ومن قطعه بالصلة، ومن أساء إليه بالإحسان، وإذا جاءه من قضى برهة طويلة من عمره في سبّه والوقيعة به معتذراً، لاقاه بلطف ولم يسمح له بالاسترسال‏ في اعتذاره، وغيّر مجرى الحديث، ليحرضه على المل والفاعلية والإنتاج.

وكان غاية في التواضع ونكران الذات، ولم تغيّر من تواضعه المرجعية والزعامة والأموال‏ التي كانت تتدفق عليه، فكان يشارك بنفسه في إعداد الطعام في البيت، كما كان يسلّم حتى على الأطفال، ويقوم احتراماً للصغير والكبير حتى ضعفت‏ رجلاه - في أخريات أيام حياته - عن ذ.

وفي بعد العمل: كان كالبركان، بل إن البراكين المتفجرة لتتضاءل أمام عمله‏ ونشاطه! كما عبّر بذلك آية اللَّه العظمى السيد صادق الشيرازي دام ظله.وقد كان لا ينام من الليل إلا قليلاً، وما أن يأخذ قسطاً ضئيلاً من الراحة حتى‏ يقوم ليواصل نشاطه، والناس هاجعون!وكانواصل العمل في مختلف الظروف، وفي جميع المراحل، وفي كل‏ الحالات، شاباً وكهلاً وشيخاً، صحيحاً ومريضاً، آمناً ومطارداً... ولم يفوّت فرصة من حياته إلا واستثمرها في ما يخدم به الإسلام وأهل البيت الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. فكان لا يضيع حتى الدقائق لمعدودة التي كانت تتاح له بين برنامج عملي وآخر، فيشتغل فيها بالتأليف، أو المطالعة، أو الذكر، أو الموعظة، أو ما أشبه ذلك.

وفي بعد الريادة: كان رائداً عملاقاً من الرواد الأوائل، وكان يسبق التاريخ في‏ حركته، وتنبؤاته، وأفكاره، وطروحاته.. وتكفيك قراءة طروحاته في (شورى الفقهاء المراجع) و(الأمة الواحدة) و(التعددية) و(الحرية) و(العدالة والمساواة) و(السلم واللاعنف) و (الاكتفاء الذاي) و (إلغاء الحدود الجغرافية المصطنعة) وغيرها من النظريات الرائدة.

كل ذلك مع حفظه (الأصالة العقيدية) والاستناد - في كل شيء - إلى القرآن الحكيم والنصوص الشريفة المأثورة عن النبي الأعظم وأهل بيته الطاهرين(ع).

وفي بعد التأسيس: تأسست على يديه وبتخطيطه أو تشجيعه، المئات من‏ المساجد والحسينيات والمؤسسات والصحف والمجلات والمكتبات‏ وصناديق الإقراض الخيرية والمنظمات الإسلامية والإنسانية وغيرها حتى ناهزت ما يقارب سبعمئة وخمسين وحدة في أكثر من مئة دولة من دول العالم و بعد التربية: خرّجت مدرسته التربوية طوال أكثر من نصف قرن: الألوف‏ من الفقهاء والعلماء والخطباء والمفكرين والمجاهدين والأدباء والمؤلفين والناشطين الإسلاميين وخدمة أهل البيت الطاهرين عليهم الصلاة والسلام.حقاً.. إن العالم قد ينتظر طويلاً حتى يشهد شخصية أخرى كالإمام الشيرازي (رضوان اللَّه تعالى عليه).

 

الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

العــدد 69

إتصــلوا بـنـــا