ردك على هذا الموضوع

 

العنف

المفاهيم.. المصطلحات.. الدوافع والأسباب

سمير الكرخي

عاش الإنسان على وجه الأرض وهاجسه الأساس هو تحقيق أعلى درجة من الاطمئنان والأمان له ولأسرته؛ فكانت نتائج رغبته أن بدأ بمعرفة نفسه ومعرفة الآخر، ومعرفة الكون ومخلوقاته؛ فالكائن الحي أدرك المخاطر وخبرها، ووضع لنفسه نظاماً وقائياً يحمي نفسه من أخطار الآخرين. وكان عظيم ما يهدد وجوده المادي منذ القدم الافتراس أو الموت المفاجئ بشتى أنواعه، كالقتل أو الموت؛ فكان محور تقليده هو الحفاظ على ذاته، وعدت مشكلة بقائه حياً إزاء مخاطر الطبيعة والكائنات الحية الأخرى وإزاء أخيه الإنسان، محل صراع غير منتهٍ حتى مع تطور الحضارة واتساع الطموحات الشخصية، بل على العكس زادت هواجس الحفاظ على الحياة وصد الموجات بأشكالها المتنوعة وبضمنها عنف الإنسان تجاه أخيه الإنسان، أو عنف الإنسان ضد الطبيعة والبيئة، وعنف الأب تجاه أسرته، وعنف الشعوب والمجتمعات الإنسانية ضد المجتمعات الأخرى الأضعف منها أو الأقل تطوراً.. أو بالعكس تهديم التطور الحضاري والقيمي والتقني بوسائل العنف المتعددة التي استخدمت العدوان كأداة مباشرة تارة، أو استخدمت التعسف الفكري تارة أخرى، ومرات عديدة استخدمت الاستياء كمدخل مهيأ للعنف.

فالتاريخ أعظم سجل دوّن للإنسانية على صفحاته أغرب أساليب العنف والعدوان والتعسف الفردي تجاه الأفراد، والجماعي ضد الشعوب والمجتمعات، وما اقترفته المجموعات المتطرفة أو التي آمنت بسلوك العنف كموصل لأهدافها وتحقيق مبتغاها. إلا أننا سنحاول جاهدين دراسة العنف كظاهرة من الظواهر التي برزت على مسرح الحياة بشكل فج يستحق البحث من مختلف التخصصات، مع المقارنة بظاهرة اللاعنف كرد فعل مناسب لدعوات العنف تستحق الوقوف عليها ومناقشتها. إنّ ما يثير الدهشة هو أن صورة العنف أصبحت أكثر شدة وأكثر حدة، وكذلك أكثر تكراراً، رغم أن دعاة اللاعنف ما زالوا يدعون الإنسانية إلى الركون للعقل واللجوء إلى اللاعنف؛ فهو السبيل العقلاني لحل إشكالات العصر المتزاحمة بفعل فوضى الطموحات المتسارعة ونشر الأفكار القسرية على الناس والشعوب ..

وأول دعاة اللاعنف الدين الإسلامي، إذا أخذنا بنظر الاعتبار دعوته إلى اللاعنف كاستراتيجية لها قواعدها وأصولها وتنظيرها الخاص بها؛ فهي إذن ليست دعوة وعظية أوّلية كما في أديان أخرى، بل هي دعوة وفكر وسلوك تطبيقي، وحدود قانونية تُطبق على المخالفين في الدنيا، دون الاكتفاء بالتحذير من العذاب الأخروي؛ فالإسلام صان للإنسان حقوقه، وحرم الاعتداء على النفس والعرض والشرف والمال والعقل والدين .. وهي ضروريات اعتبرها الإسلام غاية وأساساً لقيام المجتمع القويم، ومن هذا المنطلق فإن الإسلام يأخذ بيد الإنسان غاية وهدفاً أساسياً ليكون فرداً فعالاً في بناء نهضته البشرية وتقدمها وازدهارها. إن الجانحين إلى السلام بقوا أعلاماً في بلادهم وفي غير بلادهم(1)، لذلك كان الأساس والأصل في الإسلام السلم واللاعنف(2).

 

تحديد المصطلحات

عند دراسة أية ظاهرة لا بد من تحديد المصطلح أو المفهوم وتقريبه إلى الحد الذي يفهم من سياق الدراسة في معناه. وبما أن الدراسة تتحدد ملامحها بالمقارنة بين مبدأ اللاعنف واتجاهاته المتعددة، فلابد لنا من معرفة اتجاهات العنف وما يتصل به من مفاهيم وتعريفات متعددة، فضلاً عن مفهوم اللاعنف. وسيبدأ البحث بعرض المصطلحات الخاصة بالعنف أولاً ثم مصطلح اللاعنف ثانياً، والتعريف الإجرائي لكلا المفهومين.

 

العنف Violence

يعرف العنف بأنه السلوك المشوب بالقسوة والعدوان والقهر والإكراه، وهو عادة سلوك بعيد عن التحضر والتمدن، تستثمر فيه الدوافع والطاقات العدوانية استثماراً صريحاً بدائياً، كالضرب والتقتيل للأفراد، والتكسير والتدمير للممتلكات، واستخدام القوة لإكراه الخصم وقهره .. ويمكن أن يكون العنف فردياً (يصدر عن فرد واحد) كما يمكن أن يكون جماعياً (يصدر عن جماعة) أو عن هيئة أو مؤسسة تستخدم جماعات وأعداداً كبيرة على نحو ما يحدث في التظاهرات السلمية التي تتحول إلى عنف وتدمير واعتداء، أو استخدام الشرطة للعنف في فضها للتظاهرات والاضطرابات(3).

ويتحدد مصطلح العنف أيضاً على وفق مفهومه عندما يأخذ مناحي شتى، فالقانون ينظر إلى العنف من زاوية معينة، في حين ينظر الاقتصاديون إلى العنف من زاوية أخرى، كذلك الدراسات النفسية والاجتماعية، فهي تنظر أيضاً من زاوية تحتم عليها منهجية البحث في الرؤية. وإزاء ذلك فنحن نأخذ المفهوم الذي نحاول تحويله ولو بتقارب جزئي إلى الإجرائية، رغم أن بحثنا نظري ذو طابع استدلالي لم يعتمد الجوانب التطبيقية، إننا نجيز لأنفسنا تناول بعض الاتجاهات النظرية والعلمية التي دعت إلى اللاعنف في التنظير والتطبيق الميداني، مع المقاربة لبعض المصطلحات التي تتشابه في المعنى مع العنف كالعدوان، والقسوة والسلوك العدواني .. إلخ.

يطرح (لالاند) في موسوعته الفلسفية مفهوم العنف بأنه سمة ظاهرة، أو عمل عنيف بالمعاني، وهو الاستعمال غير المشروع أو على الأقل غير القانوني للقوة. ويربط أيضاً (لالاند) بين العنف وبين الانتقام (والثأر)، والذي يعني بهما - اشتقاقاً - عقاباً أو ثأراً. لكن بنحو أخص هو ردة فعل عفوية من الضمير الأخلاقي المهان، الذي يطالب بمعاقبة جريمة(4).

ويعرف العنف أيضاً: بأنه التسبب بإضرار الآخرين، بالقتل والتشويه أو الجرح(5).

أما (ساندابول روكنغ) فيعرّفه بأنه (الاستخدام غير الشرعي للقوة أو التهديد باستخدامها لإلحاق الأذى والضرر بالآخرين) (6).

ويعرف (دينستين) العنف بأنه استخدام وسائل القهر والقوة أو التهديد باستخدامها لإلحاق الأذى والضرر بالأشخاص والممتلكات، وذلك من أجل تحقيق أهداف غير قانونية أو مرفوضة اجتماعياً(7).

ويعرف (مصطفى حجازي) العنف بأنه لغة التخاطب الأخيرة الممكنة مع الواقع ومع الآخرين، حيث يحس المرء بالعجز عن إيصال صوته بوسائل الحوار العادي، وحين تترسخ القناعة لديه بالفشل في إقناعهم بالاعتراف بكيانه وقيمته. والعنف هو الوسيلة الأكثر شيوعاً لتجنب العدوانية التي تدين الذات الفاشلة بشدة، من خلال توجيه هذه العدوانية إلى الخارج بشكل مستمر، أو دوري وكلما تجاوزت حدود احتمال الشخص(8).

 

العنف في اللغة

يعرف معجم لسان العرب (العنف) بأنّه الخُرقُ بالأمر، وقلة الرفق به، وهو ضد الرفق. عَنُفَ به وعليه، يعنُفُ عنفاً وعنافة وأعنفه وعنّفه تعنيفاً، وهو عنيفٌ إذا لم يكن رفيقاً في مالا يُعطي على العنف.

أمّا الأعنف: كالعنيف. والعنيف: الذي لا يُحسن الركُوب وليس له رفق بركوب الخيل واعنف الشيء: أخذه بشدة. واعتنف الشيء: كرهه.

والتعنيف: التوبيخ والتقريع واللوم.

وعنف: العين والنون والفاء، أصل صحيح يدل على خلاف الرفق. قال الخليل: العُنف ضد الرفق. تقول عَنفَ، يعنف عنفاً، فهو عنيف، إذا لم يرفق في أمره.

 

العدوان Aggression

يعرف العدوان بأنه كل فعل يتسم بالعداء تجاه الموضوع أو الذات ويهدف للهدم والتدمير، نقيضاً للحياة في  متصل من البسيط إلى المركب. ويكون العدوان مباشراً على فرد أو شيء هو مصدر الإحباط في صور مختلفة سواء باستخدام القوة الجسمية أو بالتعبير اللغوي أو الحركي.

أما (شابلين) فيعرف العدوان بأنه هجوم أو فعل معاد موجه نحو شخص ما أو شيء ما، كما يعني الرغبة في الاعتداء على الآخرين أو إيذائهم والاستخفاف بهم أو السخرية منهم بأشكال مختلفة بغرض إنزال أضرار أو عقوبة بهم، أو إظهار التفوق عليهم(9).

ويعرف (دولارد وميللر) العدوان باعتباره فعلاً يكون هدفه إصابة الكائن(10).

أما السلوك العدواني فيعرف بأنه تهديد لحياة الآخرين.

ويعرف الغضب بأنه عدم الرضا عن شيء يجري(11).

وهنا يفرق المؤلف بين السلوك العدواني والغضب بقوله: إن الأفراد العدوانيين، يمضون في عدوانيتهم حتى يصبحوا خطراً ويتمثل في سلوكهم العنف الخطير، أما الغضب فينتهي بانتهاء الموقف الذي أحدثه.

ويرى (برو كوفيتز)، أن السلوك العدواني يفترض أنه مسبوق بوجود إحباط(12).

ولكن ليس دائماً؛ إذ ربما يؤدي الإحباط المتكرر إلى استثارة السلوك نحو العدوان، وربما تكون ردة فعل تسمى أحياناً بالغضب، وخاصة إذا لم يتحقق للهدف استجابته النهائية .. فليس كل عدوان يكمن خلفه إحباط، وليس كل غضب يكمن خلفه دوافع للسلوك العدواني.

 

اللاعنف (عدم العنف، الدفاع السلبي، مبدأ المسالمة) Non violence

يعرّف الإمام الشيرازي (قدس سره) مبدأ اللاعنف بقوله: هو أن يعالج الإنسان الأشياء سواء كان بناءً أو هدماً بكل لين ورفق، حتى لا يتأذى أحد من العلاج(13).

ويعرّف (اللاعنف) أيضاً بأن يقف الشعب ضد المستعمر موقف عدم تعاون وبطريقة سلبية ولا يلجأ بحال إلى العنف(14)، وهي سياسة الزعيم الهندي المهاتما غاندي.

أما في المصطلح السياسي فيعرف بـ (العصيان المدني)، وهو عصيان متعمد للقانون لأسباب دينية أو أخلاقية أو سياسية. والعصيان المدني يقتضي في أضيق معانيه أن لا يحترم قانوناً ظالماً(15).

أما (راولتر) فيعرّف العصيان المدني بوصفه فعلاً سياسياً عاماً غير عنيف، واعياً ومضاداً للقانون، وهدفه تعديل قانون أو إقرار حكومي(16).

ويعرف (اللاعنف) في الموسوعة السياسية بأنه سلوك سياسي لا يمكن فصله عن القدرة الداخلية والروحية على التحكم بالذات وعن المعرفة الصارمة والعميقة للنفس(17).

ويعرف  اللاعنف أيضاً بأنه شكل من التحرك السياسي يتميز بغياب كل تصرف عنيف(18)، ويطرح تعريف اللاعنف بأنه وسيلة من وسائل العمل السياسي والاجتماعي يحاول أن يجعل قوة الضعيف وملجأه الأخير مرتكزاً على إثارة الضمير والأخلاق لدى الخصم، أو على الأقل لدى الجمهور الذي يحيط به(19).

 

التعريفات الإجرائية Operational Definition

العنف .. يعرف (مصطفى التير) العنف تعريفاً إجرائياً، بأنه ذلك العنف الموظف لغرض تغيير وضع سياسي معين، أو للحصول على مكاسب سياسية، بما في ذلك تغيير حكم قائم أو قلبه. وبهذا المعنى فإن العنف السياسي يشير إلى نوعين من النشاط من حيث المصدر، فهناك عنف السلطة أو الدولة والذي يشتمل على عدد كبير من الأفعال التي تلجأ إليها السلطة الرسمية لفرض نظام معين، والمحافظة على النظام، وهناك أفعال العنف التي توظفها الجماعات التي تعارض السلطة الرسمية(20).

لقد اعتمد البحث الحالي التعريف الإجرائي للعنف وهو: كل سلوك عنيف يتجلى في كل من اليد واللسان والقلب.

أما التعريف الإجرائي للاعنف، فقد اعتمد البحث على مفهوم الإمام الشيرازي الراحل(قدس سره) لمبدأ اللاعنف وهو: أن يعالج الإنسان الأشياء سواء كان بناءً أو هدماً بكل لين ورفق، حتى لا يتأذى أحد من العلاج(21).

هذا ولغرض الإحاطة التامة بالموضوع، لابد أن نتعرض للنظريات والاتجاهات التي تصدت لتفسير ظاهرة العنف، وفي الآتي:

أولاً- الاتجاه التحليلي psycho analysis:

ترى نظرية التحليل النفسي أن السلوك العدواني والعنف وإيذاء الغير أو الذات، وأشكال العنف الجسدي - والعدوان باللفظ: الكيد والإيقاع والتشهير ومختلف السلوكيات المتوقع حدوثها تحت هذا المفهوم - ناتجة عن غريزة التدمير أو الموت. وافترض بادئ ذي بدء وجود دوافع غريزية متعارضة أهمها اثنتان: الأولى تستهدف حفظ الفرد والثانية حفظ النوع(22)، أما (بولا هايمن) فترى أنه في حالة القسوة العمياء يحدث نوع من الكارثة النزوية، فلسبب ما ينكسر الدمج بين النزوتين الأساسيتين، وتستيقظ نزوة الموت داخل الشخص إلى درجة قصوى، من دون إمكان تلطيفها بتدخل نزوة الحياة. وحسب رأي فرويد، يسلك الإنسان وفق غريزتين: غريزة الحياة المتمثلة بعمليات الهدم، والكره والعدوانية .. والعدوانية قد تكون باتجاه الشخص نفسه فيتولد عنها تدمير الذات بتعاطي المخدرات أو بالانتحار، وقد تكون باتجاه الآخرين فيتولد عنها تدمير المجتمع من خلال أعمال النهب أو الاغتصاب أو الجريمة. وأسباب ذلك عديدة، منها:

-  عند إحساس الفرد بالدونية واستصغار الناس له وبخسهم لإمكانياته، تتحرك دفاعاته ساعياً إلى الانتقام لنفسه من المجتمع.

-  عند إحساس الفرد بخطر الموت وبأن حياته مهددة، يختل لديه توازنه  النفسي ـ الجسدي ـ الاجتماعي ويتلاشى التزامه بمبادئ المجتمع وتقاليده المتعارفة.

- عندما تتجذر السادية في إنسان، تصبح الجريمة (العنف) عنده سهلة، فيؤمّن بواسطتها الوقود الذي يحقق له الإشباع النفسي، بحيث يصبح العنف منطلقاً للتقليد والتخطيط(23).

وإزاء ذلك اعتقد (فرويد) بأن العدوان فطري أصيل في بني آدم. غير أن البحوث التجريبية لا تساند هذا الرأي، وترى أن العدوان والعنف يكونان في العادة نتيجة إحباط سابق، أو توقع لهذا الإحباط؛ فالإحباط يؤدي عادة -لا دائماً- إلى العدوان(24). ويرى (فرويد) أن هناك ظواهر مرضية تتسم بوجود دوافع غريزية غير قابلة للتعديل وإنما تتكرر في حياة الفرد تكراراً آلياً أعمى، وهي معارضة لدوافع الحياة معارضة صريحة(25).

ثانياً - الاتجاه السلوكي Behaviorism:

ترى النظرية السلوكية أن العنف لا يورث، فهو إذن سلوك مكتسب يتعلمه الفرد أو يعايشه خلال حياته، وبخاصة في مرحلة الطفولة، فإن تعرض لخبرة العنف، في المراحل الأولى من حياته، فهو في الغالب سيمارسه لاحقاً مع غيره من الناس، وحتى مع عناصر الطبيعة نباتاً كانت أو حيواناً؛ فالعنف إذاً ظل أسود يلازم الإنسانية ويقض مضاجعها، وما زال العنف يطرح نفسه بظله الثقيل ويبدد كل آمال البشرية في حياة تسودها قيم المسالمة والإخاء. ويقول (ألبرت باندورا): يحدث الكثير من التعلم من خلال المحاكاة؛ فالسلوك العدواني والعنف والهياج الاجتماعي يتأتى من محاكاة Imitation  الناس المحيطين به، ضمن الإطار الذي تحدده الفروق الفطرية. ويعتقد أنه كلما كان النموذج ذا مركز أو مقام أهم كلما زاد احتمال إقدام الفرد على محاكاة سلوكه، فعلى سبيل المثال أن احتمال انتشار العنف الصادر من لاعب شهير أثناء مباراة لكرة القدم إلى جمهور المتفرجين أقوى مما لو صدر هذا العنف من لاعب أقل شهرة وطالما أن هذه المحاكاة تحدث بمعزل عن العقوبة (مثال العنف)، فهذا يعني أن الفرد قد يتعلم الكثير من الأشياء من نموذج معتبر. وهناك رأي يقول  بأن احتمال إقدام الأطفال على العنف لدى الذين سبق أن شهدوا العنف الصادر من الراشدين أقوى من إقدام الأطفال الذين لم يشهدوا هذا النوع من العنف(26)؛ فالعنف إذن سلوك متعلّم من خلال ملاحظاتنا لغيرنا من الناس وتقليدهم والاقتداء بسلوكهم، ومن خلال علاقاتنا المتبادلة معهم والتفاعل القائم بيننا وبينهم(27).

ثالثاً- الاتجاه الإنساني Humanism:

رائد هذا الاتجاه عالم النفس (ابراهام ماسلو) حيث يرى أن الإنسان يتأثر على نحو واضح بسلسلة من الدوافع التي تتجاوز الحاجات الغريزية، كما أكد عليها التحليليون، أو السلوك المكتسب والتعلم بالنموذج كما عرضه السلوكيون. فماسلو يعيب على التحليل النفسي تجاهله التنوع الأساسي للإنسان، ويطرح رأيه في إطار هرمي الشكل؛ فبعد ما تلبى الحاجات الأساسية المبكرة، يتحرر الإنسان لتنمية الحاجات ذات المرتبة الأعلى، والتي تضعه في مستوى يفوق مستوى الحيوانات. ويتكون الهرم الذي يبدأ بالحاجات الأساسية أولاً من:

1 ـ الحاجات الفسيولوجية، مثل الأكل.

2 ـ حاجات الأمن، مثل تحقيق الأمان والطمأنينة.

3 ـ الحاجات الاجتماعية، مثل القبول الاجتماعي، والتماسك والترابط.

4 ـ حاجات الأنا (الذات)، مثل احترام الذات والمكانة.

5 ـ حاجات الإنجاز الذاتي، مثل الإبداع والابتكار والتبصر(28).

ويعتقد (ماسلو) أن الإخفاق أو الفشل في إشباع الحاجات الفسيولوجية يمنع الفرد من تنمية الحاجات اللاحقة، أي الحاجات الاجتماعية وحاجات إشباع الذات .. ويرى أن العنف والعدوان إنما هو سلوك يلجأ إليه الإنسان لتحقيق حاجاته الأساسية، وأن السبب في إحراز الأطفال الفقراء تقدماً تربوياً دون المستوى المطلوب يأتي من سبب التفاوت في إحراز التقدم بين الدول الفقيرة والغنية، وهو الفشل في إشباع الحاجات الأولى في الهرم (الحاجات الفسيولوجية).

رابعاً- الاتجاه الإسلامي:

الإسلام لا عنف ولا إرهاب ولا دكتاتورية، ولا استبداد، ولا حب إراقة الدماء، وإنما هو عدل وشورى وتبادل للرأي، وحب الخير، ونشر لألوية الأمن، ودعوة إلى السلام في رفق ولين وإخاء(29)، كما يتجلى ذلك في قول الله سبحانه وتعالى: (وقولوا للناس حسناً) (البقرة/83).

إذن الإسلام يرفض العصبية ولا يرضى أن تكون مسلكاً من مسالك الناس، ويرفض العنف، ولا يقره، وينحو باللائمة على كل متعصب أو متطرف، كما أنه لا يرضى بالعنف، ويكرهه، ويحذر اتباعه من أن يتخذوه وسيلة لتوصلهم إلى غاية مهما كانت النتائج، كما أنه ينهى عن الإرهاب، ولا يقره، إنه دين السماحة(30). ففي القرآن الكريم قوله سبحانه وتعالى: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً) (الفرقان/ 63)، وقول الله سبحانه وتعالى أيضاً: (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) (فصلت/34)، وقوله أيضاً: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة) (البقرة/208).

من جهة أخرى قال الإمام الشيرازي(رحمه الله): الإسلام يدعو إلى السلام ويعتبر السلم هو الأصل، والحرب هي الاضطرار، وإن الجهاد والحرب حكم ثانوي واضطراري، وإن السلم هو الحكم الأولي(31).

فالإسلام ينبذ العنف والقسوة والإرهاب قولاً وفعلاً، وقد دعا إلى اللاعنف كبديل لحل ما يواجه الأمة من أزمات ومشاكل ومصاعب. يقول الباري عز وجل: (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) (يونس/99) ويقول سبحانه وتعالى أيضاً: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) (النحل/125).

خامساً - الاتجاهات السياسية:

تهتم النظرية السياسية بعنف الدولة المنظم، وبضروب التمرد العنيفة ضد الدولة. والشرطة هي المسؤولة بصورة طبيعية عن حل الفتن الداخلية، أما القوات المسلحة فهي التي تتولى أمر العدو القادم من الخارج. ويمكن للعنف ضد الدولة أن يتخذ شكل التمرد أو حرب الشوارع أو الاغتيال أو حرب العصابات أو الحرب الأهلية أو الثورة. ويختلف الموقف السياسي الذي يجب تبنيه حيال مختلف نماذج العنف باختلاف الموقف من الدولة أو مختلف نماذج الدول(32).

إن أيديولوجية الدولة هي التي تحدد نمط قيادتها، ونوع سياستها، على وفق التعاملات مع الدول ومع شعوبها؛ فالأنظمة الثورية تنظر إلى العنف كأداة فعالة في فرض سيطرتها ونفوذها، حيث لا يوافق كل منظّري الثورة على أن الثورات هي أحداث عنيفة. لأن العنف - باعتقادهم - قد أصبح جزءاً لا يتجزأ من الموقف الثوري. وإزاء ذلك يرى (دن) أن الثورات هي تغير اجتماعي جماهيري عنيف وسريع، والعنف مكون أساسي من مكونات تعريف (هنتنجتون) أيضاً. أما (كالفرت) فيذهب أبعد منهما بقوله: العنف هو البعد الوحيد في الثورة، ويرى الثورة ببساطة شكلاً من أشكال تغيير الحكومة القائمة بالعنف، وليست كما يقول الآخرون بأنها تغيير غير مشروع(33).

أما الأنظمة السياسية الليبرالية الغربية فتنظر إلى العنف ضمن الحدود التي يعينها القانون، وفي إطار نظام يتمتع بتأييد أغلبية شعبية، ويسعى إلى تجنب الحروب باستخدام الدبلوماسية والتجارة والحقوق الدولية لتسوية المسائل(34)، والعنف يعد لديه وسيلة غير مستحبة، ولكنها ضرورية أحياناً.

 

دوافع العنف

إن العنف بكل أشكاله ـ من الشتيمة إلى الكلام اللاذع حتى القتل والتدمير- يعد سلوكاً، والسلوك يكمن خلفه دافع، فما يدفع الإنسان لفعل عمل ما أو سلوك ما، هو نفسه يوجهه نحو الخير أحياناً ونحو الشر أحياناً أخرى. وتعمل دوافع العنف كعمل الاتجاهات نحو قضية ما أو موقف ما، فهناك الكثير من العوامل تؤثر في تكوين دوافع العنف، منها مرور الفرد بخبرة انفعالية حادة، أو من خلال مشاهدة سلوكيات معينة، وتسمى (التعلم بالملاحظة)، أو تقليد سلوك الآخرين خلال مراحل الطفولة والمراهقة.

إن الخبرة الانفعالية المؤلمة من شأنها أن تغير الاتجاه وتحول الدوافع من الحب إلى البغض، وأحياناً تصل إلى العنف والعدوان وسلوك التدمير. ويفسر لنا البروفسور الدكتور مصطفى زيور الدوافع نحو العنف والعدوان بقوله أن العدوان طاقة انفعالية لا بد لها من منفس، وعادة يتخذ لذلك العدوان موضوعاً معيناً تفرغ فيه الشحنة الزائدة، وإذا لم يتمكن العدوان من أن يصل إلى مصدر فإنه يلتمس مصدراً آخر يصبح فداء(35).

وتعمل الدوافع كأفكار لدى بعض الشعوب، حيث يعتنقها الأفراد. وتكون محركاً قوياً نحو الإيمان بمعتقد أو مذهب أو فكر سياسي أو ديني، وتؤدي إلى تحريك هذه الأفكار أو المعتقدات ويعززها الإيمان المطلق بالقضية، حتى تكاد تصل إلى التعصب لهذا الرأي أو المعتقد، وإزاء ذلك تنشأ أفكار التعصب بدوافع موجهة تؤدي إلى العنف وفرض الرأي على الآخرين.

إذن نستطيع القول إن دوافع العنف تشترك في أبعادها مع الاتجاهات كأحد هذه الأبعاد، ومع الأفكار في بعدها الثاني، ويكون حينئذٍ الرابط الأساس هو الدافع المحرك للسلوك. وكل من: الأفكار والاتجاهات، والدوافع، سلوك مكتسب يميل إلى الثبات النسبي وله تأثير مباشر على توجيه هذا السلوك.

وعلى النقيض من دوافع العنف هناك الدوافع الاجتماعية Social motives وتكون موجهة نحو اشباعات الفرد الاجتماعية من خلال الاتصال بالآخرين والتفاعل معهم، وترتبط عادة بمشاعر الحب والاستحسان والقبول والاحترام، وتغطي هذه المشاعر على الكثير من الظروف المعوقة للتوافق الاجتماعي الناجح مثل الفقر الشديد والإعاقات الجسمية وقساوة التربية التي تترك لدى الأفراد شرخاً نفسياً حتى بعد النضج في مراحل العمر اللاحقة.

مما تقدم نستطيع استخلاص عمل الدوافع باتجاه العنف على النحو التالي:

1 ـ يمكن استثارة سلوك معين بعدة دوافع مختلفة، أو بواسطة مجموعة منها، مثل (إطاعة الأوامر، تحقيق الاهتمام والتقدير، تجنب الفشل المحتمل).

2 ـ توجد أساليب سلوكية متنوعة يمكن أن تشبع الحاجة نفسها.

3 ـ لا تؤدي الدوافع بالضرورة إلى سلوك يهدف إلى إشباع الحاجات(36).

وإزاء ذلك نستطيع القول أن الدوافع المؤدية هي دوافع تتعلق بالسلوك الإنساني، ويمكن حصر محركات السلوك بثلاث مجموعات من الدوافع:

1 ـ ما يدركه ويحسه الفرد قبل أن يقدم على عمل مباشرة.

2 ـ ما يجري في ذهنه قبل فترة طويلة من الفعل.

3 ـ ما يعلق عليه في المستقبل من أهداف ونتائج إذا ما قام بالفعل(37).

إن الأفعال تحمل في طياتها أجزاء تعوزها المعرفة، وهذه المعرفة تنحصر في دوافع العنف باتجاه ما يلي:

أ) الدوافع الشخصية (تكوين نمط الشخصية).

ب) الدوافع السياسية.

ج) الدوافع الدينية (التعصب الديني).

د ) الدوافع الاجتماعية (قيم المجتمع).

هـ) الدوافع الاقتصادية.

 

دوافع العنف الشخصية

تعرف الشخصية عادة بأنها تلك الأنماط المستمرة المتسقة نسبياً من الإدراك والتقليد والإحساس والسلوك التي تبدو لتعطي الناس ذاتيتهم المميزة، وهي تتضمن الأفكار، الدوافع، الانفعالات، الميول، الاتجاهات والقدرات والظواهر المتشابهة(38)؛ لذا فإن أحد المختزلات والمكونات للشخصية هي الدوافع بأنواعها، دوافع الخير أو دوافع الشر، ولكن هذه المكونات تأخذ طابعاً تكوينياً لنمطها، فليست كل أنماط الشخصية السوية ذات قوة اندفاعية بنفس الحدة، حتى وإن كانت داخل النمط الواحد للشخصية، فالشخصية الاندفاعية كثيراً ما تكون عنيفة في السلوك، والتصرف أو الشخصية الانفجارية، أيضاً تحمل نفس السمات وإن اختلفت دوافع الإثارة فيها، فكلا النمطين يختلفان في السلوك والتصرف، ولكنهما يتفقان في التوجه؛ وعليه فإن السمات تشير إلى جوانب متنوعة من الشخصية تتضمن المزاج والدافعية والتوافق والقدرات والقيم.

إذن دوافع العنف في الشخصية الواحدة قائمة على الموقف والبيئة المحفزة لذلك السلوك، وعلى ضوء ما يلي:

1 ـ الناس قادرون على تقدير سلوكهم.

2 ـ الناس على وعي بنتائج الاستجابات الخاصة.

3 ـ ربما يكون لنفس الحالات تأثيرات مختلفة جوهرياً.

4 ـ جميع البشر لديهم بعض الاتساقات الداخلية، ولكن كل فرد منظم بطريقة فريدة(39).

وتساؤلنا المهم: متى يكون الناس متسقين في دوافعهم؟

إن الدوافع الشخصية المحركة للسلوك يتم التعبير عنها إلى حد ما من موقف إلى آخر، وحسب طبيعة القوة الضاغطة لأن يسلك هذا السلوك أو غيره؛ فسلوك العنف ودوافعه تتناقص وتتزايد حسب شدة الإفراط أو التفريط في التوتر والإجهاد الشخصي للفرد ومدى اندفاعه وشدة الاستثارة له. وعلى ما يبدو فإن للخبرة تأثيراً فعالاً على هذا الدافع، حتى وإن كان الدافع هو روح التنافس في الظروف غير المتوقعة والتي قد تتطلب قرارات تتعلق بالموت أو الحياة.

 

دوافع العنف السياسية

يقصد بالعنف السياسي استخدام - أو التهديد باستخدام - القوة العنيفة المباشرة لإنجاز أهداف سياسية، سواء تم ذلك من قبل فرد أو جماعة أو دولة بشكل سري أو علني، منظم أو غير منظم(40). وعليه فإن العوامل المؤدية إلى العنف السياسي ودوافعه تقوم على أساس ما يلي:

1 ـ السياسة الخارجية: وعادة ما تكون مبهمة لمعظم الناس، ودوافعها غير واضحة وغير سهلة التعرف؛ لذا يختفي تأثيرها في القوة الدافعة إلى العنف، فهي بالتأكيد سبب رئيس يختلف عليه الناس في الدول والمجتمعات المختلفة، لكن يشترك الجميع في الأرضية المؤدية إلى اندلاعه مثل الأزمات الداخلية، أو الأوضاع الاقتصادية، أو التمييز في التعامل بين أبناء الشعب وغيرها من الأسباب.

2 ـ استخدام القسوة: إن لجوء الأنظمة إلى استخدام القسوة بواسطة السلطات الأمنية والشرطة لإخضاع الشعوب، أمر تحدده المتغيرات الداخلية لأي بلد، أو المتغيرات الدولية؛ فعندما تتهم أية دولة حركات التحرير بالإرهاب، واستخدام القسوة، فإنها تنطلق من معيارها الذي يحدد نوع هذا السلوك أو الدافع باتجاه سياستها .. فأحداث العنف في أي بلد، أو أية مؤسسة دولية، أو ضد أي مجتمع، تعبر عنه الدولة، بحسب قوة تأثيرها في العالم، بأنها أعمال إرهابية، أو حق مشروع في الدفاع عن نفسها؛ فالمعيار السياسي ذو بعدين، فهو قابل للتأويل بالاتجاه الإيجابي أو السلبي نحو أية قضية.

3 ـ الإيمان الكامل بعدم إمكانية التغيير السلمي: إن القناعة التي تتولد لدى جماعة ما أو حركة سياسية ما أو دولة ما، بأن الحلول السلمية أو التغييرات ذات الطابع السلمي غير العنيف مستحيلة يتمخض عنها اللجوء إلى العنف لتبرير دوافعها وتنفيذ خططها السياسية لغرض إخضاع الآخر لمطاليبها. وعادة ما تميل التغيرات القائمة على أساس العنف إلى أن تفتقد الكثير من المدعمات لسياستها ولكن تكسب عوامل أخرى، مثل القنوات السلبية للديمقراطية، عدم استجابتها لمطالب الجماهير، وهي تبرر استخدامها ذلك بأنها حصلت الاعتراف عن طريق القوة والعنف، وهي بحد ذاتها دوافع للعنف، وعليه فإن هذا العنف هو عنف متعدد الأسباب.

 

دوافع العنف الاجتماعية

من المتفق عليه أن الإنسان هو الكائن الحي الوحيد الذي يتأثر ويؤثر اجتماعياً؛ يتأثر بأهله، بمجتمعه، بتاريخه، وبكل ما يحيط به، ليؤثر بعد ذلك في بناء شخصية أبنائه، ومن ثم في حياتهم، فيرسم لهم الأطر التي يتحركون ضمنها(41)، وبالتالي يكتسب قيمهم ويدرك تقاليدهم وأعرافهم، وتشكل لدى الأفراد في المجتمع الواحد المعايير التي يلجأ إليها في التعامل، لا سيما أن المعايير Norms (هي قواعد غير مكتوبة تحدد السلوك المقبول من غير المقبول في حالات محددة)؛ لذا فإن معظم الأسر تؤدي وظائفها الاجتماعية التقليدية مع أبنائها داخل البيوت أو في المؤسسات الاجتماعية من خلال إكسابهم هذه المعايير كأنماط تعامل غير مكتوبة، ويمكن ملاحظتها في سلوكيات أفراد المجتمع في الواقع، ومن تلك السلوكيات (العنف) ومدياته من الشدة في التعامل إلى سلوك التسامح.

تضع معظم المجتمعات استراتيجيات معينة لها مثل الفروسية والقسوة أو التحمل الشاق، وتدريب أبنائها على هذه الاستراتيجيات، بحيث ينشأ الفرد وهو يحملها معه، ويظل هاجسه الحفاظ عليها طيلة حياته..

فالعنف كسلوك متعلَّم اجتماعياً تحدده البيئة الاجتماعية وميول الأفراد ودعم قوانين بعض البلدان التي تراه سلوكاً مناسباً يتعلمه الأفراد، حتى أن برامج التدريبات العسكرية دليل واضح لما يمكن أن يفعله التعليم لتقوية المواقع المثيرة للعنف، إذ تستقبل الأكاديميات العسكرية الشبان الصغار من مختلف فئات المجتمع، ويعرضون لهم برامج لبناء صورة معينة للعدو؛ لتطوير اتجاهات سلبية نحوه، وإثارة كراهيته في نفوسهم، وتهيئتهم للانقضاض عليه بقوة وتدميره بسرعة.

ويلاحظ أن مظاهر العنف والعدوان توجد بشكل واضح في بعض الثقافات أو الثقافات الفرعية وتكاد لا توجد بتاتاً في ثقافات أخرى.

إن بعض الثقافات الفرعية في نفس المجتمع مسؤولة عن غالبية أحداث العنف فيه، بحيث تتضمن الثقافة الفرعية قيماً كثيرة تمجد العنف وتحض عليها؛ فيشب الصغار وخصوصاً الذكور، وقد تسلحوا بكمية هائلة من التبريرات المؤيدة للعنف، تسهل عليهم مهمة توظيفه في الأنشطة اليومية؛ لذلك ينضمون بسهولة إلى العصابات التي تستخدم العنف وترتكب مختلف أعمال التخريب(42).. وعلى ضوء ما تقدم يمكن تصنيف عوامل العنف إلى:

1) عوامل شخصية، وتتضمن:

أ) صفات عامة: النوع والسن والتعليم والمكانة الاجتماعية.

ب) التوازن النفسي – الاجتماعي.

2) عوامل مجتمعية، تتعلق بالمحيط:

أ) المحيط المباشر – القريب (الأسرة والعمل).

ب)  المحيط المباشر – البعيد (الحي والمدينة).

ج) المحيط غير المباشر – القريب (المجتمع والدولة).

د) المحيط غير المباشر – البعيد (الوضع الدولي).

إن الدوافع الاجتماعية للعنف تعد المحرك الأساس في تشكيل السلوك لاحقاً وتدعيمه أو كبحه، قبوله أو رفضه؛ وعليه فإن العنف ودوافعه جزء يتكامل مع مكونات المجتمع وسلوكياته.

 

دوافع العنف الاقتصادية

تلعب العوامل الاقتصادية دوراً مهماً في توجيه دوافع العنف والعدوان عند الناس والمجتمعات؛ فالحاجة الاقتصادية لا يشبعها أي بديل محتمل، وكثرة المشكلات الاقتصادية تؤدي حتماً إلى تدمير الحضارة وأسس البناء الاجتماعي، وتترك آثارها على عامة أبناء المجتمع، فالبناء الاقتصادي يسبب نمو علاقات اجتماعية معينة(43)، فإن كانت مشبعة اقتصادياً أحدثت التماسك والترابط الاجتماعي، وإن كانت عكس ذلك ولّدت السلوك العدواني والعنف.

وأول تلك المشكلات التي تسبب العنف الاقتصادي، هي البطالة والفساد الإداري. وقد اتفقت الآراء على أن البطالة هي السبب الرئيس للعنف(44)؛ فالشاب الذي لا يجد فرصة عمل يكون هدفاً سهلاً لمختلف الاتجاهات المتطرفة دينياً أو سياسياً أو عصابات النصب والاحتيال والسطو المسلح، وبالتالي لعب العامل الاقتصادي الدور الفاعل في دوافع العنف، فضلاً عن الفساد الاقتصادي والإداري في دولة ما. والأزمات المستمرة ابتداءً من التضخم والكساد الاقتصادي إلى حالات الكسب غير المشروع في الصفقات التي تتم بشكل غير قانوني مع رجالات الدولة أو الدخول في صفقات غير قانونية لتمرير العشرات من أنواع البضائع الفاسدة بجهود أشخاص ذوي نفوذ في الدولة.. هذه الممارسات تولد لدى الشباب أو الناس المحرومين سلوكاً عنيفاً من الكبت، سرعان ما ينفجر بأفعال عدوانية منظمة تستهدف الأشخاص والمؤسسات أو الدولة ذاتها؛ مما يؤدي إلى تدهور البنى الاقتصادية - الاجتماعية للدولة.

 

الخاتمة: مناقشة المصطلحات والمفاهيم

عند التعرض لمناقشة المصطلحات والمفاهيم التي عرضت خلال البحث، نستطيع تحديدها من خلال استخداماتها اللغوية، وتراوحها بين العنف والعدوان والسلوك العدواني الإرهابي بكل أشكاله، ومن ناحية أخرى تناول البحث مفهومي اللاعنف والعصيان المدني وأبعادهما.. ومن خلال جميع ما تقدم نستنتج ما يلي:

أولاً: إن مفاهيم العنف والعدوان والسلوك العدواني والإرهاب تدرجت من أبسط أفعالها (العنف اللغوي والسب والشتيمة)، إلى أقسى الفعل (القتل والتدمير).

ثانياً: إن هذه المفاهيم تراوحت في المعاني بين العنف الفردي، والعنف الجماعي، والعنف السياسي والعنف الديني، وعنف الثورة الهادفة إلى التغيير، والعنف الدفاعي لحماية الذات وصد المعتدي.

ثالثاً:  تناول البحث استخدام مفهوم (العنف) من رؤى واتجاهات نظرية متعددة، علمية اجتماعية، ودينية وسياسية.

رابعاً: استخدم في البحث الحالي التعريف الإجرائي للعنف (السياسي)، كذلك التعريف الإجرائي الذي اعتمده الإمام الشيرازي الراحل (قدس سره) لمفهومي العنف واللاعنف، واستخرج منه أفكاره النظرية.

خامساً: تراوحت التعريفات والمفاهيم في البحث الحالي بين التطبيق العملي الإجرائي والأطر النظرية؛ فهي تضمنت البحث بالمفاهيم رغم تباعدها في الرؤية، إلا أنها اتفقت في المعنى.

سادساً: أعطت الأفكار المختلفة لمفهومي العنف واللاعنف تنوعاً متناسقاً استهدف الحالة الإنسانية بشموليتها ولجميع شعوب البشرية، من النظرة الثورية إلى النظرة الغربية المحافظة حتى النظرة الدينية المستندة إلى الكتب السماوية، فضلاً عن المفهوم الهندي الذي جاء به غاندي.

 

الهوامش:

(1) الإمام محمد الحسيني الشيرازي(قدس سره)، السبيل إلى إنهاض المسلمين، مؤسسة الفكر الإسلامي، بيروت (1992) ص159.

(2) الإمام محمد الحسيني الشيرازي(قدس سره)، ثلاثة مليارات من الكتب، هيئة آل ياسين، بيروت (1998) ص19.

(3) فرج عبد القادر طه، موسوعة علم النفس والتحليل النفسي، دار سعاد الصباح، الكويت (1993)، ص551 .

(4) أندريه لالاند، موسوعة لالاند الفلسفية، المجلد 3، منشورات عويدات، بيروت وباريس (1996)، ص1554 .

(5) سرحان بن دبيل العتيبي، ظاهرة العنف السياسي في الجزائر، مجلة العلوم الاجتماعية، العدد (4)، مجلد (28) شتاء (2000)، ص49 .

(6) جليل وديع شكور، العنف والجريمة، الدار العربية للعلوم، بيروت، (1997)، ص31 .

(7) المصدر السابق.

(8) مصطفى حجازي، التخلف الاجتماعي، معهد الإنماء العربي، بيروت، (1976)، ص263 .

(9) فرج عبد القادر طه، موسوعة علم النفس والتحليل النفسي، مصدر سابق، ص480.

(10) ت. أ أنسكو و. ج. سكوبلر، علم النفس الاجتماعي التجريبي، ترجمة عبد الحميد صفوت إبراهيم، مطابع جامعة الملك سعود/الرياض (1993)، ص380 .

(11) ديانا هيلز وروبرت هيلز، العناية بالعقل والنفس، ترجمة عبد علي الجسماني، الدار العربية للعلوم، بيروت (1999)، ص218.

(12) ت. أ. انسكو و ج. سكوبلر / مصدر سابق.

(13) الإمام الشيرازي، إلى حكم الإسلام، مؤسسة الوفاء، بيروت (1984)، ص50 .

(14) أحمد سويلم العمري، معجم العلوم السياسية الميسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة (1985)، ص142.

(15) قاموس الفكر السياسي، ج1، مجموعة من المختصين، ترجمة أنطوان حمصي، منشورات وزارة الثقافة - دمشق (1994)، ص474 .

(16) المصدر السابق، ص475 .

(17) عبد الوهاب الكيالي، الموسوعة السياسية، ج4، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت (1987)، ص320 .

(18) حيدر البصري، اللاعنف مدخل إلى المفاهيم والرؤى، مجلة النبأ، العدد (54)، شباط (2001).

(19) عبد الوهاب الكيالي، مصدر سابق، ص385 .

(20) مصطفى التير، العنف العائلي، مطابع أكاديمية نايف، الرياض (1997).

(21) الإمام الشيرازي(قدس سره)، إلى حكم الإسلام، مصدر سابق.

(22) سيجموند فرويد، الموجز في التحليل النفسي، ترجمة سامي محمود علي وعبد السلام القفاش، دار المعارف بمصر، القاهرة (ب. ت)، ص88 .

(23) جليل وديع شكور، العنف والجريمة.

(24) أحمد عزت راجح، أصول علم النفس، المكتب المصري الحديث، الإسكندرية (1970)، ص552.

(25) فرويد، الموجز، مصدر سابق.

(26) ديفيد فونتانا، الشخصية والتربية، ترجمة عبد الحميد يعقوب جبرائيل وصلاح محمد نوري داود، مطابع التعليم العالي، أربيل. العراق (1986)، ص156 .

(27) فرج عبد القادر طه، موسوعة علم النفس والتحليل النفسي.

(28) ديفيد فونتانا، مصدر سابق، ص86 .

(29) حسن محمود خليل، موقف الإسلام من العنف والعدوان، مطبعة دار الشعب، القاهرة (1994)، ص72 .

(30) نفس المصدر، ص75 .

(31) الإمام محمد الحسيني الشيرازي(قدس سره)، الصياغة الجديدة، مؤسسة الفكر الإسلامي، بيروت (1992)، ص364 .

(32) قاموس الفكر السياسي، ص490 .

(33) كوهان، مقدمة في نظرية الثورة، أ. س، ترجمة: فاروق عبد القادر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت (1979) ص32 .

(34) قاموس الفكر السياسي، ص490 .

(35) محمود السيد أبو النيل، علم النفس الاجتماعي، ج1، دار النهضة العربية، بيروت (1985)، ص476 .

(36) ليندا، ل. دافيدوف، مدخل علم النفس، دار ماكجر وهيل للنشر، القاهرة (1983)، ص443.

(37) فخري الدباغ، السلوك الإنساني، مطبعة حكومة الكويت، الكويت (1986)، ص32 .

(38) مدخل علم النفس، ص570 .

(39) مدخل علم النفس، مصدر سابق، ص607 .

(40) حسن بكر، أسباب العنف السياسي ودوافعه، مجلة الفكر العربي، العدد (93)، صيف (1998)، ص6.

(41) جليل شكور، الأهل وأثرهم في تحديد طموح الأطفال، مجلة الثقافة النفسية، العدد (6)، المجلد (2)، نيسان (1991).

(42) مصطفى التير، العنف العائلي، ص40 .

(43) سرحان بن دبيل العتيبي، ظاهرة العنف السياسي في الجزائر، ص13 .

(44) حسن بكر، أسباب العنف السياسي ودوافعه،  ص8 .

ردك على هذا الموضوع

إتصــلوا بـنـــا

الأعــداد السابقــة

العــدديـن 67 - 68

الصفحة الرئيسية