ردك على هذا الموضوع

 

آية الله العظمى السيد علي السيستاني (دام ظله)

أجرى الحوار: مكي آخوند

المؤسسة العالمية للثقافة والحضارة الإسلامية

** ما هو تعريفكم لمفهوم العنف؟

** كيف وبأية وسيلة، يمكن مكافحة العنف في المجتمع؟

** أين يمكن أن نبحث عن جذور ظاهرة العنف؟

** هل هناك وجود للعنف المشروع؟

** هل يُعدّ الجهاد لأجل الدفاع، أو إقامة الحدود الشرعية، في المجتمع الإسلامي، من مصاديق العنف؟

** هل لنا أن نتوسل بالعنف للتوصل إلى أهداف الإسلام الاستراتيجية؟

** أين، ومتى، وكيف، بدأت ظاهرة العنف؟

** هل العنف حالة مكتسبة أم ذاتية؟

** ما هي سبل مواجهة العنف؟

** هل يمكن أن يكون العنف مؤثراً في مواجهة العنف؟

** إن رسول الله  (ص)، والأئمة المعصومين (ع)، هم قادة سفينة الهدى والنور، وهم التجسيد العملي للاعنف، فبأي علة لجأ بعض المسلمين، الذي يدعون الاقتداء بسيرتهم(ع) إلى أعمال العنف؟

** يرجى التفضل بتوضيح بعض معالم منهج اللاعنف في الإسلام؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم

من الموضوعات الضرورية، بحث موقع الرفق والعنف في الفكر الإسلامي، وضرورة هذا المبحث تتأتى من أن أعداء الدين، وغير المتوافقين مع أحكامه، راحوا ينعتون الإسلام بدين العنف، ويتهمون المسلمين بالنزوع للعنف، مثيرين في هذا الصدد العشرات من الشبهات. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الجدل والنزاع السياسي والعقيدي والاجتماعي بين المسلمين أنفسهم، بات سبباً لطرح العشرات من الأسئلة حول الإسلام، نشير إلى بعضها كما يلي:

1- ما هو المعنى الحقيقي للعنف؟.

2- هل أن الجهاد، وتطبيق الحدود الشرعية، من مصاديق العنف؟.

3- هل يمكن الاستفادة من العنف في بلوغ الأهداف الاستراتيجية للإسلام؟.

4- هل يمكن تحديد نماذج وموارد معينة للاعنف في الإسلام؟.

5- هل يعدّ الدفاع عن الوطن أو المال والنفس، أو حماية مبدأ مقدس، من أعمال العنف؟.

6- إن كلمة الإسلام، مرادفة للسلام واللاعنف، لكننا نرى اليوم اسم الإسلام وقد صار لصقاً للعنف وأعمال القتل والاغتيال، فأين تكمن العلة، أفي الإسلام، أم المسلمين؟.

7- إن الرسول الأكرم (ص)، والأئمة المعصومين (ع)، هم قادة سفينة الهدى، ونماذج رفيعة للاعنف، فما هو السبب في لجوء بعض المسلمين إلى العنف؟.

8- لماذا تبادر كل حكومة تريد أن تعرّف نفسها بأنها إسلامية، إلى تطبيق أحكام القصاص والحدود في المجتمع أولاً؟.

للإجابة على الأسئلة المتقدمة، نحتاج إلى تأليف الكتب، وإقامة المؤتمرات من قبل حماة الثقافة والدين، وهنا يتعين على الحوزات العلمية، باعتبارها تأتي في الخط المتقدم لحفظ وصيانة الآيديولوجيا الإسلامية، أن تتصدى لبيان موقف الإسلام حيال العنف والرفق.

فيما يأتي نسعى للإجابة عن الأسئلة المتقدمة والتي تندرج تحت عنوان (موقع العنف والرفق في الإسلام)؛ ذلك لأنه بدون توضيح هذا الموضوع، لا يمكن بحال الوصول إلى إجابة كافية عن الأسئلة الآنفة الذكر - وسيدور بحثنا حول المحاور التالية:

1- تعريف مصطلح العنف وتفريعاته:

إنّ عدم وجود تعريف دقيق وجامع، فضلاً عن كثرة ترادف الألفاظ، لعب دوراً رئيسياً في هذا الغموض والتفاوت الحاصل من قبل المنظرين وأقطاب الفكر السياسي، الأمر الذي ترتب عليه ما نشهده اليوم من خلاف وجدل عريض في هذا المضمار.

إنّ مصطلحي العنف (violence) والتسامح (tolerance) اللذين هما جزءٌ من أدبيات السياسة وعلم الاجتماع في الغرب، قد صارا يطرحان بشكل واسع النطاق في إطار الجدل الفكري الدائر حالياً، علماً أن موضوع العنف والتسامح قد طرح لأول مرة في أوروبا القرن السادس عشر، في النزاع بين الحكومة والكنيسة (1).

طرح هذا الموضوع في مجال الفلسفة السياسية للإسلام، واتهام الإسلام بالعنف، يستدعي منا تحديد تعريف دقيق وواضح لبعض الألفاظ والمصطلحات، وبيان موقع هاتين المقولتين في إطار الفكر الإسلامي.

فالعنف هو: (الغلظة والخشونة، خلاف الرفق واللّين) (2)، (خشن وخشونة: الغلظة والقوة، خشن العيش: صعبه) (3)، (الخشونة ضد النعومة) (4).

علماء الاجتماع والقانون، راح كل واحد منهم يعرّف العنف تعريفاً مستقلاً، ولم يقدموا تعريفاً موحداً وجامعاً، فالبعض منهم عرّف العنف (violence) بأنه ممارسة غير رفيقة، تخالف الطبيعة الليّنة للفرد وللمجتمع(5)، والبعض الآخر عرّف العنف بأنه الاستفادة من القوة بطرق غير مشروعة(6).

وهناك من عرّف العنف بأنه التعدي غير المشروع على الحريات الفردية التي أقرها المجتمع بصورة مباشرة أو ضمنية(7).

وأحياناً ينصرف معنى العنف إلى الحزم وعدم التغافل عن أخطاء وتجاوزات المتهمين والمجرمين، وهو ما يقابل التصرف السمح والتساهل من قبل منفذي القانون.. والوجه الآخر الذي ينصرف إليه معنى العنف، هو عدم التسامح الديني، وعدم التحمل الفكري، وعدم مجاراة المنافسين السياسيين، وهو ما يقابل التسامح الديني أو السياسي، وقبول الآخر(8).

إلى ذلك، فإن العنف يعني إلغاء الآخرين لأسباب وبطرق غير قانونية وغير منطقية (9).

* التسامح والتساهل: التسامح هو عدم التشدد بين طرفين، وكذلك فإن التساهل يعني المياسرة والتغافل والملاينة والموائمة(10).

* التسامح هو عدم التصلب، والمداراة، وغض الطرف وخفض الجناح (11).

* التساهل هو المياسرة بين طرفين، الرفق في التصرف، عدم التشدد(12).

وقد تبين أن العنف رغم كونه غير منسجم وغير متسق مع الفطرة الإنسانية، والإنسان ينفر منه بطبعه، إلا أنه اختلفت وجهات النظر حول تعريفه واختلاف اتجاهات الرأي حول تعريفه، صار مثاراً للأسئلة التالية:

- إذا كان العنف أمراً غير قانوني، فأي عنفٍ هو المقصود؟.

- بأي دافع، وفي مواجهة أي طرف، يُعدُّ العنف قبيحاً؟.

- ما هي معايير العنف القانوني والعنف غير القانوني؟.

- أي نوع من العنف ذلك الذي تنسبه بعض الجهات للإسلام والمسلمين؟.

- هل العنف مقصور على العالم الإسلامي، أم لا؟.

2- الخلط بين معنى العنف ومجالاته:

في الواقع أن العنف له معنى خاص وآخر عام، وإن عدم الفصل والتمييز بين هذين المعنيين، والخلط بين مجاليهما، سبب الكثير من الجدل والخلاف.

المعنى الخاص للعنف، هو فرض الرأي،وتدمير وإلغاء المعارض، لأسباب وبطرق غير منطقية وغير قانونية..

إذا كان العنف بهذا المعنى، فهو حرام من وجهة نظر الإسلام، ذلك لأن حرية الرأي والعقيدة، والحريات السياسية، في إطار القانون، مصانة ومحترمة في الدين الإسلامي. إلى ذلك فقد أمر الإسلام باحترام مخالفيه، وحفظ كرامتهم الإنسانية، والتعامل معهم كمواطنين لهم كامل حقوق المواطنة وواجباتها، طالما لم يتآمروا عليه، ولم يعرضوا المصالح العامة للخطر.

ولكن المؤسف، أنه كلما استخدم مصطلح العنف، تبادر إلى الأذهان ذلك المعنى الخاص للمصطلح. العنف بمعناه اللغوي والعام عبارة عن الحزم، وعدم التساهل، مع الخارجين على القانون، ومنتهكي حقوق الآخرين، والظالمين… هذا النوع من العنف هو ما يصطلح عليه بالعنف القانوني، أو العنف المشروع، الذي يستخدم لأجل تطبيق العدالة، إحقاق الحقوق، الدفاع عن كرامة الإنسان، وحفظ الشرعية..

فإذا كان العنف بهذا المعنى، فهو جائز في الإسلام، ومقبول من قبل العقلاء، كما أن جميع المنظرين والمفكرين الذين لا يجوّزون العنف، قد أجازوا في الوقت ذاته العنف القانوني والمشروع، مما يعني أن العنف المشروع، أو القانوني، ليس من مصاديق العنف.

المؤسف، أن أولئك الذين يتهمون الإسلام بالعنف، إمّا أنهم يخلطون بين نوعي العنف الآنفي الذكر، وإمّا أنهم يخالفون الدين، بحيث شمّروا عن سواعدهم للقضاء على الإسلام.

أو إن الذين ينعتون الإسلام بدين العنف، ويزعمون أنهم حملة لواء اللاعنف والتسامح، هم أشدّ الناس ميلاً للعنف.

3- موقع العنف والمداراة في التشريع الإسلامي:

يمكن أن نقوم بتحليل هذا الموضوع، على ضوء الفكر الإسلامي، وفقاً للمحاور الآتية:

أولاً- التصرفات الفردية والاجتماعية:

على صعيد التصرفات والتعاملات الفردية والجماعية، فإن الدين الإسلامي لا يجيز العنف، بل ينهى عنه، ويأمر بإصلاح ذات البين، وحفظ العلائق الأسرية، ورعاية حقوق الجيرة، واحترام حقوق الأقليات الدينية، وصيانة كرامة الإنسان، وتجنب أي فعل عنيف في العلاقات الاجتماعية، مما يعني أن الإسلام يعطي أهمية خاصة للرفق والمداراة، كما أن نبي الإسلام (ص) يأتي على رأس دعاة التصالح والتسالم في التعاملات الفردية والاجتماعية، وكذلك فإن الأنبياء (ع) ينفذون إلى القلوب، بصفائهم، ونقاء سرائرهم من أي شائبة من عنف أو تصلب.. وهذه هي إحدى الخصائص والخصال التي ساعدتهم في نجاح دعواتهم، وجذب قلوب الناس إليهم… وعلى هذا، فقد امتدح الله سبحانه وتعالى رسوله الكريم محمد بن عبد الله (ص)، بقوله عزَّ من قائل: (فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) (13)، كما قال رسول الله (ص): (أمرني ربّي بمداراة الناس كما أمرني بالفرائض) (14)، وقال (ص) أيضاً: (مداراة الناس نصف الإيمان والرفق بهم نصف العيش) (15).

إلى ذلك، فإن رسول الإسلام، لم يواجه عنف الآخرين بالعنف، فلما أظهر (ص) دعوته الشريفة في مكة، اصطدم بجدار قاس من القسوة والعنف، تمثل في قريش، التي لم تترك وسيلة من وسائل التعذيب والإهانة والافتراء، حيث وصفوه بالكذّاب والساحر والمجنون والمفتري، إلا واستخدموها ضده، وفي المقابل كان دعاؤه: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) (16) روى عبد الله بن مسعود: إني رأيت رجالاً من قريش يضربون رسول الله (ص)، وقد أدموا وجهه الشريف، وكان (ص) يمسح الدم عن وجهه، ويقول: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) (17).

كما أن الأئمة المعصومين(ع)، لم يستخدموا العنف قط، في حياتهم الاجتماعية، وكثيراً ما كانوا يواجهون أفراداً مسيئين بالتسامح والعفو، الأمر الذي كان له الأثر البالغ في نفوس الناس، بحيث أن الكثير من غير المسلمين، اعتنقوا الإسلام، وصار الناس ملازمين لهم، لشدّة تعلقهم بهم (ع)..

روي أنه بينما كان الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) جالساً بين أصحابه، إذ مرت بهم امرأة بالغة الجمال، فاجتذبت عيون الرجال إليها، عند ذاك قال الإمام (ع): (إن عيون الرجال طمّاحة، وهذا يهيّج نفوسهم، فأيمّا رجل وقعت عينه على امرأة جميلة، فليراجع زوجته لأنها امرأة مثل تلك).

وكان رجل من الخوارج حاضراً بين أصحاب الإمام (ع)، فلما سمع هذا الحديث قال قاصداً إياه (ع): (قاتله الله ما أفقهه من كافر)!! فوثب إليه الأصحاب ليقتلوه، إلا أن الإمام(ع) صاح بهم: (هوِّنوا عليكم، وكفّوا! إنما جواب السبِّ السبُّ أو العفو، وأنا أهلٌ لأن أعفو) (18).

ومثل هذه الحوادث كثيرة، يعمد فيها الخوارج إلى إهانة الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، ويقطعون عليه الخطبة، ليوجهوا له كلاماً نابياً، ولكن الإمام (ع) في كل مرة يقابلهم بالعفو والصفح (19).

ثانياً- تشريع الأحكام العبادية:

التشريعات الإسلامية، فيما يتعلق بأحكام العبادات، قامت أيضاً على أساس مبدأ التسامح، أي إن الإسلام لم يكلف النفس فوق ما تطيق وتحتمل، ولم يتشدد في هذا الجانب بشكل منافٍ للحكمة والمنطق، فقد ورد في القرآن قوله تعالى: (لا يكلّف الله نفساً إلا وسعها) (20).

إضافة إلى ذلك فإنه لا وجود لأي نوع من العسر والحرج في الدين الإسلامي، وإن حديث (لا حرج) (21)، وأحكام الإسلام بخصوص نفي العسر والحرج (22)، لهي خير شاهد على ما نذهب إليه في هذا الشأن.

وترى الأصوليين عند بحثهم للشبهة الحكمية، يجمعون على أصالة البراءة، مما ينبئ عن السهولة واليسر في الأحكام، لكن المؤسف أن البعض راحوا يستنتجون استنتاجات غير منطقية، ففسروا أحكام الإسلام تفسيراً متشدداً.

يقول الشهيد مطهري: بما أن الشريعة الإسلامية سهلة سمحة، فقد خلت من الأحكام الصعبة المسببة للحرج، قال تعالى: (ما جعل عليكم في الدين من حرج) أي إن الله سبحانه وتعالى لم يضيّق في الأحكام، بل جعل الدين سمحاً لا حرج فيه، وأينما اقترن أداء التكاليف بالضيق والحرج، ارتفع التكليف وصار بحكم الملغي (23).

التسامح والتساهل في الدين، هو بمعنى أن التدين يتحقق بأداء الحدود الدنيا من العبادات، أما الحدود القصوى فالناس ليسوا مجبرين عليها، لأن الله سبحانه كلف عباده بأداء الواجبات في حدودها المبينة في الدين، ففي الصوم -مثلاً- يكفي ترك مبطلاته، أما المستحبات فقد أرادها البارئ سبحانه من فئة خاصة من عباده، هذا الأصل (التسامح) منظور أيضاً في بقية الأحكام العبادية.. ولا شك أن أبرز مصاديق هذا التسامح نلمسها في أقوال الرسول الأكرم (ص) فقد حدّث الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) أن أم زوجة عثمان بن مظعون جاءت عند النبي (ص) وشكت زوجها قائلة أنه يصوم نهاره، وفي الليل يشتغل بالعبادة (24) فقال النبي (ص) لعثمان بن مظعون وهو مغضب: (يا عثمان! لم يرسلني الله بالرهبانية، ولكن بعثني بالحنيفية السهلة السمحة) (25).

ومن المؤكد أن التساهل والتسامح في الدين لا يعني مطلقاً اللامبالاة تجاه أصل الدين، والحدود الدنيا المطلوبة في الأحكام.

يقول الشهيد مطهري: كما أن الله تعالى لا يرتضي أن يشقّ على عباده، فهو أيضاً لا يرتضي منهم عدم التزام الحدود الدنيا في الدين، بل ويعاقبهم عليه أشد العقاب؛ فمثلاً، فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هي آلية لتحقيق الحدود الدنيا المطلوبة في الدين، وبحسب تعبير الإمام علي بن أبي طالب (ع) أن الرسول الأكرم (ص) كان بمثابة طبيب يحضر عند وسادة المريض، ويضع بلسماً على جراحه، من لطفه وحنانه وسماحته، ولكنه عندما يرى أن التسامح لا يؤدي إلى نتيجة، ولم تطبق الحدود الدنيا، الضرورية في الدين، ولا يبالى بالأحكام الإلهية، فإنه يبدي تشدداً في تطبيق الأحكام الدينية (26)،وعلى هذا الأساس لا يمكن التسامح وغض الطرف، في تطبيق الأحكام الإلهية، وحفظ الدين وقيمه، إن جلّ المعارك التي خاض غمارها الرسول الأكرم (ص) كانت في نطاق حفظ الدين ومبادئه، وحماية المصالح العامة، لأن أعداء الدين استهدفوا مقدسات الإسلام. في هذا المورد قال تبارك وتعالى: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم) (27).

إن من الأهداف الرئيسية المهمة للأئمة المعصومين، من أهل بيت النبي (ص)، هو حفظ حرمة وقدسية الدين، والسلام(28)، النهوض(29)، الهدوء والاستقرار(30)، كما أن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) قد بين غير مرة أن الهدف من تصديه للحكم، هو تطبيق الأحكام والقوانين الإلهية (31)، وإنّ الإمام أبا عبد الله الحسين (ع) قد بين أيضاً الهدف من ثورته، وهو مواجهة محاولات طمس معالم الدين، وتغييب الحدود الإلهية، الذي مارسته حكومة يزيد بن معاوية (32) هنا يبرز السؤال التالي:

هل يجوز التسامح تجاه كيان الإسلام ومقدساته؟ يجب القول بأن الإسلام لا يقبل التسامح في أصل مقدسات الدين، وعلى هذا الصعيد لم يصانع قادة الإسلام أولئك المشككين بالدين ومقدساته، وعارضوا بشدة المعادين للدين، ولم يداهنوا قط حول أصل الدين.

ثالثاً: تشريع وتطبيق الأحكام، من قبيل الحدود والقصاص والجهاد:

إن أحد الأسئلة المهمة، يدور حول ما إذا كان تشريع أحكام من مثل أحكام الحدود والقصاص والجهاد، يعدّ عنفاً أم لا؟.

الإجابة على هذا السؤال، تتطلب توضيح المسائل الآتية:

أ) من الطبيعي أن توضع أحكاماً جزائية، لأجل تطبيق العدالة، وصيانة المصالح الفردية والعامة، ومكافحة جميع أنواع الفساد والانحراف.

من هنا اعتبر القرآن الكريم الاقتصاص من المجرم، إدامةً لحياة المجتمع وحفظ مصالحه، حيث ورد قوله تعالى: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب) (33)، هذا بالإضافة إلى أن ضرورة مواجهة الفساد، والخارجين على القانون، تستدعي تشريع قوانين وقائية.

فالواقع يدّلنا على أن تشريع بعض القوانين، إنما يأتي بهدف مكافحة الفساد والخارجين على القانون، تطبيق العدالة، تحقيق الاستقرار والأمن، الدفاع عن حقوق الناس، وحفظ النظام المشروع، وبوجه خاص مواجهة أولئك الذين يصفهم القرآن الكريم بأنهم كالأنعام (34)، الذين يعرضون أمن المجتمع للخطر، ولا محل للشفقة والرحمة والهداية في قلوبهم، فتمس الحاجة إلى وسائل للردع، عبر تشريع قوانين الجزاء.

إن بعض منظري الغرب، مثل (هوبز) يرى أن الإنسان مغرور وأناني بطبعه، فوجود الدولة يعتبر وسيلة للسيطرة على غرور وأنانية الإنسان، كما يعتقد هوبز أن من طبيعة الإنسان أيضاً أن يكون في صراع دائم مع بني نوعه، مما يلزم عنه وجود دولة تتمتع بسلطات تامة لتهدئة هذا الصراع وضبطه (35)، فمن الطبيعي أن تستفيد الدولة من القوانين الرادعة، كأحد الطرق المهمة لفض النزاعات، والسيطرة على الصراع وتحجيمه، وعلى هذا الأساس راحت كل الدول تشرع قوانين جزائية، وتبني السجون، ودور الإصلاح، وما شابه ذلك فإذا لم يعمل بمثل هذه القوانين، فكيف يمكن تحقيق الأمن والاستقرار والطمأنينة في مجتمع من المجتمعات؟!.

ومن هنا فإنّ مشرعي القوانين هم أنفسهم من بناة نظرية مكافحة العنف بالعنف، إذ يشرعون قوانين عنيفة في الظاهر، إلا أنهم يعللونها بالعنف المشروع أو العنف القانوني.

فتشريع هذا النوع من القوانين، إما أنه ليس من العنف في شيء، أو أنه عنف مشروع  (وبناءً عليه، فإن العقوبات التي تفرضها قوانين الجزاء، لا ينبغي أن نحسبها من مصاديق العنف، ولا وجه للتدخل في نفيها أو إثباتها) (36)، (ولذا فإنه حتى العقوبات التي تبدو لنا عنيفة، يؤيدها المجتمع، فلا تعدّ من العنف) (37).

ب) إدانة المتهم: إن الدين الإسلامي الحنيف يطبق مبدأ التسامح، بأقصى حدوده، على صعيد إدانة المتهم، وقد قرر جملة شروط لأجل منع حصول الادانة، وتضييق أرضية إيقاع العقاب، فمثلاً أوجب أربعة شهود على جريمة الزنا (38) حتى يضيق مجال الإدانة إلى أقل حدّ ممكن.

ج) قاعدة الشبهة في الحدود (الحدود تُدرأ بالشبهات) تفصح عن اللطف والرحمة الإلهية الواسعة. هذه القاعدة تشغل حيزاً واسعاً في الفقه، وهي تعني أن وجود أي احتمال للشبهة، يمنع من إجراء الحدود الشرعية.

 الشارع المقدس كان بإمكانه أن يضع الأحكام، بحيث تجرى بسهولة، وتثبت إدانة المذنب من أقرب طريق، لكنه جعل للإدانة شروطاً خاصة، تضيّق مجالها إلى أدنى حد، مما يعني أن لطف ورحمة الله سبحانه يسبقان غضبه، (يا من سبقت رحمته غضبه)، (رحمتي وسعت كل شيء) (39)، (وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين) (40).

(رغم أن هذه الأنفاس غير لائقة       إلا أن رحمتي سبقت غضبي) (41)

د) قواعد وقوانين لمكافحة العنف: إن تنفيذ قوانين الجزاء ليس أول الحلول في الإسلام، بل هو آخر العلاج. في النظرية الدينية يتعين اتخاذ سياسات منطقية لمكافحة الفقر، تفترض إزالة كل أشكال الاستغلال الاقتصادي غير المشروع. جاء في عهد الإمام أمير المؤمنين (ع) لعامله على مصر مالك الأشتر(رحمه الله): (أعط لمن تحت يدك من العمّال ما يكفيهم من المال، حتى تساعدهم في إصلاح نفوسهم، وتجعلهم في غنى من مدّ أيديهم إلى أموال الناس) (42).

كما أن من واجب الحكومة اتخاذ السياسات الفعّالة في الجوانب الثقافية والتربوية، والاهتمام بنشر الفضائل الأخلاقية،وتنمية الوعي الديني، وكل ما هو معنوي، وغير ذلك مما يُعدُّ وقاءً للمجتمع من الجريمة والفساد، ومن واجبات الحكومة أيضاً تسهيل أمر الزواج، وإيجاد البرامج المؤثرة في زيادة استحكام عرى الروابط الأسرية، ومن ذلك أيضاً القيام بالإشراف والرقابة العامة، تحت عنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،  وهو ما يلعب دوراً مهماً وأساسياً في مكافحة الفساد والجريمة، ولعلماء الدين دور مؤثر أيضاً على هذا الصعيد، عبر التوجيه والوعظ والإرشاد. غاية الأمر أن الجريمة مرض اجتماعي، أولى الإسلام لجانب الوقاية منه ومكافحة أسبابه اهتماماً خاصاً.

هـ) إن العفو العام من قبل الحاكم الإسلامي، والتوبة من قبل المجرم، عاملان مهمان للحؤول دون إجراء الحدود والقصاص، فـ (يسقط الحد لو تاب قبل قيام البينة، رجماً كان أو حداً، ولا يسقط لو تاب بعده، وليس للإمام (ع) أن يعفو بعد قيام البينة، وله العفو بعد الإقرار.. ولو تاب قبل الإقرار سقط الحد) (43).

بالإضافة إلى ذلك فإن الحاكم الشرعي له أن يعفو عن بعض المجرمين، على أساس المصلحة الفردية والعامة.

بملاحظة الأمور المتقدمة، نستطيع أن نجزم بأن تشريع قوانين وأحكام الجزاء لا يُعدّ عنفاً، لأن المراد من تشريع هذا النوع من القوانين، هو حفظ النظام، وحماية الحقوق الفردية والاجتماعية، وضمان الوصول إلى الأهداف التربوية والأخلاقية اللازمة لأي مجتمع.

وهكذا فإن قوانين وأحكام الجزاء في الإسلام، لا يراد بها الانتقام مطلقاً، وإنما هي وسيلة إدامة حياة المجتمع وحفظ قيمه ونظامه، وتطهيره من عوامل الانحراف والجريمة.

وعلى هذا الأساس شبه الإمام جعفر الصادق (ع) إجراء الحدود الشرعية بماء المطر الذي يحيي المجتمع ويطهره، حيث قال (ع): (حدُّ يقام في الأرض أولى فيها من مطر أربعين ليلة وأيامها) (44).

وبلحاظ الشروط التي عينها الشرع المقدس لإجراء الحدود وإنزال القصاص، يصبح بديهياً القول أن الجريمة -عنواناً وموضوعاً- قليلاً ما تقع في ظل النظام الإسلامي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن شروط إدانة المتهم، التي تستوجب إنزال العقاب، روعي فيها التسامح وبعد النظر؛ فالواقع إذن أن قوانين الجزاء ليست بحالٍ من مصاديق العنف اللامشروع، بل يعتبرها العقلاء أمراً معقولاً ومنطقياً، كما أن البعض يرى أن المبالغة في الرأفة والإشفاق أحد العوامل المساعدة في شيوع الجريمة والفساد، من حيث أنها تسبب عدم خشية الناس من يد القانون، وعدم إقامتهم وزنا للمحاكم والسلطات المنفذة للقوانين، فعلى سبيل المثال، يحدثنا التاريخ أن أعمال السطو والسرقة والاحتيال في وضح النهار، قد شاعت في قرى ومدن فرنسا خلال السنوات التي أعقبت الثورة الفرنسية(45)، لذلك راح البعض، مثل منتسكيو، يؤكد على ضرورة الحزم في تطبيق القوانين الجزائية، كما أن البعض يعتقدون أنه كلما ثقلت كفة العقوبات القانونية، كلما أمكن الوقاية من الجريمة قبل أن تتطور إلى فعل خارجي (46).

جدير ذكره أن 94 دولة في العالم تُدخل حكم الإعدام ضمن تشريعاتها، والكثير من الدول تطبق حكم الإعدام على مجرميها، ومن جملة هذه الدول الولايات المتحدة الأمريكية، وإن أعمالاً إجرامية من نحو الاغتصاب، اللواط، التسبب في الحرائق بشكل متعمد، قتل عنصر نظامي، خطف الطائرات.. تستوجب حكم الإعدام في الكثير من دول العالم (47)، (واليوم في أكثر الولايات المتحدة الأمريكية يعتبر حكم الإعدام مشروعاً، وتشير الإحصاءات إلى أن عدد المحكومين بالإعدام في تلك الولايات يتزايد يوماً بعد يوم) (48) جاء في حديث لنبي الله عيسى بن مريم (ع) في الإنجيل: (أنا لم آتِ لأقيم السلام والاستقرار، وإنما أتيت لأبسط سلطان السيف، أتيت لأفصل الولد عن والده والبنت عن أمها والزوجة عن أم زوجها) (49).

إن تشريع أحكام الجهاد والدفاع في الاسلام، ليس من مصاديق العنف بحال، ولا شك أن الحروب غير المشروعة، والتعدي على الآخرين، من الظواهر المروعة، التي يرفضها جميع الناس، والدين الإسلامي بدوره لم يجز مثل هذه الحروب، بل دعا الجميع إلى التصالح والتسالم والانسجام.

ودعوات الإسلام السلمية، وحثه المتواصل على السلم، تحمل دلالة واضحة على أن الإسلام حامل لواء السلام، وأنه لم يشرع العنف قط ضمن أحكامه وقوانينه وما أحكام الجهاد والدفاع التي شرعها الإسلام إلا لأجل الدفاع عن الأنفس والأموال، وردّ العدوان الخارجي، وحفظ النظام..  وهذه من المسائل المهمة التي يقول بها العقل والشرع على حدٍ سواء، هذا فضلاً عن أن الدفاع عن النفس والمال حالة فطرية، وهي تتسق مع نظام الخلقة.

أولسنا نرى حشرةً مثل النحلة كيف تبادر إلى الدفاع عن خليتها، إذا ما واجهت خطر ما، فاليوم لو لم تشرّع دول العالم قوانين الدفاع، ولم يتفق أصحاب العقول على إعمال مثل هذه القوانين، أفلا تشهد البشرية من أعمال القتل الجماعي، والجنايات المختلفة، أكثر مما شهدته هذه الأيام؟ إن أكثر ما هدد ويهدد المجتمعات البشرية اليوم، وعلى طول التاريخ، هو الحروب غير المشروعة، فالخلط الحاصل بين مقولتي الاعتداء والدفاع، أدى بالبعض إلى تصور أن قوانين الدفاع في الإسلام من قبيل العنف، غافلين عن أن كل ما شرّع في الإسلام، في مجال الحرب، لا يتعدى كونه دفاعاً.

والدفاع في الإسلام من القيم المقدسة التي صرحت بها الآيات والروايات، فقد وصف الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) الجهاد بأنه عامل عزة الأمة، وحفظ قوتها وهيبتها أمام الأعداء (51)، وأنه باب من أبواب الجنة (52)  وتركه يجلب على الأمة الذل والهوان (53)، والإسلام لا يقبل بحال الذل والاستسلام للظالمين، قال تعالى: (يا أيها النبي جاهد الكفّار والمنافقين واغلظ عليهم) (54)، فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) (55).

إلى ذلك، فإن الدفاع عن المظلومين الذي دعا إليه الإسلام أمر مقبول لدى العقلاء، (وفقاً لمنطق العقل، فإنّ الذين يتعرض وجودهم للتهديد من قبل الظالمين، لهم الحق في اللجوء إلى السلاح لدفع غائلة الظلم والعدوان) (57).

إن استخدام العنف لأجل الدفاع يُعدُّ أصلاً من أصول الفكر الليبرالي، وعليه فإن مفكراً مثل (كارل بوبرKarl poper )  يقول: (النتيجة المهمة التي نصل إليها، هي أنه لا ينبغي أن نلغي الفرق بين الهجوم والدفاع، بل على العكس، علينا أن نؤكد على هذا الفرق، وندافع عن الجهات التي تصدت لرسم الحدود الفاصلة بين العدوان، والمقاومة في وجه العدوان) (58).

هنا نطرح بعض الأسئلة، ونترك جوابها لكل ذي عقل ودراية:

1- كيف يجب التعامل مع أولئك الذين يعرضون المصالح العامة للخطر، ولاهمّ لهم سوى مصالحهم الخاصة، ويزيدهم الرفق والمداراة تمادياً وإصراراً على الشر؟.

2- بأي أسلوب يمكن مواجهة أولئك الذين هجموا على بلاد الإسلام، وارتكبوا المجازر الوحشية بحق أبناء الأمة، ولم تؤد معهم محاولات السلام والإصلاح إلى نتيجة؟.

3- ماذا نصنع مع الخارجين على القانون الذين لا يرعوون لصوت الضمير، ولا تنفع معهم الرأفة؟.

في هذا الصدد، من الضروري الإجابة على السؤال التالي: هل أن الأئمة المعصومين(ع) كانوا يتساهلون في تنفيذ العدالة، وتطبيق الأحكام الإلهية؟ والجواب أنهم لم يبدوا تساهلاً في هذا الشأن، بعد إثبات التهمة، ورعاية أقصى حدود المداراة قبل أن تحصل الإدانة، ذلك لأن هناك تعارضاً بين سن القوانين، وبين التساهل في تطبيقها، وقد جرى التأكيد في القرآن الحكيم على الحزم والقاطعية في تنفيذ الأحكام، حيث قال تعالى: (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله) (59).

كما أن الرسول الأكرم (ص) كان حازماً في تطبيق أحكام الله عزّ وجلّ، فقد روي أنّ ابنة أحد وجوه قريش سرقت شيئاً من فاطمة المخزومية، فأمر رسول الله (ص) أن تحضر لإجراء الحدّ عليها، فجاءه أسامة بن زيد ملتمساً منه (ص) العفو عن تلك المرأة، فقال (ص): (والله لو أن ابنتي سرقت لقطعت يدها، ولا فرق عندي بين الناس في إجراء حدود الله) (60). وقد بين النبي المصطفى (ص) أن أحد ميزات الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) الحزم في تنفيذ أحكام الله سبحانه، ذلك أن بعض الصحابة شكوا إلى النبي(ص) شدة الإمام علي (ع) في أمر بيت المال، فقال لهم رسول الله (ص): (ارفعوا ألسنتكم عن عليّ فإنه خشن في ذات الله عز وجل، غير مداهن في دينه) (61).

إن الإمام علي (ع) لم يصانع قط في تطبيق الأحكام الإلهية، فقد ورد أنه (ع) قال لأحدهم: (فإننا لن نصالحك على البدعة وترك السنّة) (62).

كما أنه (ع) قد أجرى الحدَّ على النجاشي) وهو أحد أصحابه (63).

هذا بالإضافة إلى أن طريقة تعامله مع أخيه عقيل (64)، وتوبيخه وعزله لبعض ولاته، لسوء تصرفهم في بيت المال (65) لدليل واضح على حزم الإمام (ع) في تطبيق أحكام الله عز وجلّ.

رابعاً: موقع العنف والمداراة في بنية الحكومة الدينية:

يبدو أن من جملة المسائل التي ثار حولها الجدل واختلاف الآراء، موقعية العنف وخلافه في بنية الحكومة الدينية، وطريقة التعامل مع المعارضة، وهو ما يستدعي مناقشة الأمور التالية:

1- شكل الحكومة:

في الفلسفة السياسية للفكر الاسلامي، فإن الحكومة تقوم على أساسين هما: الشرع المقدّس، وقبول جمهور الناس، وبعبارة أخرى أن الحكومة ينبغي أن تتشكل وفاقاً لرأي الأمة، بعيداً عن أي لون من ألوان العنف والإكراه.

إن أكثر علماء السنة يعتقدون بأن اختيار الخليفة بعد رسول الله (ص) يتم من قبل أهل الحل والعقد -وهم في الحقيقة يمثلون المجتمع وأصحاب الخبرة فيه- (66).

وفي الفكر الشيعي، رغم أن الحاكم أو الخليفة يتعين بنص الشارع المقدس (67) إلا أنه في عين الوقت أخذ موضوع الرضى الشعبي وقناعة الناس بعين الاعتبار، وعلى هذا الأساس فإن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) شرع في تشكيل حكومته بعد أن بويع من قبل الناس، وبناء عليه فإنه لا وجه للاستفادة من أساليب القهر والإكراه في تشكيل الحكومة في الإسلام.

ولكن للأسف فإنّ ما حصل، إثر وفاة رسول الله (ص)، أن قادة السقيفة أقدموا على أخذ البيعة من الإمام علي (ع) بالإكراه(70)، في حين أن الإمام (ع) لم يصنع مثل ما صنعوا عند تشكيله لحكومته، بل إن جماهير الأمة هي التي بايعته وحملته على التصدي للحكم(71)، وإن حماس الناس لهذا الأمر كان في مستوى بحيث أن الإمام أمير المؤمنين(ع)، قال ما معناه: إنني أحسست من حماس الناس وإقبالهم على هذا الأمر، بالخطر على ابنيّ الحسن والحسين (72).

2- طريقة التعامل مع الناس:

من أدبيات السياسة الإسلامية، أن الحاكم قبل أن يمارس الحكم في الواقع الخارجي، يكون حاكماً على قلوب الناس، مما ينفي أيّ عنف أو استبداد في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، والناس -في الحكومة الإسلامية- كانوا هم العمود الفقري للنظام (73)، وإن القادة والمسؤولين في الحكومة الإسلامية ليسوا سوى حملة أمانة.

ومن المزايا الأساسية للحكومة النبوية والحكومة العلوية، الحب والعطف في التعامل مع الأمة، ففي عهد الإمام علي (ع) لمالك الأشتر، يوصيه ألاّ يكون على الناس سبعاً ضارياً، بل يكون رحيماً وعطوفاً عليهم. كما أن النبيّ محمد (ص) يوصي معاذاً بن جبل حين ولاّه أمر بعض الأقاليم، قائلاً له: (يسِّر ولا تعسِّر) أي كن سمحاً مع الناس ولا تعاضلهم (75).

وإن الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع) اعتبر أن من واجبات مسؤولي الحكومة التعامل بعطف ومحبة مع الناس (76).

3- طريقة التعامل مع المعارضة:

إن أحد المحاور الأساسية لموضوع العنف والرفق في النظام السياسي، هو طريقة التعامل مع معارضي النظام، وهنا يطرح سؤال عريض هو: في الأصل هل ينطلق النظام الإسلامي في التعامل مع معارضيه السياسيين من استراتيجية العنف، أم من سياسة المداراة واللاعنف؟!.

للإجابة على هذا السؤال لابد من القول أن المعارضة تنقسم إلى ثلاث مجاميع، يختلف التعامل مع كل منها، هي:

 أ) معارضو العقيدة.

ب) المعارضة التي تستهدف إسقاط النظام.

ج) المعارضة التي لا تستهدف إسقاط النظام.

قبل أن نستعرض طريقة تعامل النظام السياسي الإسلامي مع المعارضة، يلزم القول: إن الإسلام دين الاعتدال والوسطية.

وتتعين سياسة الإسلام حيال المعارضة، وفق الشروط الزمانية، والمصالح الفردية، والمصالح العامة. إن الإسلام، ولأجل ضمان سعادة الإنسان الدنيوية والأخروية، وبلوغ أهدافه السامية، ونشر قيمه الرفيعة، وحفظ اقتدار النظام، يستفيد من عاملي العنف الشرعي والرفق على السواء، بيد أنه جعل الأولوية لعامل الرفق في جميع الأحوال، فهو قبل كل شيء يعمد إلى تقويم البنية الثقافية للمجتمع، وتنمية وعيه وتنضيجه فكرياً، ويعمل على اجتذاب المعارضين وهدايتهم قدر الإمكان، وذلك لأجل اجتثاث جميع العوامل والأسباب التي تساعد على ظهور العنف في المجتمع. الإسلام لا يجوّز بتاتاً اللجوء إلى القهر والإكراه مع أتباع الأديان الأخرى، بل يدعو الجميع إلى التعايش والتبادل الثقافي والفكري (77).

إن استراتيجية الإسلام، تقوم على إقرار السلام، واحترام الحريات، وهو ما جعل الإسلام يتقدم ويبسط رايته على العالم.

وعلى الرغم من أن البعض، بسبب جهله أو عدم انسجامه مع كل ما هو ديني، اتهم الإسلام بأنه دين السيف والعنف، إلا أن الحقيقة تدل على أن الإسلام دين الرفق والرحمة(78).

يقول الكاتب (غوستاف لوبون): (لم يكن السيف والقوة سبباً لتقدم وانتشار الإسلام، ذلك لأن طريقة العرب (المسلمين) في كل بلادٍ يفتحونها، هي إقرار الناس على دينهم، وهو ما جعل النصارى يتركون دينهم، ويعتنقون الإسلام، ويختارون اللغة العربية على لغتهم الأم، لجهة أنهم كانوا يرون في الفاتحين من العدل والعطاء، ما لم يروا مثله من قبل حكّامهم القدّماء(79).

هذا، وإن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، كان يصبر، ما وسعه الصبر، على معارضيه، وكان يسعى غاية سعيه لاجتذابهم وهدايتهم، كما أنه لم يبدأ القتال في ثلاث حروب فرضت عليه، وكان ينهى أصحابه وأنصاره عن مبادأة العدو بالقتال، حتى أن البعض اتهم الإمام (ع) بأنه لا يقاتل أعداءه خوفاً من الموت!، ولذا قال الإمام (ع)، لدحض تلك التهمة: (هل في الصلح خشية من الموت؟ والله لا أبالي أوقعت على الموت أم وقع الموت عليّ) (80). وعلى هذا الأساس قال رسول الله (ص): (أنا وعلي أبوا هذه الأمة) (81)، وقال أيضاً: (أنا لا أقابل الإساءة بالإساءة، بل أقابلها بالإحسان) (82).

من ناحية أخرى، فإن الإسلام الذي يأمر بالرفق والرحمة يأمر أيضاً بمجابهة المعتدين، والمتآمرين عليه، والخارجين على النظام، بالحزم والقوة.

إن الدين الإسلامي الحنيف لا يجوّز الرفق والتساهل مع الذين لا يهتدون إلى منطق سليم، ويسيئون استغلال سعة صدر الاسلام، ويعرضون المصالح العامة للخطر، ويستهدفون إسقاط النظام الإسلامي.

غاية الأمر، أن الإسلام اعتمد استراتيجية اللاعنف والمداراة مع معارضي العقيدة، وهم -في الغالب- من الأقليات غير الإسلامية، ففي صدر الإسلام كان اليهود والنصارى يعيشون بسلام جنباً إلى جنب المسلمين، ولقد ورد في حديث لرسول الله (ص) قوله: (إيّما ذمّي ظُلِم، فسأكون ناصره يوم القيامة على المسلم الذي ظلمه) (83)، وقال (ص) أيضاً: (من آذى ذميّاً فأنا خصمه ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة) (84).

كما أن الإمام علي (ع) سار على نهج رسول الله (ص) في احترام ومداراة أتباع الأديان الأخرى، فمن ذلك أنه (ع) عندما سمع بخبر تلك اليهودية التي أهينت وظلمت على أيدي أصحاب معاوية بن أبي سفيان، خلال مداهمتهم لمدينة الأنبار، قال ما معناه: (إذا سمع مسلم بانتهاك حرمة امرأة  يهودية آمنة في ظلال الإسلام، ثم مات حزناً عليها، فهو عندي ليس فقط لا يستحق اللوم، بل هو جديرٌ بالإجلال والتكريم) (85).

وروي أن الإمام علي (ع)، صادف رجلاً هرماً يتكفف، فسأل أصحابه عنه، فقالوا: إنه نصراني، فقال الإمام (ع) وهو مغضب: (استعملتموه شاباً، حتى إذا شاخ وهرم تركتموه) (86) ثم أمرهم الإمام (ع) أن يعطوه من بيت المال ما يكفيه(87).

وهكذا فإن عقائد المعارضين للإسلام محترمة، طالما لم ينالوا من قدسية الدين وعقائد المسلمين، ولا يستهدفون إسقاط النظام الإسلامي.

إن الرفق والتسامح في الإسلام تجاه مخالفيه بالعقيدة، حمل الكثير من الباحثين غير المسلمين، على احترامه ووصفه بأنه من أكثر الأديان تسامحاً وتسالماً، فقد كتب (روبرتسون) يقول: (المسلمون هم فقط الذين يعتقدون اعتقاداً راسخاً وصميمياً بدينهم، ويحملون في نفوسهم روح الانسجام والتعايش مع أتباع الأديان الأخرى) (88)، ويقول الكاتب ((آدم متز): (كانت الكنائس والمعابد في فترة الحكم الإسلامي، تتصرف وكأنها تتمتع بحكم ذاتي، أو تبدو وكأنها تعيش خارج حدود الحكومة الإسلامية. هذه المناخات من التسامح لم تعرفها أوروبا في قرونها الوسطى) (89).

إلى ذلك، يقول (ويل ديورانت): (كان الإسلام، على مدى خمسة قرون (700-1200م) في طليعة العالم، من نواحي القوة، وسعة مناطق النفوذ، تهذيب الأخلاق والتعاملات، التسامح الديني، الأدب، علوم الطب والفلسفة.. ) (90).

أما القسم الآخر من المعارضين الذين لا يعادون العقيدة الإسلامية، فهم عبارة عن صنفين: فصنف لا يستهدف  التآمر على النظام بقصد إسقاطه، وصنف يعمل لأجل إسقاط النظام. الإسلام يدعو ابتداءً لاتخاذ سياسة الرفق واللين مع صنفي المعارضة هذين، ولا يجيز أسلوب الانتقام القادة الربانيّون امتازوا بمنتهى التسامح والرحمة في مواجهة المعارضين، لأجل ألاّ يؤدي العنف والشدة إلى زيادة تصلبهم وعنادهم، وعلى هذا الأساس أمر الله سبحانه وتعالى نبيه الكريم (ص)، بقوله عزّ من قائل: (خذ العفو وأمر بالمعروف واعرض عن الجاهلين) (91).

وقال النبي الأكرم (ص): (أمرني الله بالرفق، كما أمرني بتبليغ رسالته) (92).

كما أن الإمام علي بن أبي طالب (ع) لم يتعامل بعنفٍ قط مع معارضيه الذين لم يستهدفوا أصل النظام الإسلامي، ولم يضرب على أيدي أولئك الذين حامت حولهم تهمة استهداف النظام، وقال في جوابه على سؤال حول عدم اعتقاله (خرّيت) الذي كان متهماً، ما معناه أنه إذا أردت أن آخذ كل إنسان بتهمة التآمر على الحكم، لوجب أن أملأ السجون، وأنا لا أجيز لنفسي أن أحبس الناس وأعاقبهم لمجرد التهمة، حتى يقدموا عملياً على زعزعة النظام. ومن جهة أخرى فإن الإمام (ع) لم يمنع الخوارج عن أخذ نصيبهم من بيت المال، ولم يأمر بسجنهم لمجرد اختلافهم معه(94).

4- أسباب ميل بعض المسلمين للعنف:

في ضوء ما تقدم، فقد توضح تماماً موقف الإسلام من موضوع العنف والمداراة، وعرفنا أن النبي الأكرم (ص) والأئمة المعصومين (ع) هم تجسيد عملي للاعنف، لكن يبقى السؤال المطروح، وهو: على الرغم من أن كلمة الإسلام مرادفة للاعنف، فلم نشهد اليوم توجه سهام الاتهام بالعنف إلى الإسلام؟ فهل يكمن السبب في الإسلام أم في المسلمين؟.

الواقع أن الإسلام دين السلام واللاعنف، وقد تبين ذلك بصورة لا تدع مجالاً للشك، من خلال أقوال وأفعال النبي وأهل بيته (ص)، وهي نماذج حيّة ومعبرة في هذا الشأن.

وبخصوص نزوع بعض المسلمين إلى العنف، ينبغي توضيح نقطتين:

الأولى: تتعلق بأسباب لجوء بعض المسلمين إلى العنف، والثانية: تتعلق باتهام الإسلام والمسلمين بالعنف.

إن أحد الأسباب الرئيسية لتفشي نزعة العنف في العالم الإسلامي هي الاستنتاجات المتفاوتة والمتباينة من المباني الدينية، من قبل بعض الاتجاهات الكلامية والفلسفية فحصل أنّ مؤسسي هذه المدارس والاتجاهات راحوا يفسرون الدين، دونما استناد إلى معارف أهل بيت النبي (ص)، ومن الطبيعي أنّ محاولات تفسير الدين، من دون الاستعانة بأهل الخبرة والاختصاص، غير مقبولة،وفي صدر الإسلام، حينما أقصي أهل البيت عن الميدان السياسي، مسّ التحريف الكثير من المباني السياسية والفلسفية للإسلام، وفي عين الوقت ابتلى المسلمون بالاشتباه والتخبط في تفسير مباني الفكر الإسلامي الأخرى.

إن نتيجة التفسير الخاطئ لمعارف الدين، هي ظهور مجموعات تحمل متبنيات خاصة متأثرة إلى حدٍ بعيد بالمعارك والحروب التي وقعت بين المسلمين، على ممر التاريخ، والمؤسف أن الحروب التي حصلت بين المسلمين اتخذت صبغة وشعاراً دينياً، الأمر الذي نجم عنه أن ينعت الإسلام بدين العنف.

ومن الأسباب الرئيسية الأخرى للعنف بين المسلمين، الرغبة في امتلاك السلطة، وحب الدنيا، كما يمكن أن نرد أسباب النزوع للعنف لدى بعض المسلمين إلى حبّ الذات، وطلب عرض الدنيا، وهذا الأمر ليس حصراً في المسلمين، حيث نرى اليوم أن حب التسلط والرغبة في إبقاء الذات لدى الكثير من الحكام المستبدين، قد زاد من حدة ظاهرة العنف، وأوصلها إلى ذروتها.

إلى ذلك، فإن هناك بعض الحكام، كما يحدثنا التاريخ الإسلامي، لم يتمكنوا من الوصول إلى دفة الحكم، لاصطدامهم بالرأي العام، وإرادة الناس، فراحوا يرتكبون أعمال العنف، لأجل تحقيق مآربهم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى عمدوا إلى تحريف بعض المباني الدينية، لأجل تبرير سياساتهم غير المسالمة والعنيفة، متعللين ببعض الأحكام الإسلامية، من نحو الحدود والقصاص، كما أن الحكام المستبدين الذين يفتقدون للشرعية، سواء الشرعية الدينية أو الشعبية، خلعوا على أنفسهم ألقاباً غريبة عن روح الدين الحنيف، من قبيل (ظل الله في الأرض)، فصار كل من يخالفهم ينسب إلى أهل البغي، فأمعنوا في التنكيل بدعاة الحرية، ونصب المشانق لهم، أو عزلهم ونفيهم، في أحسن الأحوال.. إن أسلوب أولئك الحكام الظالمين، سيّان من بني أمية أو بني العباس، الذي امتاز بتقديم المصالح السلطوية على أية مصالح أخرى، ليس فقط فاقداً لأية مباني إسلامية صحيحة، بل مخالف تماماً لسنة وسيرة رسول الله (ص) والأئمة المعصومين(ع) من أهل بيته، وعليه ليس صحيحاً بحال أن نجعل تلك السياسات في حساب  الدين الإسلامي الحنيف.

إن ذهاب  بعض المسلمين بعيداً عن النهج السلمي الصادق للرسول الصادق الأكرم(ص) وأهل بيته (ع)، تسبب في أن يتهم المجتمع الإسلامي والإسلام بالعنف، وعلى هذا الأساس اعتبر الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) أن من جملة خصال بني أمية النزوع للعنف والقتال.

ومن الأسباب الأخرى، أن الروحية الاستقلالية، ونبذ فكرة الاستعمار، التي يتميز بها الدين الإسلامي الحنيف، عرضت المصالح الاستعمارية للخطر، فراح الاستعمار يسخر كافة طاقاته الإعلامية، لأجل إقناع العالم بأن الإسلام دين العنف!!

**   قال غاندي: (تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فانتصر).. كيف تفسرون هذا الكلام؟.

المظلوم هنا بمعنى ذلك الشخص الذي وقع ظلمٌ في حقه، وليس بمعنى الشخص الذي يقبل الظلم. لقد وقع ظلم كبير في حق الإمام الحسين (ع)، لكنه لم يخضع قط للظلم، ولذلك أبقى التاريخ ذكر المهاتما غاندي الذي أثبت أنه عن طريق الاقتداء بسيرة سيد الشهداء (ع) يمكن الوصول إلى ساحل النصر والموفقية. إن غاندي واجه الاستعمار  البريطاني لبلاده، وقد خطا خطوات مهمة على طريق إحقاق حقوق الشعب الهندي، متحملاً لأجل ذلك عناءً وصعوبات كبيرة، دون أن يتراجع عن مبادئه، إلى أن تمكن من انتزاع حق بلاده في الاستقلال من الإمبراطورية البريطانية الاستعمارية آنذاك، ليحقق الشعب الهندي حاكميته وسيادته على بلده، ويصبح غاندي رمزاً لاستقلال الهند.

**   على مدى خمسين عاماً التصق اسم غاندي بتاريخ نظرية اللاعنف، فهل لنا أن نقول بوجوب تقسيم تاريخ نظرية اللاعنف إلى مرحلتين، مرحلة ما قبل غاندي، ومرحلة ما بعد غاندي؟ أو بعبارة أخرى، هل يمكن اعتبار غاندي مجسد مبدأ اللاعنف في الممارسة السياسية؟.

إن تجسيد مبدأ اللاعنف لم يقتصر على مرحلة المهاتما غاندي، بل إن أنبياء الله (ع) والأئمة المعصومين (ع) كانوا أسوات وقدوات في اللاعنف، وكل ما فعلوه كان رحمة للأمم.

إن عيسى المسيح (ع) كان نبي السلام والمحبة، وقد دعا الناس إلى الوحدة والعيش بسلام وهدوء، كما أن خاتم الأنبياء والرسل محمد بن عبد الله (ص) كان مبشراً بالرحمه والسمو المعنوي والأخلاقي للعالم، وإن تعاليمه الخالدة، وامتداد سيرته (ص) عبر الأئمة الأطهار(ع)، زرعت قيم المحبة والسلام والنقاء في نفوس البشر، وأثبتت أن سعادة الناس ورخائهم، إنما تتحقق في وحدتهم وحبهم لله سبحانه وعباد الله.

نعم، إن غاندي قاد حركة استقلال الهند، بأسلوب مسالم، وعن طريق اللاعنف، إلى النصر والظفر، بيد أنه لا يمكن اتخاذ نهضته قدوة، في جميع الأبعاد والصعد، وجعلها نموذجاً يحتذى للآخرين، لا سيما المسلمين، أو اعتباره مؤسس نظرية اللاعنف، ذلك لأن المسلمين يتبعون قدواتهم وكل واحد من هذه القدوات، وفي جميع الأبعاد، يُعدُّ مظهراً للصلح، وحب الإنسان، واللاعنف. وإن الله عزّ و جلّ قد أرسل رسوله الخاتم محمد بن عبد الله لينشر الرحمة على العالمين، حيث قال سبحانه وتعالى في حق نبيه الكريم (ص): (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).

وعلى ذلك لا يمكن إضفاء قدسية خاصة على حركة استقلال الهند التي قادها غاندي- رغم الطريقة الخاصة وأسلوب المقاومة السلبية التي اتبعها- أو وضع تلك الحركة في قالب نظرية وتعميمها على العالم، أو تسميته بأن مؤسس نظرية اللاعنف.

**   أسلوب (المقاومة السلبية) الذي استخدمه(نيلسون مانديلا) في مكافحة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا أفضل دليل على إمكانية تحقيق النصر والغلبة على العسكر وقوة السلاح، من طريق اللاعنف.. ما هي الطرق العملية للاستفادة من هذا الأسلوب في مواجهة تيار العنف؟.

في البلدان التي تقوم فيها حركات مسلحة أو انقلابات عسكرية لأجل الاستقلال وحق تقرير المصير، لا تستطيع أمثال هذه الحركات أن تستميل وتوحد قلوب الناس معها، في مثل هذه البلدان يمكن لحركة الجماهير التي تريد أن تغير واقعها نحو الأحسن، أن تصل إلى هدفها عندما يتضامن الناس وتتوحد قلوبهم وتتحد كلمتهم في الكفاح والنهوض.

إن صرخات الشعوب تستطيع أن تغير أي نظام سياسي، أو تفرض عليه ما تريد، أو تثبت وضعاً معيناً خاصاً بها، وعندما يثبت شعب ما على حقه، ولا يتوانى في أي جهد أو سعي لنيله،فإن الطرف المقابل (السلطة الحاكمة) مهما كان مسلحاً أو عنيفاً، لا يملك سوى التسليم لمطالبه.

من هذا المنطلق فإن أية نهضة تتبع أسلوب (المقاومة السلبية)  تستطيع أن تحقق الغلبة على النظام المسلح والدموي، إذا ما رافقتها حركة شعبية شاملة.

وفي الحقيقة، لا يمكن تعميم نسخة سياسية تطابق مشكلة خاصة ووضعاً معيناً لبلدٍ ما على جميع البلدان والشعوب، إلا أن تتوفر هناك أرضيات وعوامل مشتركة بحيث يمكن معها التعميم.

إن حركة (المقاومة السلبية) التي قادها نلسون مانديلا في أفريقيا الجنوبية حققت أهدافها بعد مضي سنوات طويلة، وقد أثمرت ثمارها بعد أن انضوى تحت لوائها جميع أبناء الشعب.

هذا المعيار، أو العامل المشترك، المتمثل في وحدة الاتجاه، ووحدة المطلب، إذا ما توفر لدى أيّ شعب من شعوب العالم، لتمكن ذلك الشعب من الوصول إلى أهدافه.

**   يشنع بعض المغرضين على الدين الإسلامي الحنيف تجويزه قتل غير المسلم، مستندين في ذلك على الآية الشريفة (اقتلوهم حيث ثقفتموهم) فما هو رأيكم؟.

(اقتلوهم حيث ثقفتموهم) وردت في الآية (191) من سورة البقرة، والآية (91) من سورة النساء. في الآيات (190-195) من سورة البقرة أذن الله تعالى للمسلمين قتل طائفة من كفّار مكة طردت المؤمنين من ديارهم، واستخدمت في حقهم شتى أنواع القتل والقمع والتعذيب.

وفي الآية (195) من سورة النساء، يشير الذكر الحكيم تحديداً إلى المشركين المنافقين الذين إذا صاروا بين أظهر عبدة الأوثان، فعلوا مثلما يفعلون من الانكباب على عبادة الأوثان، وإذا خالطوا المسلمين تظاهروا بالإسلام، يتسابقون إلى الفتن والمفاسد.. بالنسبة لهؤلاء يأمر الله تعالى المسلمين بأسرهم، أو قتلهم حيثما وجدوهم، ما لم يكفوا أيديهم عن المسلمين، ولم يظهروا ميلاً للسلام والصلح.

إذن، يتضح من الآيتين الشريفتين، أن جواز قتل الكفّار والمشركين مرتبط بمرحلة يترصد فيها هؤلاء للمسلمين لغرض قتلهم، ويتآمرون عليهم، ويثيرون بوجههم الفتن بهدف النيل من الإسلام. من هذا المنطلق لا يجوز التمسك بجزء من الآية الشريف، والحكم بجواز قتل غير المسلم، والحال أنه يمكن لغير المسلمين أن يلتحقوا بالمجتمع الإسلامي، ويحصلوا على حقوق المواطنة، وفق شروط معينة، ومن خلال معاهدة ثنائية يعقدونها مع المسلمين، تحت عنوان (الذمة) ويشكلون معهم شعباً واحداً. وأمثلة ذلك كثيرة في التاريخ الإسلامي، وبالذات في سيرة الرسول الأكرم (ص)، وطريقة المسلمين في التعايش مع أهل الذمة، مثل اليهود، الذين كانوا يعيشون في أرض الإسلام.

وهكذا، فالأصل في الإسلام هو التعايش والتعامل المسالم مع غير المسلمين، كما أنه لا يستفاد من الآية (191) من سورة البقرة، والآية (91) من سورة النساء، جواز قتل غير المسلم على نحو مطلق، بأي وجه، وتحت أي عنوان، ويكفي دليلاً على ذلك قول الله تعالى: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها).

**   جاء في إنجيل متى: (أنا أقول لك: لا تقابل من أساء لك بالمثل، بالعكس، إذا ضربك أحدٌ على خدك الأيمن، فأدر له خدك الأيسر. إذا قاضاك أحدٌ ليأخذ قميصك، فتنازل له عن معطفك أيضاً) ألا يدلّ هذا على الذل وقبول الظلم؟!.

إن كلمة (إنجيل) في الأصل، لفظٌ يوناني معناه (البشارة)، و (التربية الجديدة). وبحسب تصريح المؤرخين المسيحيين أنفسهم، وطبق شهادة أناجيل وسائر كتب ورسائل العهد الجديد، فإن جميع الأناجيل التي تعرف باسم (إنجيل متى، إنجيل لوقا، إنجيل مرقس، إنجيل يوحنا) عبارة عن كتب كتبت بعد عهد المسيح (ع)، وإن أصل الإنجيل مفقود، وقد سجل تلاميذ السيد المسيح (ع) بعض أجزاء منه فقط،ولكن حتى هذه وللأسف، قد طالها التحريف والخرافة.

أما تلك الفقرة التي وردت في إنجيل متى، فمن الواضح أنها تدلّ على الذلّ وقبول الظلم. إن أساس حب الصلح والسلام، هو أن يتصرف الإنسان بطريقة التسامح والحنان والمحبة مع الآخر، لا أن يخضع للظلم والذل ويقبل بهما.

إن قبول الظلم يشجع الظالم على التمادي في ظلمه، وهو أمرٌ لا ينسجم مع عزّة وكرامة الإنسان. ورد في إنجيل متى في الباب 11، والفقرة (31-37): (أو تظنون أنني جئت لأبسط السلام والراحة في الأرض، كلا، أنا جئت لأقيم السيف) من هنا نلاحظ أن هذا الإنجيل يدعو في موضع منه إلى قبول الظلم والذلة، وفي موضع آخر يدعو إلى الحرب واستخدام العنف. إنّ الراحة والأمن أمران لا يتحققان أبداً في ظل الحروب والعنف، كما أنهما لا يتحققان في ظل الخضوع والاستكانة للظلم والإذلال.

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الخاتم وآله الطيبين الطاهرين..(*)

 

المصادر:

1- ر.ك: فصلية البحوث القرآنية (فارسية)، العدد 11-12، ص173.

2- رسالة اللغة (فارسي): علي أكبر دهخدا، ج6، ص8630.

3- ثقافة لاروس: ترجمة جميشد طبيبان، ج1، ص915.

4- مجمع البحرين: ج1-2، ص651.

5- مجلة كيان (فارسية): ج1، ص651.

6- ر.ك: كتاب النقد (فارسي): العدد 14-15، ص33.

7- مفهوم الاعتداء في الحقوق الدولية (فارسي): نسرين مصفا وآخرون، ص46-47.

8- كتاب النقد (م.س): العدد 14-15، ص393.

9- ن.م: ص343.

10- رسالة اللغة (م.س): ج4، ص5876.

11- الثقافة الفارسية (فارسي): محمد معين، ج1، ص1078- ثقافة لاروس: ج1، ص568.

12- ثقافة لاروس (م.س)، ج1، ص568.

13- آل عمران: الآية 159.

14- الكافي ج2، ص117.

15- ن.م.

16- بحار الأنوار ج95، ص167.

17- صحيح البخاري: ج9، ص20.

18- نهج البلاغة: الحكمة 420، مع الاقتباس من مجلة (الحكومة الإسلامية) العدد 17 (فارسية)، ص447-448.

19- ر.ك: مجلة (الحكومة الإسلامية)، رسالة الحكومة العلوية الخاصة، العدد 17، ص446-447.

20- البقرة: الآية 286، ر.ك: ترجمة تفسير الميزان ج2، ص618- تفسير نمونه (التفسير النموذجي) (فارسي) ج2، ص294.

21- ر.ك: بحار الأنوار ج22، ص443.

22- ر.ك: المائدة: الآية 6- البقرة الآية 185.

23- كتاب النقد (م.س) العدد 14-15، ص356.

24- أي إنه حبس نفسه على التعبد، دون أن يراعي حقوق أسرته.

25- بحار الأنوارج22، ص263- 264.

26-التعليم والتربية (فارسي)، ص168.

27- الفتح: الآية 29.

28- ر.ك: باقر القرشي: حياة الإمام الحسين (ع)، ج2، ص280.

29- ر.ك: تاريخ  الطبري، ج4، ص266.

30- ر.ك: نهج البلاغة الخطاب رقم 61، جولة في رحاب نهج البلاغة، ص182.

31- ر.ك: نهج البلاغة: الخطبة 131.

32- ر.ك: موسوعة كلمات الإمام الحسين (ع)، ص316.

33- البقرة: الآية 179، تفسير نمونه (التفسير النموذجي) (فارسي) ج1، ص602 -612، ترجمة الميزان ج1، ص617.

34- ر.ك: الإسراء: الآية 44.

35- ر.ك: كتاب النقد (م.س)، العدد 14-15، ص35.

36- فصلية كتاب النقد: العدد 14-15، ص14.

37- ن.م: ص13-14.

38- ر.ك: محمد لنكراني: تفصيل الشريعة: ص114.

39- الأعراف: الآية 156.

49- الأنبياء: الآية 107.

41- بديع الزمان فروزان فر: أحاديث مثنوي (فارسي)، ص26.

42- نهج البلاغة: الخطاب رقم 53.

43- كشف اللثام ج2، ص398.

44- وسائل الشيعة ج18.

45- مرتضى محسني: كليات الحقوق الجزائية (فارسي) ج1، ص194.

46- ايرج كلدوزيان: ضرورات الحقوق الجزائية، ص72.

47- كتاب النقد (م.س) العدد 14-15، ص358-359.

48- ر.ك: فصلية كتاب النقد (م.س)، العدد 14-15، ص358، متضمناً إحصاءات حول أحكام الإعدام، بالاستناد إلى كتاب (الإعدام في أمريكا) من تأليف هوغو آدم برو (باللغة الفارسية).

49- إنجيل متى (الباب 11)، البنود 31-38، وهو كناية عن التصدي للمفاسد والانحرافات.

50- ر.ك: البقرة: الآية 194، تفسير نمونه (التفسير النموذجي) ج2، ص16-18.

51- نهج البلاغة: صبحي صالح، الخطبة رقم 27- شرح ابن أبي الحديد ج1-2، ص308.

52- ن.م.

53- ن.م.

54- التوبة: الآية 73، تفسير نمونه (التفسير النموذجي) ج8، ص41.

55- البقرة: الآية 194.

56- ر.ك: النساء: الآية 75، ترجمة الميزان ج4، ص601-602.

57- كتاب النقد (م.س)- العدد 14-15، ص13 نقلاً عن مجلة كيان (فارسية) العدد 45.

58- ر.ك: كارل بويرير: (ناكجا آباد وخشونت) رحمان افشاري، مجلة كيان العدد 45، ص53.

59- النور: الآية 2، تفسير نمونه (التفسير النموذجي) ج14، ص359-360، ترجمة الميزان ج15- ص115.

60- ر.ك: صحيح البخاري ج8، ص16، سيرة ابن هشام، ج4، ص185 صحيح مسلم ج3، ص315.

61- بحار الأنوار  ج21، ص385.

62- ابن أعثم: الفتوح: ج2، ص181.

63- ر.ك: الغارات: ج2، ص532.

64- ر.ك: بحار الأنوار ج4، ص112.

65- نهج البلاغة: الخطبتان 40-44.

66- ر.ك: علي بن محمد الماوردي، الأحكام السلطانية، ص33.

67- ر.ك: حسين علي منتظري، دراسات في ولاية الفقيه: ج1 ، ص261-286.

68- ر.ك: نهج البالغة الخطبة 54.

69- ر.ك: كتاب البيع: ج2، ص488.

70- الإمامة والسياسة، ص15-18، تاريخ أبي الفداء ج1، ص219.

71- ر.ك: نهج البلاغة: الخطبة 3، ر.ك شرح ابن أبي الحديد ج1، ص200.

73- ر.ك: نهج البلاغة: الخطاب رقم 53.

74- ر.ك: الخطاب رقم5، شرح ابن أبي الحديد، ج13-14، ص33.

75- سيرة ابن هشام: ج4، ص238.

76- كتاب النقد (م.س)، العدد 14-15، ص77.

77- ر.ك: آل عمران الآية 64 ترجمة الميزان ج3، من ص421 فما فوق- تفسير نمونه (التفسير النموذجي) ج2، ص449-458.

78- ر.ك: الأنبياء: الآية 107.

79- تاريخ وول ديورانت، ج3، ص1368.

80- نهج البلاغة، الخطبة 55.

81- بحار الأنوار ج36، ص9.

82- ن.م، ج16، ص186.

83- جعفر سبحاني: مباني الحكومة الإسلامية، ص528-529.

84- ن.م.

85- نهج البلاغة: الخطبة 27- نهج البلاغة - فيض- ص86-87.

86- وسائل الشيعة: ج7، ص49.

87- وسائل الشيعة: ج7، ص49.

88- غوستاف لوبون: العرب والحضارة الإسلامية، ترجمة السيد هاشم الحسيني، ج1، ص141-146.

89- كتاب النقد، العدد 1405، ص168، نقلاً عن كتاب (كيفية الحرية في الإسلام) -فارسي- ص68.

90- وول ديورانت:  تاريخ الحضارة (عصر الإيمان) ج4، ص432.

91- الأعراف: الآية 199.

92- تحف العقول: ص4.

93- ر.ك: مجلة (الحكومة الإسلامية) -فارسية- العدد 17، ص433- نقلاً عن كتاب (الغارات) وتاريخ الطبري.

94- فروغ ولايت (نور الولاية) -فارسي- ص630-631، تاريخ الطبري ج4، ص53-54.

ردك على هذا الموضوع

إتصــلوا بـنـــا

الأعــداد السابقــة

العــدديـن 67 - 68

الصفحة الرئيسية